عظة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة الاحتفال بعيد مريم أم الله ويوم السلام العالمي 2013
النص الكامل
الفاتيكان, 6 يناير 2013 (زينيت – ZENIT.org)
ننشر في ما يلي عظة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة الاحتفال بعيد القديسة مريم أم الله المتزامن مع يوم السلام العالمي وذلك يوم الثلاثاء 1 يناير 2013 في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان. تزامن الاحتفال مع اليوم العالمي للسلام الذي وجه فيه البابا رسالة بعنوان: "طوبى لصانعي السلام".
* * *
إخوتي وأخواتي الأعزّاء!
"ليباركنا الله ولينر بوجهه علينا". هكذا نحتفلُ بكلمات المزمور 66 بعدَ أن استمعنا في القراءة الأولى إلى البركة الكهنوتيّة القديمة التي نالها شعب العهد. إنّه لأمر ذات أهميّة كبيرة أن يعطي الله شعبَه مع بداية كلّ عام نورَ اسمه الأزليّ، هذا الإسم الذي لُفظَ ثلاثَ مرّاتٍ في البركة الاحتفالية في الكتاب المقدّس. وهو يُوازي أهميّة كلمة الله التي تجسّدت وسكنت بيننا مثلَ "النّور الحقيقي الذي يُنير كلّ إنسان". (يو 1، 9-14) وذلك لمّا تمّت الثمانية أيّام بعدَ ولادة يسوع كما يُخبرنا إنجيل اليوم (راجع لو2، 21).
وباسمِه هو نحن مجتمعون هنا اليوم. أودّ أن أحيّيَ الحاضرين جميعهم وأبدأ بالسفراء والسلك الدبلوماسي لدى الكرسي الرسولي. وأحيّي بمودّةٍ أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال برتوني والكاردينال توركسون بالإضافة إلى كافّة أعضاء المجلس الحبري للعدالة والسلام؛ فأنا ممتنٌّ جدًّا لهم لالتزامهم بنشر رسالة اليوم العالمي للسلام لهذه السنة التي تحمل عنوان "طوبى لصانعي السلام".
على الرغم من أنّ العالم لا يزالُ اليوم يشهدُ "مواطنَ توتّر وضغط ناتجة عن عدم المساواة المتزايد بين الأغنياء والفقراء عبرَ انتشار ذهنيّة الأنانية والفرديّة وهو ما يعبر عنه أيضًا من خلال الرأسمالية غير المنظّمة" بالإضافة إلى أشكال الإرهاب والجرم العديدة وأنا مقتنعٌ أنّ أعمال السلام الحاضرة كثيرًا في هذا العام هي علامة على أنّ دعوةَ البشريّة هي السلام. ففي كلّ إنسان، الرغبةَ في السلام هي انتظارٌ أساسيّ يتزامن بشكلٍ ما مع الرغبة في حياة بشريّة ممتلئة وسعيدة وتامّة…فالإنسان وُجدَ من أجل السلام الذي هو هبة من الله. وقد استوحيت من كلّ ما قيل كلامَ يسوع المسيح: " طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ. (مت 5، 9) (الرسالة الأولى). أمّا هذه البركة فتقول أنّ السلام هو نعمةٌ من يسوع المسيح وعملٌ إنساني…وهذا السلام هو مع الله عاملين بمشيئته. وهو السلام الداخلي مع أنفسنا والسلام الخارجي مع القريب ومع الخليقة كلّها". نعم، إنّ السلام هو النعمة التي يجب أن نطلبَها هبةً من الله كما يجبُ أيضًا أن نسعى إلى بنائها بكلّ قوانا.
يمكننا أن نسألَ أنفسنا: ما هي ركائز وجذور هذا السلام؟ وكيفَ يمكننا أن نشعر هذا السلام في داخلنا على الرغم من المشاكل والظلمات والقلق؟ الجواب موجود في القراءات الليتورجيّة اليوم. فتقترحُ نصوص الكتاب المقدّس، وخصوصًا نصّ إنجيل لوقا التفكير في السلام الداخلي لمريم، والدة يسوع التي شعرت به "حين ولدت إبنها البكر." (لو 2، 7) فهي شهدت أحداثًا كثيرة غير متوقّعة: ليس فقط ولادة ابنها بل السفر المُضني من الناصرة إلى بيت لحم وكيفَ لم يجدا هي ويوسف مكانًا لتلدَ فيه والبحث عن ملجأ في الليل ومن ثمّ غناء الملائكة وزيارة الرعاة الغير المنتظرة. وعلى الرغم من تلك الأحداث فإنّ مريم لم تضطّرب؛ فكانت تتأمّل بصمتٍ كلّ ما يحدث وتحفظه في ذاكرتها وقلبها وتفكّرُ في هدوء وسكينة. هذا هو السلام الداخلي الذي يجب أن نتحلّى به في خضمّ الأحداث التي قد تكون أحيانًا مختلطة ومضطربة وغالبًا ما لا نفهم معناها وغالبُا ما تُربكنا.
يتنهي هذا المقطع من الإنجيل بإشارة إلى ختان يسوع. فحسب شريعة موسى، بعدَ مرور ثمانية أيّامٍ على الولادة، يجب على الصبيّ أن يُختن ويُعطى له اسمًا في حينها. وقد قال الله نفسه إلى مريم وإلى يوسف أيضًا من خلال ملاكه أنّ الطفلَ يُسمّى "يسوع" (راجع مت 1، 21؛ ولو 1، 31)؛ وهذا ما حصل. وقد أُعطي الآن في الختان الاسم الذي اختاره الله قبل أن يولدَ الطفل. وهنا تظهرُ هويّة مريم: هي "أمّ يسوع" أي والدة المخلّص المسيح الربّ. إنّ يسوع ليس كسائر الرجال بل هو كلمة الله، هو إنسان إله هو ابن الله: لذا لقد أعطت الكنيسة مريم لقب "والدة الله".
تُذكّرنا القراءة الأولى بأنّ السلام هي هبةٌ من الله وهي مرتبطة بنور وجه الله، حسب كتاب العدد الذي تردُ فيه البركة التي كان يستخدمها كهنة شعب إسرائيل في التجمّعات الليتوجيّة. إنّها بركةٌ تكرّرُ اسمَ الربّ ثلاث مرّات، هذا الاسم الذي لا يمكن لفظه وفي كلّ مرّة تربطهُ بفعلين يدلّان على عملٍ لصالح الإنسان: " ليباركك الرب ويحرسك. ليضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. ويرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا."
(عد6، 24- 26). إذًا فإنّ السلام هو قمّة أعمال الله الستّة لصالحنا وفيها ينير بوجهه علينا.
أمّا بالنسبة إلى الكتابات المقدّسة فإنّ التأمّلَ بوجه الله هو السعادة الأسمى ويقول المزمور 21، 6: " تفرحه ابتهاجًا أمامك". ومن التأمّل بوجه الله، تولدُ السعادةُ والأمن والسلام. ولكن ماذا يعني أن نتأمّل بوجه الرب، وكيف يمكن أن نفهمَ ذلك في العهد الجديد؟ هذا ما قد يعني العكسَ تمامًا، هو أن نتأمّلَ بيسوع المسيح الذي به كشفَ الله عن ذاته قدرَ المستطاع في هذه الحياة. وأن نتنعّمَ بجمال وجه الله هو أن ندخلَ في سرّ اسمه الذي انكشفَ في يسوع وهو أن نفهمَ شيئًا عن حياته وإرادته بغيةَ العيش حسب مشروع حبّه للبشريّة. ويعبّرُ عن ذلك الرسول بولس في القراءة الثانية من الرسالة إلى غلاطية (4، 4- 7) متحدّثًا عن الروح الذي يصرخ في عمق أعماقنا: "أبّا! أبتي!". إنّها الصرخة الآتية من التأمّل بالوجه الحقيقي لله ومن كشف سرّ اسمه. ويقول يسوع: "أظهرت اسمك للناس" (يو 17، 6). فجعلنا ابن الله الذي تجسّد نتعرّف إلى الآب، وبوجهه الإنساني جعلنا نرى وجه الآب الذي لا يُرى وذلك عبر موهبة الروح القدس في قلوبنا، وأرانا أنّنا به، نكون نحن أيضًا أبناءً لله، كما يقول القدّيس بولس في المقطع الذي قرأناه: " ثم بما أنّكم أبناء ارسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الاب". (غلا 4: 6)
وهنا، أيها الإخوة والأخوات، نرى أساس السلام لدينا: التفكير في روعة وجه الله الآب من خلال يسوع المسيح ، وأن نكون أبناءً في الإبن، ونشعرَ بالتالي، على دروب الحياة في الأمن نفسه الذي يشعر به الطفل في حضن أبيه المحبّ والكليّ القدرة. والثّقة بأنّ نور وجه الرب علينا، يعطينا السلام الذي هو مظهر من مظاهر الأبوة، فالربّ ينيرُ بوجهه علينا، يظهرُ أنّه الآب ويعطينا السلام. هذا هو المبدأ العميق لهذا السلام – "السلام مع الله" الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإيمان والنعمة، وهذا ما كتبه القديس بولس إلى المسيحيين في رومة. لا شيء يمكن أن يسلب المؤمنين هذا السلام، ولا حتى الصعوبات ومعاناة الحياة. والواقع أنّ المعاناة والاختبارات والظلمات تزيد من رجائنا، والرجاء لا يخيّب صاحبه "لأنّ محبّة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا." (رو 5، 5). ولتساعدنا مريم العذراء، أمّ الله التي نكرمّها اليوم على التفكير في وجه يسوع، أمير السلام. فلتساندنا ولترافقنا في هذا العام الجديد، ولتحص لنا وللعالم أجمع على نعمة السلام. آمين!
* * *
نقلتها إلى العربيّة بياتريس طعمة- وكالة زينيت العالميّة
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية