عظة بشارة بطرس الراعي في عـيـد العـنــصـرة

وأنا أسأل أبي أن يعطيكم برقليطاً آخر، روح الحقّ، يكون معكم إلى الأبد"

عظة البطريرك عـــــــيــد العــنــصـــــــــــرة

 

 

بكركي، الثلاثاء 29 مايو 2012 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي العظة التي تلاها مار بشارة بطرس الراعي بطريرك الكنيسة المارونية في القداس الذي ترأسه في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي.

* * *

  1. اليوم أحد العنصرة، عيدُ حلول الروح القدس على الكنيسة الناشئة، في تمام اليوم الخمسين بعد قيامة الربّ يسوع من بين الأموات. الربّ يحقّق وعده للّذين يحبّونه ويحفظون وصاياه، بدءاً من الرسل القديسين ومريم أمِّ يسوع، وبعضِ النساء، وسواهم، وكانت الجماعة نحو مئة وعشرين شخصاً، كما روى كتاب أعمال الرسل (1: 14-15)، وصولاً إلى كلّ واحد منا، على مدى تاريخ البشر. فقد وعد: "إن تحبّوني، تحفظوا وصاياي، وأنا أسأل الآب فيعطيكم بارقليطاً آخر، روحَ الحقّ، يكون معكم إلى الأبد" (يو14: 15).

   2. يطيب لي أن أهنّئكم بهذا العيد، الذي هو عيدُ تثبيت الكنيسة بميرون مسحة الروح القدس وإرسالِها إلى أقاصي الأرض، لتعلنَ إنجيلَ يسوع المسيح، إنجيلَ الحقيقة والخلاص، إنجيلَ الشركة والمحبة. إنّنا نجدّدُ التزامنا بحفظ وصايا الربّ يسوع وتعليمِه الإنجيلي وتقليدِ الكنيسة الحيّ وتعليمِها، وبهذا نعبّر عن محبتنا له، ونستحقُّ قبولَ مسحة الروح القدس ومواهبَه السبع التي تُنعش فينا الإيمانَ والرجاءَ والمحبة. بعد قليل، نحتفل بالسجدة لله الواحد والثالوث، للآب الذي أحبّنا وخلقنا ويحفظُنا في الوجود، وللإبن الذي أحبّنا وافتدانا ويخلِّصُنا بنعمة أسراره، وللروح القدس الذي أحبّنا وحلّ علينا ويتمّمُ فينا ثمار الفداء والخلاص. فنبتهل الى المسيح الربّ: "أرسل روحك ايها المسيح فيتجدّد وجه الأرض".

   في هذا اليوم المقدس، نجتمع مثل الجماعة الرسولية الأولى، ونلتمس، بالصلاة والسجود، حلولَ الروح القدس علينا بألسنة من نار، كما حلّ عليهم، فيفيضَ علينا مواهبَه السبع. فلنفتح عقولنا لينيرَ إيماننا بالحكمة والفهم والعلم. ولنفتح إرادتنا، ليثبّتَ رجاءنا بالمشورة والقوّة. ولنفتح قلوبنا ليُحييَ محبتنا بالتقوى ومخافة الله. ولنخرج من هذه الكنيسة، كما خرجوا من العلّية، نتكلّم مثلهم لغة واحدة تحرّر وتجمع، لغة الروح القدس، أعني لغة الحقيقة والمحبة.

   3. نعود إلى الكرسي البطريركي، بعد غياب دام شهراً كاملاً، زرنا خلاله ابرشياتنا في كلّ من المكسيك وكندا والولايات المتحدة الأميركية. وقد رافقتمونا بصلاتكم، وقادتْنا عنايةُ الله، وأنوارُ الروح القدس. فلا بدّ من رفع ذبيحة الشكر هذه لله على أنّ الزيارة الراعوية تكلّلتْ بكثير من النجاح، ونصلّي لكي ننعَمَ جميعنُا بثمارها. ونشكر الله على ما رأينا في جالياتنا اللبنانية عامة والمارونية خاصة من محافظة على التقاليد والقيم الروحية والليتورجية والوطنية، ومن تَقَدُّمٍ وازدهار وتحقيقٍ للذات على المستوى الثقافي والإقتصادي والإجتماعي، ومن مساهمةٍ فعّالة في إنماء مجتمعاتهم المُستضيفة، ومن محبةٍ للبطريركية والبطريرك. كما نشكر الله على مطارنتنا في هذه الأبرشيات، الساهرين بغيرةٍ رسولية وراعوية على أبناء أبرشياتهم وبناتها ومؤسساتها، ويرعونها بكثيرٍ من التفاني والمحبة والحكمة. ونشكره تعالى على كهنتنا ورهباننا وراهباتنا العاملين في الرعايا والمؤسسات بكلّ إخلاص وتعاون ومسؤولية. فلهم منا جميعاً التأييد والدعم والصلاة. ولترافقْهم بركتُنا الرسولية، عربون فيض النعم الإلهية عليهم وعلى عائلاتهم وأبرشياتهم ورعاياهم ومؤسساتهم.

   وأودّ أن اشكرَ الإعلاميين والإعلاميات والمؤسسات التي أوفدتهم وقد رافقونا في هذه الرحلة الراعوية، ونقلوا واقعاتها عبر التلفزيونات والإذاعات والصحف. كافأهم الله بدوام الخير والتقدّم والنجاح.

   4. لقد رأينا بأمّ العين أنّ اللبنانيين المنتشرين يشكّلون مساحاتٍ ثقافية واقتصادية وسياسية على المستوى العالمي. فمن الضرورة بمكان تفعيل هذه المساحات بإحياء الأبرشيات والرعايا، وتمتين العلاقات مع الكنيسة الأمّ والوطن الروحي لبنان، والعمل الدؤوب على تسجيل وقوعات الزيجات والولادات في قيود النفوس اللبنانية، كسباً للجنسيّة مع ما تولي اصحابها من حقوق مدنيّة، وعلى حفظ ملكيّة الأرض في الوطن الأمّ، حفاظاً على الوجود والحضور والرسالة، مع الهوية والتقاليد. لعلّنا بذلك نعوّض عن خسارة القوى الحيّة التي تغادر الوطن إلى بلدان أخرى. ولا بدّ من أن نشكر المؤسَّسة المارونية للإنتشار التي تعمل في مختلف بلدان الانتشار على إنجاز هذه التسجيلات وملاحقة المعاملات المختصّة بها وبكسب الجنسية اللبنانية واستعادتها. وقد رافقتنا بعثة منها في زيارتنا الراعوية المذكورة.

   5. ولاحظنا أيضاً أنّ اللبنانيين المنتشرين، المسيحيين منهم والمسلمين، يحملون همّ الوحدة الوطنية والعيش معاً في لبنان، وتجاوز الخلافات السياسية والانقسامات. ويتطلّعون مع الجاليات الأخرى، إلى "ربيع عربي" حقيقي، يحمل أزهارَ الديموقراطية، والفصلَ بين الدين والدولة، واحترامَ الشخص البشري وحقوقَه الاساسية بحكم المواطنة، أيّاً يكن دينُه وعرقُه وميلُه، بحيث يستطيع المسيحيون أن يعيشوا بطمأنينة، ويواصلوا دورَهم الثقافي والاقتصادي والإجتماعي والوطني، انسجاماً مع تاريخهم.

   لكنَّ الجميع يضعون أملهم في الكنيسة، ولا سيّما في البطريركيّة المارونيّة. وأكّدوا مردّدين أنّها حاميةُ المسيحيين في الشرق الأوسط. إنّ هذه الآمال والانتظارات توجب علينا رسم استراتيجية راعوية للشرق الأوسط بالتعاون مع الكنائس الشقيقة، وتحديد مساحات تعاون مع إخواننا المسلمين، في ضوء الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان"، وتعليم المجمع البطريركي الماروني وتوصياته، وما سيحمل إلينا من توجيهات الإرشاد الرسولي الخاص بالشرق الأوسط، الذي سيوقّعه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، أثناء زيارته المرتقبة للبنان من 14 إلى 16 ايلول المقبل. كل هذه الوثائق تذكِّر المسيحيين أنهم مواطنون أصليّون وأصيلون في بلدان الشرق الأوسط، ومتواجدون فيها منذ ألفَي سنة وعهْدِ السيد المسيح والرسل. وقد طبعوا بلدانهم هذه بثقافتهم، وكانوا روّاداً في نهضتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وحملوا إليها قيَم الحداثة. يقتضي منهم واجبهم الوطني مواصلة هذا الدور الذي لا غنى عنه، لتبقى لاوطانهم معانيها.

   6. وفي هذا اليوم أيضاً، عيد العنصرة، تحتفل قناة تلي لوميار بعيد تأسيسها الثاني والعشرين، ونورسات بعيدها التاسع. وقد أقامت أمس الأول في الباحة الخارجية وكابلاّ القيامة ليلة صلاة وأناشيد ورقصات تعبيرية إحياءً للعيد. إننا نهنئ مجلس الإدارة والقيّمين على هاتين القناتين، والعاملين فيهما، والمحسنين عليهما. ونصلّي من أجلهم جميعاً، ونلتمس أنوار الروح القدس لتقود خدمة الكلمة وإعلان الإنجيل عبر سائر البرامج، إلى عقول المشاهدين وقلوبهم، لكي تنتشر ثقافة الحقيقة والشركة والمحبة.

   7. واحتفلنا أمس، بالمناولة الأولى لأطفال رعية مار زخيا – عمشيت، كما احتفل ويحتفل بها العديد من رعايانا في مثل هذه الايام. إنّنا نهنّئ كلَّ الأطفال الذين قبلوا للمرّة الأولى جسد الربّ يسوع ودمه، فحوّلهم إليه لكي يرى بعيونهم البريئة، ويحبّ بقلوبهم النقية، ويعطي بأيديهم السخية، ويعمل الخير بإرادتهم الحرّة، ويفكّر بعقولهم الصافية. إنّنا نهنّئهم ونهنّئ أهلهم، لأنّهم أصبحوا في عائلاتهم بيوت قربان، يحملون إليها المسيح الربّ وكلّ خيور السماء. ونصلّي لكي يثبّتهم الروح القدس بمقاصدهم، ويفيض عليهم مواهبه السبع، ويبقى رفيق دربهم، يهدي ويرشد ويقوّي. ونصلّي بنوع خاصّ من أجل عائلاتنا لتظلّ مدرسة وكنيسة منزليّة تنقل الإيمان وتعلّم الصلاة، وبخاصّة في هذا الأسبوع الذي تلتقي فيه عائلات العالم مع قداسة البابا بندكتوس في ميلانو بايطاليا حول موضوع: "العائلة، مكان العمل والعيد".

   8. واستضفنا أمس الأول في هذا الكرسي البطريركي الندوة حول "الميثاق الإجتماعي والكنيسة" الذي نظّمه مكتب الشؤون الإجتماعية والإنمائية في الدائرة البطريركية ومركز قدموس. إنّ "الميثاق الإجتماعي" الذي وضعته وزارة الشؤون الإجتماعية سنة 2010، يلتقي تماماً مع تعليم الكنيسة الإجتماعي، ويرتكز على قاعدتَين غير منفصلتَين: كرامة الشخص البشري وحقوقه، وكرامة العائلة كخليّة أساسيّة للمجتمع. إنّنا نعتبر هذا "الميثاق الإجتماعي" مقدمة "لعقد اجتماعي وطني جديد"، ينطلق من "الميثاق الوطني" الذي ارتضاه المسيحيون والمسلمون سنة 1943، ميثاق العيش معاً بثقة، لبناء دولة مدنيّة مستقلّة عن أيّ تبعيّة لدولة في الشرق وفي الغرب، تفصل بين الدين والدولة، وبين السياسة والدين، وتخضع لله ورسومه وتعترف بكلّ دين وطائفة ومذهب؛ دولة مدنيّة تُبنى على النظام الديموقراطي الذي يحترم كرامة المواطن، ويعزّز الحريات العامة، ويؤمّن حقوق الإنسان الأساسيّة، ويعترف بالتعددية في الرأي والنظرة، وبنسبيّة الخيارات السياسيّة وتكاملها وتوجيهها لتصبَّ في الوحدة الوطنيّة والخير العام.

   نرجو النجاح لطاولة الحوار التي يدعو إليها فخامة رئيس الجمهورية ونأمل أن تؤدّي إلى وضع "ميثاق وطني جديد" يقود البلاد إلى "ربيع لبناني"، يحتاج إليه "الربيع العربي" المنشود. فلبنان بمكوِّناته ونظامه الميثاقي إنّما هو عنصر استقرار في منطقة الشرق الاوسط.

   9. صلاتنا، في عيد حلول الروح القدس، أن يفيض الله علينا جميعاً، وعلى المسؤولين في بلادنا وفي العالم كلّه، أنوار الحكمة والمعرفة، ومواهب المشورة والثبات، وفضيلة التقوى ومخافة الله، لكي تبدأ حياة جديدة في العائلة والكنيسة، في المجتمع والدولة، تنعشها الحقيقة والمحبة. وإذ نحن في ختام شهر ايار، نلتمس من أمّنا مريم العذراء سيدة لبنان أن تشفع بنا لدى ابنها يسوع لكي يفيض روحه القدوس لحياة العالم، هاتفين: "أرسل روحك أيها المسيح، فيتجدَّد وجه الأرض". ولمجد الله الواحد والثالوث، الآن وإلى الأبد، آمين.