طوبى لِصَانِعِيِ السَّلامِ

رسالةُ قَدَاسَةِ البَابَا بِنِدِكْتُس السَّادِسَ عَشْر

بِمُنَاسَبَةِ اليَوْمِ العَالَمِيِّ لِلسَلامِ 2013

(1 يناير / كَانُون الثَّانِي 2013)

"طوبى لِصَانِعِيِ السَّلامِ"

 

  

1. يَحملُ كُلُّ عَامٍ جَديدٍ مَعَه التَّطلُعَ لِعَالَمٍ أَفضْلٍ. من هذا المنظورِ أرفعُ صلاتي إلى الله، أبي البشرية، لِيَمْنَحَنَا التَّوَافُق وَالسَّلام، لِكَيْ نَتَمَكَّن مِن تَحْقِيقِ الطُّمُوحَاتِ لحَيَاةٍ سَعِيدَةٍ وَمُزْدَهِرَةٍ للجَميع.

بَعْدَ 50 سنة مِن المجْمعِ الفاتيكانيِّ الثَّانِيِّ، وَالَّذِي سَمَحَ بتعزيزِ رِسَالَة الكَنِيسَةِ في العَالَمِ، يُشَجِّعُنَا مُلاحظَةُ كَيْفَ أَنَ المسِيحِيِّينَ- كشعبِ الله الَّذِي يحيا في شَرِكَةٍ مَعَه وَالسَّائِر بَيْنَ البَشر- يَلْتَزِمُونَ في التَّارِيخِ بِمُشَاطَرَةِ الأَفرَاح والآمَال، الأحزَان وَالمَخَاوِف[1]، مِن خِلَالِ إعلان خَلاَص المَسِيحِ، وتعزيز السَّلام مِن أَجلِ الجميع.

في الحَقِيقَةِ، إِنَّ أَوقاتَنَا الحَالِيَّةَ- الَّتِي تَتَّسِمُ بِالعَوْلَمَةِ، بأبعَادِها الإيجَابيِّة وَالسَّلْبيِّة، وَكَذَلِكَ بالنِّزاعَاتِ الدَّمَويَّةِ الَّتِي ما زَالَتْ قَائمَةً وبالتَهدِيداتِ بِالحَرْبِ- تَتَطَلَّبُ الإلتِزامَ المُتَجَدِّدَ وَالمُوَحَّدَ في البَحْثِ على الخَيرِ العَام، وَعلى تَقَدُّمِ كُلّ البَشرِ وَكُلّ إنسانٍ.

 

يَبْعَثُ على القَلَقِ انتِشارُ التَّوَتُّر وَالتَّصَارُع النَّاجِم عَن عَدَمِ المُسَاوَاةِ المُتَزَايِدِة بَيْنَ الأغنياء وَالفقراء، وَعَنْ هَيْمَنَةِ عقلِيِّة أنانيِّة وَفَردَانِيّة، مُعبَّر عَنْهَا أيضًا برأسِماليِّةِ النَّقدِيِّةِ الاعْتِباطِيِّة. وبالإضَافة إِلَى أَشكالٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِن الإرهابِ وَالجَرِيمَةِ الدُّوَلِيَّةِ، ويُمثِّل خَطَرًا على السَّلامِ كُلّ هَؤُلَاءِ المُتَطَرِّفِيْن والأُصوليِّين، الَّذِينَ يُشوِّهُونَ الطَّبِيعَةَ الحَقِيقِيَّةَ للدين، المَدعُو بدَورِه لِتَفْضِيلِ الشَرِكة وَالمصالحة بَيْنَ البشرِ.

وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَعمَّالَ السَّلامِ المُتَعَدِّدَةَ، وَالَّتِي بِهَا العالم غنيٌّ، تَشهَّدُ على الدَعْوَّةِ الفطرِيَّةِ للإنسانيِّة نحو السّلامِ. إِنَّ التوقَ للسَّلامِ، في دَاخِلِ كُلِّ شَخْصٍ، هُوَ بِمَثَابَةِ تَعَطُّش أَساسِيّ يَتَوَافَق، بِشَكْلٍ مَا، مَعَ التَوقِ إِلَى حَيَاةٍ متكاملة، وَسَعِيدَةٍ، وَتَامَّةِ التَحقيق. وَبِكَلِمَاتٍ أُخرَى، إِنَّ الرغبةَ في السَّلامِ تتلاءمُ مَعَ مبدأٍ أَخَلاَّقَيٍّ أَساسِيٍّ، أَلَا وَهْوَ "الوَاجِب-والحقّ" في تَقَدُّمٍ مُتَكاملٍ، اجْتِمَاعِيٍّ وَجِمَاعَيٍّ، فهَذَا جُزء مِن تدبيرِ اللهِ للإنسَانِ. فالإنسانُ خُلِقَ مِنْ أَجلِ السَّلام الَّذِي هُوَ عَطِيَّةٌ مِنْ لَدُنِ الله.

كُلُّ هَذَا دفَعني لاستلِّهمَ مِن أَجْلِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ مِنْ كَلِمَاتِ يسوعَ المَسِيحِ: "طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ الله يُدعَون" (مت 5، 9).

 

الطوبى الإنجيليِّة

2. إِنَّ التَطويبات، الَّتِي أَعَلنهَا يسوعُ (رَاجِع: مَت 5، 3-12 ولَو 6، 20-23)، هِي وعُودٌ. ففي الوَاقِعِ، الأسلوبُ الأدبيُّ المُتَعَلِّقُ بالطوبى، في التَّقليدِ الكِتَابِيِّ، هُوَ صِيغَةٌ أَدَبِيَّةٌ تحملُ دَائِمًا مَعَهَا خَبَرًا سارًا، أَي إِنجيلًا، وَالَّذِي يَبلغُ ذُرْوَتَهُ في وَعْدٍ ما. وَبِالتَّالِي، فإِنَّ التَّطويِبات لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَوْصِيَّاتٍ أَخلاقِيَّةٍ، وَالَّتِي مِنْ خِلَالِ حفظِهَا يَتَوَقَّعُ الإنسَانُ في وَقْتٍ لاحقٍ – غَالِبًا مَا يُظنُ أَنَّه في الحَيَاةِ الأُخرى- ثَوابًا، أَي حالَةَ سَعَادَةٍ مُسْتَقْبلِيَّةٍ. وَلَكِنَّ الطوبى تَتَمَثَّلُ، بالأحرى، في تَحْقِيقِ وَعْد مُقَدَّم لجَمِيعِ الَّذِينَ يَتْرُكُونَ أَنَفسَهُم تَحْتَ قِيَادَةِ مُتَطَلَّبَاتِ الحَقِيقَةِ، وَالعدالَةِ وَالمحبَّةِ. وقد يَبدو لِأَعيُنِ العَالَمِ أن كُلَّ الَّذِينَ يَثِقُونَ في الله وَفي وُعُودِهُ هم سَاذجِون وَمُغَيِّبونَ عَن الوَاقِعِ. وَلَكِنَّ، يسوعَ يُعْلِنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ، لا فَقَط في الحَيَاةِ الأُخرى، بل وفي هَذِهِ الحَيَاةِ الحاضرَةِ أيضًا، سيكتشفون أَنَّهُمْ أَبَنَّاءٌ لله، وَأَنَّ الله، مُنْذُ القدَمِ وَإِلَى الأَبدِ، هُوَ مُتَضَامِنٌ بِشَكْلٍ كَامِلٍ مَعَهُمْ. وسيَفهَمون أَنَّهُمْ لَيْسُوا وَحَيدِين، لِأَنَّه هُوَ يَقِفُ مَعَ كُلِّ الَّذِينَ يَلْتَزِمُونَ مِنْ أَجلِ الحَقِيقَةِ وَالعَدَالَةِ وَالمحبَّةِ. إِنَّ يسوعَ، وَحِّي محبَّةِ الله، لَا يَتَرَدَّدُ في تَقْديمِ نَفْسه في ذَبيحَةِ ذاتِه. فعندَما يقبلُ الإنسَانُ يسوعَ المسِيح، الإنسان-الإله، يَحْيَا الخبرَةَ المبْهِجَةَ لِعَطِيَّةٍ كُبرَى: المشَارَكَةِ في حَيَاةِ الله ذاتِها، أَي في حَيَاةِ النعمةِ، عُرْبُونٍ لِوُجُودٍ كَامِلِ الطُّوبَاوِيَّة. فيسوعُ المَسِيحُ يَهَبُنَا، بصفةٍ فريدةٍ، السَّلامَ الحَقِيقِيَّ الَّذِي يَنجُم عَنْ اللِّقَاءِ المفْعَمِ بالثقَة للإنسان مَعَ الله.

تُعْلِنُ تَطويبةُ يسوعَ أَنَّ السَّلامَ هُوَ، في ذَاتِ الوَقْتِ، عَطِيَّةٌ مسيِّانيِّةٌ وَعَمَلٌ إنسانيٌّ. ففي الوَاقِعِ، يَقْتَضِي السّلامُ أنسَنَةً منفتحةً على التَّسَامِي. إِنَّه ثَمْرَةٌ للعَطَاءِ المتَبَادلِ، وَالإغناءِ المشتركِ، بفضلِ العَطِيِّةِ الَّتِي تَتَدَفَّقُ مِن لَدُن الله، وَالَّتِي تَسْمح بالعَيْشِ مَعَ الآخرين ومن أجلِهم. فأخلاقُ السَّلامِ هِي أخلاقُ الشَّرِكَةُ وَالمشَارَكَةُ. لا مَفرَّ، إذًا، مِن أَنْ تَتَجَاوَزَ الثَّقَافَاتُ المعَاصَرَةُ أنثروبولوجيَّاتٍ وأخلاقيَّاتٍ قائمةً على افْتِرَاضاتٍ نَظَرِيَّةٍ-عَمَلِيَّةٍ فردانيَّة وَمَنْفَعِيَّة بَحت، والَّتي بِمُوجِبِهَا تُصبح عَلاقَاتُ التَّعَايُش مستوحاةً مِنْ مَعَايِيرِ السُّلطَةِ وَالرِّبْحِ، وتَضحى الوَسَائِلُ غَايَاتٍ، وَالعَكْسُ صَحِيحٌ، وَتَتَمركَّز الثَّقَافَةُ والتَّعليم على الأدواتِ والتقنيِّاتِ وَعلى الكفاءَةِ فَقَط. إِنَّ هَدْمَ دِكْتاتورِيِّة النِّسبيِّة وَفَرْضِيَّة الأخلاقِ القائمة بذاتِها، وَالَّتِي تَحولُ دُونَ الاعتِراف بِالشَّرِيعَةِ الأَخلاقيةِ الطَّبِيعِية، الَّتِي لَا غِنى عَنْهَا، وَالَّتِي وَضْعَهَا اللهُ في ضَّمِيرِ كُلِّ إنسانٍ، يعدُّ بمثابةِ شَرْطٍ أَوَّلِيٍّ للسَّلامِ. فالسَّلامُ هُوَ بِنَاءُ التَّعَايشِ بِتَعْبِيرَاتٍ ذهنيِّةٍ وأخلاقيةٍ، اسْتِنادًا على أَساسٍ مقياسه لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الإنسان بَلْ مِنْ الله ذاته. "الرَّبُّ يؤتي العِزَّةَ شَعبَه، الرَّبُّ يُبارِكُ بِالسَّلامِ شَعبَه"، كَمَا يُذكِّرُنَا المَزْمُورُ 29 (آية 11).

السّلامُ عَطِيَّةُ الله وَعَمَلُ الإنسان

3. يَتَعَلَّقُ السَّلامُ بشموليِّة الشَّخصِ الإنساني، وَيَنْطَوِي على إشراك كُلّ الإنسان. ثمَّة سلامٌ مع الله مِن خِلال العَيْشِ بِحَسْبِ مَشِيئتِهِ. إِنَّه سلامٌ باطِنِيٌّ مَعَ أَنَفسِنا، وَسَلامٌ خَارِجِيٌّ مع القَرِيبِ وَمَعَ كُلِّ الخَلِيقَةِ. وَهُوَ يَقْتَضِي بِشَكْلٍ أَساسِيٍ- كما كتَبَ الطُّوبَاوِيُّ يُوحَنَّا الثَّالِث وَالعُشُرُونَ في رِسَالَتِهِ "السَّلامُ في الأَرض" (Pacem in terris)، وَالَّتِي سيُحْتَفَلُ بعدَ بضعة أشهر بِالذِّكْرَى الخَمْسِين على صُدُورِهَا- بناء تَعَايُش قَائِم على أَسَاسِ الحَقِيقَةِ، وَالحُريَّةِ، والمحبَّةِ، وَالعدالَةِ[2]. إِنَّ إنكارَ مَا يُمثِّلُ الطَّبِيعَة الحَقِيقِيِّة لِلْكَائِنِ البَشَرِيِّ، في أَبعَادِهِ الجَوهريِّةِ، وَفي قُدْرَتهِ البَاطنِيِّة على مَعْرِفَةِ الخَيرِ وَالحَقِّ، وَفي نِهَايَةِ المَطَافِ، مَعْرِفَة الله ذاته، يُعْرِّض لِلْخَطَرِ بِنَاءَ السَّلامِ. فَبِدونِ حَقِيقَةِ الإنسانِ، الَّتِي وَضْعَهَا الخَالِقُ في قَلْبِهِ، تَفقدُ الحَقِيقَةُ وَالمحبَّةُ قِيمَتَهُمَا، وَتَفقدُ العَدَالَةُ أَسَاسَ تَطْبِيقِهَا.

ولِكَيْ نُصْبِح صَانعي سلامٍ حَقِيقِيِّينَ، إِنَّه لأَسَاسيٌّ الاهْتِمَام بالبُعْدِ المتسامي، وَكَذَلِكَ بالحَديثِ المتَوَاصِلِ مَعَ الله، الآب الرَّحِيم، وَالَّذِي فِيه نَلْتَمِسُ منه الفِدَاءَ الَّذِي حَقَّقَهُ لَنَا ابْنَهُ الوَحِيد. فَيَسْتَطِيعُ الإنسانُ، مِنْ خِلَالِ هَذَا، الانْتِصارَ على جُرْثُومَةِ تعتيمِ السَّلام وإنكاره، وَالَّتِي هِي الخَطِيئَة بِكُلِّ أَشِكَالِهَا: الأنانيِّة والعنف، الجشع وَالرَّغبة في السُّلطَةِ وَالهَيْمَنَةِ، والتَعصب وَالكراهِيِّة والنُّظم الظَّالِمَة. وَيَعْتَمِدُ تَحْقِيق السَّلام، قَبْلَ كُلّ شَيْءٍ، على الاعْتِرافِ بِأَنَّنَا، في الله، أُسرةٌ بشريَّةٌ واحدَة. تَتَكَوَّنُ هَذِهِ الأُسرةُ- كما تعلِّم الرِّسَالَةُ العامَّة "السَّلامُ في الأَرض"- مِن العَلاقَاتِ بَيْنَ الأشخاص، وعَبرَ مُؤَسَّسَاتٍ قَائِمَة ومُفعَّلة مِن الـ"النَّحن" الجماعي، والَّتِي تَقُومُ بِتَطبِيقِ نِظَام أخلاقيّ، دَاخِلِيّ وخَارِجِيّ، أَينَمَا يَتمُّ الإقرار بصدقٍ، وبحقٍّ وَعَدلٍ، بالحُقوقِ المتبادلة وبالوَاجِبَاتِ المشتركة. إِنَّ السَّلامَ هُوَ نظامٌ تُنعشَهُ وتكمَّلهُ المحبة، لدرجةِ تَبَنِّي احْتِيَاجَاتَ ومُتَطَلِّبَاتَ الآخرينَ كَاحتِيَاجَاتِهَا وَمُتَطَلِّبَاتِهَا، وبمشاركةِ الآخرين في خَيرَاتِهَا، وَالميل لجَعَلِ الشَرِكة قِيمة روحِية. إِنَّه نِظامٌ يَتَحَقَّقُ في الحُرية، أَي بِالطرِيقَةِ الَّتِي تَتَنَاسَبُ مَعَ كَرَامَةِ أشخاصٍ، مِن طَبِيعَتِهم العقلانيِّة ذاتها، يتحمَّلونَ مَسْؤُولِيَّاتِ أَفَعَالِهم الخاصَّة[3].

إِنَّ السَّلامَ لَيْسَ حُلُمًا، وَلَا وَهما: إِنَّه مُمكِنٌ. فيَجِبُ على أَعْينِنَا أَن تَتَوَغَّلَ أَكْثَر في العمقِ، أي أن تتخطى سَطح المظَاهِرِ وَالظَّواهِرِ، لتكتَشِفَ واقعًا إيجابيًّا مَوجُودًا في القلوبِ، لأَنَ كُلَّ إنسانٍ هُوَ مَخلُوقٌ على صُوَرَةِ الله، وَمَدْعُو للنمُوِّ، مسَّاهما في بناء عالم جَديدٍ. فاللهُ ذاتُه، في الوَاقِعِ- بواسطَةِ تَجَسُّد الابنِ وبالفِداء الَّذي حَقَّقهُ- قد دَخَلَ في التَّارِيخِ صانعًا خَلِيقَةً جَدِيدَةً وعَهدًا جَديدًا بَينَ الله والإنسان (رَاجِع: أر 31، 31-34)، ومُعطِيًّا لَنَا إمكانية الحُصول على "قلبٍ جَديدٍ" و"روحٍ جَديدَةٍ" (رَاجِع: حز 36، 26).

ولِهَذَا السبب عَينه، فالكَنِيسَةُ مقتنعة بضَرُورَةِ التَبشيرِ مُجَدَّدًا بيسوعَ المَسِيحِ، الفَاعِل الأوَّل والأساسيّ في التَقدُّمِ الشَّامِلِ لِلشُعُوبِ وَلِلسلامِ أيضًا. فيسوعُ، بالحَقِيقة، هُوَ سلامُنَا، وَعَدلنا، ومصالحتنا (رَاجِع: أف 2، 14؛ 2 كو 5، 18). إِنَّ صَانِعَ السَّلامِ، بِحَسْبِ تطويبة يسوع، هُوَ مَنْ يَبْحَثُ عَن خَيْرِ الآخرِ، وَعَن الخَيرِ الكَامِلِ لِلنَفسِ وَلِلجَسَدِ، اليَومَ وَغَدًا.

مِن هَذَا التَعليمِ يُمكنُ اسْتِخْلاصُ أَنَ كُلَّ شَخْصٍ وكُلَّ جَماعَةٍ – دِينِيّةٍ، مَدَنِيّةٍ، تربَويَّةٍ وَثقَافِيَّةٍ هِي مَدْعُوَّةٌ لِلعَمَلِ مِن أَجْلِ السَّلامِ. فالسَّلامُ هُوَ في الأساسِ تحقِيقُ الخَيرِ العَام لِمُخْتَلفِ المجتَمَعَاتِ، سواء الأَوَّليَّة أوَ المتَوَسِّطَة، القَومِيَّة أوَ الدُّولِيَّة، وفي المجتمعِ العالميّ. وَلِهَذَا عَينَه، يُمكِنُ القولُ بِأنَّ سُبلَ تَحْقِيق الخَيرِ العَام هِي السُّبُل الَّتِي ينبغي السَّير علِيهَا لِتَحقِيقِ السَّلامِ أيضًا.

 

 

صَانعو السَّلام هُمْ مَنْ يُحْبُّونَ، وَيُدَافِعُونَ وَيَدَعِّمُونَ الحَيَاة في شموليتِها

4. إِنَّ سَبِيلَ تَحْقِيقِ الخَيرِ العَام وَالسَّلام هو، قَبْلَ كُلّ شَيْءٍ، احْتِرَام الحَيَاةِ الإنسانيِّة، بتقديرِ أَبعَادِهَا المتَعَدِّدَة، بِدَايَةً مِنِ الحَبَلِ بها، وَمُرُورًا بِنمُوِّهَا، وحتَّى نِهَايَتِهَا الطَّبِيعِية. فَصُنَّاعُو السَّلامِ الحَقِيقِيُّونَ هُمْ، إذاً، مَن يُحبُّونَ، وَيُدَافِعُونَ وَيَدَعِّمُونَ الحَيَاة الإنسانيّة في كُلِّ أَبِعَادِهَا: الشَّخْصيَّة، والجماعيَّة، والمتساميَّة. فالحَيَاةُ المكتملة هِي ذُرْوَةُ السَّلامِ. وَمَنْ يُرِيدُ السَّلام لا يَسْتَطِيعُ غَضَّ النَّظَرِ عَن الهَجْمَاتِ وَالجَرَائِم ضِدّ الحَيَاةِ.

فَهَؤُلَاء الَّذِينَ لَا يُقدِّرونَ بِشَكلٍ كَافٍ قِيمَةَ الحَيَاةِ الإنسانيَّة، وَبِالتَّالي، يُسَانِدُونَ، على سَبِيلِ المثالِ، تحرِيرَ الإجهاضِ، قَدْ لَا يُدْرِكُونَ أَنَّهُمْ بِهَذَا يَقْتَرِحُونَ إقامةَ سَلامًا وَهمِيًّا. فَإِنَّ التَّهرُّبَ مِن المسْؤُولِيَّاتِ، وَالَّذِي بِدورِهِ يحِطُّ مِن قَدْرِ الشَّخْصِ الإنسانيّ، وَأَكْثَر مِن هَذَا، وقَتْلَ كَائِنٍ أَعزَلٍ وَبَرِيءٍ، لا يُمْكِنُهُمَا أَبَدًا أَن يُنتجا سَعَادَة أَوْ سَلامًا. فَكَيْفَ يُمكنُ، في الحَقِيقَةِ، التَفكير في أَن تَحْقِيقَ السَّلامِ، والتقدُّم الشَّامِل لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ أَوْ حِماية البِيئَةِ ذاتِها، يُمكنُ أَن يَتِمَّ بِدونِ حِماية حَقّ حَيَاةِ الأَكثرِ ضعفًا، ابتِداءً مِنْ حياةِ الأجنة؟ فَكُلّ مسَاسٍ بالحَيَاةِ، وَخَاصَّةً في بداِيَّتِهَا، يَتَسَبَّبُ لَا محَالَة في أَضرارٍ لا يُمكنُ إصلاحها فِي ما يتعلق بالتقدمِ، وَالسَّلامِ، وَالبِيئَةِ. كَمَا أَنَّه لَيْسَ صَحِيحًا العملُ، بِطْريقَةٍ ملتوِّية، على إصدارِ قَوَانِين مُزَيَّفَة ومتعسفة، تَقَوم على رُؤيةٍ مُخْتَزَلَةٍ وَنِسبيّة لِلكَائِنِ البَشَرِيِ، وَعلى مهَارَةِ اسْتِخْدام تَعْبِيرات ملتبسة، تَهدف أحيانًا إلى تأييدِ حَقّ مَزْعُوم في الإجهاضِ وفي القتلِ الرَّحِيمِ، مُهددة بذَلِكَ الحَقّ الأساسيّ في الحَيَاةِ.

كَذَلِكَ يَجِبُ الاعْتِراف بالمؤَسَّسَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلزَّواجِ وتعزيزها، كَاتِّحَادٍ بَيْنَ رَجُلٍ وامرأةٍ، أَمَامَ مُحَاوَلَاتِ جعلِهَا مُتَسَاوِيةً تَشرِيعِيًّا بأشكالٍ أخرى لِلاتِّحَادِ، مختلفة جوهَرِيًّا عَنْهَا، وَالَّتِي، في الوَاقِعِ، تضَرِّرُ بِهَا وتعملُ على زَعْزَعَتِهَا، مِن خِلَالِ التعتيم عَلى طَابعِهَا الخاص وَدَوْرِهَا الاجتماعيِّ الَّذِي لَا يُمكن تَعْوِيضُهُ. إِنَّ هَذِهِ المبادئَ لَيْسَت حَقَائِقَ إيمانية، وَلَا مُجرّد اسْتِنتاج يرتبط بالحقِّ في الحريَّةِ الدِّينِية. إِنَّهَا مَحْفُورَةٌ في الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ ذاتِها، وَمُتَوَافِقَةٌ مع العقلِ، وَبِالتَّالِي فَهِي عَامّةٌ على كُلِّ البَشَرِيّة. وَعَمَلُ الكَنِيسَةِ لتعزيزِها لَيسَ لَهُ طَابَعٌ مذهبِيٌّ، وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مُوْجَّهٌ إِلَى كُلِّ الأشخاصِ، بغْض النَّظَر عَن انتمائِهم الدِّينِيِّ. إِنَّ هَذَا العَمَلَ يَكُونُ أَكْثَر إلحاحًا كُلَّمَا تَمَّ إنكار هَذِهِ المَبَادِئ أَوْ فَهْمهَا بِطريقَةٍ خَاطِئَةٍ، لَأَنَ هَذَا كُلَّه يُمْثِّلُ إهانةً ضِدَّ حَقِيقَة الشَّخْصِ الإنسانيّ، وجُرحًا خطِيرًا يلحقُ بِالعَدَالَةِ وَالسَّلامِ.

مِن أَجْلِ هَذَا، فمن المهمِّ إيجاد تَعَاوُنًا مِنْ أَجْلِ السّلامِ في الأنظمةِ القضائية والإداريّة المختصة بالعَدَالَةِ، للاعترافِ بالحقِّ في تَطْبِيقِ مبدأ "الاستنكاف الضَّمِيرِيِ" ضِدَّ القَوَانِين والإجراءات الحُكُومِيَّة الَّتِي تَعْتَدِي على الكَرَامَةِ الإنسانيَّةِ، كالإجهاضِ وَالقتلِ الرَّحِيم.

مِن الحُقوقِ الإنسانيَّة الأساسيَّة، لا سيَّما مِن أَجْلِ حَيَاةٍ سلمِيَّةٍ بَيْنَ الشُّعُوبِ، ثَمَّة حَقّ الأفرادِ وَالجَمَاعَاتِ في الحُرِيّة الدِّينِية. ففي هَذِهِ اللَّحْظَةِ التَّارِيخِيّة، قَدْ بَاتَ مِن المهِمِّ على نَحْو مُتَزَايِدٍ أَن يَتِمَّ تَعزيز هَذَا الحَقّ، لَيْسَ فَقَط مِن المنْظُورِ السّلبِيِ، أَي "التحرر مِن"– على سَبِيلِ المثال، مِن القُيُودِ وَالتَّضيقَاتِ المفروضة على حريةِ اخْتِيَارِ الشَّخْص لِدِيانَتِهِ-، وَلَكن مِن المَنْظُورِ الإيجابي أيضًا، على مُخْتَلفِ أَبعَادِه، أَي "الحُريَّةُ في"- على سَبِيلِ المِثال، في الشهادةِ لديانته، وإعلانِ تَعلِيمِها وَتَوْصِيلِه؛ وَالقيامِ بأنشطةٍ تربويَّةٍ وَخيريَّةٍ وَتَعَاوُنِيَّةٍ، تَسْمُحُ بِدورِهَا بِتَطْبِيقِ الوَصَايَا الدِّينية؛ وفي الوُجُودِ والتصرفِ كَهَيْئَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ، مبنيّة على مبادئ تَعْلِيمِيّةٍ وَعلى أَهدافٍ مؤسساتيّةٍ خاصة بِهَا. فَمِن المؤْسِفِ أَنَّه، حتى في البُلْدانِ ذَات التَقليد المسِيحِيّ العَرِيق، تَتَزَايَدُ حوادِثُ التعصبِ الدِّينِيِّ، لَا سِيَّمَا ضِد المَسِيحِيّة، وَضِد كُلّ الأشخاصِ الَّذِينَ يرتدون بِبَساطَةٍ علامَاتِ الهُويّةِ المتَعَلّقَةِ بِدِيانَتِهم.

يَجِبُ أيضًا على صَانِعِ السَّلامِ أَن يُدرِكَ أَن الايدولوجيات الليبرالية الرَّادِيكالِيَّةَ والتكنوقراطية، في قطاعٍ مُتَزَايِدٍ مِنْ الرأي العَامّ، تُغذي الاعتِقادَ بِأَنَّه يَجِبُ السعي وراء النُّمُوّ الاقتِصَادِيِ حَتَّى إذا كَانَ الثَّمَنُ هُوَ أيضًا انقراض الدَّور الاجتماعي لِلدوَلَةِ وَلِشَبْكَاتِ التضَامُنِ الخاصة بالمجتمع المدني، وَلَيْسَ فَقَط لِلْحُقوقِ وَالوَاجِبَاتِ الاجْتِمَاعِيّة. وَالحالُ هَكَذَا، يَجِبُ الأخذُ بِعَينِ الاعْتِبار أَن هَذِهِ الحُقوق وَالوَاجِبَات هِي أَساسِيّة للتحقِيقِ الكامل للحُقوقِ وَالوَاجِبَاتِ الأُخرى، بِدَايَةً مِن تِلْكَ المدَنِيّة وَالسِّياسِيّة.

بَينَ الحُقوق وَالوَاجِبَات الاجتِمَاعِيّةِ الأكثر تَعرُّضًا لِلتَهْدِيدِ اليَوْمَ يُوجَدُ الحقّ في العمَلِ. وَيَعُودُ هَذَا إِلَى أنه، وَبِشَكْلِ مُتَعَاظِمِ، لا يُعطى للعملِ، وَللوَضْعِ القَانُونِيِّ لِلعُمَّالِ، التقديرُ الوَاجِب، وَهَذَا لِلاعْتِقادِ بِأَن الازدِهَارَ الاقتِصَادِي يَعْتَمِدُ خاصة على التحرِيرِ الكَامِل للأسواق. ومِن ثَمَّ فَإِنَّ العَمَلَ يعتبر مُتَغَيِّرًا تَابعا للآلياتِ الاقتِصَادِيّة وَالماليّة. وفي هَذَا الصدد، أُؤكِّدُ مُجَدّدًا على أَن كَرَامَةَ الإنسانِ، وَلَيْسَ فَقَط الأهداف الاقتِصَاديّة وَالاجتِمَاعِيّة وَالسِّياسِيّة، تَتَطَلَّبُ الاستمرارَ في "مواصلةِ السعي، كأولويّة، بِهَدَفِ حصُول الجميع على فُرصة للعَمَلِ وَعلى استِمرارِيّتهِ"[4]. إِنَّه لشَرطٌ أَولِيٌّ، مِن أَجْلِ تحقِيقِ هَذَا الهَدَف الطَّمُوح، هُوَ إعادة الاعْتِبار مُجَدّدًا للعَمَلِ، بالارتِكاز على المبَادِئِ الأَخلاقية وَالقيِّمِ الرُّوحيّة، وَالَّتِي بِهَا يَتَقَوَّى هَذَا المفهموم كَخَيرٍ أَساسِيٍّ للشَخْصِ، وَلِلْعَائلة، وَلِلمجتمع. يَتَوافق مَعَ هَذَا الخَيرِ، الحقُّ والوَاجِبُ اللذان يَحْتَاجَانِ إِلَى سِياسَاتِ عَمَلٍ شجاعةٍ وَجَدِيدَةٍ مِنْ أَجَلِ الجَميع.

 

بِناء الخَير المتَعَلِّق بالسلام عَبرَ نمُوذَج جَديد لِلنمُوِّ وَلِلاقْتِصَادِ

5. مِن اتجاهاتٍ عديدةٍ، هُنَاكَ اليَوْمَ إقرار بِضَرُورَةِ إيجاد نمُوذَجًا جَديدًا للتَقَدُّمِ، وأيضًا نَظرَةً جَديدَةً للاقتصاد. إنَّ التقدمَ الشَّامِلَ وَالمتِينَ وَالقَوِيَّ، وأيضًا الخَيْرَ العَامَّ، يَتَطَلَّبَانِ تَرْتِيبا صَحِيحا للخيراتِ-والقِيَمِ، وَالَّذِي من الممكن تَصْمِيمُهَا بِجعلِ الله المرجَع الأخير. فَلَيْسَ كَافِيًّا امْتِلاَك الكثير مِن الوَسَائِلِ والعَدِيدِ مِنْ فُرَصِ الاخْتِيَارِ، بِرغْمِ قِيَمَتِهَا. فَكُلُّ الخَيْرَاتِ المتَعَدِّدَة والمرتَبِطَة بالتقدم، وَجَمِيع فُرَصِ الاخْتِيَارِ يَجِبُ أَن تستَخْدَمَ جَمِيعَهَا لِخَدَمَةِ حَيَاة طيّبة، وَللسُلُوكِ المسْتَقِيم الذي يَعْتَرِفُ بأوَّلوية البُعد الرُّوحِيِّ، وبالدَّعوةِ لِتَحْقِيقِ الخَيْرِ العَام. وَبِخِلافِ ذَلِكَ، فَهِي تَفقِد قِيمَتهَا الصَّحِيحَةَ، وَتَنتَهِي بِتَشيِيدِ أَصنام جَديدَة.

ومِن الضَّرُورِيَّ، لِلخُرُوجِ مِن الأزمةِ المَالِية والاقتِصَادِية الحالية والَّتِي مِن آثارِها ازدِيَاد عَدَم المُسَاوَاةِ، وُجُودُ أَشخَاص، ومَجمُوعَات، ومُؤَسَّسَات تُعَزِّز الحَيَاة عبرَ تشجيع الإبداع البَشَرِيّ لاستخلاصِ، حتَّى مِن الأزمة، فُرصَة للتميِّيزِ ولِنمُوذَجٍ اقتصاديٍّ جَديد. فَالنمُوذَجُ الَّذِي سَادَ في العُقُودِ الأخيرةِ يَفتَرِضُ السعي وراء تَضخِيم الرِّبح والاستهلاك، مِن مَنظُورٍ فَردانيٍّ وأنانيٍّ، يَقُومُ على تقييمِ الأشخاصِ فَقَط إنطلاقًا مِن قُدرَتِهم على الاستجابة لِمُتَطَلَّبَاتِ المنَافَسَة. فمِن مَنْظُورٍ آخر، وَعلى عَكْسِ ذَلِكَ، يُمكِن الحصول على النّجاحِ الحَقِيقِيِّ وَالدَّائِمِ بواسطَةِ بَذل الذات، وتوظيف القُدرَاتِ الفِكرِية الخاصَّة، وَالمبَادِرَاتِ الخاصَّة، لَأَن التقدم الاقتصادي المنظور، أَي الإنساني الأصيل، يَحتَاجُ لمبدأ المجَّانيّة كَتَعبِيرٍ عَن الإخوَّةِ وعَن مَنْطِق العَطاء[5]. وَبِشَكلٍ عملي، في النّشاطِ الاقتصادي يظهرُ صانع السَّلامِ كَالَّذِي يُقيم مع المعَاوِنِينَ والزملاء، ومع المتَعَهِّدِين وَالمسْتَفِيدَين، عَلاقَاتٍ تَقوم على الصدقِ وَالتَّبَادُلِ. فَهُوَ يُمَارِسُ النّشاط الاقْتِصَادِيّ مِن أَجْلِ الخَيْرِ العَام، وَيَعِيشُ التزامه كَشَيءٍ يَتَجَاوَزُ مُجَرَّد الفَائِدَة الشَّخصِيِّة، لصَالَحَ الأجيالِ الحاضِرَة والقَادِمَة. فَيَجِدُ نفسه هَكَذَا يُعمَلُ لَيْسَ فَقَط لذاتِه، بَل يُقدِّم للآخرين أيضًا مستقبلا وعَملا كَرِيمًا.

إِنَّه مَطلُوبٌ، في المجَالِ الاقتصادي، لا سِيَّمَا مِن الدّوَلِ، سِياسِات لِلْنمُوِّ الصِّنَاعِيِّ والزِّراعِيِّ، سِياسِات تَهْتَمُّ بالتقدمِ الاجتماعيِّ وبتَعمِيمِ دولَة القَانُون والدِّيمُقراطِيّة. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ، فإِنَّ الهَيْكَلِيّة الأخلاقيّة للأسواق المالِيّة والاقتصاديّة وَالتُّجارِيَّةَ، هي أَساسِيّةٌ وَلَا غِنى عَنها؛ فيَجِبُ على هَذِهِ الأسواقِ إضفاء رَوح الاستقرارِ والمزِيد مِن التنظيم والضوابط، حَتَّى لَا يَتم الإضرار بِمَن هُم أَكثَر فقَرًا. وَيَجِبُ أَن يَتَوَجَّه نَظَر صَانِعِي السَّلامِ المتَعَدِّدِينَ، بِمَزِيدٍ مِن التصميمِ- وأَكثَر مِمَّا تَمّ فعله حتَّى الآنَ- نحوَ الاهتِمَام بالأزمةِ الغِذَائيّةِ، وَالَّتِي هِي أكثر خُطُورَةً مِن الأزمةِ المالِية. لقَد احتَلتْ مُجددًا قضيّةُ الأَمن الغِذَائِي المركزَ الأَوَّل في الأجندةِ السِّياسِية الدُّوَلية، وَهَذَا بِسَبَبِ أَزَمات مُتَعَلِّقة، مِن بَين أُمُورٍ أُخرى، بالتقلباتِ السَّرِيعَةِ في أَسعَارِ السِّلَعِ الزِّراعِية الخَامِ، وبالتصرفات غَير المسؤُولَةِ مِن قِبلِ بَعض العَامِلِينَ في الاقتصادِ، ولِضُعفِ رِقابة الحُكُومَاتِ والمجتمع الدُّوَلِيِّ. لموَاجَهَةِ هَذِهِ الأزمة، فَإِنَّ صَانِعِي السَّلامِ هُم مَدعُوونَ ليَعمَلُوا معًا بِروحِ التَّضَامُنِ، على المسْتَوى المحَلِّيِ وَالمسْتَوى الدُّوَلِيِّ، بِهَدَفِ وَضعِ المزراعين، خاصة في الوَقَائِع الرِّيفِية الصَّغِيرَةِ، في وَضعٍ يَسْمحُ لهُمْ بِالقِيَامِ بنشاطِهم بِطريقَةٍ كَرِيمَةٍ ومستمرةٍ، على المستوى الاجتماعي والبِيئِيّ والاقتصاديّ.

 

التربيّة مِن أَجْل ثقافة سَلامٍ: دورُ الأُسرةِ والمؤَسسَاتِ

6. أودُّ أَن أُعيدَ التأكيد، وبِقوّةٍ، على أَن صَانعي السَّلامِ العَدِيدِينَ هُم مَدعُوونَ لتنمِيّةِ الشَّغف بالخَيرِ العَام للعائلة، وبالعَدَالَةِ الاجتِمَاعِية، وَلَيسَ فَقَط الالتزام بِتَربِية اجتماعية صَحِيحَةٍ.

لا يُمكن لأحدٍ أَن يَتَجَاهَلَ أَو يَستَخِفَّ بالدَّورِ المصِيرِي للعائلة، الَّتِي هِي خَلِيَّة أَساسِيّة لِلمُجتَمَعِ مِن المنظُورِ الديموغرافي والأَخلاقي والتربوي والاقتصادي وَالسِّياسِي. فَهِي صاحبة دَعْوَّةٍ طَبِيعِية لتعزيز الحَيَاةِ: لكونِها تصطَحِبُ الأشخاص في مَسِيرَةِ نُمُوِّهم وتحثهُم على التضامن المتَبَادَل عبرَ الرِّعاية المتبادلة. تَحمل العائلة المسِيحِية بِنَوعٍ خاصٍّ في ذاتِها بذرَة مَشرُوع تَربِيّة الأشخاص على مِعيارِ المحبة الإلهيّة. إِنَّ العائلة تعدُ بِمَثَابَةِ أَحَدّ العَوامِلِ الاجتِمَاعِيّةِ الضَّرُورِيّةِ في تحقِيقِ ثقافة السَّلامِ. فَيَجِبُ حماِيّة حقِّ الوَالِدِينَ ودورهُم الأوَّلي في تربِيّةِ الأبناء، بِالدَّرَجَةِ الأولى في المجَالِ الأخلاقي والدِّينِيّ. ففي العائلة يُولدُونَ ويَزدَهِرونَ صانعو السَّلامِ، والمحَرِّكونَ المستقبَلِيُّونَ لثقافة الحَيَاةِ والمحبة[6].

وتَشتَرِكُ الجماعَاتُ الدِّينِيّةُ بِشَكلٍ خاصٍّ في هَذَا الوَاجِبِ العَظِيمِ لِلتَربِية على السَّلامِ. وتشعرُ الكَنِيسَةُ بِأَنَّهَا مُشَاركة في مسؤُولِيّةٍ عَظِيمَةٍ مِثلُ هَذه، مِن خِلَال التبشير المتَجَدِّد، والَّذِي محاوره الرَّئِيسِيّة هِي الاهتِدَاء إِلى الحَقِيقَةِ وَإِلَى مَحَبّةِ المسِيحِ، وكنتجة لهذا، النمو الرُّوحِيّ والأخلاقي للأشخاص وَلِلمُجتَمَعَاتِ. فاللقَاء مع يسوعَ المَسِيحِ يُشَكِّلُ صانعي السَّلامِ، بجعَلِهم مُلتَزِمُونَ بِالشَّرِكةِ وبتَجَاوُزِ الظّلمِ.

رِسَالَةٌ خاصة تُجَاه السَّلام هِي تلكَ الَّتِي تقع على عَاتِقِ المؤَسّسَاتِ الثَّقافِيّة وَالمدْرَسِية والجَامِعِية. فمَطْلُوبٌ مِنهَا مُسَاهَمَة كَبِيرَة، لَيسَ فَقَط في تثقيف أجيال جَدِيدَة مِن القَادَةِ، وإِنَّمَا أيضًا تَجْدِيد الهَيْئَاتِ العامة، القومِية وَالدُّوَلِية. ويُمْكِنُهَا أيضًا أَن تُسَاهِمَ في تَقْديمِ دِراسَة عِلمِيّة تُجَذِّرُ الأنشطة الاقتصاديّة والمالِيّة على أُسِسٍ أنثروبولوجيّة وأخلاقيّة مَتِينَة. فالعالمُ المعَاصِرُ، وَالعَالَم السِّياسِيُّ خاصة، في حاجة إِلَى دَعمٍ فِكرِيٍّ جَديدٍ، إِلَى مُلَخَّصٍ ثقافي جَديدٍ، لِلتَغَلُّبِ على المذهب التكنقراطي وَلِلتَنسِيقِ بَينَ التَّوَجُّهَاتِ السِّياسِية المخْتَلِفَةِ لخدمَةِ الخَيرَ العَام. الذي هُوَ- بِاعتِبارِهِ مَجْمُوعَة العَلاقَاتِ الشَّخْصِيّةِ والمؤسستيّة الإيجابيّة- في خدمَةِ التَّنمِية المتكاملة للأفرادِ وللجَمَاعَاتِ، ويعدُ الأساس لَكُلِّ تربِيّةٍ حَقِيقِية على السَّلامِ.

 

تربية صانع السلام

7. تتضح، في الخِتَامِ، الحاجة لاقتِراحٍ ولتعزيزِ ترْبِيّة مِن أَجْلِ السَّلامِ. وهي تَتَطَلَّبُ حَيَاة باطِنِيّة غَنِيّة، وَمَرْجِعِيات أخَلاقِيّة واضِحَة وَصَحِيحَة، وتَوَجُّهَات وأنماط حَيَاةٍ مناسبة. في الوَاقِعِ، أعمّال السَّلامِ تَقْتَضِي تَحْقِيق الخَيرِ العام وَتخلِق اهْتِمَامًا بالسَّلامِ، مِن خِلَالِ التَّربِيّةِ عَلَيه. فأفكارُ السَّلامِ وَكَلِمَاته وَتَعْبِيرَاته تخلقُ عقلية وثقافة للسلامِ، وَمُنَاخًا مِن الاحتِرَامِ، وَمِن الصّدقِ وَالموَدَّةِ. يَجِبُ، إذاً، تعليم البشر أَن يُحبُّوا بَعْضُهُم بَعْضًا وأَن يُرَبُّوا بَعْضُهُم بَعْضًا على السَّلامِ، وأَن يَحَيوا بِعَطْفٍ، والذي هو بدوره أَكثر مِن مُجَرَّدِ نَوعٍ مِن التَّسَامُحِ. إِنَّه لتشجيع أَساسِيّ هُوَ ذَاكَ الَّذِي فحواه "القول بِعَدَمِ الثأر، وَالاعْتِراف بالأخطاءِ الخاصة، وَقَبُول الاعتذارات بِدونِ البَحثِ عَنهَا، وأخيرًا المَغْفِرَة"[7]، بِحَيثُ يُمكِن الاعتِراف بالأخطاءِ وبالإساءاتِ في الحَقِيقَةِ لِلتَقَدُّمِ سَوِيًّا نَحْوَ المصالحة. ويَتَطَلَّبُ هَذَا انتشَارَ تَرْبِيَّة خاصة بالمغفِرَةِ. إِنَّ الشَّرَّ، في الحَقِيقَةِ، يُهْزَمُ بالخَيرِ، وَالعدالَةُ يُبْحَثُ عَنْهَا بِالاقتِداءِ بِالله الآب، الَّذِي يُحبُ جميع أبنَائه (رَاجِع: مَت 5، 21-48). إِنَّه عَمَلٌ بَطِيءٌ، لأَنَّه يَتَطَلَّب تَطَوُّرًا روحيًّا، وَتَربيةً على القيمِ الأكثر ارتفاعًا، وَرُؤْية جَديدةً للتَارِيخِ الإنسانيّ. ينبَغي التَخلي عَن السَّلامِ المزَيِّفِ الَّذِي تُقَدّمهُ أصنامُ هَذَا العالمِ، وَعَن المَخَاطِرِ الَّتِي تَصْطَحِبهُ، وَعَنْ ذَاكَ السَّلامِ المزَيَّف الَّذِي يَجْعَلُ الضَّمَائِر أَقلّ حَسَّاسِية، وَالَّذِي يقودُ نَحْوَ الانغِلاقِ على الذاتِ، وَنَحْوَ وُجُودٍ مَبْتُورٍ يُعَاشُ في اللامبالاة. على العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَالتَّرَبيةُ على السَّلامِ تَتَطَلَّبُ عَمَلًا، وَرَحْمَةً، وَتَضَامُنًا، وَجسارَةً وَمُثَابِرَةً.

يُجسِّدُ المسِيحُ هَذِهِ الميول مَعًا في وُجُودِهِ، حتى عطيّة الذات الكاملة، حتى: "بَذِل الحَيَاة" (رَاجِع: مت 10، 39؛ لو 17، 33؛ يو 12، 25). إِنَّه يَعِدُ تَلامِيذَهُ بِأَنَّه، عاجلا أو آجلًا، سيقومون بالاكتشَافِ الرَّائِعِ الَّذِي تَكَلَّمنا عنه في البداِية، أَي أَن الله موجودٌ في العَالِمِ، الإله الَّذِي أعلنه يسوع، وهو مُتَضَامِن كلِّيًّا مع البشرِ. في هذا السياقِ، أودُّ التَذكِير بالصَّلاةِ الَّتي مِن خلَالِها يُطلَب مِن الله أن يَجعلنا أدوات مِن أَجْلِ سلامه، لِيَحمل محبتَهُ حَيثُ الكراهِيّة، وَغُفْرَانَهُ حَيْثُ الإساءة، والإيمانَ الحَقِيقِيَّ حَيْثُ الشَّكّ. ومِن جانبنا، نطلبُ مِن الله، مع الطُّوبَاوِيِّ يُوحَنَّا الثَّالِثَ وَالعُشرين، أَن يُنِيرَ المسؤُولِين عَن الشُّعُوبِ، حَتَّى أَنَّه بالإضافة إِلَى الاهتِمَامِ بالعَيشِ المرِيحِ والحسن لِمُوَاطِنِيِهم، يدعِّمُونَ عَطِيَّة السَّلامِ الغالية وَيُدَافِعُونَ عَنْهَا؛ ولتشتعِل رَغبات الجميع لِتَخَطِّي الحَواجِز الَّتِي تُفَرِّق، ولتعزيزِ أواصَر المحبة المتبادلة، وَلِتَفَهُّمِ الآخرين، وَلِتَقْديمِ المغْفِرَة للذِّين ارْتَكَبُوا أَخطَاء؛ حتَّى أنَّه بفضلِ عَمَلِه تَنْمُو الإِخوَّة بَيْنَ كُلّ شُعُوبِ الأرضِ ولتَزدهر فيهُم وَيَملك عَلَيهُم دَائِمًا السَّلام المنْشُود للغاية[8].

بهذه الدُّعاءِ، أتمنى أن يتمكَّنَ الجميع من أن يُصبحوا صانعي سلامٍ وبنَّاءين له، حَتَّى ينمو في مَدِينَةِ البشرِ التَنَاغمُ الأخوِيّ، في الازدهارِ والسَّلامِ.

حَاضرة الفاتيكان، 8 ديسمبر/كانون الأول 2012

 

 

© جميع الحقوق محفوظة 2013 – دار النشر الفاتيكانية



[1] راجع: المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء (Gaudium et spes)، 1.

[2] راجع: رسالة عامة، السلام في الأرض (11 أبريل/نيسان 1963): أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963)، ص. 265-266.

[3] راجع نفس المرجع السابق: أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963)، ص. 266.

[4] بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة "المحبة في الحقيقة" (Caritas in veritate)، (29 يونيو/حزيران 2009)، 32: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 666-667.

[5] راجع: نفس المرجع، 34 و 36: أعمال الكرسي الرسولي 101 (2009)، ص. 668-670 و 671-672.

[6] يوحنا بولس الثاني، رسالة من أجل اليوم العالمي للسلام 1994 (8 ديسمبر/كانون الأول 1993): أعمال الكرسي الرسولي 86 (1994)، ص. 156-162.

[7] بندكتس السادس عشر، حديث بمناسبة اللقاء مع أعضاء الحكومة، وهيئات الجمهورية، والهيئة الدبلوماسية، والرؤساء الدينيين وممثلين عالم الثقافة، بعبدا-لبنان، (15 ديسمبر/أيلول2012): الأوسرفاتور رومانو، 16 ديسمبر/أيلول 2012، ص. 7.

[8] راجع: رسالة عامة، "السلام في الأرض" (11 أبريل/نيسان 1963): أعمال الكرسي الرسولي 55 (1963)، ص. 304.