سيرة قداسة البابا بنديكتوس السّادس عشر

 

بقلم الأب فرنسوا عقل ر.م.م

دير القمر، الأربعاء 12 سبتبمر 2012 (ZENIT.org).

أبصر الكاردينال جوزيف راتزنغر النّور في ماركتل آم إين Marktl am Inn من أبرشية باسّو Passeau الألمانيّة في السّادس عشر من شهر نيسان عام 1927، ونال سرّ العماد المقدّس في اليوم عينه. والده ضابط في سلك الشّرطة، وهو يتحدّر من عائلة متواضعة من قدامى مزارعي جنوب بافاريا Bayern، وأمّه ابنة إحدى عائلات حرفيّي ريمستينغ Rimsting، كانت تعمل قبل زواجها طاهية في فنادق مختلفة.

مرحلة الطّفولة والمراهقة

أمضى جوزيف طفولته ومرحلة المراهقة في تراونشتين  Traunsteinوهي قرية صغيرة بالقرب من النّمسا.

لم تكن مرحلة الشباب بسهلة. لكنّ التّربية الصّالحة على الإيمان والقيم التي تلقّاها من والديه التّقيّين، قد ساعدته على مجابهة قساوة تلك الأزمنة القاتمة، حين كان النّظام النّازيّ العنصريّ يخنق الحرّيّات ويصنّف النّاس بحسب الأعراق، ويضطهد الأديان والكنيسة ويعيث فسادا في ألمانيا وخارجها. وقد رأى بأمّ عينه كيف كان النّازيّون القساة ينهالون بالضّرب على كاهن الرّعية قبل الإحتفال بالذّبيحة الإلهيّة.

في تلك الأجواء المشحونة بالشرّ والقتل والأحقاد، اكتشف الشّاب جوزيف، جمال حقيقة الإيمان بالمسيح.

وفي الأشهر الأخيرة من الحرب العالميّة الثانية التحق قسرا، بالفرقة النّازيّة العاملة في الأسلحة المضادة للطّائرات.

الدّراسة والكهنوت

أكمل دروسه الفلسفيّة واللاهوتيّة في معهد فريسينغFreising  العالي، وفي جامعة ميونخ München في بفاريا من سنة 1946 حتّى سنة 1951.

سيم كاهنا في 29 حزيران عام 1951، وعهد إليه بالتّعليم، وبعد مرور سنتين أي عام 1953 نال شهادة الدّكتوراه في اللاهوت بعد مناقشة أطروحته حول "شعب الله وبيته في تعليم القدّيس أغوسطينوس".

ثمّ شرع بممارسة رسالة التّعليم الجامعيّ كأستاذ محاضر في جامعة بون Bonn عام 1959 حتّى عام  1963، وفي مونستر Münster من سنة 1963 حتّى سنة  1966، وفي توبينغا من عام 1966 حتّى 1969 إلى أن أصبح في نهاية العام نفسه أستاذا متفرغا في اللاهوت العقيديّ وتاريخ العقيدة في جامعة ريغينسبرغ Regensburg وشغل في الوقت عينه منصب نائب رئيس الجامعة.

اختير ليشارك في المجمع الفاتيكانيّ الثّاني من عام 1962 حتّى عام 1965 بصفة خبير ومستشار لاهوتيّ للكاردينال جوزف فرينغس Frings، رئيس أساقفة كولونيا.

رئيس أساقفة وكاردينال

عينّه البابا بولس السّادس في 25 آذار عام 1977، رئيس أساقفة ميونيخ وفريسينغ und Freising  München.

فسيم أسقفا في 28 أيّار متّخذا شعار أسقفيّته "مساهم في الحقيقة" "Cooperatores Veritatis"، وقد شرح ذلك بنفسه قائلا: "كان يبدو لي من ناحية، أنّ ذلك يدلّ على الرّابط بين عملي كمعلّم ورسالتي الجديدة. حتّى لو كانت النّشاطات مختلفة إلاّ أنّ المطلوب هو اتّباع الحقيقة وخدمتها؛ وقد اخترت هذا الشّعار، من ناحية أخرى، لأنّنا في عالمنا اليوم قد نتناسى بشبه كامل موضوع الحقيقة، كأمر عظيم جدّا بالنّسبة إلى الإنسان، ومع ذلك، فإن غابت الحقيقة سقط كلّ شيء".

 ثمّ رقّي إلى رتبة الكارديناليّة بصفة "كاردينال كاهن" في 27 حزيران من العام نفسه.

شارك في 25 و26 آب عام 1978 بانتخاب البابا يوحنّا بولس الأوّل ثمّ بانتخاب البابا يوحنّا بولس الثّاني في تشرين الثّاني من السّنة عينها.

أوكل قداسة البابا إليه عام 1980 مهمّة "مقرّر" في الجمعيّة العموميّة الخامسة لسينودس الأساقفة التي ناقشت موضوع "الأسرة المسيحيّة في العالم المعاصر".

عميد مجمع عقيدة الإيمان

عيّنه البابا الطوباويّ يوحنّا بولس الثاني في 25 تشرين الثّاني عام 1981، عميدا لمجمع عقيدة الإيمان ثمّ للجنة الكتابيّة الحبريّة واللجنة اللاهوتيّة العالميّة. وفي 15 شباط 1982  تنحّى عن رعاية أبرشيّة ميونخ وفريسينغ.

رُفع إلى رتبة "كاردينال أسقف" بعدما كان يحظى برتبة "كاردينال كاهن" وعيّن شرفا على كرسيّ فيلّيتري-سينيي Velletri-Segni .

كما عيّن رئيسا للجنة تحضير تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، وبعد ستّة أعوام قدّم إلى قداسة البابا التّعليم المسيحيّ الجديد.

وفي 6 تشرين الثّاني عام 1998 ثبّت البابا يوحنّا بولس الثّاني انتخابه من الكرادلة الأساقفة كنائب عميد مجلس الكرادلة ثمّ في 30 تشرين الثّاني عام 2002 ثبّت البابا انتخابه من جديد كعميد المجلس المذكور، موكلا إليه شرفا كرسيّ أوستيا، إحدى الأسقفيّات السبع التّابعة لأبرشيّة البابا.

في الدّوائر الرّومانيّة

أمّا في الدّوائر الفاتيكانيّة فكان له دور بارز في مجامع ومجالس ولجان حبريّة عديدة، إذ تمّ تعيينه عضوا في مجلس أمانة سرّ الدّولة للعلاقات مع الدّول ثمّ في مجمع الكنائس الشّرقيّة ومجمع العبادة الإلهيّة وتنظيم الأسرار ومجمع الأساقفة ومجمع تبشير الشّعوب ومجمع التّربية الكاثوليكيّة، ومجمع الكهنة ومجمع دعاوى القّديسين ثمّ في المجلس الحبريّ لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين ومجلس الثّقافة ومحكمة التّوقيع الرّسوليّ وفي اللجنة الحبريّة لأميركا اللاتينيّة، كما في لجنة شرح الحقّ القانونيّ ولجنة مراجعة قوانين الكنائس الشّرقيّة.

مؤلفّاته

أغنى المكتبة اللاهوتيّة العالميّة بمؤلّفاته العديدة، وأهمّها: "إله الإيمان وإله الفلاسفة" (عام 1959)؛ "مقدّمة للحياة المسيحيّة" (1966)؛ "شعب الله الجديد" (1969)؛ "الدّيمقراطيّة في الكنيسة" (1970)؛ "رجاء حبّة الخردل" (1973)؛ "عقيدة ووعظ" (1973)؛ "عيد الإيمان" (1981)؛ "أنظروا إلى المصلوب" (1984)؛ "تقرير عن الإيمان" (1985)، "الكنيسة" (1991)؛ "ملح الأرض" (1996)؛ "يوحنّا بولس الثّاني عشرون سنة في التاريخ" (1999)؛ "الله قريب" (2001)؛  "أوروبا وأسُسها اليوم وغدا" (2004)؛ "يسوع النّاصريّ" (2007)؛ "يسوع النّاصريّ من الدّخول إلى أورشليم إلى القيامة" (2011).

شهادات الدّكتوراه

نال بالإضافة إلى شهادة الدّكتوراه في اللاهوت العقيديّ، شهادات دكتوراه فخريّة عديدة من جامعات ومعاهد مختلفة: دكتوراه من معهد القدّيس توما في مينيسوتا (Minnesota) في الولايات المتّحدة الأميريكيّة عام 1984، ومن جامعة ليما (Lima) الكاثوليكيّة عام 1986، وبعدها من جامعة إيشتيت (Eichstät) الكاثوليكيّة عام 1987، ثمّ من جامعة لوبلين (Lublin) الكاثوليكيّة عام 1988، وجامعة نافرّا (Navarra) الأسبانيّة سنة 1998، وجامعة القدّيسة مريم المنتقلة إلى السّماء (LUMSA) عام 1999، وأخيرا من معهد اللاهوت في جامعة بريسلاو (Breslau) عام 2000.

إنتخابه بابا

في التّاسع عشر من شهر نيسان عام 2005، غصّت ساحة القدّيس بطرس في الفاتيكان بالجموع الغفيرة، وبعد تصاعد سحائب الدّخان الأبيض من مدخنة كابيلاّ سيستينا، ارتفع صوت الكاردينال جورج استيفيس، من على الشّرفة الخارجيّة لبازيليك القدّيس بطرس، مبشّرا بانتخاب بابا جديد للكنيسة الكاثوليكيّة معلنا في اللاتينيّة: “Abemus Papam” أي "لدينا بابا" –متابعا ما معناه- هو نيافة الكاردينال راتزينغر الذي اتّخذ اسم بنديكتوس السّادس عشر. فشرع الجمهور بالتّصفيق الشّديد وتناغمت أجراس كنائس العالم الكاثوليكيّ برمّته مع أنغام أجراس كاتدرائيّة القدّيس بطرس. وبعد برهة من الوقت أطّل البابا الجديد على الشّرفة عينها ومنح الشّعب بركته الأولى قائلا: "أيها الأخوة والأخوات، بعد البابا الكبير يوحنا بولس الثّاني، انتخبني الكرادلة، أنا العامل البسيط المتواضع في كرم الرّبّ. قبل كلّ شيء أنا أطلب صلواتكم لمساعدتي في فرح الرّبّ القائم من الموت، وأنا واثق من أنّه سيقوم بمساعدتي. دعونا نمضي قدما! وسوف يساعدنا الرّبّ، ومريم والدة الإله، ستكون معنا أيضًا. شكرًا لكم".

وجّه حتّى تاريخه إلى العالم الكاثوليكيّ، ثلاث رسائل عامّة: الله محبّة (2005) "بالرجاء خُلّصنا" (2007) والمحبّة في الحقيقة (2009).

كما كتب أكثر من ثمانين رسالة رسوليّة، ونحو أربع عشرة "إرادة رسوليّة" "Motu proprio" ناهيك عن نحو مئتي وثمان وستّين رسالة مختلفة تناولت شؤونا لاهوتيّة وعقيديّة وراعويّة عديدة. بالإضافة إلى تسع وعشرين زيارة راعويّة خصّ بها الدّولة الإيطاليّة وحدها، وثلاث وعشرين زيارة رسوليّة أخرى في العديد من دول العالم يضمّ إليها الآن زيارته التّاريخيّة إلى لبنان "الوطن والرّسالة" ليوقّع وثيقة الإرشاد الرّسوليّ للجمعيّة الخاصّة لسينودس الأساقفة من أجل الشّرق الأوسط التي التأمت في حاضرة الفاتيكان في 10 تشرين الأوّل 2010 واستمرّت حتّى 24 منه.

يعتبر البابا بنديكتوس السّادس عشر من البابوات المحافظين والمصلحين في الكنيسة الكاثوليكيّة ويظهر ذلك جليّا في كتبه وعظاته وتعاليمه ورسائله وقراراته ومواقفه.