المسيحيون العرب.. كل «ربيع» وأنتم بخير

 

المسيحيون العرب.. كل «ربيع» وأنتم بخير

عريب الرنتاوي – الدستور الأردنية

ونحن نلج عتبات عام جديد، ونحتفي مع ملايين البشر في العالم بأعياد الميلاد المجيد ورأس السنة، لا نمتلك سوى التوجه بأسمى آيات التهنئة والتبريك لشعبنا وأمتنا، ونخص بالذكر منهم، مسيحيي هذه البلاد، ملح هذه الأرض، وذوي الإسهامات التي لا تقدر في بناء مجدها وحضارتها على امتداد العقود والقرون، وبهذه المناسبة، لا بد من وقفة أمام سؤال «المسيحيون وربيع العرب».

وأبدأ بالقول، أن عامي الربيع العربي، لم يكونا عامين سمينين لمسيحي هذه البلاد، والتغيير في العراق، الذي سبق الربيع العربي، بثمان سنوات، لم يجلب لهم الخير العميم، وهم في مصر كما في سوريا، يمرون (مع فارق الظروف والأحوال)، بأصعب تحدٍ يواجهونه منذ سنوات وعقود، وما لم نعترف بهذه الحقائق، ونبحث عن حلول لاجتثاث ظواهر التمييز والإكراه والإقصاء، فإن وجه هذه المنطقة ومستقبلها، لن يكونا أبداً، كما تشتهتي شعوبها.

وأحسب أن مواقف القوى المحركة والنافذة في ثورات العربي وانتفاضاته، ومن قبلها نظام، أو بالأحرى «لا نظام» ما بعد صدام حسين في العراق، لم تهبط على مسيحي مصر والعراق والمشرق عموماً، كخبرٍ سار.. فمسيحيو العراق كانوا طوال العقد الفائت نهباً للتهجير والتفجير والتهميش، ومسيحيو مصر يواجهون خطاباً إخوانياً رمادياً وسلفياً يجنح في مضمونه للتكفير.. أما مسيحيو سوريا، فأعينهم شاخصة بانتظار ما يمكن أن يواجهون في سياق الأزمة السورية أو حين تضع حرب سوريا الأهلية، أوزارها.

في الخطاب الشعوبي السائد، الإسلاموي بخاصة، ثمة ميل لإلقاء اللائمة على المسيحيين أنفسهم فيما آلت إليه أحوالهم، وثمة زعمٌ رائج، بأن مسيحي هذه المنطقة، وقفوا خلف أنظمتها الفاسدة والمستبدة، ولم يلتحقوا بصفوف الثورة، أو التحق بعضهم بها في مراحلها الأخيرة.. وهذان أمران (الاتهام والزعم) يجري الترويج لهما لتبرئة ساحة الحركات والتيارات السياسية والفكرية التي أخفقت في تقديم خطاب يُطمئن المكوّن المسيحي العربي..فالمسيحي، وإن لم يسجل قصب السبق في ثورات الربيع وانتفاضاته (بتفاوت طبعاً)، إلا أنه كان حاضراً فيها على مستوى النخبة على أقل تقدير، ومنذ البداية..وفي مطلق الأحوال، فإن من الظلم والافتئات الزعم بأنه كان الداعم والحاضن لنظم الفساد والاستبداد، التي كانت أكثر حنكة ودهاء من كثير من الحركات الشعبية، بنجاحها إلى حد ما في أشاعة الاعتقاد بحمايتها للمسيحيين، ودائماً بهدف استدرار دعم وتفهم الغرب المسيحي.

وجاءت دساتير وحكومات وبرلمانات ما بعد العربي، لتعزز قلق المسيحيين العرب على مواطنتهم ومستقبلهم..فالأحاديث التي لم تغن ولم تسمن جوع، عن الأخوة الإسلامية المسيحية، والمواطنين السواسية، لم تُترجم بمواد شديدة الوضوح في الدساتير الجديدة، كما أن حضور المكوّن المسيحي في تشكيلات وأطر ما بعد الثورات العربية، ظل باهتاً وديكوريا.

وساهم انتشار «التطرف» في أوساط بعض الإسلاميين العرب، في خلق تيارات مسيحية متطرفة، وتحديداً في مصر، ومن قبل في لبنان والعراق، والآن – ربما في سوريا – وهي تيارات بدأت بدعوة المسيحيين للنظر غرباً إلى شمال المتوسط والأطلسي، بدل العمل على تفعيل الهويات الوطنية الجامعة، وتنشيط عمليات الاندماج الوطني والمجتمعي.

ويتخذ التطرف المسيحي في بعض الدول أشكالاً مستترة في بعض الأحيان، فنراه نزوعاً انعزالياً فينيقيا وفرعونياً في لبنان ومصر، ونراه نزوعا «إقليمياً» في دول أخرى (الأردن مثلاً)، ونراه متخفياً خلف الشعار اليسار والقومي (الوطني)، بيد أن كل هذه «التقية» لم تفلح في إخفاء مضامينة الطائفية ضيقة الأفق.

والخلاصة أن لا حل مسيحياً لمشكلة المسيحيين في العالم العربي.. وحده «الحل الديمقراطي» القائم على مفهوم «المواطنة المتساوية»، مصدر كل الحقوق والواجبات، وحفظ التعددية الدينية والثقافية والاجتماعية واحترام مبدأ التداول السلمي للسلطة، وصون الحريات العامة، بما فيها حرية الرأي والتعبير والعبادة والاعتقاد، يمكن أن يوفر الحل لمشكلة الأغلبيات والأقليات كافة في العالم العربي.. في هذا السياق، يندرج الدور التاريخي للمسيحيين العرب على اختلاف مشاربهم وكنائسهم ومدارسهم السياسية والفكرية.. وهو السياق ذاته، الذي تندرج فيه، أنشطة الديمقراطيين والإصلاحيين العرب جميعاً.

لا حل مسيحياً لمشكلة المسيحيين في العالم العربي، خارج سياق المشروع الوطني (القطري) بأبعادة الوطنية والديمقراطية، أو خارج إطار «المشروع القومي العربي».. فهولاء ركن ركين من تاريخ هذه المنطقة وحاضرها ومستقبلها.. وهم ليسو «جاليات وافدة» أو «طابور خامس» للغرب.. هم بناة أوائل للنهضة والتنوير العربيين، ومنهم خرجت الأمة العشرات والمئات من ألمع نجومها ومثقفيها ومناضليها… هكذا كان المسيحيون العرب من قبل، وهكذا يتعين أن يكونوا من بعد.