زيارة بندكتس السادس عشر إلى لبنان بين الواقع والرجاء

مقابلة مع المونسينيور بيوس قاشا، خوري رعية مار يوسف للسريان الكاثوليك في بغداد

 حاوره روبير شعيب

روما، الخميس 6 سبتمبر 2012 (ZENIT.org). – زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى لبنان ليست مناسبة وطنية لبلاد الأرز وحسب، بل هي حدث إقليمي وكنسي ضخم يجمع بين أهمية معنوية كبيرة للزيارة في خضم ربيع عربي يحمل في طياته غيومًا داكنة وغامضة من العنف والدماء، وأهمية كنسية كبيرة، لأنه يشكل تكليلًا لجمعية سينودس الأساقفة الخاصة من أجل الشرق الأوسط، إذ سيسلم البابا بندكتس السادس عشر خلال زيارته الشرق أوسطية الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس الذي عُقد في روما في أكتوبر 2010.

نظرًا لترابط هذه المواضيع التقت زينيت بالمونسنيور بيوس قاشا، خوري رعية مار يوسف للسريان الكاثوليك في المنصور _ بغداد _ العراق. المونسينيور بيوس قاشا هو علامة في اللاهوت والتاريخ الكنسي. ولد في قره قوش/ الموصل/ العراق في 28 آب 1953، بدأ مشواره الثقافي في معهد الآباء الدومنيكيين في الموصل، وارتاد عدة جامعات ومعاهد لاهوتية في مصر، إيطاليا وهولندا حصد منها سلسلة من الشهادات في الفلسفة واللاهوت. المونسينيور قاشا مؤلف سخي أصدر ما يقارب الـ 125 كتابًا وهو مسيحي ومواطن ناشط يشارك في العديد من اللجان الصحفية، اللاهوتية، الطقسية-الليتورجية والأدبية.

قبل أن نطرح أسئلة المقابلة شاء المونسينيور أن يفتتح حديثه مسلطًا الضوء على الاهتمام الخاص الذي كرسه لسينودس الأساقفة الذي يدخل مع تسليم الإرشاد الرسولي الأسبوع المقبل مرحلته الختامية فقال: "مذ أعلن قداسة البابا بندكتس السادس عشر موافقته على عقد سينودس كنائس الشرق الأوسط، نما في داخلي شعور إيماني لا يضاهيه شعور، وأخذ يراعي يفكر ويتأمل ويسطّر وكأن السينودس لم يكن لي إلا عنصرة جديدة فقد حوّل اليأس إلى شجاعة، وامتلأتُ حرارةً، وقدّمتُ للرب من ذلك اليوم شمعةً وبخوراً ودعاءً كي يكون السينودس ربيعاً مسيحياً إيمانياً لي ولأبناء جلدتي ورعيتي التي أخدمها منذ ثلاثين عاماً، ولم أتركها أو أفارقها يوماً وفي أحلك الأيام، حيث كنتُ مع أبنائي في الحروب والحصار والاحتلال".

– مرّ عامان تقريباً على جمعية سينودس الأساقفة الخاصة لأجل الشرق الأوسط. أنت مشهور في العالم العربي بتتبّعكَ وتعمّقكَ بموضوعات السينودس ومقرراته. ماذا تقول لنا إذا ما سألناك أن تحدثنا باقتضاب عن "حصاد السينودس"؟.

المونسينيور بيوس قاشا: حصاد السينودس في بلدان الشرق الأوسط صعب المنال كوني أواكب فقط عبر المواقع الإلكترونية حصاد هذه الكنائس الشرق أوسطية _ وإنْ كانت نسبياً قليلة جداً وكأن الخمول قد أصابنا جميعاً _ حيث ما شاهدتُه عامة أن بعد انتهاء السينودس لم يكن هناك إلا القلّة القليلة التي واصلت سنابل الحقل ليحصد ثمار السينودس، وخيّم على الجميع هدوء واقعي لا أعلم إنْ كان إرادي أو بسبب وضع المربع العربي القلق… هذا من ناحية.

أما من ناحية الحصاد في بلدي المضطرب سياسياً واجتماعياً بسبب ما حلّ به من مصائب الإرهاب ونزيف الهجرة وما شاكل ذلك، ولا أعلم إنْ كنتَ تقبل الكلمة، فقد خاب أملنا، فلا حصاد كوننا لم نزرع شيئاً، فما زرعه قداسة البابا ومداخلات الأساقفة الأجلاء لم تأخذ تواصلاً من أجل الإنماء ثم الحصاد الوفير، ربما أقولها قلّة ضئيلة. ولم يكن هناك مقالات في هذا الشأن إلا مقالاتي والتي بلغت (16) مقالةً متنوعة متنوع الأفكار والعناوين، وهي:

   1. كلّنا في مسيرة واعدة نحو سينودس الشرق الأوسطي؛ سينودس الشركة والشهادة.

   2. البابا في روما، ترونه هناك.

   3. آمالنا في حقائب أساقفتنا الأجلاء.

   4. همسات إيمانية بين جلسات السينودس.

   5. السينودس من أجل رجاءٍ جديد وأرضٍ جديدة.

   6. عذراً، حديث عن ما بعد السينودس.

   7. السينودس، نفحة رسولية من أجل جماعة مسؤولة.

   8. كلمة الله عنوان كهنوتنا.

   9. السينودس من أجلنا كلنا.

   10. السينودس؛ صوت الحقيقة من أجل الحقيقة.

   11. البابا رسول السلام والمحبة والحوار.

   12. إنه يسبقكم إلى بيروت.

   13. نعم، مسيحيون من نوع جديد.

   14. السينودس، حوار الحياة المثمر مع المسلمين.

   15. السينودس… المسيحيون أصلاء في أرضهم. أيجوز أن نحيا بالتنقيط، كي نموت بالتقسيط، فتكون النتيجة التسقيط!.

   16.  الإرشاد الرسولي… عَنصرة من أجل كنيسة الشرق.

ولا يسعني _ أو لا أذكر _ أن هناك نشاطاً حصل في كنيسة ما من شمال العراق وحتى جنوبه، ولا أعلم ما السبب، هل كون كنيستنا في العراق لا تواكب مسيرة الكنيسة الجامعة الرسولية أم الوضع الراهن الذي عشناه ولا زلنا نعيشه هو السبب الرئيسي لوصولنا إلى هذه الحالة المتعبة.

وإنْ كانت توصيات السينودس قد منحت الضوء الأخضر بعد عودة الأساقفة الأجلاء إلى مدنهم وقراهم وأبرشياتهم لكي يقدموا للشعب الجائع إلى الإيمان خبز المسيرة ، ويُظهروا له أن السينودس ما هو إلا رسالة عنصرة مجددة حلّت على الآباء في علية الفاتيكان.

– ما هي أصداء السينودس في الكنيسة العراقية؟ هل من تغييرات ملموسة؟.

المونسينيور بيوس قاشا: أخجل أن أقول الحقيقة، فالأصداء محدودة المساحة والمحيط ولا من تغييرات واقعية أو حقيقية حصلت. بالعكس، ما حصل أنه بعد السينودس بثمانية أيام هبّت عاصفة الإرهاب على كنيسة سيدة النجاة واقتحمها الإرهابيون، وأمسينا فيها في ضياع، ورحل العديد من أبنائنا حاملين حقائبهم من الخوف والفزع، وتركوا العاصمة بغداد وقصد بعض منهم إقليم كوردستان في شمال العراق وآخرون رحلوا إلى غير عودة.

سمعتُ صوتاً واحداً في محاضرة واحدة أُلقيت في قره قوش بعد عودته من السينودس ولم أسمع أخرى هنا وهناك إلا ما قامت به رعيتنا مار يوسف من محاضرات ونشاطات وشرح توصيات السينودس وإفهام الناس أن السينودس هو من أجلنا كلنا كونه صوت الحقيقة ويدعو إلى الثبات في مسيرة الكتاب المقدس وعيشه بإيمان الحياة ومقاسمة الشركة في الكنيسة نفسها ثم مع غيرها من الكنائس من أجل شهادة مسيحية عملاً بما جاء في أعمال الرسل:"وكانوا كلهم قلباً واحداً ونفساً واحدة" (أعمال 32:4) في الشركة والشهادة.

– يتطرق السينودس إلى الحوار مع الأديان، وبشكل خاص الإسلام. هل كانت هناك مبادرات على الأرض بعد أكتوبر 2010؟، وما كانت ردة الفعل من الجهة المقابلة؟.

المونسينيور بيوس قاشا: إن الحوار رسالة السلام. ففي الحوار الصادق يكون التعايش الأخوي والمسالم. وفي هذا الصدد لم أجد مَن قام بأي نشاط حواري مع الجانب المسلم، ولكن ما حصل أنه بعد كارثة كنيسة سيدة النجاة شارَكَنا الأخوة الإسلام في همومنا ومشاكلنا، ووجّهوا دعوات إلينا بعدم الرحيل كوننا الأصلاء في هذا البلد… هذا من جانب الأخوة المسلمين. ولكن لم أجد شيئاً أو حواراً أو مؤتمراً قامت به كنيسة ما أو أبرشية ما أو رعية، ولكن ما حصل إني استطعتُ أن أشارك في مؤتمرات أو جلسات حوار عُقدت عند الأخوة المسلمين من السُنّة والشيعة، فقد شاركتُ في مؤتمر أقيم عند سماحة السيد حسين الصدر وألقيتُ كلمة بالمناسبة من أجل التمسك بالأرض وعنوانها "لا تستسلموا، لا تيأسوا، لا ترحلوا"، وهذه كانت كلمات قداسة الطوباوي يوحنا بولس الثاني. ثم شاركتُ في مؤتمر الحوار من أجل الفكر عند ملتقى سماحة الشيخ همام حمودي، وفي مؤتمر حوار بين الأديان "من أجل كلمة سواء" وألقيتُ فيها كلمة عنوانها "من أجل الحياة".

نعم، كانت المؤتمرات وكان التضامن الأخوي بين المسلمين والمسيحيين وخاصة بعد كارثة كنيسة سيدة النجاة. ولكن قليلاً فقليلاً تواصل المسيرة نحو الهدوء والسكينة، وكأننا قد أكملنا كل شيء، مع علمي واعتقادي بكلمة الكنيسة الجامعة وقول قداسة البابا بالحوار كون الحوار هو الرسالة المثمرة مع الإسلام. وإنني أفكر الآن _ وإنشاء الله بعد عودتي من لبنان _ أن أرتّب لقاءً خاصاً حول طاولة مستديرة يجتمع حولها مؤمنو الكتب السماوية المقدسة لمناقشة أسلوب العيش وقبول الآخر وحرية الكلمة… وما لي إلا أن أطلب عوناً من الرب من أجل ذلك.

لزيارة البابا إلى لبنان معانٍ مختلفة. ما هو انتظار المسيحي العراقي؟.

المونسينيور بيوس قاشا: قلوبنا تهتف لقداسة البابا بندكتس السادس عشر المالك سعيداً "مباركٌ الآتي باسم الرب"… إنها زيارة الرسالة، وما الرسالة إلا بذرة السلام التي يحملها قداسته ليزرعها في قلوب أبناء الشرق المعذب بمسلميه ومسيحييه. لا يمكن أن يستمر الصراع بين الشعوب، فقد عُرف قداسته _ بل عرّفتُه أنا في كتابين بجزأين أسميتهما "البابا بندكتس السادس عشر، بابا الحوار والسلام والمحبة".

في زيارته نخلة العراق تعانق أرزة لبنان… بندكتس السادس عشر يعانق كنيسة الشرق ويحمل آمالها وآلامها، أفراحها وأحزانها، يحمل إليها عوناً وخيراً وسلاماً ويحمل منها حباً ووفاءً وشهادة.

نعم، نحن في العراق ننتظر هذا الحدث الإيماني، فبيروت أصبحت لنا مرجعية مقدسة، عبرها أنشدت وتنشد جميع كنائس الشرق الأوسط هنيئاً للآتي إلينا، وأهم انتظار كان حينما جسّدنا ذلك في لقاء خاص في رعيتنا مار يوسف للسريان الكاثوليك يوم السبت، الأول من سبتمبر (أيلول) 2012، حيث دعونا جميع الدرجات الكنسية والعلمانيين للمشاركة والاستماع لمحاضرة بمناسبة قدوم قداسة البابا إلى بيروت، وفيها شرحتُ مسيرة السينودس ورسالة الإرشاد الرسولي "شركة وشهادة"، وقد امتلأت حينها قاعة الكنيسة بالمؤمنين كما حضر مبعوث السفير البابوي في العراق وكان هناك مؤمنون من كنائس مختلفة غصّت بهم قاعة الاجتماعات وإنْ افتقرنا حينها إلى حضور اكليريكي… وقد تُوِّج اللقاء بتوزيع نسخ من كتاب "شركة وشهادة" على جميع الحاضرين والذي قمتُ بإعداده بهذه المناسبة.

فالزيارة بالنسبة لي أقولها إنها رسالة، بل إنجيل ثاني، كون الإرشاد الذي يوقّعه قداسة البابا ويسلّمه إلى الآباء الأجلاء ما هو إلا حقيقة إيمانية من أجل الربيع المسيحي، وما على المؤمنين إلا أن ينتبهوا إلى ذلك، فيكونوا حاملي رسالة كما هم حاملي بشرى الخلاص.

– ماذا تنتظر منها حضرتك؟.

المونسينيور بيوس قاشا: أنا شخصياً لي ثقة كبيرة بمجيء قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى بيروت… إنه المسيح الآتي ليتجول في شوارع الجليل والناصرة. فاليوم شوارعنا هي بيروت وفلسطين والعراق وسوريا ومصر وأخرى… يتجول فيها ليفتش عن المتألم والأبرص والجريح والأعرج… إنه يفتش عن مسيرة إيماننا. فاليوم كلنا نحتاج إلى أنجلة جديدة، وما إطلاقه سنة الإيمان إلا تتويج لهذه المسيرة السينودسية. فالشعب اليوم جائع إلى خبز الإيمان وماء الحياة، ومحتاج إلى مَن يحميه من الخطيئة والعولمة والضياع وفقدان الحرية وقبول الآخر… إنها خطايا تبيد الإنسان وتُبعده عن أخيه.

نعم، كان الانتظار يوماً ما ولكن لما تمّ ملء الزمان جاء قداسته إلى بيروت عاصمة القديسين والعظام، عاصمة الحياة، عاصمة العرب والتعايش، ليجسّد حقيقة المسيح الحي، الحامل لرسالة الإنسان في البشرى الجديدة… انتظاري هو ملء الزمان حينما أشارك في القداس الاحتفالي مع جميع الحاضرين… نعم، بالنسبة لي حدث ولا أجمل ولا أقدس!.

– ماذا يجب أن نتعلم كمسيحيين ومسلمين من زيارة يوحنا بولس الثاني إلى لبنان في عام 1997 لكي نعيش هذه الزيارة على أفضل وجه ونحصد جزيل ثمارها؟.

المونسينيور بيوس قاشا: إن زيارة الطوباوي يوحنا بولس الثاني إلى لبنان عام 1997 كان حينها شعبنا لا يزال يعيش مآسي حرب الخليج الثانية، وقد جثم على صدرنا الحصار القاتل الذي أنهك قِوانا اجتماعياً واقتصادياً وحتى كنسياً، حيث الكثير من النشاطات الكنسية قد خَمُدَ نارُها. وأما اليوم فكل شيء تغير، فالاحتلال قد غيّر وجه الوطن وفتح باب الديمقراطية المزيَّفة فحلّ ما حلّ فينا حيث الطائفية والعشائرية، وأصبحنا لا نبالي إلا بأنفسنا كقبائل في زمن الجاهلية، وأصبحنا نحن المسيحيين أقلية، والإرهاب أخذ مجالاً كبيراً في طردنا وتهديدنا وقتلنا ونهب بيوتنا وأملاكنا، وظهور الأصوليات أزادت في البليّة ألماً… ومع هذا فكنيسة الشهادة _ وإنْ لا زالت تعيش مرحلة الألم في درب الصليب _ ستبقة وفيةً لايمانها ،  فمجيء قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى بيروت، ومن بيروت إلى شرقنا العزيز، ما هو إلا مجيء رجاء وأمل لأجيالنا الصاعدة وشبابنا، ولكن ما يجب أن نعمله هو أن نوعّي أنفسنا وأولادنا بأن الرب له رسالة خاصة لنا في هذه الأرض المباركة، وفيها خلقنا الله ولها أرادنا ،  ورسالتنا اليوم ما هي إلا رسالة الحوار المثمر كما يقول السينودس، والثمار لا يمكن أن تُحصَد إذا لا نقوم بالاهتمام بالشجرة المثمرة. فثمار إيماننا تنضج بقوة عيشنا هذا الإيمان عبر الإرشاد الرسولي الذي يسلّمه إلينا قداسة البابا. فالمسؤولية ليست لرجال الكنيسة وحدهم فقط بل كلنا مسؤولون عن تجسد الإرشاد في مسيرة الإنجيل التي نحملها عبر بذرة الإيمان التي زرعها والدانا يوم عماذنا، فنكون بذلك أوفياء لهذه الرسالة وأمناء لكلمة البشارة. فالوفاء والأمانة في حمل الرسالة الخلاصية، بشارة الخلاص هذه، أطيب ثمار وأقدسها.