الإرشاد الرسولي … ناقوس خطر أم خوذة خلاص

المونسنيور بيوس قاشا

في البدء

 

         هاهو ذا الإرشاد الرسولي… هاهي ذي وثيقة وخلاصة مناقشات آباء  سينودس الأساقفة لكنائس الشرق الأوسط "شركة وشهادة" بين أيادي رؤســـــــاء كنائسنا الأجلاء، ومؤمني رعايانا الأحبة… إنه هبة السماء لأبناء هذه البسيطة، وسراج لكنائس مشرقنا، ليضيء لشعوبها بمسيحييها ومسلميها وطوائفها الجالسيـــن  في انتظار نهاية الصراع (لو26:21)، ليكونوا من يقين بأن الحياة أُعطيت لهم وأُفيضت بالمسيح يسوع (يو2:17)، فقد أحبّ خاصته (يو1:13)، أحبهم إلى الغاية (يو1:13)، أحبهم كلهم فكان للكلّ كلاًّ (1كو22:9)... وهذا كان ديدن قداسة البابا بندكتس السادس عشر… جاء إلى شرقنا المتألم لكي يكون مسيحاً مُحباً إلى الغاية (يو1:13)، بعيداً عن الطائفية والعشائرية والقومية والعنصرية والاستغلالية والغنى والفقر… جاء فسكن بيننا بالجسد (يو14:1)، وأفاض بمواعظه نعماً وخيراتٍ وبركات، ووعد كنيستنا بأن يكون معنا بروحٍ معزٍّ ومدافع (يو16:4-17)، وفسّر لنا الكتب بمعناها الأكيد في الشهادة والشركة، من أجل مسيرة واحدة وحوار واحد وهدف واحد ألا وهو الإنسانية.

       إنه بيننا

         نعم، حلّ الزائر الأبيض _ قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ على أرض لبنان المقدسة، وبحلوله أعلنت نواقيس الكنائس وأجراس المعابد إعلاناً واحداً أنه "آتٍ بمجدٍ عظيم" (متى30:24)، وباسم الرب (يو13:12)… ما أجملها من ترتيلة… إنها سبيل الشهادة… وصوتٌ ينذر بمجيء نائب المسيح… يوصي بالتهيئة والإعداد لطرق الرب وجعل سبله قويمة (متى3:3)… وكم كنتُ أتمنى أن تُدَقّ نواقيس كنائس شرقنا في توقيت واحد وميعاد واحد كي تكون رمزاً واحداً، وصورةً وشركةً لمحبة رجال كنائسنا، وعلامةً لاتفاق رؤسائنا، ومؤمنينا، ومدبّرينا، ورمزاً لأبراج معابدنا… فلبنان يعني شرقنا، بلداناً وشعوباً، بمسلميها ومسيحييها، بعربها ويهودييها، بأكرادها وطوائفها… فإليها وفيها ومنها تنطلق مسيرة وثيقة الإرشاد الرسولي لتكون دماءً حية في عروق أبناء هذا المشرق الشاهد على حقيقة الإيمان.

       شجاعة إيمانية

         نعم، أقولها، إن البابا قد أحسن قراءة مسيرة تاريخ مسيحيتنا في الشرق وقضية وجودنا فيه، واستدرك أن الآتي ربما يكون خطة ممنهجة، مدروسة، منظَّمة، لتفريغ الشرق الأوسط من سكانه الأصليين، حاملي اسم المسيح، من أجل رسم خريطة جديدة لواقع البشر الأناني، لغايات ومصالح. فالقرار صعب، وتنفيذه بحاجة إلى شجاعة إيمانية تقف ندّاً أمام الذين يستغلون خيبة أبناء الشرق، فيجعلون من ربيعهم خريفاً مؤلماً كما حصل في العديد من بلداننا الشرق أوسطية، بدءاً من عراقنا الرافديني ومروراً بمصر الكنانة ووصولاً إلى سوريا… ولا زالت المسيرة المؤلمة تدور فصولها مما يجعل من مسيرة الحياة ناقوساً يعلن خطر البقاء وفراق المثقفين وتشتيت المتعايشين بدلاً من أن يجمعهم لصلاة واحدة وفي معبد واحد وتحت اسم واحد ولوطن واحد.

 

       في عليّة الفاتيكان

         أمام هذه القراءة، اعتبر المعنيون بشؤون مسيحيي الشرق أنفسهم، من رؤساء وقادة كنسيين وروحيين ومدنيين، أنهم بحاجة الى من بسندهم لتحمل هذه المسؤولية التاريخية، فكان قداسته حريصاً، بل أكثر حرصاً وأعمق فكراً وأفهم وعياً، على مسيحيي الشرق من أولئك أنفسهم، فكان معهم في علية الفاتيكان (مر15:14)، وأعلمهم قائلاً:"أن هذا الشرق وطنكم، ومسؤوليته تعود إليكم، وخلاص مسيحييه يأتي من وحدتكم وشركتكم وشهادتكم، وليس اللهو والضياع في تفاصيل صغيرةومصالح انفرادية وغايات زمنية "… فالحياة هي انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء، وإن كان الفاتيكان يملك نظرة استراتيجية لهذا البُعد المسيحي وأهمية المسيحية المشرقية.

       سؤال وإرشاد

         ضمن هذه المسؤولية ترتفع أصوات المتعَبين والثقيلي الأحمال (متى28:11)، قائلين ومستفسرين: أين هو الإرشاد الرسولي؟، ماذا يقول لنا؟، ماذا يحمل إلينا؟، ما هو واجبنا؟، هل نحن بحاجة إلى إرشاد ثالث جديد إن كان هذا لا يفتح لنا باب السلام ويحملنا إلى أرضٍ تدرّ لبناً وعسلاً؟، هل سيعطي ثماره كي نتذوقها؟، هل سيصفّ لنا مائدة الهناء، ويلغي المسافة الشاسعة بين الرؤساء والمرؤوسين، ويقرّب القائمين على معابد إيماننا بعضهم عن البعض الآخر من أجل كلمة واحدة وهدف واحد؟، هل سيمحو الإرشاد من قاموس مسيرتنا، البغض والحقد والكراهية والانتقام والأنانية وغايات النفس وادّعاءات المرائين والمزيفين والذين يجعلون من أنفسهم حملاناً وهم في داخلهم ذئاب خاطفة بل مفترسة (متى15:7)، شياطين تتفوّه بآيات مقدسة لتغشّ سامعيها وناظريها من أجل رسم خريطة مسيرتهم كما يشاءون، فيؤلّهوا مَن يشاءوا؟… إنها العولمة المدمِّرة والعلمانية البائسة عبر ثقافة عصر الانحطاط والمادية المزيفة وفي العلمنة القاتلة، ويزيدوا في أقوالهم أنه قد مرّت سبعة عشر عاماً على الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان"، وعامان على هذا الإرشاد الأخير، لكن معظم التوصيات التي يرشدان إليها بقيت حبراً على ورق.

         نعم، ربما يكون الحديث مهماً في الأسئلة، ولكن المهم جوابنا على هذه الأسئلة. لنسأل أنفسنا: كيف تهيّأنا وكيف سنتصرف مع فقراته، أساقفة وكهنة ومؤمنون؟، فالبابا أتى ليشدد عزائمنا، وحمل إلينا رسالة محبة عظيمة وسلام أكيد ووئام ثابت… هل نتذوق فعلاً من ثمار الإرشاد الرسولي، فهو بنا ومعنا، وكلانا في المسيح نحمل هذه الثمار (متى16:7)، وبدون المسيح لا يمكن أن نعطي ثماراً (متى17:7)… فالإرشاد لنا كلنا وليس لفئة، كي نكون قلباً واحداً ونفساً واحدة (أع32:4).

       رحلة الإرشاد أم إرشاد الرحلة

         تسليم الإرشاد الرسولي إلى رؤساء كنائس الشرق الأوسط مغامرة إيمانية، حوارية، وجودية، إنسانية، مسكونية، حقوقية… هذه كلها قادت البابا بندكتس السادس عشر إلى المنطقة، ولم يبالِ قداسته بموجات التطرف ودعوات الإرهاب وقرارات التكفير رغم الزمن الصعب، وهذا ما جعل أن تكتسب زيارة قداسته إلى لبنان معنىً رعوياً بامتياز في زمن العولمة المُتعَبة والربيع المؤلم، عملاً وتكميلاً لما قاله يوماً البابا العبقري العظيم لاون الثالث عشر، وذلك في عظة الميلاد:"أيها المسيحي أعرف قيمتكَ وكرامتكَ"… إنها علامة تشجيع لمسيحيي لبنان وسائر المشرق، حيث أنظار العالم متجهة كلها إلى هذا الشرق المسيحي لأنه يدعوهم كي يعودوا ويكتشفوا مكانتهم الروحية ورسالتهم التاريخية ومسيرتهم الوطنية، ويقضوا بذلك على نزيف الهجرة في الشعور الأمين والأكيد عبر الانتصار على تجربة الشعور بالغربة في أوطانهم، مدركين جيداً مخطط إفراغهم من بلدانهم، والعمل على استسلامهم لأفكار هدّامة يروّجها الأناني والخصوم، وتتلخص كلها بأن أبناء الأعراب لا تتعايش ولا تحترم التعددية، ويستهينون بالمختلفين عن عقيدتهم، وإن كان ذلك اتّهام مرفوض.

         في هذا كله وضع البابا بندكتس السادس عشر اصبعه على الجرح الشرقي العميق، وأعلن أن المسيحيين يجب أن يكونوا حاضرين في هذا الشرق إذا هم أرادوا ذلك، وإذا أدركوا الدور الحقيقي الذي أراده منهم التاريخ وفرضته الجغرافية ورسمته الثقافة الوطنية… فالتفاعل مع قضايا المجتمع يبرر الصمود في الأرض والعكس صحيح، فالمسيحيون أبناء الشرق الأعزاء يهجرون بلدانهم عندما يشعرون أنهم أصبحوا غرباء عن قضاياهم، ولا دور لهم في صناعة مستقبلها، وربما إنهم من الدرجات الدنيئة ليس الثانية ولكن ربما الرابعة والخامسة، وكان البقاء والصدارة للقوي الذي يسيّر مَن يشاء حسب هواه.

         من هنا كان الإرشاد كتاباً مقدساً لأنه تعليم الكنيسة وآبائنا الأجلاء، وما هو إلا ملحق لإنجيل ربنا يسوع المسيح، فيه رسم لخارطة المسيرة في طريق الحياة من أجل أن نكون رسل البشارة الصادقة والمُحبة… لذلك:

       الإرشاد الرسولي: يدعو الكاثوليك، بل من حقهم، أن يدركوا جيداً أنهم من السكان الأصليين ولهم حق المشاركة التامة في حياة الوطن، ويجب أن يكونوا مواطنين بدرجة امتياز لأنهم أصلاء وأصليين، لا أن يُعامَلوا كمواطنين من الدرجة الثانية بل أدنى… إنهم روّاد النهضة والثقافة في كل بلدان الشرق الأوسط، ولهم حق كرامتهم الإنسانية، ويحق لهم حرية الإيمان والدين والتعبير، وهذا ما جعلهم أن يكونوا مستقبلاً لأبناء الوطن الآخرين، وتقديم الخدمات عبر بناء المدارس والمستشفيات. ولأن الحرية الدينية _ يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ هي تاج كل الحريات، وحق مقدس غير قابل للتفاوض، وتشمل الصعيد الفردي والجماعي وحرية اختيار الديانة وأن يمارسها بكل أمانة، ويعبّر عن ذلك باحترام رموزه دون أن يعرّض حياته وحريته الشخصية للخطر.

         الإرشاد الرسولي: ناقوس خطر تجاه العولمة السالبة، فقد تحدثت وثيقة الإرشاد عن العولمة والعلمانية موضحةً أن في الشرق الأوسط واقعَيْن متضاربَيْن: أولهما العلمانية بأشكالها التي تصل أحياناً للتطرف والأصولية الضيقة والتي أساساتها مبنية على أصول دينية. والعلمانية الإيجابية تعمل على تحرير المعتقد من ثقل السياسة، وإغنائها بإسهامات لازمة وضرورية. وهذا ما يدعو إلى التأكيد على الاحترام المتبادل بين السياسة والدين، أي العلاقة بين ما هو روحي وما هو زمني، وتعني أيضاً العمل بالسياسة دون استغلال الدين.

         الإرشاد الرسولي: ينبّهنا إلى قلق رعاة الكنائس الكاثوليكية الشرق أوسطية والأرثوذكسية بسبب تناقص أعداد مؤمنيهم وخاصة في الأراضي المقدسة والشرق العربي. كما كانت الوثيقة كلاماً مسهباً في هذا الصدد قائلة:"يشعر المسيحيون بالشرق الأوسط بشيء من الإحباط وفقدان الأمل والمهانة بسبب الصراعات والتي تجعل من الهجرة ملاذاً آمناً وإنْ كانت عسلاً مُرّاً وخياراً مأسوياً. فهو من ناحية يقلّص عدد السكان ويساهم في نقص الفهم الثقافي في الشرق الأوسط، والذي كما هو معروف، أنه بدون المسيحيين لا يُعَدّ شرقاً أوسطاً، لأن المسيحيين يشاركون في صنع الهوية الخاصة بالمنطقة… وهذا ما جعل البابا يشجّع ويحثّ المؤمنين للبقاء في وطنهم وعدم بيع أملاكهم.

         الإرشاد الرسولي: رسالة لزرع الثقة حينما انعدمت بسبب الأحكام المسبقة والتي بدلاً من أن تلتقي من أجل الخير العام فقد تاهت في مجالات الحقد والكراهية وحب الأنانية وبناء الفواصل القاتلة والمدمِّرة بين شعوب المنطقة، وهدم الجسور الموحِّدة بين المختلفين… فالمسلمون يتقاسمون مع المسيحيين القناعة بأن الإكراه في الدين غير مقبول خاصة إذا تمّ بواسطة العنف والذي يُستخدم لتحقيق مآرب سياسية باسم الدين، وهذا ما يؤكد أنه أداة للتمييز والعنف، ومن المحتم أنه يؤدي إلى الموت. وإن كان التسامح الديني في بعض البلدان يؤدي إلى نتيجة ملموسة، فهو يبقى محدوداً في نطاق تطبيقه، والعمل على الانتقال من التسامح الديني إلى الحرية الدينية والتي تقودنا إلى إعادة النظر في العلاقة مع الدين والله، وليست تعدياً على الحقائق المؤسِّسة للمعتقد.

         الإرشاد الرسولي: يدعونا إلى إقامة حوار مع جميع الديانات في الشرق الأوسط بعد الارتكاز على العلاقات الروحية والتاريخية والإيمانية التي تجمع المسيحيين مع اليهود والمسلمين، وما ذلك إلا دعوة كنيسة اليوم الكونية… وهذا الحوار يدعو إلى اكتشاف البعض للبعض الآخر لأنهم يؤمنون بإله واحد خالق جميع البشر. فمع اليهود ترتكز العلاقة على الإرث الروحي وذلك عبر الكتاب المقدس، والذي أجزاء كبيرة منه مشتركة، والعودة إليها يقرّبنا من بعضنا البعض، ويذكّرنا بأن المسيح يسوع عاش ومات يهودياً كما هي مريم العذراء. ففي الكتاب جذور المسيحيين، وهذا إرث تعتزّ به.

الإرشاد الرسولي: فيه حثّ البابا أن تكون الشبيبة في الكنيسة ومع الكنيسة، وخاطبهم مشدداً بقول الطوباوي يوحنا بولس الثاني:"لا تخافوا، افتحوا أبواب عقولكم وقلوبكم للمسيح"… التجذر في الأرض.نداء إلى شباب اليوم ليقيموا علاقات أمينة وصداقة حقيقية مع يسوع بقوة الصلاة والشهادة للإيمان اللتان تتيحان للقاء حقيقي مع الله ومع الآخرين في الكنيسة. لذلك على شباب اليوم _ يقول قداسة البابا بندكتس السادس عشر _ أن لا يخافوا أو يخجلوا من أن يشهدوا للصداقة مع يسوع في كل مكان، عبر المُثُل الإنسانية والروحية، كما يجب أن لا يخافوا أو يخجلوا من أن يكونوا مسيحيين. فمن خلال محبة المسيح وكنيسته _ يقول قداسته _ يستطيع الشباب أن يميّزوا بحكمة بين القيم المفيدة التي تبني الحياة، وبين الشرور التي تسمّم ببطء الحياة. ويعلّم قداسته الشباب أن الكنيسة تعتمد على إبداعهم والتزاماتهم من أجل خدمة المسيح والكنيسة والمجتمع.

الإرشاد الرسولي: إنه ينظر بأعين التقدير إلى الأخوة المسلمين، فهم يعبدون الله خصوصاً بواسطة الصلاة والزكاة والصيام، كما إنهم يقدّمون الإكرام ليسوع (عيسى الحي) كنبي. صحيح إن اللقاء بين الإسلام والمسيحية اتخذ غالباً شكل الجدل العقائدي والذي شكّل ذريعة لدى هذا الطرف أو ذاك ليبرر _ باسم الدين _ ممارسات التعصب والتمييز والتهميش وحتى الاضطهاد. وعلى الرغم من ذلك فالمسيحيون يتقاسمون مع المسلمين الحياة اليومية نفسها لأنهم جزء لا يتجزأ من الشرق الأوسط، ويتقاسمون عيش الحياة، ويعمل المسيحيون على تعزيز إيمانهم في ثقافة أوطانهم، مما نتج عن ذلك حياة تكافلية، فيها ساهم اليهود والمسيحيون والمسلمون في نشأة ثقافة غنية بالشرق الأوسط، وحوار دائم من أجل التفاهم والاحترام المتبادل. وفي هذا الصدد يشدد المجلس الحبري على أهمية الحوار لأنه الموضوع الأكيد للعيش المشترك وقبول الآخر ضمن وطن واحد ولغة نفسها وثقافة عينها.

الإرشاد الرسولي: يهدف إلى مساعدة كل مؤمن بالمسيح على أن يعيش حقيقةً ما جعلت منه المعمودية ابناً للنور. فالمعمودية اسمها سرّ الاستنارة، والإنسان ابن الله وليس ابن الشيطان. والمسيحي سراج وشمعة مضيئة في ظلمة العالم، ظلمة الكذب، ظلمة الحقد والكراهية والأنانية، ظلمة الأنا والكبرياء وخيانة الدعوة وأمانة الرسالة وعدم قبول الآخر. إنه يساعد حقيقةً على أن يكون سراج إيماننا مضيئاً دائماً، فقيمة وجودنا نحن شمعة من أجل تنقية الإيمان وأن يضمّ بهاء ونور المسيح، شركة اتحاد حقيقي بالله عبر المسيح. فإذا ما عطلت علاقتي مع الإنسان، أسأل ما هي علاقتي مع الله.

         الإرشاد الرسولي: أعطى دفعاً مسكونياً، وأقام علاقات مجددة في وحدة كاملة بين المسيحيين. وما حصل في دير الشرفة في اللقاء المسكوني في جوّ من الودّ الصريح وبراءة الحوار، ما هو إلا علامة بكل تنوعاتها، متحدة بعمق مع الحبر الأعظم، وتبين مدى صدق المحبة التي يكنّها قداسته لأبناء كنائس الشرق.

         الإرشاد الرسولي: دعوة الكنيسة إلى عيش الحب في المسيح يومياً، فتكون بذلك كنيسة بيتية، تربي على الإيمان والصلاة لأنها الخلية الحية والأولى للمجتمع على شاكلة عائلة الناصرة التي عاشت هي أيضاً محنة ضياع يسوع الطفل، وألم الاضطهاد والهجرة، ونشوة التعب اليومي. فالدعوة تكمن هنا في المساعدة على النمو في الحكمة والقامة والنعمة، وتحت نظر الله والبشر، وما ذلك إلا استسلام للمسيح عبر إرشاد الروح القدس.

         الإرشاد الرسولي: من المؤكد أن الإرشاد الرسولي يعلن أن المسيحيين يشاركون مع باقي المؤمنين في صنع الهوية الخاصة لبلدانهم، لأن الجميع مسؤولون عن بعضهم بعضاً أمام الله… صحيح هناك من أبناء الشرق الأوسط _ يقول الإرشاد _ يقررون ترك أرض أجدادهم وعائلتهم وجماعتهم المؤمنة بسبب الحاجة والتعب واليأس وغياب الاستقرار والأمل في بناء مستقبل أفضل، ولكن هناك ممتلئين بالرجاء يتمسكون بالبقاء في بلدهم وفي جماعتهم.

       خاتمـــــة

         نعم، لقد امتدح قداسة البابا بندكتس السادس عشر مسيحيي الشرق الأوسط اعتزازاً بإيمانهم بقوله:"لا تخفن، لأن الرب حقاً معكن حتى انتهاء العالم. لا تخفن، لأن الكنيسة الجامعة ترافقكن بقربها إنسانياً وروحياً"… وفي هذا أراد قداسته أن يكون الإرشاد الرسولي نقطة انطلاق وثبات في الإيمان، وشهادة في الحياة، وشجاعة في إعلان البشارة، وأن تواصل الكنائس الشرق أوسطية نشاطها الرسولي المعهود، مواصلة السير نحو الوحدة أولاً بين أبنائها وعاملة على ازدهارها ثانية. وفي نفس الرسالة تواصل تقدمها في سبيل التألق بين الكنائس والأديان المختلفة.

         فقداسته يضعنا اليوم أمام مسؤوليات الإيمان التي استلمناها من جرن العماد، ووسمت وجوهنا بميرون مقدس، لنكون جنوداً أوفياء لهذه الرسالة ثم نتعامل مع فقرات الإرشاد من أجل كنائسنا، من أجل تثبيت وتقوية هويتنا المسيحية، فنرى الرؤيا الواضحة عن معنى حضورنا ووجودنا وتقاسمنا للحياة.           فالإرشاد الرسولي حلول لا يكتمل نصابها ولا تعطي ثماراً إلا إذا عشناها، ليس فقط في داخلنا، ولكن أن نكتشف مع الآخرين الطريق الموصلة إلى عمق الحقيقة في معرفة سرّ المسيح من أجل غور سر الإنسان ووجوده ومساهمته في مسيرة الحياة بروح المحبة والحقيقة، ودعوة المؤمنين إلى أن يدركوا ويفهموا بأن الحس الإيماني لوجودهم هو رسالة سامية في مخطط الله… إنها رسالة البشارة والخلاص والمحبة.

         نعم، لنمشِ على دروب الشهادة التي سلكها المسيحيون في بلادنا الشرقية، وفي ذلك يشجعنا قداسته وجماعاتنا المسيحية كي نظلّ متجذرين في أرض أجدادنا في شراكة القلب والنفس مع جميع المؤمنين المعمَّذين، ليس فقط أمانةً وحفاظاً على الوجود والهوية والتراث، بل أيضاً كي نتابع باختيارنا حياة الشهادة والاستشهاد. وقد تميز بها عبر قرون عديدة حضور المسيحيين في الشرق… وما أجمله من كلام… بل طوبى لِمَن يدرك معناه.

         فغياب الصوت المسيحي ووجوده سبب في افتقار المجتمعات وخسارة للتعددية التي تميزت بها بلدان الشرق الأوسط… نعم، لنفتح أبواب قلوبنا وكنائسنا، فالأقفال ومفاتيحها في أيادينا جميعاً، ولنفتح الأبواب ليس فقط على مصراعيها بل بروح الشركة والشهادة والتواضع… فالإرشاد أعاد التصويب لبوصلة الحياة، وحسم الجدل القائم ومفاده بل سؤاله: أين سنكون اليوم وغداً؟… فالكنيسة هل هي كنيسة المؤمنين أم كنيسة المصلّين؟… إنها مبنية على صخرة البشارة عمرها ألفين عاماً… لذا لا يحق حتى للقيّمين على الشأن المسيحي في الشرق أن يتنازلوا عن هذا المجد الذي أُعطي لهم لأنه أرث الكنيسة جمعاء… فمجد الرسالة المسيحية أُعطي لأبناء هذا الشرق ولنرى الأيام ، أنها أفضل مستشار.

         أرجو ختاماً أن لا يكون الإرشاد لغة المثقفين وشريحة كبار الزمن ورؤساء الدوائر وكبار المسيرة… فاليوم شعبنا بسيط وبريء وجريح الحياة، ولا يحتاج إلا أن يتفاعل بقدر ما وهبه الله من النعم لكي لا يكون شعباً مسيَّراً بل مُحباً، شاهداً وشهيداً لحقيقة البشارة والحياة والإيمان… وهذا هو الرجاء في الإيمان بقوة الروح القدس (أفسس 6: 17).

         فلنأخذ خوذة الخلاص (أفسس 13:15).وسيف الروح الذي هو كلمة الله (أفسس 17:6) من أجل الإعلان جهاراً بسرّ الإنجيل الذي لأجله نحن سفراء (أفسس 19:6) بدلاً من سماع دقات ناقوس الخطر بل الفشل في الإيمان للصمود في الرجاء والعيش بالمحبة… وهذه هي البشارة الجديدة، حملها المسيح ولا زال يحملها ونحملها اليوم معه ، نحن بدورنا… فالإرشاد ملحق لإنجيل ربنا يسوع… إنه سفر أعمال آخر… ولا نخجل بشهادة ربنا (2تيمو 8:1)… نعم، وآمين.