بقلم المطران إبراهيم مخايل إبراهيم، رئيس أساقفة كندا للروم الملكيِّين الكاثوليك
كندا، الخميس 13 سبتمبر 2012 (ZENIT.org).
يزور البابا بندكتوس السادس عشر لبنان، لتوقيع الارشاد الرسوليّ للسينودس الخاص بمسيحيي الشرق الأوسط، في وقتٍ أحجم فيه كثيرٌ من اللبنانيِّين المغتربين عن زيارته خلال الأشهر المنصرمة خوفًا من الأوضاع الأمنيَّة المسيطرة في بعض المناطق والتي تتمثل باشتباكات عنيفة وباعتصامات وقطع طرقات وأرزاق وتراجع هيبة الدولة وفقدان الخدمات الأساسية. يزور البابا لبنانَ ليضمِّدَ على قدر طاقاته جراحاتِ انقساماته، داعيًا أبناءه للتوحُّد في وجه مَن لا يميِّز بين انتماءاتهم عندما يمعن في إغراقهم في الصراعات الإقليميَّة والنزاعات الداخليَّة بهدف تفتيتهم وتشتيتهم. وكذلك لأعطاء الأمل والرجاء لمسيحيي الشرق الذين عانوا ويعانون من العنف الأعمى، ومن الاستهداف المباشر لهم في حياتهم وممتلكاتهم.
يزور البابا لبنان ليؤكِّد للعالم بأنَّ "لبنان الرسالة"، يجب أن يستمرَّ في أداء هذه الرسالة التي هي صلبُ كيانه التعدُّدي، وإذا ما توقَّفت، توقَّف معها معنى وجوده. وفوق كلِّ شيء، يزور البابا لبنان ليقول لمسيحيِّيه ولكل المسيحيين المشرقيين بأنَّ وجودهم فيه ليس وجودًا طارئا أو عابرًا، وهو ليس مِنَّةً من أحدٍ عليهم، ولا نتاجَ شفقةِ قويٍّ على ضعيف. فإن كان فعلاً هناك مخطَّطٌ يهدف إلى إلغاء هذا الوجود على أسس الترهيب أو الترغيب، فإنَّه لا محالة شاملٌ لا تجزئة فيه ولا تمييز. لذا يقيم رأس الكنيسة الكاثوليكية ذاتَه بكلِّ رموزه حاجزًا معنويًّا في طريق الساعين إلى إفراغ الشرق من مسيحيَّيه. وليس هناك استبعاد لوجود قناعةٍ راسخةٍ عند قداسة البابا بأنَّ المُستهَدف الأكبرَ في الشرق هم مسلموه، إذ أنَّ المُتضرِّرَ الأكبرَ من إفراغ الشرق من مسيحيِّيه هم مسلموه. فالمسيحيُّون ووجودهم في أرض آبائهم وأجدادهم، مسؤوليَّةٌ تقع على أكتاف العرب والمسلمين وعلى ضمائرهم خاصَّة. أقول هذا لأنَّني مُقتنع بأنَّ القوى الغريبة عن منطقتنا العربيَّة عاجزةٌ عن تفريغها من مسيحيِّيها إذا لم تستعمل في فعلتها سلبيَّات المجتمع الإسلامي والمسيحي على حدٍّ سواء ضدَّ إيجابياته التي تمثّل شريحته الأكبر مما يثبت منظومة الغالبيَّة العاجزة في اعتدالها أمام الأقلِّيَّة الفاعلة في تطرُّفها. والتفريغ إذ ذاك قد يبدو أقلَّ خطورة من الإبقاءِ الهادفِ إلى التفتيت والإفقار والإفساد والتقويض والتجهيل الذي يجب أن يرفضه المسيحيّون والمسلمون جُملةً وتفصيلاً. إنَّ إدراك هذا البُعد المُبطَّن لظاهر الأزمات العربيَّة، يستوجب دون شكٍّ صحوةً إسلاميَّةً ترى في الحفاظ على المسيحيِّين خيرَ وسيلة لحماية الذات الإسلاميَّة في حاضرها ومستقبلها. هكذا يُفْشِلُ المسلمون عمليَّة الاستفرادِ بهم من خلال تحالف مصيريٍّ مع المسيحيِّين الذين يشاركونهم أصلاً التاريخَ واللغة والمصير.
زيارة البابا، تؤكد دون شكٍّ على ضرورة استعادةِ المسيحيِّين كامل حقوقهم وحضورهم وفاعليَّتهم في خطِّ تاريخ العرب والمسلمين. كما تهدف إلى إبداء حرصه التام على ضرورة رفع كلِّ مشاعر الغُبن والإحباط التي تلفُّ الوجود المسيحي في لبنان نتيجةَ التجاذبات، سلميَّةً كانت أم حربيَّة، التي ضربت بهم مولِّدةً الخوف على الكيان والمستقبل والمصير. ولإنَّ هذا الإحباط المسيحيّ هو مسيحِيُّ الصنع أيضًا، تحمل زيارة البابا في خفايا ما تحمله في ثناياها دعوةً للمسيحيين لمراجعةِ الضمير ومحاسبة الذات على ماضٍ وحاضر غُلِّبتْ فيه المصالحُ الصغيرةُ والأنانيَّاتُ على مصلحةِ الوجود والثبات. حالةٌ تميَّزت في مراحلها الأخيرة ببيع الأراضي وغسل الأيادي والتمادي في دقِّ مسامير الاتِّهامات المُتبادلة في جسد الوجود المسيحيّ المصلوب أيضا بأيدي أبنائه. مواجهةُ الذات المسيحيَّة لذاتها هي أهمُّ أهداف زيارةِ البابا التي ترمي إلى ترميم الشركة والشهادة. فالمسيحيّون لا يحقُّ لهم الاختباء خَلفَ جدران الخوف من المسلمين في الوقت الذي نخاف منهم على ذواتهم أحيانًا. والمُفسد في لبنان لا دين له ولا طائفة، والتلوُّثُ فيه حين يقتل لا يدقق في هويَّة ضحيته، واللحوم الفاسدة لا تُخزَّن في كنيسة أو جامع أوخلوة! والأدوية المنتهية مدَّتها لا تأخذ عطلةَ جمعةٍ أو أحدٍ، والحياة كما الموت في المسير والمصير مشتركان للإنسان، والسلام لا دينَ له، فهو خيرٌ لكلِّ إنسان، والعنف لا دين له وهو شرٌّ لكلِّ إنسان.
يزور البابا لبنان، وعبره كل بلدان الشرق الأوسط، ليضعها من جديد أمانةً في أعناق مواطنيها. فهم يَبنونَ أوطانهم ومجتمعاتهم وهم، لا سمح الله، يهدمونَها. الجهود المشتركة التي تبني تنطلقُ من المساواة بين كل المواطنين في الحقوق والواجبات، ومن الحفاظ على كرامةِ الإنسانِ بحيث يتساوى كل انسان مع أخيه الأنسان دون تفرقة أو تمييز، ولا يعود هناك وطن بدون مواطن ولا مواطن بدون وطن، لا بل يتساوى كل مواطن مع كل الوطن. والحفاظ على الهوية الحضارية المنفتحة في لبنان وفي كل دول المنطقة ، يعني الحفاظ على الموارد البشريَّة من خلال تأمين فرص العمل والحدِّ من الهجرة بحيث لا يفتقر الوطن إلى المواطن، ولا يفتقر مواطن في الوطن أو إليه. لأنَّني أعتقدُ أنَّ القليل القليل من المال العام المسروق والمهدور يكفي لمحو الفقر والبطالة والأمية. والحفاظ على هذا الشرق بتنوعه وغناه، يعني الحفاظ على خيراته الطبيعيَّة وعلى ثروته البيئيَّة بنوع خاصٍّ، من خلال الحدَّ من التلوُّث والهدر البيئي. كما يعني الحفاظَ على خيراته الثقافيَّة والأخلاقيَّة والأثرية والفنيَّة وكلِّ وجوه الإبداع فيه. نحافظ على المسيحيين المشرقيين أيضًا من خلال التواصل العميق مع ثروته الاغترابيَّة التي للأسف، بدت مغيَّبة في هذه الزيارة الباباويَّة التاريخيَّة إلى منبع الأديان والحضارات. الحديث عن أهمِّيَّةِ زيارةِ البابا بندكتوس السادس عشر إلى لبنان، يستحقُّ المزيد من الصفحات، ولا شكَّ أنَّ الأقلام المتبصِّرة ستبلور لنا، بصيغٍ متنوَّعة، المستقبل الذي ترسمه هذه الزيارة سياجًا يحمي لبنان وهذا الشرق في وجه العواصف الكبيرة.