مِصْرُ أُمِي مِثْلُ لِعَازَرَ

                                                                                   أشرف ناجح إبراهيم

إنَّ ما يحدث الآن في مصر لا يخفى على أحد، سواء كان داخل مصر أو خارجها. وكم هو معقد حقًا الوضع الحالي والظروف التي يمر بها بلدنا الحبيب مصر؟ كم يصعب – حتى على المحلليين السياسيين ذاتهم – التكهُّن بمصير بلدنا ومستقبله. فجلست ذات مرة أفكِّر في أبعاد ما حدث (ثورة 25 وتنحِّي الرئيس حسني مبارك، الاعتصامات والبيانات والفوضى وأحداث ماسبيرو الداميّة، الانتخابات البرلمانية والانتخابات الرئاسية) وما يحدث (كتابة الدستور) وما سيحدث (؟)، فإتضح لي جليًا أن ما حدث وما يحدث وما سيحدث له أبعاد سياسية وإقتصادية ودينية…إلخ عديدة، وأنه مِن الصعب قراءة المستقبل. وعندما تعبت من التفكير في كل هذه الأبعاد، جاء على ذاكرتي مشهد "مرض وموت وإقامة لعازر" الوارد في إنجيل يوحنا (الفصل 11)، وأخذت بعض الخواطر تداعبني، وكان محتواها أن بين هذا المشهد (مرض لعازر وموته وإقامته) وما تمر به مصر تشابهًا كبيرًا. وها أنا أجازف في عرض هذه الخواطر مقتنعًا بأمرين أساسين. الأمر الأول هو أن الإنجيل – كلمة الله – يجب أن يتحدَّث لنا نحن البشر الذين نعيش في هذه الأيام المعاصرة، فكلمة الله الحية ليست كلمات قِيلت وكُتبت في الماضي وأصبحت تراثًا فحسب. أمَّا الأمر الثاني هو اقتناعي بأن المقارنة بين ما حدث للعازر وما تمر به مصر الآن ليست بمقارنة كاملة خالية من الشوائب ونقاط الضعف؛ فلا شكَّ في أن أيَّ مفارقة أو قياس يحتوى على تشابه وتباين، على نقاط تلاقي ونقاط تباعد. ولكن، على كلِّ حال، دعنا نحاول، فكما يقال "يكفينا شرف المحاولة".

1.    الْمَرَضُ

لقد مرض أخو مريم ومرثا المدعو لعازر بمرض لا ندري ما اسمه، ولكنه كان مرضًا خطيرًا لدرجة أنه أدى به إلى الموت. ولنلاحظ جيدًا أن لعازر كان محبوبًا جدًا من قبل يسوع المسيح، ومع ذلك تركه يسوع يموت، وقال: «هذا المَرَضُ لا يَؤُولُ إِلى المَوت، بل إِلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله» (يو 11/ 4). أجل، فمصرنا الحبيبة على قلبنا وعلى قلب يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا تمرُّ في هذه الأيام العصيبة بمرض خطير. وربما حاول البعض أنْ يُشخِّص مرض مصر بأمور عدة، كفساد النظام السياسي برمته والطائفيَّة الدينيَّة والتعصب الديني والوهابيَّة والتداخُّلات الإقليمية والعالمية في شئون مصر؛ ولكن ما يهمُّنا هو الاعتراف بأن مصر في وضعها الحالي مريضة وتمرُّ بلحظة حرجة في تاريخها، خاصةً مِن ناحية الطائفيًّة الدينيًّة. وإذا كان الله يرى مرض مصر ولا يتدخَّل لشفاءه، فهذا له مدلول قد نجهله الآن. إنَّ إلهنا موجود بداخل كل أحداث الحياة بحلوتها ومرارتها، بسهولتها وصعوبتها…إلخ؛ فينبغي علينا أن نتفاعل مع الأحداث الراهنة بكلِّ جدية ومسوؤليَّة وثقة، لأن الله حاضر بداخل المرض الذي يصيب مصر في هذا الأيام، وربما يترك بلدنا يصل إلى حالة الموت، أعني إلى حالة حرجة وأصعب مما هو عليه الآن، فهو يدري تمامًا أن هذا المرض يَؤُولُ «إِلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله». وربما تعبنا نحن المسيحيين بسبب ما يحدث لنا في مصر وبسبب ما يحدث عامةً في مصر، وربما جاءت علينا أيام صعبة وليالي مظلمة عاتبنا فيها إلهنا «يا ربُّ، لَو كُنتَ ههنا لَمَا ماتَ أَخي [لَمَا ماتت أُمنا مصر]» (يو 11/12، 32)؛ ولكن يجب علينا أنْ نؤمن بأنَّ إلهنا عنده لكلِّ مرض شفاء ولكلِّ موت قيامة.

2.    الْمَوْتُ وَالقِيَامَةُ

عندما يمرض أحد يمكننا البحث عن الأدوية والعلاج طالما لا يزال على قيد الحياة؛ ولكن عندما يموت تتوقف كلُّ مساعينا ومحاولاتنا، فلا دواء ولا علاج للمرض اللعين الذي يُدعى الموت. فالموت هو حقًا "استحالة كلِّ إمكانية"؛ ولذلك نجد مريم ومرثا بدورهما يعاتبان يسوع: «يا ربُّ، لَو :كُنتَ ههنا لَمَا ماتَ أَخي». ألا يعبِّر هذا عن حالنا نحن أيضًا في هذه الأيام؟ ألا تجد صراخاتنا وعتابنا صدى في عتاب الأختين للسيد المسيح؟!

يقول يوحنا في بشارته: «فلَمَّا رآها [مريم] يسوعُ تَبكي ويَبكي معَها اليَهودُ الَّذينَ رافَقوها، جاشَ صَدرُه وَاضطَرَبَت نَفْسُه […] فدَمعَت عَيْنا يسوع» (يو 11/33، 35)؛ أجل فيسوع المسيح هو إنسان-إله يتضامن ويشارك أحباءه ليس فقط لحظات الانتصار والفرح، وإنما أيضًا لحظات الانكسار والحزن. إن إلهنا يتضامن معنا في هذه الظروف الصعبة، ولكن تضامنه كان ولا يزال تضامن يعبر مِن خلال الصليب؛ أعني أن مسيحنا وفادينا يبكي معنا وعلينا، وعلى كل إنسان بعيد عنه، ولا يلجأ للعنف والبطش حتى يُخلِّص أبناءه، فالصليب وما يعنيه كان ولا يزال فخر المسيحية وعظمتها، لأنه تعقبه القيامة المجيدة.

«فلَمَّا وَصَلَ يسوع وَجَدَ أَنَّهُ في القَبرِ مَنذُ أَربَعةِ أَيَّام» (يو 11/ 17)؛ وهذا يعني بدوره وبكلِّ وضوح أنَّ لعازر «قَد أَنتَن» (يو 11/39). إنَّ رائحة القبور ستظل دائمًا رائحة كريهة وغير مقبولة، حتى وإنْ كانت تحتوي بداخلها على أعز أحباب لنا؛ وأحباؤنا سيظلون أحباءنا، حتى لو ابتلعتهم القبور وغمرتهم رائحتها الكريهة. وإذا نظرنا لمصرنا الحبيبة سنستشعر هذا الروائح الكريهة بشكل مفزع ومؤسف. لقد فحات رائحة الفقر والعوز والضعف الإقتصادي بمصر، لدرجة أن بعض المصريين يتقاتلون مِن أجل الحصول على الخبز. وخرجت رائحة مشاكل الثقافة والتعليم بمصر، وعجز الحاصلون على المؤهلات في إيجاد عمل لهم. وخرجت أيضًا رائحة بعض الأشخاص التي تنادي بإله يقبل عدم المسامحة ويحلِّل الكراهية والحقد، لا وبل يبيح التكفير والانتقام والقتل. وخرجت أيضًا روائح كريهة هنا وهناك تعبِّر عن احتقانٍ بين صفوف المصريين ونوعٍ مِن الطائفيَّة الدينيَّة الذي لم نعهد عليه من قبل. ولكن ولكن، إنْ كُنَّا نحن البشر وإنْ كانت خططنا تعجز ليس فقط عن إقامة الموتى، وإنما أيضًا عن إزالة هذه الروائح الكريهة، فثَمَّة إنسان-إله يجيد التعامل مع مثل هذه الأمور، وقد اختبر في جسده خبرة الموت اللعين وما يعنيه؛ ولذلك فهو قادر على إقامة مصر من بين الأموات، لأنه «هو بكر الذين ماتوا» (1 كو 15/20). إنَّ يسوع المسيح سوف يأتي ويقف أمام القبر الذي فيه تدفن مصر، وسيصيح بأعلى صوته: "يا مصر، هلمَّ فاخرجي"! إنَّ مصر هي لكلِّ المصريين، وكلَّ المصريين وكلَّ البشر هم للمسيح، لأنَّ كلَّ البشر قد خُلقوا بالمسيح وفيه ولأجله (كولوسي 1/ 15- 20)! إنَّ مصر هي لكلِّ المصريين، ونتمنى لها الشفاء العاجل والقيامة المفرحة!

3.    الصَّلَاةُ وَالْإِيْمَانُ

إنَّ ما ينبغي علينا القيام به في هذه الأيام هو أمر مزدوج: الصلاة بإيمان. فمِن ناحيَّة، ينبغي علينا أنْ نُكثِّف صلواتنا الحارة وأنْ نُقدِّم توبة حقيقيَّة على تراخينا وكسلنا؛ أمَّا من الناحيَّة الأخرى، ينبغي علينا أنْ نمتليء بالإيمان. إنَّ الصلاة والإيمان هما أمران في غاية الوضوح في النص الذي نتأمل فيه؛ فمرثا ومريم رفعتا كلتهما صلاتهما إلى يسوع (يو 11/ 22، 32)، ويسوع بدوره طلب منهما الإيمان (يو 11/ 25، 40).

إنَّ مصرنا في هذه الأيام الصعبة تحتاج إلى صلوات حارة وإيمان قوي. أجل، أنا واثق أنْ هناك العديد من الركب المنحنية والأيادي المرفوعة في كلِّ أنحاء مصر، ولكن ما ينقصنا حقًا هو الصلاة معًا والصلاة بعضنا مِن أجل بعض، بدون السماح للانقسامات الطائفيَّة التاريخيَّة أنْ تعرقل هذا. وعلينا أيضًا أنْ نسمع قول ربنا وإلهنا: «أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا وكُلُّ مَن يَحْيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أَبَداً. أَتُؤمِنينَ بِهذا؟« (يو 11/ 25- 26)، أي علينا أنْ نمتليء بالإيمان.

ثَمَّة أمر تذكره لنا الأناجيل ويمكنه بدوره أنْ يشجِّعنا جدًا في القيام بهذا (الصلاة والإيمان) ألا وهو التالي: لقد توجَّه التلاميذ إلى يسوع ذات مرة قائلين له: «يا ربُّ، عَلِّمنا أَن نُصَلِّيَ» (لو 11/ 2)؛ وفي إحدى المرات الأخرى قالوا له: «زِدْنا إِيمانًا» (لو 17/ 5). أجل يمكن لصلواتنا أنْ تصبح مجرد طلبة للربِّ ليعلِّمنا الصلاة وليزيد إيماننا؛ وعندها سوف نتعلَّم الصلاة الحقيقيَّة وسوف نزداد في الإيمان الفعَّال. إنَّ مصرنا أُمنا المريضة والمائتة لهي في أشدِّ الحاجة إلى صلواتنا وإيماننا، حتى يحدث معها ما حدث للعازر.