النائب البطريركي في الأردن يقدم الإرشاد الرسولي

روحانية الإرشاد الرسولي

 

النائب البطريركي في الأردن يقدم الإرشاد الرسولي "الكنيسة في الشرق الأوسط"

 

 

عمان، الثلاثاء 9 أكتوبر 2012 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي كلمة المطران مارون لحام، النائب البطريركي للاتين في الأردن، في معرض حفل تقديم الإرشاد الرسولي "الكنيسة في الشرق الأوسط" والذي جرى في عمان أمس الاثنين تحت عنوان "ندوة العيش الإسلامي المسيحي المشترك في ضوء الإرشاد الرسولي" في مركز الحسين الثقافي عمّان.

* * *

يتألّف الإرشاد الرسولي "الكنيسة في الشرق الأوسط" من مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة، وهو وثيقةٌ كتبها قداسة البابا إستنادًا على المقترحات ال 44 التي قدّمها الأساقفة المجتمعون في السينودس الخاص للشرق الأوسط والذي عُقد في الفاتيكان من 10-24 تشرين أول عام 2010، وموضوعه "الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط: "شركة ورسالة". "وكان جماعة الذين آمنوا قلبا واحدا ونفسًا واحدة" (أعمال 4، 32).

لا أريد أن أُعطي مختصرًا لما جاء في هذه الوثيقة، لأنّ هذا الأمر سيقوم به غيري، أريد أن أركّز على روحانية الإرشاد الرسولي، وأقصد بالروحانية الأسس والمبادئ العامة التي يرتكز عليها هذا الإرشاد، وهذه المبادئ وردت خصوصًا في القسم الأول من الرسالة، حيث أن الفصلين الثاني والثالث يتضمّنان تطبيقاتٍ عملية لهذه الثوابت فيما يخص السلطات الكنسيّة والشعب المسيحي في الشرق الأوسط.

–        أول فكرة رئيسة هي الاهتمام الخاص بالشرق الأوسط، بجميع سكانه من مسلمين ومسيحيين ويهود (حيث يتواجد اليهود)؛ اهتمامٌ يأخذ بعين الاعتبار الظروف الصعبة التي يعيشها سكّان الشرق الأوسط من حروب ونزاعات. يأسف البابا لضحايا ما يسمّيه "العَمى البشري" ويقول هذت الجملة التي لم تُسمع من قبل: "الظاهر أنّه لا حدود لجريمة قائين". وفي هذا السّياق، يذكّر الإرشاد الرسولي بموقف الفاتيكان الواضح من الصراع في الأرض المقدسة وفي القدس بالتحديد. يقول بالحرف الواحد: "إن مواقف الكرسي الرسولي تجاه مختلف الصراعات التي تُدمي المنطقة، وتجاه وضع القدس والأماكن المقدس معروفة تمامًا" (رقم 10).

–        فكرة ثانية أساسية هي الحوار بين مختلف الكنائس وبين مختلف الأديان في منطقة الشرق الأوسط. تدعو الوثيقة إلى خلق "روحانية مسكونية" وهو تعبير جديد يُظهر رغبة البابا في اتحاد المسيحيين، ويقول أن حركة الوحدة بين مختلف الكنائس المسيحية ( وهذه هو ما ندعوه الروح المسكونية)، تبدأ في القلوب وفي الصلاة وفي الروحانية الصادقة قبل أن تُدوّن رسمياً على الأوراق. (رقم 11). وفيما يخصّ الحوار مع الديانات التوحيدية، يذكّر الإرشاد الرسولي بالروابط التاريخيّة والروحيّة التي تجمع بين المسيحيين من جهة، واليهود والمسلمين من جهة أخرى، ويركّز على أن الحوار بين مختلف الأديان – والذي هو من صُلب طبيعة الكنيسة ودعوتِها الشاملة – ليس الحوار الذي تُمليه اعتبارات عمليّة سياسيّة أو اجتماعية، بل حوار مبنيٌّ على أُسس الإيمان اللاهوتية: فاليهود والمسيحيون والمسلمون يؤمنون بالإله الواحد، والمطلوب هو أن يرى "الإنسان المؤمن" في "المؤمن الآخر" أخًا يحبُّه ويحترمه. وهكذا يمكنهم جميعًا أن يقدّموا شهادةً جميلةً للصفاء والمودّة بين أبناء ابراهيم أبي المؤمنين. أخيرًا يطلب الإرشاد الرسولي تجنّب استغلال الدين في نزاعات لا يمكن أن يقبلَها المؤمن الحقيقي. ويأسف لأن تكون الاختلافات العقائدية قد استُعملت في الماضي – من قِبَل مختلف الأطراف – لتبرير ممارسات تعصّب وتمييز وتهميش واضطهاد باسم الدين.

–        فكرة ثالثة أساسية في النص تؤكّد أن وجود المسيحيين في الشرق الأوسط ليس جديدًا ولا هو وليدُ الصدفة، بل هو وجود متأصّلٌ في التاريخ. فالمسيحيون، كونهم جزءًا لا يتجزّأ من الشرق الأوسط، أقاموا على مرّ العصور علاقة عميقة مع محيطهم، وتفاعلوا مع تديّن المسلمين وواصلوا عيشَ حياتهم وتعزيز قيم الإنجيل في ثقافة بيئتهم. وقد نتجت عن ذلك حياةٌ تكافئية متميّزة (رقم 24). فمسيحيّو الشرق الأوسط عنصرٌ أساسي في المنطقة وينتمون إلى ثقافة شعوب الشرق الأوسط، وقد ساهموا بشكل فعّال في النهضة الثقافيّة في الشرق الأوسط. لذا، من واجب المسيحيين في الشرق، ومن حقّهم، المشاركةُ التامّة في حياة الوطن من خلال العمل على بناء بلادهم. ينبغي أن يتمتّعوا بمواطنة كاملة، لا أن يُعامَلوا كمواطنين أو مؤمنين من درجة ثانية. وكما كانت الحال في الماضي، إذ كانوا من روّاد النهضة العربية، وكانوا جزءًا لا يتجزّأ من الحياة الثقافية والاقتصادية والعلمية لمختلف حضارات المنطقة، ها هم يرغبون، اليوم وعلى الدوام، في مقاسمة خبراتهم مع إخوانهم المسلمين مقدّمين إسهاماتهم الخاصة. (رقم 25).

–        فكرة رابعة: الحرية الدينية. يؤكّد البابا على أن الحرية الدينية حقُّ مقدّس وغيرُ قابل للتفاوض. وهي تشمل في الوقت ذاته، الصعيدين الفردي والجماعي، حريةَ اتباع الضمير في المسائل الدينية، وكذلك حريةَ العبادة. وتشمل أيضًا حريَّة اختيار الدّين الذي يعتبره الإنسانُ الدينَ الصحيح، والحقَّ في ممارسته على المستوى الفردي والجماعي وفي إظهار رموزه بشكل علنيّ دون أن يشكّل ذلك خطرًا على حياة المؤمن أو على حريّته الشخصية. تستمدُّ الحرية الدينية جذورَها من كرامة الإنسان. أما عن التسامح الديني، فهو موجود في العديد من الدول، لكنّه لا يؤدّي إلى نتيجة ملموسة لأنّه يبقى محدودًا في نطاق تطبيقه. من الأهمية بمكان أذن الانتقال من التسامح الديني إلى الحرية الدينية بمعناها الواسع. وهذه الخطوة الواجبة لا تعني تصدّعًا في المعتقد بل إعادةَ نظرٍ في العلاقة الأنتروبولوجية مع الدين ومع الله (رقم 27). ففي المجال الديني، القوّة والإكراه أمران مرفوضان تمامًا. ومن هذا المنطلق لا يحقّ لأحد أن يقول: "أنا أملك الحقيقة". فالحقيقة ليست مُلكًا لأحد.

–        فكرة خامسة: الحوار المسيحي الإسلامي. تركّز الوثيقة في موضوع العلاقة بين مختلف الأديان، على الحوار المسيحي-الإسلامي بشكل خاص وقويّ. يقول الإرشاد الرسولي أن أنظار العالم كلّه موجهةٌ صوب الشرق الأوسط. مطلوب إذن من هذه المنطقة من العالم أن تُعطي شهادة مفادُها أن العيش المشترك أمرٌ ممكن، وأنه باستطاعة الأديان أن تلتقي معًا لخدمة الخير العام وللمساهمة في تنمية كل شخص وفي بناء المجتمع (رقم 28). والحوار المسيحي الإسلامي في الشرق الأوسط هو أوّلاً حوار يتمّ عبر الحياة اليومية ومن خلالها. وعلاوة على ذلك، فالشرق الأوسط هو مختبر اللقاءات والبحوث المختلفة على مستوى الأكاديميّين والطبقة المثقّفة. يقول البابا بالحرف الواحد: "أوجّه تحيةً ودّية لجميع المراكز والمعاهد التي تعنى بالحوار المسيحي الإسلامي، وأشجعهم على مواصلة عمل السلام هذا، مدركين ضرورة دعم كلّ ما من شأنه التصدّي للجهل وتنمية المعرفة وقبول الآخر المختلف. فالجمع بين حوار الحياة اليومية وحوار "المثقفين واللاهوتيين" سيساهم حتمًا، بشكل تدريجي وبمعونة الله، في تحسين العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين. هذه هي أمنيتي والنيّة التي أصلّي من أجلها" ( رقم 28).

ثم يتكلمّ الإرشاد الرسولي في الفصلين الثاني والثالث عن مواضيع تهمّ المسيحيين والكنيسة بنوع خاص، ويتناول مسئولية البطاركة والأساقفة والكهنة والمكرّسين وطلاب الكهنوت والعلمانيين ويذكّر كلّ فئة بواجبها تجاه الله وتجاه نفسها وتحاه المؤمنين. ثم يتناول في الفصل الثالث الوسائل المختلف التي تضعها الكنيسة بين يدي من يريد أن يعيش إيمانه بصدق واستقامة أمام الله تعالى.

وفي الخاتمة، يطلب البابا بشكل رسمي من المسئولين السياسيّين والدينيين أن لا يكتفوا بتخفيف معاناة المؤمنين الذين يعيشون في الشرق الأوسط، بل إلى العمل على إزالة أسباب هذه الآلام، من خلال القيام بكل ما هو ممكن لإحلال السلام. وفي الوقت نفسه يحثّ المؤمنين على أن يعيشوا فيما بينهم بروح الشركة والغيرة الرعوية. " فالفتور أمرٌ لا يُرضى الله". وهذا الأمر  ليس سهلاً، لكنّه في غاية الجمال.

+ المطران مارون لحام

النائب البطريركي للاتين في الاردن

عمان 8/10/2012