صلّوا، فقدرة الله تجعل ضعفنا مثمرًا

تعليم البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة بتاريخ 12 سبتمبر 2012

 

 

روما، الخميس 13 سبتمبر 2012 (ZENIT.org)

ننشر في ما يلي المقابلة العامة لقداسة البابا بندكتس السادس عشر مع المؤمنين في صالة بولس السادس في الفاتيكان نهار الأربعاء 12 سبتمبر 2012، والتي تكلم خلالها عن الصلاة في كتاب الرؤيا.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

تناولت يوم الأربعاء الماضي الصلاة في القسم الأول من كتاب الرؤيا، أما اليوم فسننتقل الى القسم الثاني من الكتاب، إن الصلاة في القسم الأول تتوجه نحو داخل الحياة الكنسية، ولكن في القسم الثاني تتوجه الى العالم أجمع؛ في الواقع، ترافق الكنيسة التاريخ، وهي جزء منه بحسب مشروع الله. عندما أصغت الجماعة الى رسالة الله التي ألقاها القارىء إكتشفت من جديد واجبها بأن تتعاون في تعزيز ملكوت الله "ككهنة الله والمسيح" (رؤيا 0، 6؛ راجع 1،5؛ 5، 10) وتنفتح على العالم الإنساني.

نرى أنه يبرز هنا نمطين من الحياة مع علاقة جدلية بينهما: يمكننا أن نعرّف الأول "كنظام المسيح"، التي تسعد الجماعة بانتمائها له، أما الثاني فنعرّفه "كالنظام الأرضي ضد الملكوت، وضد التحالف، الذي وضعه تأثير الشيطان" الذي بخداعه للناس، يريد أن يُنشئ عالمًا مضادًا لما يريده المسيح والله (cf. Commission biblique pontificale, Bible et morale. Racines bibliques de l’agir chrétien, 70). إذا يجب على الجماعة أن تجيد قراءة التاريخ التي تعيشه بعمق، وتتعلم أن تستشف الأحداث بالإيمان لكي تتعاون بأعمالها لتعزيز ملكوت الله. وعمل الصلاة، والفهم، والأعمال هذا، متصل بالصلاة.

أولا، وبعد النداء المصرّ للمسيح، الذي قال سبع مرات في القسم الأول من الرؤيا: "من كان له أذنان، فليسمع ما يقوله الروح للكنائس" (رؤيا 2، 7. 11. 17. 29؛ 3، 6. 13. 22)، الجماعة مدعوة للصعود الى السماء لترى الحقيقة بعيني الله؛ وهنا نجد ثلاثة رموز، ثلاث نقاط مرجعية التي يمكننا من خلالها أن نقرأ التاريخ: عرش الله، والحمل والكتاب (راجع رؤيا 4،1 – 5، 14).

الرمز الأول هو العرش الذي تجلس عليه شخصية لا يصفها يوحنا، لأنها أبعد من أي تمثيل بشري؛ يمكنه أن يشير فقط الى الإحساس بالجمال والفرح الذي شعر به بوجوده أمامه. هذه الشخصية الغامضة هي الله، الذي لم يبق منغلقًا في سمائه، بل جعل نفسه قريبًا من الإنسان، مقيمًا تحالفًا معه؛ الله الذي جعل صوته في التاريخ، بطريقة غامضة ولكن حقيقية كصوت رعد وبرق. تظهر عدة عوامل حول عرش الله، كالأربعة وعشرين شيخًا، والأحياء الأربعة الذين يرفعون التسبيح بلا كلل للرب الواحد في التاريخ.

إذا الرمز الأول هو العرش. أما الرمز الثاني فهو الكتاب، الذي يحوي مشروع الله بشأن الأحداث وبشأن البشر؛ هو مختوم بإحكام بسبعة أختام، وليس بمقدور أحد أن يقرأه. أمام عجز الإنسان لقراءة مشروع الله، يشعر يوحنا بحزن عميق لدرجة أنه أوشك على البكاء. ولكن يوجد علاج لحزن الإنسان أمام غموض الله: هناك شخص قادر على فتح الكتاب وإنارته.

ثم يظهر الرمز الثالث: هو المسيح، الحمل الذي أضحى ذبيحة على الصليب، ولكنه بقي واقفًا كعلامة على قيامته. وهو بالتحديد الحمل، المسيح الذي مات وقام، الذي يفتح تدريجيًّا الأختام ويكشف مشروع الله، المعنى العميق للتاريخ. ماذا تعني هذه الرموز؟ هي تذكرنا بالطريق التي علينا اتباعه لكي نعرف قراءة أحداث التاريخ وحياتنا. نحن برفع أعيننا الى السماء، ومن خلال علاقة دائمة مع المسيح، ومن خلال فتح قلبنا وروحنا له بالصلاة الفردية والجماعية، نتعلم أن نرى الأشياء بطريقة جديدة ونفهم معناها الحقيقي. الصلاة هي كنافذة مفتوحة تسمح لنا أن نبقي أنظارنا مرفوعة نحو الله، ليس لنتذكر الهدف الذي نتوجه اليه فحسب، بل لتنير إرادة الله طريقنا الأرضي، وتساعدنا على عيشه بشكل مكثف من خلال التزامنا.

كيف يقود الرب الجماعة المسيحية نحو قراءة أعمق للتاريخ؟ أولا من خلال دعوته لها لتنظر بواقعية الى الحاضر الذي تعيشه. يفتح الحمل إذا الأختام الأربعة الأولى وترى الكنيسة العالم التي أدخلت فيه، عالم يحوي عدة عناصر سلبية. هناك الشر الذي يفعله الإنسان، كالعنف، الذي يولد من رغبة التملك، والسيطرة على الآخرين، لدرجة التوصل الى القتل (الختم الثاني)؛ أو الظلم، لأن البشر لا يحترمون القوانين التي أعطيت لهم (الختم الثالث). الى هذا كله تضاف الآلام التي على الإنسان أن يتحملها، كالموت، والجوع، والمرض (الختم الرابع).

على ضوء هذه الحقائق التي غالبًا ما تكون دراماتيكية، الجماعة الكنسية مدعوة الى ألا تفقد الرجاء أبدًا، ولتؤمن بشدة أن كلية قدرة الشيطان الظاهرة، تصطدم بكلية قدرة الله. الختم الأول الذي يفتحه الحمل يحوي بالتحديد هذه الرسالة. يخبر يوحنا ما يلي: "فرأيت فرسًا أبيض قد ظهر؛ وكان الراكب عليه يحمل قوسًا؛ فأعطي إكليلًا فخرج غالبًا ولكي يغلب" (رؤيا 6، 2). دخلت قوة الله في تاريخ الإنسان، وهي قوة ليس قادرة على قياس الشر فحسب، بل على هزيمته. يذكرنا اللون الأبيض بالقيامة؛ جعل الله نفسه فريبًا لدرجة أنه نزل الى ظلمات الموت لينيرها بمجد حياته الإلهية؛ أخذ على عاتقه شر العالم ليطهره بنار محبته.

كيف ننمو في هذه القراءة المسيحية للوقائع؟ يخبرنا كتاب الرؤيا أن الصلاة تغذي في كل واحد منا وفي جماعاتنا نظرة النور والرجاء العميقة هذه: هي تدعونا الى ألا ندع الشر يغلبنا، بل أن نغلبه نحن بالخير، أن ننظر الى المسيح المصلوب والقائم من الموت، الذي ضمّنا الى انتصاره. تعيش الكنيسة في التاريخ ولا تنطوي على ذاتها ولكنها تخوض بشجاعة طريقها بين المصاعب والمعاناة، مؤكدة بقوة أن الشر لا ينتصر على الخير، والظلمة لا تشوه بهاء الله. هذه نقطة مهمة لنا: بالنسبة لنا كمسيحيين، لا يمكننا أن نكون متشائمين؛ نحن نعلم جيّدًا أن على طريق حياتنا، غالبًا ما نصادف العنف، والكذب، والكراهية، والإضطهاد ولكن كل هذا لا يحدّ من عزيمتنا. والأهم من ذلك أن الكنيسة تعلمنا أن نرى علامات الله، وحضوره، وأعماله، وأن نكون بأنفسنا أنوارًا تعكس الخير وتنشر الرجاء، وتشير الى أن النصر لله.

يدفعنا هذا المنظور الى أن نرفع لله والحمل نشيد شكر وتسبيح: الشيوخ الأربعة والعشرون، والأحياء الأربعة أنشدوا معًا "النشيد الجديد" الذي يحتفل بعمل الحمل المسيح الذي "سيجعل كل شيء جديدًا" (رؤيا 21، 5). ولكن هذا التجديد هو قبل كل شيء عطية علينا أن نطلبها. ونجد هنا عنصرًا آخرًا عليه أن يميز هذه الصلاة: مناشدة الرب بإصرار أن يأتي ملكوته، ليكون للإنسان قلب منصاع لسيادة الله، ولتكن مشيئته هي من توجه حياتنا و حياة العالم. تمثل صلاة المناشدة هذه في رؤيا يوحنا بتفصيل مهم: "الشيوخ الأربعة والعشرون" و"الأحياء الأربعة" في يدهم ومع الكنارة التي ترافق نشيدهم "أكواب من ذهب ملئت عطورًا" (رؤيا 5، 8) والتي هي "صلوات القديسين" (المرجع نفسه)، أي صلاة أولئك الذين قد انضموا الى الله، ولكن صلواتنا نحن أيضًا الذين على الطريق. ونرى أن، أمام عرش الله، ملاك في يده مجمرة من ذهب، التي يضع فيها البخور أي صلواتنا، التي يقدمها مع رائحتها الطيبة أمام الله (رؤيا 8، 1-4).

هو رمز يخبرنا بأن كل صلواتنا، مع محدوديتها، التعب، والفقر، والجفاف، والعيوب التي يمكن أن تكون عيوبنا، تُطَهَّر وتصل الى قلب الله. علينا إذا أن نكون واثقين بأنه لا توجد صلوات زائدة أو لا لزوم لها؛ لا تضيع أية صلاة. وهي تجد جوابًا، ولو كان في بعض الأحيان غامضًا، لأن الله محبة ورحمة غير متناهية. يكتب يوحنا "أخذ الملاك المجمرة فملأها من نار المذبح وألقاها على الأرض، فحدثت رعود وأصوات وبروق وزلزال". هذه الصورة تعني بأن الله ليس غير مبال أمام تضرعاتنا، هو يتدخل مظهرًا قوته وجاعلًا صوته مسموعًا على الأرض، هو يزلزل ويعصف بنظام الشيطان. غالبًا ما نشعر إزاء الشر بأنه ليس بيدنا حيلة، ولكن صلاتنا بالضبط هي الإجابة الأولى، والأكثر فعالية، التي يمكننا أن نعطيها والتي تقوي التزامنا اليومي بنشر الخير. إن قدرة الله تجعل ضعفنا مثمرًا (راجع رومة 8، 26- 27).

أود أن أختم مقتبسًا الحوار النهائي (راجع رؤيا 22، 6- 21). يردد يسوع مرات عديدة: "ها أنذا آت على عجل". هذا التأكيد لا يتحدث عن نهاية الأزمنة في المستقبل، بل يتناول الحاضر أيضًا: يأتي يسوع، ويقيم في الذي آمن به ويستقبله. إذا تعيد الجماعة التي يقودها الروح القدس ليسوع من جديد دعوتها الملحة ليكون قريبًا دائمًا: "تعال" (رؤيا 22، 17). هي "كالعروس" (22، 17) المتعطشة للعرس. يتكرر الدعاء ثلاث مرات: "آمين تعال أيها الرب يسوع" (22، 20)؛ ويختم القارىء بعبارة تدل على معنى هذا الحضور: "عليكم جميعًا نعمة الرب يسوع!" (22، 21).

تجعلنا الرؤيا وعلى الرغم من رموزها المعقدة، ملتزمين بصلاة غنية جدًّا، نصغي فيها نحن أيضًا، ونشيد، ونشكر، ونتأمل بالرب، ونطلب منه المغفرة. وهيكلها كصلاة ليتورجية جماعية، هو أيضًا دعاء قوي لإعادة اكتشاف القدرة غير العادية المحولة للإفخارستيا؛ أود بشكل خاص أن أدعوكم بإلحاح الى قداس الأحد ليوم الرب، نواة الأسبوع الحقيقية. يجعلنا غنى الصلاة في الرؤيا نفكر بالألماس، بجوانب مبهرة كثيرة ولكن ثمانتها تكمن في نقاء جوهرها. إن أشكال الصلاة التي أوحي اليها في الرؤيا تجعل وجود المسيح الثمين والفريد من نوعه، وغير الموصوف، منيرًا. شكرًا.

***

نقلته من الفرنسية الى العربية – نانسي لحود وكالة زينيت العالمية

جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية