كلمة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة تعيين ستة كرادلة جدد

في كونسيستوار 24 نوفمبر 2012

 

 

الفاتيكان، الاثنين 26 نوفمبر 2012 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر نهار السبت 24 نوفمبر عقب  تعيين 6 كرادلة جدد وذلك في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان.

***

"أؤمن الكنيسة الواحدة والمقدّسة والكاثوليكية والرسولية"

إخوتي وأخواتي الأعزّاء،

إنّ الكلمات التي يوشك الكرادلة الجدد على قولها رسمياً مطلقين مهنة الإيمان، تنتمي إلى قانون الإيمان النيقيوي – القسطنطيني وهو خلاصة إيمان الكنيسة الذي يتلقّاه كلّ مناّ في المعمودية. فقط من خلال اعتناق قاعدة الحقيقة هذه والحفاظ عليها يمكننا أن نكون تلامذة أصليين للرب. في هذا الكونسيستوار، أريد التوقّف عند معنى مصطلح "كاثوليكي" والذي يدلّ إلى ميزة أساسية في الكنيسة ومهمّتها. سيكون الحديث عنها واسعاً وقد يعالج من وجهات مختلفة لكنني اليوم سأتوقف عند بعض الأفكار.

إنّ الميزات التي تميّز الكنيسة هي جواب للهدف الإلهي، فكما يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكية: "المسيح هو من يعطي من خلال الروح القدس إلى كنيسته سمات الوحدة والقداسة والكاثوليكية والرسولية، وهو أيضاً من يدعوها إلى تحقيق كلّ ميزاتها" (n. 811). إنّ الكنيسة هي كاثوليكية على وجه الأخص لأنّ المسيح يغمر الإنسانية بأجمعها في مهمّته لتحقيق السلام. رغم أنّ مهمّة المسيح خلال حياته على الأرض كانت تقتصر على اليهود، "لم أرسل إلّا إلى خراف بين إسرائيل الضالّة" (متى 15، 24)، فقد وجّهت منذ البداية لتحمل إلى جميع الشعوب نور الإنجيل ولإدخال جميع الأمم إلى ملكوت الله. وقد قال يسوع أمام إيمان القائد الروماني في كفرناحوم: "وأقول لكم: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع ابراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات" (متى 8،11). إنّ هذه النظرة الكونية بارزة من بين غيرها في تبيان أنّ المسيح يجعل من نفسه ليس فقط "إبن داود" بل أيضاً "إبن الإنسان"، هذا ما سمعناه أيضاً في مقطع الإنجيل الذي قرئ للتو.

إنّ لقب "إبن الإنسان" في لغة أدب سفر الرؤيا اليهودية المستوحاة من نظرة التاريخ في كتاب النبي دانيال (راجع 7، 13-14) يذكّر بشخص يأتي "على سحاب السماء" (v.13) وهو صورة تعلن عن ملكوت جديد، ملكوت لا تدعمه الجهود الإنسانية إنّما القدرة الحقيقية الآتية من الرب. والمسيح يستعين بهذه العبارة الغنية والمعقدة ويطبّقها عليه لتجسيد الطابع الحقيقي لخلاصه وهو مهمّة مقدّرة لكلّ إنسان وللإنسان ككلّ فهي تتخطّى كلّ خصوصية عرقية وقومية ودينية. وعندما نلحق بالمسيح ونترك أنفسنا لنُشدّ إلى داخل الإنسانية وإلى الشراكة مع الله ندخل هذا الملكوت الجديد الذي تعلن عنه الكنيسة وتستبقه وهو الذي يمحي التشتت والتقسيم.

بعدئذ، لا يبعث المسيح كنيسته إلى فريق بل إلى جميع البشر ليجمعهم في الإيمان ويجعل منهم شعباً واحداً ليخلّصه، هذا ما شرحه المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور العقائدي نور الأمم : "كلّ البشر مدعوّون ليكونوا من شعب الله. لذلك فقد قدّر لهذا الشعب الواحد والفريد أن يتوسّع بحسب أبعاد الكون بأجمعه والقرون المتتالية لتتحقق مشيئة الله" (n.13). وبالتالي، فإنّ طابع الكنيسة العالمي توجّه نحو الطابع العالمي للخطة الإلهية لخلاص العالم. يظهر هذا الطابع العالمي بوضوح في عيد العنصرة، عندما يملأ الروح القدس بوجوده الجماعة المسيحية الأولى لينتشر الإنجيل في جميع الأمم ويكبر في شعوب شعب الله الوحيد.

وهكذا، وجّهت الكنيسة منذ تأسيسها نحو العالم أجمع فهي تضمّ العالم بأسره. كما أنّ الرسل شهدوا للمسيح من خلال توجّههم إلى الأفراد من جميع أنحاء العالم الذين فهموا وكأنهم يتحدّثون بلغتهم الخاصة (راجع أعمال الرسل 2، 7-8). ومنذ ذاك اليوم، بمساعدة "قوة الروح القدس" وبحسب ما وعد به المسيح، تبشّر الكنيسة بالرب الذي مات وقام "في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أعمال الرسل 1، 8). وبالتالي، فإنّ مهمّة الكنيسة العالمية لا تنبثق من الأسفل إنّما تنزل من الأعلى، من الروح القدس ومنذ بدايتها تلجأ إلى التعبير في جميع الثقافات لخلق شعب الله الواحد. هي ليست بجماعة محلية تتوسّع وتنتشر ببطء، بل إنّها مثل الخميرة تطوق إلى العالمية والشمولية والتي تحمل في داخلها عنصر العالمية.

"اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها" (مرقس 16، 15)؛ "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (متى 28، 19). بهذه الكلمات، أرسل المسيح الرسل للخليقة كلّها ليتحقق خلاص الله أينما كان. لكننا نفكر في لحظة صعود المسيح إلى السماء، التي حكي عنها في أعمال الرسل، ونحن نرى أنّ التلامذة منغلقون أيضاً في نظرتهم فهم يفكرون في إنشاء ملكوت داود جديد ويطلبون من الرب: "هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟"  (أعمال الرسل 1، 6). وكيف أجاب المسيح؟ أجاب وهو يفتح الآفاق أمامهم ويعطيهم وعداً ومهمّة: وعدهم بأن تملأهم قوة الروح القدس وأوكلهم بمهمّة تبشير العالم أجمع متخطّين العوائق الثقافية والدينية التي اعتادوا التفكير والعيش على أساسها والانفتاح على ملكوت الله.

في بداية طريق الكنيسة، كان الرسل والتلامذة يمضون بدون أمن بشري ولكن اصطحبتهم قوة الروح القدس والإنجيل والإيمان. إنّهم الخميرة التي تتوزّع في العالم بين مختلف الأحداث والسياقات الثقافية والاجتماعية المختلفة وعلى الرغم من كلّ ذلك، تبقى الكنيسة واحدة. أزهرت الجماعات المسيحية حول الرسل ولكن الكنيسة سواء كانت في أورشلم أو انطاكيا أو روما تبقى نفسها واحدة وعالمية. وعندما يتحدّث الرسل عن الكنيسة، لا يعنون جماعة معيّنة، إنّما يعنون كنيسة المسيح وهم يشددون على أن تكون هذه الهوية فريدة وعالمية وشاملة للكاثوليكية وأن تتحقق في كلّ كنيسة محلية. الكنيسة هي واحدة، مقدّسة، كاثوليكية ورسولية وهي تعكس في جوهرها منبع حياتها ودربها: وحدة الثالوث وشراكته.

وفي ظل نظرة الوحدة والعالمية في الكنيسة، تأتي كلية الكرادلة: فهي تمثّل أوجه متنوّعة إذ تمثّل وجه الكنيسة العالمية. ومن خلال المجلس الكنسي تحديداً أرغب في أن أبرز واقع أنّ الكنيسة هي كنيسة الشعوب كلّها وبالتالي فهي تبرز في الثقافات المختلقة في مختلف القارات. إنّ كنيسة العنصرة هي التي ترفع بين الأصوات المتعددة ترنيمة فريدة من نوعها للإله الحي.

أحيي من قلبي الوفود الرسمية الآتية من مختلف البلدان والأساقفة والكهنة والمكرّسين والمؤمنين العلمانيين التابعين لمختلف جماعات الأبرشيات وجميع الذين شاركوا في فرح تعيين الأعضاء الجدد في كلية الكرادلة وجميع أقربائهم وأصدقائهم والمساهمين في هذا الحفل. إنّ الكرادلة الجدد الذين يمثلون مختلف الأبرشيات في العالم قد تمّ جمعهم اليوم تحت لقب مميّز جداً في كنيسة روما وهم يقوّون الروابط الروحية التي تربط الكنيسة بأجمعها والتي يحييها المسيح والمجتمع حول خليفة بطرس. وفي الوقت نفسه، إنّ طقس اليوم يعبّر عن قيمة الإخلاص الأسمى.

في الواقع، في القسم الذي ستتلونه أيّها الإخوة الأجلاء، كُتبت كلمات تحمل معاني روحية وكنسية عميقة : "أعد وأقسم بأن أبقى الآن وعلى الدوام طوال حياتي، مؤمناً بيسوع وبإنجيله وبأن أطيع على الدوام الكنيسة الرومانية المقدسة والبابوية". وعند استلام المشبك الأحمر، ستتذكرون أنّه يعني "ضرورة جهوزكم للتصرّف بشجاعة حتى سفك الدماء لتنمية الإيمان المسيحي ولتحقيق السلام والهدوء عند شعب الله". وسيترافق تسليم الخاتم بالتحذير التالي: "اعلم أنّه مع حب أمير الرسل سيقوّى حبّك تجاه الكنيسة".

وها هنا يشار إليه في هذه التصرّفات والكلمات التي ترافقهما، بالإضافة إلى الملامح التي تفترضونها اليوم في الكنيسة. من الآن فصاعداً، ستكونون موحدين بشكل أكبر إلى كرسي بطرس الرسولي: إنّ الألقاب والخِدم في كنائس روما تذكركم بالرابط الذي يجمعكم كأعضاء مميزين في كنيسة روما هذه المتقدمة في المحبّة الجامعة. وبمساهمتكم إلى جانب المجامع والأبرشيات الرومانية، ستكونون معاوني الأعزّاء في العمل الرسولي للكاثوليكية بأجمعها لتكونوا رعاة لقطيع المسيح بأكمله والضمانة الأولى للعقيدة والانضباط والأخلاق.

أصدقائي الأعزاء، فلنسبح الرب الذي "لا يتوقف عن إغناء كنيسته الموجودة في جميع أنحاء العالم بالهبات" والذي يقوّيها في روح الشباب الأبدية التي منحها إياها. فلنأتمنه على مهمة الكنسية الجديدة لإخوته الموقرين ليكون شهوداً شجعاناً على المسيح في الديناميكية التي هي مثال على الإيمان وفي رمز الحب اللامتناهي.

***

نقلته من الفرنسية الى العربية ريتا قرقماز – وكالة زينيت العالمية