موتُ الكاردينالِ اليسوعيَّ مارتيني والصَّحفيون المُعاصرون

مقال بقلم اشرف ناجح ابراهيم

– خاص بالموقع

 

مُقدِّمةٌ

لقد كان موضعَ إعجابٍ وحيرةٍ وتساؤلٍ وتناقضاتٍ أثناء حياتهِ الَّتي إمتدت حتى الخامسةِ والثَّمانين عامًا، وحتى بعد وفاتِهِ (الجمعة 31/8/2012) لم ينته الإعجابُ والحيرةُ والتَّساؤلاتُ حول شخصيَّتِهِ وأعمالِهِ، بل بالعكس زادوا جدًا جدًا. لعل البعضَ فَهِمَ عَمَّنْ أتحدَّث؟

أجل، إِنَّهُ الكاردينالُ الإيطاليُّ كارلوا ماريَّا مارتيني[1] الَّذِي وُلِدَ بتورينو في عامِ 1927، ودخل الرَّهبنةَ اليسوعيَّةَ في عامِ 1944، وسُيَّمَ كاهنًا في عامِ 1952، واختاره مُثلَّثُ الرَّحماتِ البابا بولس الـ6 عميدًا للجامعةِ الحبريَّةِ "الغريغوريانا" في عامِ 1978، ثُمَّ صار رئيسَ أساقفةِ ميلانو مِنْ عامِ 1979 إلى عامِ 2002، وجعله مُثلَّثُ الرَّحماتِ البابا يوحَّنا بولس الـ2 كاردينالًا في عامِ 1983، وعندما بلغ السِّنَ القانويَّ قدَّم استقالتَهُ، فتمَّ قَبولُها في عامِ 2002، ثُمَّ قضي أيامَهُ الأخيرةَ بين أورشليم وإيطاليا.

1.    هذا المَقالُ

بدايةً، ينبغي أَنْ أعترفَ بِأَنَّني قبل كتابةِ هذا المَقالِ حاولتُ قراءةَ العديد مِنْ المقالاتِ والأراءِ الَّتي كُتبت عن المُنتقلِ الكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني وعن وفاتِهِ؛ ولكنني بالطَّبعِ لم أقرأ، ولا يمكنني أَنْ أقرأ، كُلَّ ما كُتب عنه. وفي مَقالي المُوجزِ هذا سأحاول التَّوقِّفِ عند بعضِ ما كُتب حول هذه الشَّخصيَّةِ الغنيَّةِ؛ وسأتوقَّف بالذَّاتِ عند مقالةِ الصَّحفيِّ الإيطاليِّ "أنتونيو سوتشي" الجارحةِ ومقالة الصَّحفيِّ الإيطاليِّ "جوليانو فيرَّرا" الغامضة ومقالة الصَّحفيِّ الإيطاليِّ ساندرو بوندي المَوضوعيَّةِ، وسأضع أمامي أيضًا رسالةَ البابا بندكتوس الـ16 الَّتي قُرأتْ في قداسِ جنازةِ الكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني (الاثنين 3/8/2012) وكلماتَ بعضِ الكارادلةِ حول شخصيَّةِ المُنتقلِ كارلوا ماريَّا مارتيني وحياتِهِ.

لا أكتب هذا المَقالَ لمَدحِ الكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني، ولا للدفاعِ عنه، ولا لتقييمِه؛ وإِنَّمَا لأطلب مُتوَّسلًا مَمَّن يكتب ويتحدَّث عنه أو عن غيره أَنْ يفعلَ هذا بنوعٍ مِنْ الرَّحمةِ والمَوضوعيَّةِ، ولأُظهِر استغرابي الشَّديد مِمَّا يكتبونه الصَّحفيون عن الكنيسةِ والكنسيين.

2.    الكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني

لن أكتب هنا بيوغرافيا للكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني، ولن أُسطِّر ما قام به من أعمالٍ عظيمةٍ، ولن أصف شخصيتَهُ الغنيَّةَ والقديرةَ والمحبوبةَ؛ ولكنني أريد فقط أَنْ أشيرَ إلى بعضِ خصالِ هذا المفكِّرِ الكاثوليكيِّ المُعاصرِ، وسيكون هذا بواسطة كلماتِ الأخرين عنه. وسأبدأ بكلماتِ البابا بندكتوس الـ16. فهذا البابا العظيمُ واللاهوتيُّ الكبيرُ يصف المُنتقلَ كارلوا ماريَّا مارتيني بهذه الخصائصِ: «رجلُ الله، لم يدرس فقط الكتابَ المقدَّسَ، ولكنه أحبَّه حبًا جمًا وجعله نورًا لحياتِهِ.. راعيٌ سخيٌ وأمينٌ للكنيسةِ..لم يرفض أبدًا التَّواصلَ والحوارَ مع الجميعِ..»[2].

أمَّا عن صفاتِ الكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني الَّتي جاءت على لسانِ الجميعِ، إكليروس وعلمانيين، مؤمنين وغير مؤمنين، مسيحيين وغير مسيحيين، فهي: الانفتاحُ والحوارُ، الاتضاعُ، الحكمةُ والمعرفةُ، التَّقوى، النَّظرةُ الثَّاقبةُ والنَّبويَّةُ، مُعلمٌ في الوعظِ للشبابِ، مُعلمٌ حتى لمَنْ لا يؤمن

بلا أدنى شكٍّ لا يمكن إنكارُ اختلافِ وجهاتِ النَّظرِ اللاهوتيَّةِ والفلسفيَّةِ بين الأشخاصِ، وخاصةً إذا كانت شخصياتٍ مفكرةً وباحثةً مثل الكاردينالِ جوزيف راتسينغر والكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني؛ ولكِنْ هذه الاختلافاتُ بين مارتيني وراتسينغر يمكن أَنْ تدهشَ وتصيبَ بالذُّهولِ والاستغرابِ فقط مَنْ لا يعرف تاريخَ الكنيسةِ، لأَنَّهُ في تاريخِ الكنيسةِ تواجدت وتعايشت معًا العديدُ من وجهاتِ النَّظرِ المُتنوعَّةِ والمُتباينةِ، وهي الَّتى بدورها كوَّنت تقليدَ الكنيسةِ وساهمت في إصلاحِ هذه الأخيرةِ[3]. وقد كان في تاريخِ الكنيسةِ، وسيظل دائمًا، تنَّوعٌ وغنى في قراءاتِ القضايا العصريَّةِ المُلِّحةِ؛ وهذا بدوره يُعبِّر عن التَّفكيرِ اللاهوتيِّ الحرِّ وعن الوَحدةِ في التَّعدديَّةِ[4].   

3.    الصَّحفيون المعاصرون

لا يمكنني بالطَّبعِ تقييمَ كُلِّ مَا كتبه الصَّحفيون عن الكاردينالِ كارلوا ماريَّا مارتيني ووفاتِهِ، المُحِبون له والمختلفون معه، ولكنني أسمح لنفسي بالتَّعبيرِ عن انطباعي العامِ حول بعضِ الصَّحفيين وما كتبوه.

إِنَّ بعضَ الصَّحفيين قامكالعادةِباستغلالِ الظُّروفِ والأشخاصِ والمواقفِ ليسقط عليهم ما يريده ويتمَّناه، فيصنع حقائقًا ووقائعًا لا تمت للواقعِ الفعليِّ بصلةٍ، ولا وجودَ لها إلَّا في خيالِ مخترعِها وكاتبِها. وبعضُ الصَّحفيين الأخرين يكتبون ويتحدَّثون عَمَّا لا يعلمون. فقد تحدَّث البعضُ عن انقسامٍ في الكنيسةِ بين كنيسةِ روما (بقيادةِ راتسينغر) وكنيسةِ ميلانو (بقيادة مارتيني)، بين تقليدين ومتحرريين[5]، وهذا لمجردِ تباين وجهاتِ النَّظرِ بشأن بعضِ القضايا المعاصرةِ بين المُنتقلِ كارلوا ماريَّا مارتيني وبعضِ اللاهوتيين الكاثوليكِ. وقام بعضُهم بخلطِ الأمورِ والتَّعمييم، مثل ذلك الصَّحفيُّ الَّذي انتقل مِنْ الحديثِ عن المُنتقلِ الكاردينالِ اليسوعيِّ كارلوا ماريَّا مارتيني والحوارِ الأخيرِ الَّذي أُجري معه إلى انتقادِ اليسوعيين جميعًا واتهامهم بـ"النَّسبيَّةِ اللامبلايَّةِ"[6]!

وهنالك بعضُ الصَّحفيين يفهم أَنَّ الصَّحافةَ هي تجريحٌ للأخرين بحُجَةِ حريةِ الرَّأيِ! أجل، يمكن لكُلِّ شخصٍ أَنْ يُبديء رأيَهُ بحريةٍ، ولكِنْ بدون أَنْ يجرحَ ويهينَ لا الأمواتَ ولا الأحياءَ، خاصةً إذا كان هذا الشَّخصُ الَّذي يُعبِّر عن رأيِهِ هو صحفيًّا مسيحيًّا كاثوليكيًّا[7]، فعليه بالأحرى أَنْ يتحلَّى بالرُّوحِ المسيحيَّةِ في تقييمِ الأخرين.

والغريبُ والعجيبُ أيضًا أَنْ بعضَ هؤلاء الصَّحفيين قد لا يؤمن بَعْدُ بِأَنَّ يسوعَ المسيحِ هو الكلمةُ المُتَّجسِّدةُ ولا يؤمن بالكنيسةِ الواحدةِ المُقدَّسةِ الجامعةِ الرَّسوليَّةِ، ومع ذلك يتزعَّم أَنَّهُ يعرف ما هو الإيمانُ الحقيقيُّ المُتعلِّقُ بيسوعَ المسيحِ وكنيستهِ. ويطالب الكنيسةَ بِأَنْ تكون مُعاصرةً ومُحدثةً ومنفتحةً، وفي الوقتِ عينه يهاجم مَنْ مِنْ داخل الكنيسةِ ذاتها يُكرِّس ذاتَهُ ووقتَهُ وحياتَهُ مِن أجل تآوينِ الكنيسةِ وتحدِّيثِها وتفتيحِها على كُلِّ ما يدور فيها وحولها. ويتهِّم أيضًا مَنْ يحاول التَّحاورَ والحوارَ مع العَلمنةِ المُعاصرةِ والدِّياناتِ الأخرى وغيرِ المؤمنين والمُلحدين بِأَنَّهُ يبحث عن الشُّهرةِ ومُلاقاةِ الإعجابِ والاستحسانِ على حسابِ الإنجيلِ، وهو أولُ مَنْ يبحث عن الشُّهرةِ ومُلاقاةِ الإعجابِ والاستحسانِ على حسابِ هذا البريء مِنْ إتهاماتِهِ الَّتي لا أساسَ لها.

خُلاصةٌ

لا أنكر، ولا يمكنني أَنْ أنكر، ذكاءَ وصراحةَ بعضِ هؤلاء الصَّحفيين المُنتقدين للمُنتقلِ كارلوا ماريَّا مارتيني، ولا يمكنني أيضًا أَنْ أشكِّك في حبِّ بعضِهم للكنيسةِ، ولكِنْ ثَمَّة أمرٌ يلخِّص موقفَ كُلِّ هؤلاء الصَّحفيين أصحابِ الانتقاداتِ اللاذعةِ للمُنتقلِ الكاردينالِ اليسوعيِّ هو عدمُ إدراكِهم الجيدِ لجوهرِ الإيمانِ المسيحيِّ ولا لماهيَّةِ كنيسةِ المسيحِ الَّتي هي إمتددٌ لتجسُّدِ الكلمةِ الإلهيَّةِ في التَّاريخِ البشريِّ؛ فكُلٌّ مِنْهم يتصوَّر الإيمانَ والكنيسةَ كما يريد أو كما يحلو له.  

وأخيرًا، إِنْ كان هؤلاء الصَّحفيون المُعاصرون يدَّعون أَنَّ مَقالاتَهم هي بمثابةِ حريةٍ في التَّعبيرِ عن الرَّأيوإِنْ كانت مُكتظةً بالتَّجريحِ ومُفتقدةً للأدلةِ والبراهين وعاريةً تمامًا مِنْ الصَّحةِفأرجو ألَّا يعتبروا مَقالي المُوجزَ هذا تحجيمًا لحريتِهم في التَّعبير عن أرائِهم!

 




[1]  لمَنْ يريد أَنْ يقرأ باللغةِ العربيةِ بعضًا مما كتب المنتقلُ الكاردينالُ كارولو ماريَّا مارتيني عليه العودةُ إلى شبكةِ الإنترنت للبحثِ عن مقالةِ الكاردينالِ كارولو ماريَّا مارتيني الَّتي قُمتُ بترجمتِها إلى اللغةِ العربيةِ تحت عنوانِ "رسالة إلى الوالدين".

[2] Cfr. Fra.Gia., «Il messaggio di Ratzinger “Aperto al dialogo con tutti”», in Il Messaggero (Martedì 4 settembre 2012), p. 11.

[3] Cfr. Sandro Bondi, «Botta e risposta. Caro Antonio, il cattolicesimo ha tante facce», in Libero (Martedì 4 settembre 2012), p. 14.

[4] Cfr. Caterina Maniaci, «L’ultimo addio. Scola gela i cattocomunismi: Martini non era il vostro antipapa», in Libero (Martedì 4 settembre 2012), p. 15.

[5] Cfr. Caterina Maniaci, «La morte del cardinale. Il Papa dà Buca. Ratzinger non andrà al funerale di Martini», in Libero (domenica 2 settembre 2012), p. 12.

[6] Cfr. Giuliano Ferrara, «Una verità su Martini nel giorno dell’addio al possente gesuita», in Il Foglio quotidiano (Lunedì 3 settembre 2012), p. 1.

[7] Cfr. Antonio Socci, «La morte del cardinale. Prelato snob. Il biblista che s’era scordato il Vangelo», in Libero (domenica 2 settembre 2012), pp. 1 e 13.