في حميمية الله. دراسة في الصلاة

 

أرسل بيروت, 20 فبراير 2013 (زينيت) عساف رعيدي

مقدمـــة

مما لا شكّ فيه أن طرح أي موضوع روحي وبخاصة موضوع الصلاة، في عالم غارق في المادة ومتّكل على التطور التكنولوجي السريع جداً والذي لم تشهد له البشرية مثيل خلال مسيرتها التاريخية، إنما يضع صاحبه في خانة الإنسان "التقليدي – المتأخر" عن مواكبة هذا العصر الحديث، والمتعلق بـ "أوهام" تبعده عن الواقع المعاش.

وحكم كهذا إنما صادر بدون شك عن الإنسان "الواقعي[1] – المادي" الذي لا بد وأنه قد تخلّى عن ممارسة الصلاة في فترة ما من حياته بعد أن "لمس عدم فائدتها". فذهب يبحث لنفسه عن مصدر آخر يشبع منه رغباته ويضمن مصالحه ويحقق أحلامه …

إن الصلاة مغامرة ومغامرة صعبة لا بل شاقة وخطيرة، يمارسها أغلبية الناس – إن لم نقل جميعهم– في بداية حياتهم. إلا أن الأكثرية الساحقة تفشل[2] فتتوقف. وأمّا البقية الباقية فتبقى مجاهدة حتى تصل إلى النهاية، فيصبح عندنا ما يعرف بـ "رجال صلاة".

إن صعوبة هذه المغامرة يكمن في التحدي الذي نفرضه على ذاتنا في أن نكمل المسيرة أو لا نكملها. فإكمال المسيرة يتطلب جهداً ثابتاً وشجاعة كبيرة وإرادة لا تلين أمام مختلف ما قد نواجهه من عقبات لا يمكن أن نتصورها. إن ما تتطلبه مسيرة الصلاة من صفات لا يكون حصيلة سعي بشري وإنما هي هبة من الروح[3]. وهذه الهبة تبقى مرتبطة إرتباطاً وثيقاً برغبة الإنسان في الحصول عليها، لأن النعمة الإلهية لا تتأتى إلا لطالبها[4]. وبدون أن نطلب لا نستطيع الحصول على شيء …

ما هي الصلاة ؟

بشكل عام وأساسي يمكن تحديد الصلاة بأنها :

علاقة شخصية مع الله الآب والدخول في حوار مباشر معه، بمساعدة من الروح القدس …

لهذا فإنه من الصعب جداً إعطاء تعريف محدد لها. لأن الصلاة موهبة من الله أعطيت لكل البشر من دون إستثناء، على إختلاف توجهاتهم وقناعاتهم وإنتماءاتهم ومذاهبهم… قبل أن تكون عمل إنساني. فيكون أن كل إنسان هو صاحب موهبة تعطيه القدرة على إقامة علاقة فردية قابلة للتطور مع الله. وهو، أي الإنسان، متى دخل في هكذا علاقة فإنه يصبح له، وعلى حسب نضوجه ونموه في علاقته مع الله، تحديدات خاصة به، تختلف عن تحديدات "الآخر" لها. وبالتالي يصبح عندنا تحديدات لا محدودة للصلاة، وتصبح الصلاة مرآة تنعكس عليها طريقة عيش كل واحد منّا. وبقولنا علاقة شخصية مع الله الآب، فإن هذا يعني أن الصلاة هي أيضاً خروج من الذات لنفس مشتاقة وباحثة دوماً عن الله من أجل إقامة تلك العلاقة معه. وبقولنا حوار، فإن هذا يعني أيضاً بأن الصلاة هي كذلك إصغاء لذلك الذي نحاوره[5].

 

من تحديدات الصلاة :

 الصلاة هي تنفس نفس إستسلمت لإرادة الله من خلال "نعم" أعلنتها له.

 الصلاة توجيه عميق للنفس صوب الله وتنبّه وتيقّظ دائم لحضوره.

 فعل إيمان وحب.

 التفكير بالله ونحن نحبّه.

وهي تتطلب:

 إيماناً عميقاً بالله وشوقاً ملحّاً إلى معرفته عن طريق الحب والخبرة.

 مثابرة في البحث دون إنتظار أية نتيجة ظاهرة أو ملموسة.

 تجرّد عن كل غاية إنتفاعية.

 إستسلام بنوي لله وإنتباه مرهف لحضوره فينا.

 إستعداد دائم لسماع نداءاته المتواصلة في أعماقنا.

 طاعة متواضعة لإلهامات الروح القدس ولما يريد أن يحقّقه فينا.

مع الإنتباه الدائم إلى أن طريق الصلاة تطول كلّما خيّل إلينا أننا إقتربنا من نهايتها !

ويمكن أيضاً تحديد الصلاة بأنها الوقت المكرّس بصورة خاصة لممارسة فضيلة الإيمان عملياً، والتوق إلى بلوغ الله. هي إحدى أهم الطرق التي أتحدث بواسطتها إلى الله.

من حيث المبدأ هناك طريقتان أستطيع بواسطتهما التحدث إلى الخالق:

الله يسكن وسط البشر، فيكون أني أتكلم إليه في كل مرّة أتصرف بمحبة تجاههم. وهذه صلاة حقيقية أقوم بها كل يوم في صلب الحياة العملية.

 

 الله يسمو كثيراً عن كل شيء. لهذا ولكي أتحدث إليه، فإنه من الضروري أيضاً أن أترك كل شيء: بشر، ملائكة وحتى نفسي للوصول إليه.

ولكي أوفق بين هاتين الطريقتين عليّ أن أجعل حياتي العملية على وفاق تام مع إيماني وصلاتي، وذلك بأن أترجم إيماني بأعمال يومية.

يبقى الهدف الأول والأخير للصلاة الحقيقية إيجاد الله والتقرب منه والتعرف عليه. ولن يتم للإنسان هذا ما لم يرجع، وبمساعدة من الروح، إلى الحالة الأولى التي خلقه الله عليها، أي على صورة الله ومثاله، تلك الصورة التي أرانا الله إيّاها بشكل ساطع ونقي في شخص يسوع المسيح.

 

أنواع الصلاة

يمكن أن نمّيز بين:

الصلاة الفردية والتي يمكن أن تكون:

– شفوية

– صامتة

– بعبارات جاهزة (علّمتنا إيّاها الكنيسة من الكتاب المقدّس أو من التقليد الشريف)

– بعبارات عفوية (أي بنفس الأسلوب الذي يتوجّه به الإبن إلى أبيه)

 

الصلاة الجماعية والتي غالباً ما تكون:

– شفوية

بعبارات جاهزة

وغالباً ما تأخذ الصلاة الصيغ التالية:

 

 التسبيح والسجود:

إن محور هذه الصلاة هو الله، وهدفها تمجيده وعبادته.

 الشكر:

هي صلاة يرفعها الإنسان إلى الله ليشكره فيها على جميع عطاياه، وأول هذه العطايا هي الحياة التي وهبه الله إيّاها، يليها نِعَم أخرى نحصل عليها دون أن ننتبه إلى أهميّتها أو إلى أن الله هو مصدرها الفعلي. ولكن مع الأسف نحن نهمل هذه الصلاة وننساها ما إن نحصل على ما نريد[6].

 

 الإستسلام:

هي صلاة يقدّم فيها الإنسان ذاته بكلّيتها إلى الله على مثال يسوع المسيح. هي جواب الإنسان على محبة الله اللامتناهية. هي "النعم" التي نقدّمها لله كجواب على العلاقة التي يريد أن يقيمها معنا. هذه الصلاة مفيدة جداً في المراحل الحرجة في حياتنا[7]. إن صرخة يسوع على الصليب: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي"[8]، هي أبلغ تعبير عن هذا النوع من الصلاة.

 

 الشفاعة:

تقوم صلاة الشفاعة على طلب الخير للآخرين[9]. واللافت أن روعة هذه الصلاة هو في عدم توقفها عند الأقارب والمعارف وإنما هي تشمل جميع البشر وحتى الأعداء[10]منهم.

 

 الشكوى:

وهي أخطر أنواع الصلاة. غالباً ما تعبّر عن ألم عميق وبؤس يعاني منه الإنسان بسبب ضيق أو ظروف قاسية يمرّ بها أو مصيبة أو حتى بسبب عجز أو إعاقة جسدية … فيتوجه إلى الله شاكياً:"لمَ أنا بالذات يا رب؟". حتى يسوع نفسه قد مارس هذا النوع من الصلاة وهو على الصليب: "إلهي، إلهي لماذا تركتني؟"[11].

تزخر المزامير بهذا النوع من الصلوات، لا بل حياتنا اليومية مليئة بها. ومتى كانت هذه الشكوى صادرة عن القلب أي صادقة بتعبيرها عن واقع معاش. فهي تكون صلاة حقيقية تعبّر عن معاناة الإنسان.

يكمن الخطر في هذه الصلاة، عندما تختلف نهايتها عن نهاية المزمور 22 الذي تلاه يسوع وهو يتعذب، أي عندما تنتهي بعدم التسليم لمشيئة الله، وبعدم وضع ثقتنا الكلّية به والإتكال عليه. فالذي يشتكي عادة، يظن أنه بعمله هذا قد إبتعد عن الله بإلقائه اللوم عليه، فيترك الصلاة ويبتعد عن الله وهنا يكمن الخطر. فهو يجهل أن "ثورته الصادقة" هذه إنما هي بحد ذاتها صلاة يرفعها إلى أبيه السماوي.

 

ما يميّز هذه الصلاة هو أن القلب يكون فيها قريباً جداً، إن لم نقل واحداً مع الفم. أي إن ما يشعر به القلب يعبّر عنه اللسان.

نجد نماذج لهذا النوع من الصلاة عند أيّوب وموسى وإرميا ويونان، فصلواتهم عكست أيضاً "تمرّداتهم" أمام صمت الله[12].

 

 الطلب:

لعل صلاة الطلب هي الأكثر شيوعاً بين الناس. فكلمة "صلاة" لمعظمهم إنما هي مرادف لكلمة "طلب". فإذا لم يكن لديهم ما يطلبونه فإنهم لا يصلّون. ولعل هذه الصلاة أيضاً هي أكثر الصلوات التي يساء تقديرها. فالصلاة بشكل عام وصلاة الطلب بشكل خاص، بالنسبة للبعض، تبدو وكأنها تَوَجُّه إلى كائن نجهل إذا كان موجود حقاً، بمعنى آخر هي كرمي قنينة في البحر مع الشك بأنها ستجد أبداً أحداً لإلتقاطها. والسبب يعود إلى أن الصلوات التي إستجيبت قليلة جداً لا بل نادرة. وهذا إن دلّ على شيء فعلى أن الصلاة لم تثبت فعاليّتها بشكل كامل ومقنع بالنسبة لهؤلاء.

 

إن هدف صلاة الطلب يقسم إلى قسمين:

– طلب الخيرات الدنيوية بجميع أشكالها الغير محصورة.

– طلب الخيرات الأبدية (رؤية وجه الله، الراحة الخالدة والسلام الأبدي…)

 

متى نصلي وأين نصلي ؟

بما أن الله حاضر دوماً لسماعنا ولقائنا[13]، فنحن نستطيع في أي وقت التوجه إليه. لكن علينا الإنتباه أنه في حال حدّدنا ساعة ما للتحدث فيها مع الله، وجب علينا الإلتزام بتلك الساعة أي إحترام موعد اللقاء هذا، لأنه من غير اللائق جعل الله ينتظر.

كثيرون يعلّلون عدم ممارستهم للصلاة بأنه ليس لديهم الوقت وآخرون يلجأون إلى الصلاة متى شعروا بحاجة ما، وغيرهم يقولون أنهم لا يجدون السكينة التي تتيح لهم أن يصلّوا كل يوم. ليس هناك من سبب يمكن أن يمنعنا من ممارسة الصلاة، وإلا تلاشت شيئاً فشيئاً ولا تلبث أن تختفي كلّياً من حياتنا إن لم نكرّس لها حيّزاً محدداً. إن واجب الصلاة لا ينجم عن شريعة خارجية تفرض فرضاً، بل ينتج من طبيعة الإنسان نفسها في علاقتها مع الله. لهذا يمكننا دوماً إيجاد الوقت لمارسة الصلاة ومخاطبة الله. يجب أن لا ننتظر حتى يكون لنا مي للصلاة حتى نصلي وإلا إنقطعنا سريعاً عنها.

إن الشوق للصلاة هو من ثمار الصلاة نفسها. لهذا كلما صلّينا كلّما خلقنا فينا هذا الشوق للمتابعة، وكلّما قلّلنا صلاتنا كلّما قلّ فينا شوقنا إليها وبالتالي إختفت من حياتنا. إن الإدّعاء بعدم وجود الوقت لممارسة الصلاة هو في الحقيقة عجز نفسي في تحديد هذا الوقت، وهذا العجز ناتج عن رفض إرادي في تحديد هذا الوقت. في كلّ مرّة نشعر فيها بعد إنتهائنا من الصلاة بأننا وفينا الله حقّه، يكون هذا دليل على أننا لسنا متأهبين بعد للصلاة ولا نحيا حياة التأمل أي ليس لنا بعد نفس تأملية. من أهم صفات النفس التأملية – المصلّية: الشعور بالتمزق ما بين حب الله وحب البشر. الشعور بالغربة وسط أقرب الناس إليها.

نخاطب الله في أي مكان نستطيع أن نجده فيه، وبما أنه موجود في كل مكان فهذا يعني أنه ليس هناك من مكان محدد للقائه. غير أنه من الأفضل أن نختار مكاناً هادئاً يخيّم عليه السكون، لأنه في أماكن كهذه بعيدة عن ضجيج العالم نستطيع اللقاء بالله والإصغاء إليه بشكل أفضل. ولنا في لقاء النبي إيليا بالله من خلال النسيم العليل مثال واضح[14].

 

موانع الصلاة

متى وجدت نية عدم ممارسة الصلاة لدى الإنسان، فإنه لا يتوانى عن تقديم ما يراه مناسباً من حجج مهما كانت سخيفة أو بعيدة عن المنطق والواقع يدعم بها موقفه. لهذا سوف نكتفي بعرض بعض الأسباب التي تدفع الإنسان إلى التوقف عن ممارسة الصلاة والتعليق عليها.

 

 حالة أولى:

إنسان ما لا يمارس الصلاة. يتعرض لطارئ ما في حياته، فيشير عليه أحدهم – ويكون من أولئك الذين تمرّسوا في الصلاة وإيمانهم كبير بفعاليّتها – بأن يصلي ويسأل الله العون. فيتقدم هذا الشخص من الله وربما بعد تردد كبير بسبب قلّة الإيمان، "فارضاً" عليه مطالبه التي غالباً ما تكون على الشكل:

– حسب إرادته الشخصية.

– حسب مطامعه وشهواته.

– أن يبعد عنه المحن والأمراض والمصائب.

– أن يبعد عنه موت كل عزيز.

– أن يغرقه في الخيرات المادية.

– أن ينتقم له من منافسين على السلطة.

واللافت للنظر أن السائل هنا يريد أن يستجاب طلبه هذا بسرعة. وكأن الصلاة عصاً سحرية ما إن نحرّكها حتى يكون لنا ما أردناه.

وبما أن الصلاة ليست كما يتصوّر والله ليس بساحر رهن إشارتنا، فإنه لا يلبث أن يعود أدراجه مبتعداً مرة أخرى عن الصلاة، ولكن هذه المرّة بقناعة أكبر عن عدم فعاليّتها، ولا يترك فرصة ما إلا ويعلن أمام الجميع تجربته الفاشلة فيكون "كحجر عثرة"[15] أمام كثيرين يتّخذونه كبرهان على المضي في كسلهم الروحي. من هنا نفهم كلمة الكتاب على لسان يعقوب:

"تسألون ولا تنالون لأنكم تسيئون المسئلة مبتغين أن تنفقوا في لذّاتكم"[16].

 

 حالة ثانية:

فئة أخرى من الناس توقفت عن ممارسة الصلاة، لأنها ربطتها بالخيرات المادية. فقد توهمت هذه الفئة أن صلاتها لا تجلب لها سوى الألم والفقر… بعد أن رأت أن الذين لا يقيمون علاقة مع الله يتمتعون بالغنى والسعادة والصحّة… لقد رفضت هذه الفئة الله بسبب مكافأة لم تحصل عليها، ظنّاً منها أنها بصلاتها تلزم الله على مكافأتها. وبرفضها الله تكون قد فقدت أسمى ما يمكن الحصول عليه، ألا وهو الله خالق الوجود.

إن علاقة هذه الفئة مع الله هي علاقة تجارية هدفها الربح والمكافأة على ما تقدمه لله من صلوات. لقد غاب عنها أن تتخذ من حياة السيد المسيح مثالاً، كيف أن حياته كانت كلها صلاة وكيف أنه عانى العذاب والألم وموت الصليب. إلا أنه لم يستسلم بل وهو في قمّة عذابه "إستودع روحه بين يدي أبيه السماوي"[17]. فكان أن أقامه الله وجعله عن يمينه[18]. هناك أمثلة أخرى في الكتاب، نكتفي منها بذكر أيوب ذلك العبد المتألم الذي ألمّت به مصائب لم يعرفها إنسان. فما كانت تزيده سوى تمسّكاً بإيمانه، أمام إلحاح زوجته التي حاولت أن تدفعه إلى التجديف على الله.

صحيح أن الخيرات المادية التي أغدقها الله على أيوب جاءت كمكافأة على أمانته، إلا أن القضية هنا هي أن أيوب لم يكن ينتظر تلك المكافأة وإلا لكان إبتعد عن الله في أول الطريق. خصوصاً بعد أن رأى توالي المصائب عليه وكيفية ربط زوجته لتلك المصائب بإيمانه. لذا يجب علينا الإنتباه إلى الكيفية التي نربط فيها أفراحنا ومآسينا بصلواتنا.

يمكن تشبيه الصلاة بالبوصلة التي ترشدنا إلى الطريق الصحيح. إنها توجيه عميق للنفس نحو خالقها. وما الأفراح والمآسي سوى محطات مرحلية على تلك الطريق لا نلبث أن نغادرها حتى نصل إلى الهدف النهائي أي الإتحاد بالله. يمكن ان نشبّه المؤمن المصلي بالماء الذي يجتاز السهول والأودية ليشق طريقه نحو البحر العظيم الذي هو الله.

واللافت أن هاتين الفئتين تؤكدان أن صلاتهما نابعة من القلب وأنهما لا يلقيان جواباً فيضعان اللوم على الله ويفقدان الثقة به بدل التفتيش عن العلة فيهما أو في طريقة صلاتهما.

 

 حالة ثالثة:

هناك فئة ثالثة لا تمارس الصلاة الطلب لأنها مقتنعة بأنه ما دام الله عالماً بكل شيء، فهو بدون شك يعرف إحتياجاتها. فلم تعرضها عليه إذاً ؟

إن الخطأ الأول الذي تقع فيه هذه المجموعة هو تغاضيها عن باقي أنواع الصلوات. فرفضها لصلاة الطلب يدفعها لرفض باقي أنواع الصلاة. فبدون صلاة الطلب لن يكون هناك صلاة شكر أو صلاة شكوى أو حتى صلاة سجود وعبادة.

من الغريب أن لا يكون واضحاً لهذه الفئة أن ربّنا نفسه أرادنا أن نمارس صلاة الطلب. ألا يخبرنا الإنجيل أن يسوع قد سأل الأعميين الذين كانا يصرخان على قارعة الطريق: "ماذا تريدان أن أصنع لكما ؟"[19] مع علمه بأنهما كانا بحاجة إلى أن يبصرا، بهذا يكون قد حرَّك فيهما الطلب.

إن صلاة الطلب مهمة جداً فهي تبيّن مدى إيمان الإنسان وإرادته في الحصول على حاجته. إن حصول الإنسان على كل شيء من دون أن يطلب يجعله يعتقد أنه مكتفي بذاته فلا يعرف قيمة عطايا الله بل ينسب تلك العطايا إلى قدرته الذاتية فيقع في أسوأ أنواع الخطأ أي الكبرياء. إن صلاة الطلب تشكّل نوعاً من الإعتراف بضعفنا البشري وتبيّن لنا بجلاء تبعيّتنا وترسّخ فينا التواضع[20]. لكن لا يكون لنا حجر عثرة إذا رأينا أن أحداً من هؤلاء الأشخاص الذين لا يصلّون أو غيرهم قد إستحصل على نِعَمٍ معيّنة من دون أن يسألها. أليست هذه حال إلعازر؟. لنتأمل قليلاً هذا النص. إن هذا الشخص على الرغم من موته وجموده، نرى بأن يسوع يقيمه إستجابة لإيمان وطلب أخته مريم وأخته مرتا. إذاً الطلب المرافق بالإيمان مهم جداً وأساسي في إستجابة الصلوات[21].

لهذا لا نتعجب من حصول هؤلاء على نِعَمٍ، لأنه لا بد وأن يكون أحد ما وفي مكان ما يتشفع لهم ولآخرين. ثم يجب أن لا ننسى أن الكنيسة تذكر دوماً جميع البشر في صلواتها.

 

حالة رابعة:

يرفض البعض صلاة الطلب معتبرين إيّاها تسولاً لا يتّفق مع كرامة الإنسان. والجواب على هؤلاء هو أن الصلاة تضع الإنسان في محلّه الذي هو أحط بما لا يقاس من مكانة الله. إن قبول الإنسان لمكانته والإعتراف بها لا يحطّان أبداً من كرامته بل على العكس فالصلاة التي يرفعها إلى الله ترفع نفسه وتضعها بحضرة الخالق، فهل يعتبر هذا إنحطاطاً؟

من ناحية أخرى إن الصلاة هي نوع من التعهد من قبل الإنسان بأن يساعد عمل العناية الإلهية في حياته.

 

 حالة خامسة:

هناك من هو مقتنع بعدم جدوى الصلاة وبخاصة صلاة الطلب، بإعتبار أن في الله صفات جوهرية مثل لاقابلية التبدل، فيصبح بالتالي عاجز أدبياً عن إستجابة الصلاة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن للعالم قوانين ثابتة لا يمكن أن تغيّرها الصلاة ولو صدرت عن إنسان مؤمن.

 

بالنسبة للقسم الأول:

إن الإله الذي "يعجز أدبياً" عن العناية بمخلوقاته بسبب "لاقابلية التبدل فيه" لا يمكن أن يكون إله، بل يصبح كائن ظالم لأنه خلق الإنسان وتركه لمصيره بسبب عدم قدرته على الإعتناء به. أما فيما يتعلق بمسألة "الصفات الجوهرية" في الله، يجب أن لا ننسى أن هذه الصفات إنما هي إسقاطات بشرية على الكيان الإلهي، وإلا لشلّ وجود الصفات الكاملة والمتناقضة[22] فيه الحركة عنده !

لا ننسى أن الله لو لم يكن قادراً على الإستجابة لنداءات أبنائه لما طلب منهم هو نفسه أن يسألوه ويقرعوا بابه[23]…

من ناحية أخرى يسري مبدأ التبدل على كل شيء خاضع للزمن، وبما أن الله موجود في الأزلية فهو إذاً خارج الزمن.

 

يقول القديس توما الأكويني:

"حين نصلي لا نغيّر مقاصد الله بل نطلب إليه أن يحقق بصلواتنا ما يجب أن يتم بموجب ترتيباته الأزلية"[24].

 

ويقول أولر:

"لا نتصورن أن الله يسمع حالياً صلاة توجّه إليه، فإنه قد سمعها منذ الأزل ونظّم العالم بنوع يتّفق وإستجابة هذه الصلاة. إن ترتيب الأمور هكذا لا يجعل صلواتنا عديمة الفائدة. بل ينمي ثقتنا لأنه يضع في متناولنا هذه الحقيقة المعزّية وهي أن صلواتنا الحسنة قد سمعها الله منذ الأزل، وقد أثّرت في وضعه تصميم العالم ومجريات الأمور. كل ذلك وفق حكمته الأزلية اللامتناهية"[25].

علينا الإنتباه هنا من الوقوع في إعتبار أن الإنسان يصبح في هذه الحالة مسيّراً في نظام مرسوم منذ الأزل. فالعكس صحيح كما يوضح أولر من أن هذا النظام الذي رُسِم منذ الأزل قد خضع في تكوينه بما يتوافق مع مصلحة الإنسان وإرادته من خلال صلاته النابعة عن حرّيته والتي عرفها الله منذ البدء بعلمه المطلق والغير محدود، فرتّب الظروف المناسبة.

بإختصار إن معرفة الله المسبقة ليست مقيّدة للإنسان، بل إن عمل الإنسان الحرّ هو "مقيّد نوعاً ما" لمعرفة الله الأزلية.

 

بالنسبة للقسم الثاني:

إن إستجابة الله لصلواتنا لا تغيّر شيئاً في قوانين العالم. فأغلب المعجزات التي تحصل بنتيجة الصلاة إنما هي:

– تفعيل قانون طبيعي على حساب قانون آخر، وذلك بإطالة فترة عمل الأول، مثلاً: تعليق عمل قانون خضوع الإنسان للموت لفترة ما، بإطالة عمره.

– إحلال قانون محل قانون آخر، مثلاً: صلاة نرفعها إلى الله لإحلال القانون القاضي بهطول المطر من أجل عملية الري.

– تسريع عمل قانون ما، مثلاً: أحد المرضى يتطلب شفاؤه وقتاً طويلاً، بواسطة الصلاة نقضي على عامل الوقت.

مهما تكن الإعتراضات هنا، يمكن الإجابة عليها بأنه من حق خالق الكون أن يتصرف به كما يشاء مع عدم الخوف من هكذا تصرف طالما أنه يتمتع بالحكمة المطلقة. من جهة ثانية ألا يمكن أن تكون تلك العجائب المخالفة لنظام الطبيعة إنما هي مدرجة منذ الأزل بإرادة من الله ؟!

 

 حالة سادسة :

وهي حالة الذين توقفوا عن الصلاة بسبب كثرة الشرود الذين يعانون منه، أو أيضاً بسبب يبوسة روحية قد مرّوا بها. وسوف نتطرق إلى مشكلة الشرود لاحقاً.

 

كيف نصلي

لكي نتعلم الصلاة علينا أن نصلي ونصلي كثيراً ومن دون ملل. فمن غير الممكن أن يصبح الإنسان "رجل صلاة" بين ليلة وضحاها. لأن إتقان الصلاة ليس بالأمر السهل. بل هو يتطلب ترويض كامل للنفس لتصبح طيّعة بين يدي الله، أي أن تصبح بكلّيتها "نَعَم" له. هذه "النَعَم" التي هي أسمى تعبير عن الصلاة إذ أنها فعل حرّية خاضعة بلا قيد ولا شرط لمشيئة الآب. كما وأنها تعبير عن الصلاة الحقيقية التي لا تقوم في ذاتها على صنع شيء بل على الإستسلام لما يصنعه الله دائماً. إن "النَعَم" لفظة صغيرة لكنها تقتضي شجاعة كبيرة. يجب أن يكون للإنسان قناعة كاملة في كل مرة يتقدم فيها للصلاة من أن هناك دوماً من ينتظره. الله بأقانيمه الثلاثة، الآب والإبن والروح القدس. الآب للإستماع إلى ما نرفع إليه من صلوات، الإبن ليشاركنا في صلاتنا والمقصود بالمشاركة هنا أن صلاته تتحد بصلاتنا وتقويها، والروح القدس ليلهمنا ويقوينا. علينا أن نهيّء الجو لأنفسنا قبل المباشرة بالصلاة وذلك من أجل أن يبقى إيماننا يقظاً وتركيزنا موجّه إلى الله. والصلاة الأكثر كمالاً ليست تلك التي نشعر فيها بأننا قد حصلنا على الكثير أو تلك التي نخرج بها راضين عن ذواتنا. فالله وحده يعرف قيمة صلاتنا. من الضروري أن يكون عندنا القناعة المطلقة بأنه متى ذهبنا للصلاة، فهذا يكون لكي نعطي لا لكي نأخذ. كي نسلّم ذواتنا بكلّيتها لله.

وكما نلقي التحية عند لقاءنا بشخص نزوره، كذلك يجب علينا إلقاء التحية على أسرة الثالوث قبل المباشرة بلقائنا معها. وهذه التحية ما هي إلا إشارة الصليب:

– بإسم الآب : فتح فكري على فكر الله الآب (حركة اليد على الرأس).

– والإبن : توحيد مشاعري مع مشاعر يسوع الإبن الأزلي (حركة اليد على الصدر).

– والروح القدس: الطلب من الروح أن يحيطني ويحميني (حركة اليد على الكتفين).

إذاً نحن هنا في لقاء. واللقاء يعني حوار يقوم به الطرفان، الإنسان من جهة والله بأقانيمه الثلاثة من جهة ثانية. ونشدد هنا على كلمة "الطرفان"، أي أن صلاتنا بقدر ما هي كلام هي صمت أيضاً، نستمع خلاله إلى صوت الله الذي يريد هو بدوره أن يكلمنا أيضاً. يجب أن لا نصاب بخيبة إذا لم نسمع صوت الله بشكل محسوس، فصوته يمكن أن يكون من خلال فكرة ما أو كلمة ما تطرأ على خاطرنا. فتكون تلك الفكرة منطلقاً للتأمل. فالصلاة هي أيضاً تأمل.

 

من أسباب عدم سماعنا لصوت الله بداخلنا:

 عدم الإصغاء.

 عدم رغبتنا في سماع صوته.

 عدم إنتباهنا.

 الخوف من أن تكون إرادته غير مطابقة لإرادتنا، فنتغاضى عن سماع هذا الصوت.

إن التوقف والتعرف على الله عبر الصمت والإصغاء، يمر بمرحلتين:

 توقف الجسد عن حركته، أي إراحته كما نريحه في ساعات الليل.

توقف القلب. بمعنى أن يتخلى عن قناعاته ونزواته وقلقه، وأن يستسلم بشكل مطلق لله حتى يدع الصلاة تعمل فيه. إن أهم قلق هنا يمكن أن يتجسد في التخوف من عدم نجاح هذه التجربة (الصمت والإصغاء) بالذات. وهذه المرحلة هي الأخطر لأننا نُحارب فيها بالتشتت والبلبلة الفكرية.

الثالوث الأقدس صديق الصمت والسكينة، لأنه في الصمت تقاس النفوس. كتب أحدهم: "لا يعرف أحدنا الآخر جيداً إذا لم نجرؤ على أن نصمت معاً". ويقول باسكال: "في الحب الصمت أفضل من خطاب طويل". ألم يعطنا الرب أذنين إثنتين وفماً واحداً، لنستمع أكثر مما نتكلم ؟.

أن نكون حاضرين مع الله ومن أجله أهم من التكلم معه في أغلب الأحيان. لكن متى تكلمنا معه فلنبتعد عن الفلسفة والتصنع ولنستعمل كلماتنا اليومية عندما نعرض عليه مشاكلنا. لنحاول عدم التبرج عندما نريد اللقاء بالله. من ناحية ثانية ليس هناك من وصفات جاهزة للصلاة، فكل إنسان يصلي حسب حاجاته وتعبيراً عن مشاعره الداخلية. لكن تبقى المشكلة قائمة لدى الكثيرين من أن صلواتهم لا تلقى آذاناً صاغية. لكن هل فكّر أحد أن يعيد النظر ويتأمل بصلاته قبل أن يرفعها إلى الله. لا يظنن أحد بأن هناك صلاة غير مستجابة. ألم يؤكد لنا هو نفسه أنه يعطينا العطايا عندما نسأله ؟[26]، وأيضاً "إسألوا تعطوا أطلبوا تجدوا إقرعوا يفتح لكم"[27].

 

من ناحية أخرى ألا يشدد لنا الكتاب على المواظبة على الصلاة من دون تعب أو ملل:

 "وضرب لهم مثلاً في وجوب المداومة على الصلاة من غير ملل"[28].

 "إسهروا وصلّوا لئلا تقعوا في تجربة"[29].

 

 "مواظبين على الصلاة لكي تكونوا أهلاً للنجاة من جميع هذه الأمور التي ستحدث وللثبات لدى إبن الإنسان"[30].

 "واظبوا على الصلاة"[31].

 "صلّوا بلا إنقطاع"[32].

فإذا كان يسوع نفسه يحثّنا على الصلاة والطلب. فلا بد إذن وأن تكون كل صلاة مستجابة. وإن طريق الصلاة تنتهي إلى فسحة نيّرة وإتّحاد للنفس مع الخالق. لقد عبّر أيوب عن هذا عندما قال: "كنت قد سمعتك سماع الأذن، أمّا الآن فعيني قد رأتك"[33].

لا بل أكثر، هل يستطيع الرب أن يهرب منّا نحن البشر أبناؤه عندما نسعى جاهدين للوصول إليه والتعرف عليه[34] ؟.

لنعد الآن إلى السؤال المطروح، إذا كان لله رغبة أكيدة في الإستجابة لطلباتنا، فلماذا يظهر إذن وكأن طريق الصلاة دائماً مسدود ؟

إن السر في هذه القضية يكمن في معرفة كيفية الصلاة والطلب. فمقابل أنواع الصلاة التي ذُكِرَت آنفاً هناك نوع آخر وهو "صلاة المنفعة الشخصية". هذه الصلاة التي وكما يشير إسمها تهدف إلى تسخير الله وجعله كآلهة الأساطير القديمة، مهمّته تحقيق غاياتنا ومصالحنا ورغباتنا… ومع الأسف فإن هذا النوع من "الصلوات"، إذا إستطعنا تسميته هكذا، واسع الإنتشار بين البشر. فالصلاة هي مرآة تنعكس عليها حياتنا. والإنسان يصلي كما يعيش ويعيش كما يصلي. وبما أن غالبية البشر غارقة في مادية هذا العالم فإن صلاتها تأتي على هذا النحو من طلب ثروات ومناصب سلطة وإنتقام من أعداء… إن الله ليس ضد أن نطلب منه الخيرات الزمنية وإنما يريد أن تكون رغبتنا في الحصول عليها معتدلة[35]. وما يهمّه أكثر هو التركيز على طلب الملكوت وبرّه أولاً والباقي يزاد لنا[36].

دعونا الآن نسأله هو نفسه عن سبب هذا الصمت. أليس هو الطرف الآخر في الحوار والعلاقة؟ أليس هو الذي يبدو لنا صامتاً ؟ فلماذا إذن نجيب عنه بإفتراضات بشرية غالباً ما تكون خاطئة. فنظلم بها الله ونظلم أنفسنا !!!

إن إجابة الله لنا عن حيرتنا نجدها في مواضع عديدة في الكتاب المقدس، وإحدى أبرز تلك المواضع هو مثل المخلع الذي نجده في الأناجيل الإزائية الثلاثة:

– متى 9/1-8

– مرقس 2/1-12

– لوقا 5/17-21

يخبرنا الكتاب فيقول:

"ثم ركب يسوع القارب وعبر البحيرة راجعاً إلى بلدته كفرناحوم. فإنتشر الخبر أنه في البيت فإجتمع عدد كبير من الناس حتى لم يبق مكان لأحد ولا أمام الباب. فأخذ يلقي عليهم كلمة الله. وجاءه بعضهم بمشلول يحمله أربعة رجال. ولكنهم لم يقدروا أن يقتربوا إليه بسبب الزحام. فنقبوا السقف فوق المكان الذي كان يسوع فيه حتى كشفوه، ثم دلّوا الفراش الذي كان المشلول راقداً عليه. فلمّا رأى يسوع إيمانهم قال للمشلول: "يا بني غفرت لك خطاياك". وكان بين الجالسين بعض الكتبة فأخذوا يفكّرون في قلوبهم: "لماذا يتكلم هذا الرجل هكذا؟ من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده ؟" وفي الحال أدرك يسوع بروحه ما يفكرون فيه بقلوبهم، فسألهم: "لماذا تفكرون بهذا الأمر في قلوبكم ؟ أي الأمرين أسهل أن يقال للمشلول قد غفرت لك خطاياك أو أن يقال له: "قم إحمل فراشك وإمش ؟" ولكني قلت ذلك لتعلموا أن لإبن الإنسان على الأرض سلطة غفران الخطايا". ثم قال للمشلول: "لك أقول قم إحمل فراشك وإذهب إلى بيتك". فقام في الحال وحمل فراشه ومشى أمام الجميع، فذهلوا جميعاً وعظّموا الله قائلين: "ما رأينا مثل هذا قط" !.

إن موقف يسوع في هذا المثل هو نفس الموقف الذي نضعه فيه في كل مرّة نتوجه إليه بطلب ما. وكما تصرف يسوع إزاء المريض الذي أمامه هكذا يتصرف تجاه كل واحد منّا.

من الممكن تقسيم ردّة فعل يسوع أمام الطلب إلى:

– "رأى يسوع إيمانهم" (مرقس 2/5أ)

– "غفرت لك خطاياك" (مرقس 2/5ب)

– "قم إحمل فراشك وإذهب إلى بيتك" (مرقس 2/11)

من اللافت للنظر أن آية "رأى يسوع إيمانهم" ترد عند الإنجيليين الثلاثة، وكأنهم أرادوا التشديد على ضرورة وجود الإيمان الذي "يدفع" يسوع إلى الإستجابة. فبدون الإيمان الذي هو عنصر أساسي مرافق لصلاة الطلب، لا يستطيع يسوع فعل أي شيء لنا.

يقول القديس يعقوب:

"إن أراد أحد أن يصلي أو يسأل الله فليصلّ ويسأل بإيمان وثقة، أي بإقتناع ثابت أنه يستجاب له.لأنه إذا تردد أو إرتاب فلا يظن مثل هذا أنه ينال من الرب شيئاً"[37].

وهذا ما يؤكده لنا يسوع نفسه عندما سأل الأعميين الذين كانا يصرخان: "إرحمنا يا إبن داوود"، إذا كانا يؤمنان بأنه قادر على فتح أعينهما. وحين أجابا: "نعم يا سيّد"،حينئذ لمس أعينهما قائلاً: "ليكن لكما بحسب إيمانكما !". فإنفتحت أعينهما.

 

وفي مكان آخر يقول يسوع:

– "كل ما تسألونه في الصلاة آمنوا بأنكم تنالونه فيكون لكم"[38].

– "كل شيء ممكن للمؤمن"[39].

– "الحق أقول لكم إن من قال لهذا الجبل إنتقل وأهبط في البحر وهو لا يشك في قلبه بل يؤمن بأن ما يقوله يكون فإنه يكون له"[40].

إذاً الله يهب لنا نعمه على قدر الثقة والإيمان التي نطلبها بها.

إن الخطوة الثانية التي قام بها يسوع هي أنه توجه إلى أهم ما في ذلك الإنسان ونقصد هنا "النفس البشرية"، فحضّرها لتلقي نعمة الشفاء الجسدي بتطهيرها من خطاياها. تلك الخطايا التي غالباً ما تقف بيننا وبين حصولنا على الطلب. وهذه دعوة للتوبة.

بالنسبة للمخلع، فإنه يظهر في النص أنه كان:

 صامتاً، وكأنه يجب علينا أن نفهم صمته هذا بأنه:

– قد سلّم ذاته بكلّيتها ليسوع.

– لم يفرض على يسوع الطريقة التي أراد أن يشفى بها، بل هو مستعد لقبول أي عمل يراه يسوع مناسباً له.

– لم يُلق اللوم على الرب نتيجة لما هو مصاب به.

وبصمته هذا إستطاع أن يسمع إرادة الله، لا بل أن يلمسها. لقد كان المخلع صاحب قلب متواضع منكسر، وكما يقول الكتاب:

– "صلاة المتواضع تنفذ إلى الغيوم ولا تستقر حتى تصل ولا تنصرف حتى يفتقد العلي"[41].

– "القلب المنكسر المنسحق لا يرذله الله"[42].

– "فإني بائس مسكين وقلبي في داخلي جريح … السيد يهتم بي"[43].

– لا ننسى أيضاً بأن العشّار قد رجع إلى بيته مبرّراً لأنه كان يصلي بتواضع أمام باب هيكل الرب[44].

كم من أناس يصلّون بشفاههم ويخرسون بقلوبهم، وكم منهم يخرسون بشفاههم ويبتهلون بعاطفتهم. لذلك يستجاب لهؤلاء برغم أنهم صامتون وباطلاً يهتف أولئك[45].

ننتقل الآن إلى الرجال الأربعة الذين حملوا المخلع وقدّموه ليسوع. لقد تميّز هؤلاء:

 بالإيمان والثقة بأن يسوع قادر على أن يشفي مريضهم.

 الثبات وعدم الإستسلام أو التراجع أمام ما إعترضهم من صعاب (الآية4)

 المثابرة والسعي الحثيث للوصول إلى الهدف المنشود.

 الإنتظار والصبر بعد أن "دلّوا الفراش الذي كان المشلول راقداً عليه"[46].

إن إلحاح هؤلاء الرجال وسعيهم وراء طلبهم قد عاد عليهم بالنتائج المثمرة. فمثلهم مثل ذلك الرجل الذي جاء إلى صاحبه ليلاً يطلب منه أن يقرضه بعض الخبز، ولمّا ألحّ عليه بالسؤال نهض صاحب البيت من فراشه مستجيباً لرغبة السائل[47]. أو أيضاً كمثل ذلك القاضي الظالم الذي إستجاب لإلحاح الأرملة[48].

بعد هذا العرض السريع لبعض ما ورد في النص ويهمّنا في بحثنا، تتبين لنا مواصفات الصلاة الناجحة والتي تمكننا من الإجابة على سؤالنا المطروح:

 

هل صلّيت إلى الله طالباً منه ولم تستجاب صلاتك ؟

أولاً: على الإنسان في علاقته مع الله أن يكون لديه القناعة الثابتة بأنه يجهل الإلهيات تماماً كما يجهل أولاده البشريات أمامه. وبالتالي فهو لا يعرف ما هو مفيد فعلاً له، أنت مريض فلا تمل على الطبيب نوع العلاج الذي يريد أن يصفه لك. إن الله يستجيب دوماً لطلباتنا لكن على طريقته هو وليس على طريقتنا لا بل بشكل لا نجرؤ أن نرجوه. وهو متى إستجاب – ولو أتت تلك الإجابة متأخرة – فإنه يعطينا أضعاف ما نطلب وبشكل لا يمكن أن نتصوره. وهذا ما حصل مع زكريا الشيخ وإمرأته "المتقدمة في أيّامها"[49]، والتي كانت أيضاً "عاقراً"[50]. لقد تمنّيا أن يرزقا بإبن فكان أن أعطاهما الله إبن وصفه يسوع بأنه "أفضل من نبي"[51] و"أعظم مواليد النساء"[52].

ما يميّز زكريا وزوجته أنهما كانا مثابرين على الصلاة والطلب من غير تذمر والأهم أنهما لم يلقيا اللوم على الله، بل كانا "كلاهما بارّين أمامه سالكين في جميع وصاياه وأحكامه بلا لوم"[53] كما يقول الكتاب. يمكن أن نتعلم هنا من زكريا الثبات في الطلب والإيمان في الحصول عليه والثقة في الله. ولكن نتعلم منه أيضاً عدم الشك في طريقة الحصول على الطلب "كيف أعلم هذا لأني شيخ وإمرأتي متقدمة في ايّامها"[54].

ثانياً: الحذر الشديد من أن يكون مطلبنا مشابهاً لما طلب إبليس المجرّب من يسوع في البرّية. وإلا تحوّل طلبنا إلى تجربة والكتاب يحذّرنا من أن نجرّب الرب إلهنا[55].

 

إن الخطوات الواجب إتّخاذها هنا هي محاولة معرفة رأي يسوع في الطلب الذي نعرضه عليه. هل هو موافق لمشيئته أم لا ؟ أي محاولة إقامة علاقة حيّة معه. والحصول على الجواب يكون من مصدرين:

 إمّا الكتاب المقدس.

 وإمّا صلاتنا ذاتها: حين تصبح مطابقة لصلاة يسوع ومتوجة بفعل التسليم الكلّي لله: "إن شئت

أن تجيز عني هذه الكأس لكن كإرادتي، بل كإرادتك"[56]. وأيضاً "هذه هي الثقة التي لنا عنده، إنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا".[57] أو أيضاً كمثل صلاة ذلك الأبرص الذي تقدم من يسوع قائلاً: "يا سيد إن شئت فأنت قادر على أن تطهرني"[58].

إن الصلاة الحقيقية هي التي يصغي فيها الإنسان إلى الله لكي يعرف إرادته. هي خروج من ذواتنا لأن الخطر الحقيقي يكمن في أن تصبح صلاتنا موجهة لذواتنا وليس إلى الله. حتى نتعلم هذه الصلاة علينا بالسعي وراء معرفة المسيح الذي سوف نجده بدون أدنى شك في الكتاب المقدس، فهو أشد تلهفاً إلى تعريفنا عن ذاته، منّا نحن في التعرف عليه.

ثالثاً: الإنتباه إلى حضور الشيطان الدائم والذي يصبح ناشطاً جداً متى رآنا نحاول التقرب من الله. قيل قديماً: "إن الجرس الذي يدعو الرهبان إلى الصلاة ليلاً، لا يدعو هؤلاء فقط إنما يوقظ الشياطين أيضاً". إن هذا الإنتباه يجب أن يكون قبل الطلب حتى لا يتحول طلبنا تجربة للرب الإله، وبعد الحصول على الطلب حتى لا نقع في خطيئة الغرور والكبرياء، بإعتقادنا أنه لو لم نكن أبرار و"مُفْضِلين" على الله بسلوكنا، لما كنّا حصلنا على ما نريد.

لهذا لا نعتبر عظيماً تحقيق الرب لإرادتنا، لأن الشياطين نفسها إستجيب طلبها لما دخلت قطيع الخنازير. وإبليس إستجيب ليجرب أيوب تكريماً لهذا الأخير وخزياً للأول.

رابعاً: إن الله "يرتب" طلبنا حتى يصبح مفيداً لنا وينمّينا في الحياة الروحية من أجل التقرب منه. إن طلب أي شيء يعقبه تحضير من الله. بتعبير آخر، إن الله يمتحن إيمان السائل ومدى رغبته في الحصول على ما يريد. إن هذا التحضير يقوم على إزالة العوائق الأساسية بين الإنسان وما يطلب الحصول عليه:

– عدم التوبة[59]. أي التقدم من الله بقلب ليس فيه أسف على ما إقترف من ذنوب.

– عدم العزم على إصلاح الذات وصيانة القلب. فمن القلب تخرج الأفكار التي تدنس الإنسان.

– عدم السعي لإرضاء الله.

وغير هذه الأمور التي يمكن أن تشكل غمام قائم بيننا وبين الله[60].

 

ولكن يجب الإنتباه إلى أن هناك حالات معكوسة، أي أن يحصل السائل على ما يشاء، مع وعد منه لله بالسعي في الحياة الروحية !! وهنا لا نتكلم عن شَرطية ما وإنما عن ظروف معيّنة يمكن أن تكون:

– إمّا حالة وعي من قبل السائل لبعده عن الله وعن حاجته الماسة له (شفاء من مرض خطير ومميت…).

– حصول بعض الأشخاص على نعم غير مستحقّة بسبب صلوات شفاعة أقيمت لهم. وبكل بساطة لأن الله أراد ذلك …! فيحصل الوعي وتكون بداية المسيرة.

على الرغم من أن الله قادر وبكلمة منه على جعلنا مستعدين لقبول عطاياه[61]، إلا أنه يرغب وبشدة أن نأتي إليه بحريّة وبقرار واعٍ منّا[62] لهذا فهو يعمل وبمساعدة منّا على تحويل شخصيّتنا تحويلاً عميقاً وبناءها بناءً كاملاً وعلى أساس متين.

يختلف الوضع بين المخلع وبيننا اليوم، فحضور يسوع أمامه كان له الأثر العميق والفعّال. وأما نحن اليوم فإذا لم نؤمن بحضور يسوع الدائم وعمله في حياتنا، لا بل إذا لم نلمس هذا الحضور من الممكن أن نقع في خطر الغرور بأن يصبح لنا إعتبارات لفضائلنا.

إن عملية تحويل الشخصية يتطلب وقتاً يمكن أن يطول أو يقصر على حسب إستعداد النفس للتقرب من الخالق وعلى قدر ما يعمل صاحبها من أجلها. فإمّا أن يسعى مع الله لتنقيتها وإمّا أن يتجاهلها. من هنا يبرز دور الإنسان ومدى صبره وتحمّله وإلتزامه.

وبما أن تركيز الإنسان ومحور تفكيره يكون موجّهاً إلى نيل الطلب، فإنه لا ينتبه إلى التحولات التي تبدأ تطال كيانه. فيفسّر التأخير في حصوله على مطلبه إلى أن الله لم ولن يستجيب له. فتبرد حماسته وتفتر إلى أن تتلاشى صلاته شيئاً فشيئاً حتى تتوقف. وبهذا يتعطل عمل الله ويبقى معلّقاً على مستوى إرساء الأساسات المتينة للنفس. ويفقد السائل ثقته بالله.

يقول القديس أغسطينس: "إن الصلاة المرفوعة على أجنحة هذه الفضائل:

+ التواضع + الغفران + المحبة

+ السخاء + الصوم + الإبتعاد عن الإنتقام والشر

+ الصدقة + التمرس في الخير + المسامحة

تطير بسرعة إلى السماء". يمكن أن نزيد المثابرة، الإيمان، الثبات، الثقة والغرض الصالح.

إذا عرفت كيف تصلي وكيف تطلب، صلِّ ما إستطعت وبشوق كبير لتنال مبتغاك". لتكن صلاتنا حارّة ونفسنا شديدة الرغبة في أن تستجاب صلاتها. يقول الكتاب المقدس: "أتيت أنا (ملاك الرب) لأخبرك (أي لدانيال) لأنك رجل راغب"[63].

نختم هذا القسم بأنه إذا صلّينا كعابر سبيل ورمنا إستجابة طلبنا في الحال نكون:

– قللنا من إحترام الله خالق الكون وموجد الأشياء.

– فرضنا على الله الواهب الوقت والطريقة التي يعطينا بها ما نريد في الوقت الذي يعود فيه الحق له وحده في تقرير ما يراه هو مناسباً.

– قد غابت عنّا قيمة تلك العطايا.

– نسينا أن مواظبتنا على الصلاة والتي تبقينا متّحدين مع الله أهم من الحصول على الطلب نفسه، لا بل أنفع لنا.

– أصبحت علاقتنا مع الله مبنية على الأخذ فقط.

ويكون أن الله بتأخره عن منحنا مواهبه:

– يجعلنا نقدر عطاياه.

– يعوّدنا على الصلاة التي بدونها لا نستطيع أن نخلص، لأنها العلاقة مع الآب والتي تغذّينا روحياً. هي سلاحنا الروحي وقت التجارب والضيقات، والتي بها نصل إلى الله ومن خلالها نحصل على النعم الإلهية. هي الوسيلة التي تحفظ فينا الرجاء والإيمان والمحبة.

– يساعدنا لأن ننمو وننضج روحياً. فنتقرب منه ونتّحد به ونعي بالتالي ما هو مفيد لنا أكثر فنطلبه.

أخيراً إذا أردنا أن نصلي، يجب أن نختلي في هيكلنا الداخلي ونناجي الله وحده بعيدين عن كل فكر عالمي فإنه في هذه الخلوة يُسرّ ويستجيب الطلبات. فلنتأمل المسيح كيف كان ينسحب من زحمة العمل والجماهير المحيطة به طالباً العزلة للصلاة. كل هذا من أجل أن نعي بأن الصلاة هي التخلي عن كل شيء من أجل الله.

 

أين يكمن جوهر الصلاة

تكمن أهميّة أو جوهر الصلاة في أنها تقوي إيماننا وتجعل الله قائداً وموجّهاً لحياتنا، فتأخذ أعمالنا شكلها الكامل. إن الصلاة تغذّي الإيمان والإيمان بدوره يسبق المحبة ويغذّيها.

 توضيح:

غياب الإيمان المدعوم بالصلاة

الإيمان المدعوم بالصلاة

مصلحة شخصية

من إيماني

يأتي أي عمل خير نابعاً من

العادة

يكون أي عمل أقوم به نابعاً

من حبّي لله

وهذا عمل الملحد الذي يبقى ناقصاً إلى أن يتلاشى. يكمن الخطر هنا بأن أصبح أنا القائد على حياتي والمرجع في تحديد الخير والشر، الذي سوف يبنى من دون شك على مصالحي الشخصية (وهذه خطيئة آدم وحوّاء).

وهذا عمل المؤمن الذي يرى الله في كلّ شخص يساعده. هنا يأخذ أي عمل يقوم به شكله ومعناه الكامل.

الصلاة تؤهلنا وتقودنا لأن نرى العالم كما يراه الله. ولكي تكتمل صلاتنا يجب علينا تغذية إيماننا بها وبالقراءات الروحية وخاصة الكتاب المقدس. هذا الإيمان الذي يجب أن يظهر طيلة النهار من خلال أعمالي التي أقوم بها، وإلا فلا أتعجب إذا ما وجدت إيماني جامداً وقت الصلاة.

بوسعنا أن نتخيّل حياة مسيحية كاملة من دون أيّة أعمال تقوية، ولكن من غير الممكن أن نتخيّل هذه الحياة من دون صلاة كثيرة. إن الممارسات التقوية ليست سوى وسيلة مساعدة لتحريك مشاعر الصلاة فينا. لذا فمن المهم جداً أن لا نحكم على أنفسنا و على الآخرين من خلال ممارساتهم وأعمالهم التقوية.

ورد في كتاب "أمسيات خمس عن الصلاة الوجدانية"، أن هناك فئات ثلاثة تؤمن بأن جوهر الصلاة يكمن:

الفئة الأولى: تعتقد أن المطلوب خلال المناجاة هو الإصغاء إلى الله إصغاء لا يضعف. غير أنها لا تتوصل سوى إلى لحظات وجيزة من الإنتباه. أمّا خلال ما تبقى من الوقت فتتقاذفها أفكار وأحاسيس وتخيّلات وإنفعالات مختلفة، بعيارة أخرى تصاب بالشرود.

يمكن القول بأن هذه الفئة على خطأ لأن قيمة الصلاة لا تقاس بثبات الإنتباه.

الفئة الثانية: تعتقد أن المطلوب هو البحث عن أفكار جميلة وعميقة عن الله وتنميتها.

الفئة الثالثة: تتعذب إن لم تخالجها إنفعالات مثل: إحساس بوجود الله يرافقه سلام وفرح وورع في الحب وإندفاع.

هناك فرق كبير بين الذي يذهب إلى مأدبة من أجل المأدبة والذي يذهب إليها من أجل الحبيب. إن البحث عن الإنفعالات والأحاسيس يجعلنا ننحرف عن مسار الصلاة. وما هذه الإنفعالات سوى نعمة مرافقة يعطينا الله إيّاها متى شاء أثناء صلاتنا. من هنا فالإنسان المتجرد الذي يأتي إلى الله من أجل الله ذاته وليس من أجل مصلحته الخاصة، هو الذي يجد كل شيء. من أتى ليأخذ لن يجد سوى الفراغ. لن يجد سوى ذلك الذي يضم مشيئته إلى مشيئة الله".

إذاً يجب علينا الإنتباه من ربط نجاح صلواتنا:

– بالخشوع

– بالأفكار الجميلة وبالنتائج الملموسة

– بالجسد وحركاته[64]

– بالكلام[65]وبرقة الإحساس وحرارة النفس[66]

– بالتأمل العقلي[67]

– بالتنبه إلى حضور الله[68]

على الرغم من أن هذه العناصر مهمة أثناء الصلاة إلا أنها ليست الأساس، لأنه إذا غاب أحدها وقعنا في فخ الإعتقاد بأن صلاتنا غير ناجحة أو غير صالحة وبالتالي غير مستجابة. ولكن إذا أدركنا تماماً ما يشكّل جوهر الصلاة لن يعود يخيفنا ما نسمعه من "هجوم التشتتات".

من ناحية أخرى يجب أن لا نثق دوماً بأحاسيسنا وإلا أخطأنا. والمقصود هنا أن أغلبية من هجروا الصلاة إنما فعلوا هذا لأنهم "أحسوا" أن إستمرارهم بالصلاة لن يفيدهم بشيء. فرأوا أن الأجدر بهم المضي إلى أعمال أكثر منفعة بنظرهم.

يكمن جوهر الصلاة في الإرادة والإستعداد الكياني العميق لإتّخاذ إتّجاه حر نحو الإتحاد بالله والمحافظة على هذا الإتّجاه مهما واجهنا من صعاب. هي إستعدادنا للإلتزام والإستسلام له بحرّية وقصد ثابت. عندئذ تكون صلاتنا حقيقية وإن بقي ما ذكر من نقاط مخالفاً لما نتمنى فهذه لا تؤثر على عمل إرادتنا.

إن إرادة الصلاة هي الصلاة. فإذا ما جرفتنا التشتتات وعدنا إلى نفسنا ووجدناها متّجهة نحو الله وراغبة في إرضائه يكون معناه أن لا شيء قد تحرّك فينا.

التشتتات:

ما إن نتكلم عن الصلاة حتى يتبادر إلى ذهننا ما يرافقها من تشتتات غالباً ما يستسلم لها معظم الذين يصلّون فتكون سبباً في إبتعادهم عن الصلاة.

يعتبر الشرود أو التشتتات من المشاكل الأساسية التي تعترضنا أثناء الصلاة. والسبب الأساسي لحصول تلك التشتتات هو أن الإنسان ضعيف. يمكن توضيح المسألة على الشكل التالي:

صلاة متكررة + شرود = ملل + جفاف روحي ويبوسة ==> ترك الصلاة + إقتناع بالنتيجة.

ما إن يبدأ الإنسان بالصلاة حتى يدخل في صراع روحي بين الرغبة الشديدة والإرادة في التوقف عن الصلاة والمتمثلة في الشرود، وهذا عائد إلى كون الإنسان مخلوق ضعيف. وبين رغبة وإرادة الله في أن يكمل هذا الإنسان الصلاة من أجل إقامة علاقة معه من خلال صلاته. فإن توقف هذا الإنسان عن الصلاة فهذا يعني أن إرادته المتمثلة في الشرود قد تغلّبت عليه وعلى إرادة الله. إن الشرود ليس خطأ بحد ذاته وإنما الخطأ هو خضوعنا له. إذاً أمام كل شخص يصلي خيارين:

– إمّا المثابرة والإتّكال على الصلاة (وهنا لابد وأن يزول الشرود رويداً رويداً. ولكل إنسان فترته التي تختلف عن الآخر. ولكن مهما طالت تلك الفترة يجب عليه أن يكمل وأن لا يفقد الأمل). وهذه حالة المصمم على مقاومة النقص الذي فيه والسعي إلى تخطي حواجز ذاته. فيكون كالماء الجاري الذي يسعى إلى الإتّحاد بالبحر العظيم.

– وإمّا التغاضي عن النواقص. وهنا المشكلة الكبرى. فهو قد رأى نواقصه ولكنه لم يعالجها ولم يقاومها بل إنجرف وراء شروده ورضي بحاله. فأصبح كالماء الراقد الذي لا يلبث أن يتحول إلى مستنقع تتجمّع فيه جميع أنواع الحشرات والأوساخ.

قيل: "من يغتم لأن فكره تشتت خلال الصلاة، إنما يستسلم لنوع آخر من التشتت".

ليكن لنا إيمان قوي بأن نية ممارسة الصلاة ثابتة بينما الإنتباه أثناء الصلاة يمكن أن يضيع من وقت لآخر. من الوسائل التي تساعد على إزالة التشتت:

– الإتّكال على النعمة الإلهية أكثر من إتّكالنا على جهودنا الخاصّة والذاتية.

– من الممكن تحويل موضوع شرودنا ذاته إلى موضوع تأمل فالصلاة هي أيضاً تأمل.

– محاولة إعادة إنتباهنا بهدوء وسكينة.

– الوعي الكامل بأن الله خالق الكون ومبدع الوجود حاضر أمامنا.

– إعادة التأكيد من وقت لآخر أثناء الصلاة، على النية التي أصلي من أجلها.

– من المستحسن تلاوة صلاة شفوية بهدوء وبصوت منخفض.

– عدم مباشرة الصلاة وسط ضباب فكري، أي عدم السماح لمشاكلنا بأن تسيطر على أفكارنا.

– إذا كان لديك شعور بأن الصمت الداخلي يقرّبك أكثر من الله ويقودك إلى إلتزام أعمق مما يؤتيه الكلام، فإختر الصمت دون تردد.

 

تقنيات الإستبطان الشرقية والصلاة

تمثّل الصلاة بالنسبة للكثيرين شكلاً من أشكال تقنيات الإستبطان، بإعتبار أنها تؤدي إلى راحة نفسية لدى المؤمن… بالنسبة لهؤلاء فإن الفوائد النفسية والروحية المستمدة منها ليست سوى حالات عصبية فزيولوجية يصل إليها المصلي في كل مرّة ينهي فيها صلاته. وهذا ما هو حاصل في تقنيات الإستبطان المختلفة[69]. فلا دخل إذن لله بأي شكل من الأشكال !

ويعتبر أصحاب هذه التقنيات الأسيوية أنها طرق سهلة وطبيعية تساعد على رفع نسبة الذكاء والصحّة من خلال تطوير الجهاز العصبي في الإنسان، وذلك بالتخلص من الضغوطات اليومية التي تقضي على النواحي المختلفة في شخصية الفرد.

لن نخوض في تحليل معمّق لإبراز الفرق بين الصلاة وتلك التقنيات القادمة من الشرق الأقصى وخصوصاً الهند، إنما سنكتفي بعرض بعض النقاط.

في الوقت الذي تعتبر فيه الصلاة توجّه للنفس صوب الخارج وتحديداً صوب الله خالقها. تقوم تقنيات الإستبطان على توجيه النفس نحو الداخل وبالتحديد صوب… وهنا لا يمكن لأحد أن يؤكد أو يجزم إلى أين !!! على الرغم من التأكيدات المختلفة في هذا المضمار. فمنهم من يقول صوب ما يعرف بـ "الوعي الصافي" وآخرون يقولون صوب "النيرفانا"[70] والتحرر من وهم الحياة المادية أو ما يُعرف بـ "المايا MAYA" إلى ما هنالك من طروحات…

 

رسم توضيحي:

 الله الله

 الصلاة وعي صافي

 النفس النفس نيرفانا

 … !!؟؟

وهنا يبرز لنا بشكل واضح أن الله يصبح بعيداً عن الإنسان وتصبح الأنا هي المحور. ولنا على هذا مثال رائع في الكتاب المقدس سفر التكوين وبالتحديد في رواية السقوط حيث سعى آدم وحوّاء إلى الأكل من شجرة معرفة الخير والشر وجعل نفسيهما المرجعية بإبعاد الله.

في الوقت الذي تعتبر فيه الصلاة حاجة فطرية في الإنسان، تعتبر تقنيات الإستبطان طرق وضعها الإنسان وألزم نفسه بها. ومقابل "المانترا"[71] التي يرددها المتأملون والوضعيات الجسدية المختلفة، ليس هناك من وصفات جاهزة في الصلاة، إنما الإنسان يعبّر لله عن وضعه وحاجته بكل بساطة. هناك مئات الشهادات التي لا يمكن إنكارها والتي تقدم بها الكثير من الأشخاص الذين خرجوا بإنطباعات سيئة ومشاكل عصبية ونفسية وإضطرابات روحية ناتجة عن تلك الممارسات.

إن الصلاة هي في الأساس بحث عن الله الذي بدوره ينتظرنا. بينما تقنيات الإستبطان هي إنزواء داخلي وإرتداد على الذات وإبتعاد عن العالم الخارجي الذي يصبح موضع شفقة بالنسبة للمتأمل.

لا بل هي تخلّي عن العالم الداخلي الخاص للفرد من خلال التخلي عن كل رغبة وإحساس، هي قضاء بطيء على "الأنا". والخطر الأساسي أن لا أحد يعرف أسرار النفس وخفاياها معرفة تامة وكاملة حتى يعي ما يسلكه من مسالكها الخفية. فتصبح تلك التقنيات كسقوط في منحدرات داخلية خفيّة وغامضة على الوعي. إن الذي يبحث عن الله في الصلاة سوف يجده بالتأكيد لأنه أكّد لنا بنفسه: "إن أحبّني أحد حفظ وصاياي وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا"[72]. بينما الذي يهيم وحيداً في أعماق نفسه ومتاهاته الداخلية فهو يجازف مجازفة كبرى لأنه قد يصبح سجين نفسه وهل من جحيم أقسى من هذا. إن ما يخيف بالأكثر في تلك الممارسات هو أنها تدعو الإنسان إلى الإتّكال على قواه الذاتية للخلاص والوصول إلى الله وبالتالي الألوهة. وهنا نعود مرّة أخرى لقصة آدم وحوّاء الذين سعيا إلى معرفة الخير والشر بقواهما الذاتية وبدعوة من الشيطان.

فلنفتّش اليوم عمّن هو وراء دعوتنا لممارسة تلك التأملات الشرقية!!.

الصلاة تعمل ببطء على بناء الشخصية وإصلاح الإنسان وسدّ نواقصه حتى يصبح أهلاً للإتّحاد بالله ولكن مع الحفاظ على شخصيته، بينما التقنيات تعمل على ستر النواقص مع الإبقاء عليها ووعد النفس بالذوبان في الكل، أي قضاء كامل على الشخصية والكيان…

كانت هذه لمحة سريعة جداّ عن الفرق بين تقنيات التأمل والإستبطان والصلاة.

 

ملحق في عمل الصلاة:

للصلاة قوة وفعالية كبيرة، خصوصاً إن ترافقت مع الصوم. هي تكشف للانسان مدى ضعفه. هي تعويد للانسان على الاستسلام لله والموت ذاته.

كيف تعمل الصلاة؟

إن العائق بين الانسان ومطالبه التي يطلبها من الله، هي نواياه. فمتى أراد الانسان أي شيء من الرب عمل الله على ازالة العقبات، وتنقية نوايا الانسان التي تحول بينه وبين مطلبه. وهنا يبرز دور الانسان ومدى صبره وتحمله والتزامه، فكلما كانت هذه النوايا تشكل عائقاً كبيراً، كلما إستلزم الوقت لتنقيتها لأن الله لا يعمل كساحر أبداً، ولكن لسوء الحظ، في هذه الحالة يعتقد الانسان بأن لا لم ولن يستجيب لمطلبه، فيوقف الصلاة، وبهذا يتعطل كل شيء، وتبدأ الثقة بالله بالتلاشي …

عند الصلاة تبدأ نواياي بالظهور (أي ضعفي ونقصي)، وهنا إما أن أسعى مع الله لتنقيتها وإما أن أسترها. ( يمكن تشبيه الوضع بكأس ماء ألقيت بداخله حبة "فوّار"، فبدأ الماء بالفوران والخروج من الكأس، و الإنسان في هذه الحالة هو كأس الماء، حبة الفوار هي الصلاة، التي ما إن أبدأ بها حتى تلقي كل ما هو بداخلي من ضعف وخطأ ونوايا باطلة إلى الخارج هنا تبدأ طريق التوبة والعودة الى الله وتبدأ معها محاربة الشيطان الذي يعمل جاهداً لردع ذلك الإنسان عن المضي في طريق الخلاص.

والكلمة الأخيرة هنا هي للإنسان وليس لله أو للشيطان. فالله يغذي نار النعمة في قلب الإنسان على قدر ما يطلب هذا الأخيروالشيطان بدوره يحاول أن يطفىء نار النعمةفي الإنسان وذلك عبر وسيلتان أساسيتان:

 إذا كان الشخص كثير الخطايا المميتة، فإنه – أي الشيطان – يحاول إيقاعه في اليأس وفقدان الرجاء برحمة الله : " إن خطاياك أعظم من رحمة الله، لذلك فإنك لن تنال عليها مغفرة"

– جواب: " إن كانت خطاياكم كالقرمز فأنا أبيضها كالثلج" وأيضاً " تعالوا الي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم"

. إ ذا كان الشخص بعيد عن الرب وصاحب خطايا لا بأس بها .

 

————————

[1] واقعي هنا بالمعنى السلبي

[2] والفشل يعود لأسباب عديدة سوف نتناولها في هذا البحث

[3] "ليس أحد يستطيع أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس" (1 قورنتس 12/3)

[4] "إسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا، إقرعوا يفتح لكم" (متى 7/7)

[5] "تكلم يا رب فإن عبدك يسمع" (1 صموئيل 3/10)

[6] "أشكروا في كل شيء" (1تسالونيكي 5/18)

[7] إتّخاذ قرار حاسم، إنتقال من مرحلة إلى مرحلة …

[8] لوقا 23/46

[9] مغفرة خطايا، شفاء، رد عن طريق الضلال، من أجل الأنفس المطهرية …

[10] نجد هذا النوع من الصلاة في الكتاب المقدس:

+ "توسلا (بطرس ويوحنا) أنتما إلى الرب من أجلي لئلا يصيبني شيء مما ذكرتما" (أعمال 8/24)

+ "كنت أنا أرفع صلاتك إلى الرب (الملاك رفائيل لطوبيا)" (طوبيا 12/12)

5 مزمور 22

[12] "قم أيها السيّد لماذا تنام ؟" (مزمور 44)

[13] على مثال والد الإبن الشاطر

[14] قال الله لإيليا: "أخرج وقف على الجبل أمام الرب. وإذا بالرب عابر وريح شديدة وعظيمة قد شقّت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة ولم يكن الرب في الزلزلة. وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت منخفض خفيف. فلمّا سمع إيليا لف وجهه بردائه وخرج ووقف في باب المغارة …" (1 ملوك 19/11-13)

[15] متى 18/6، لوقا 17/2

[16] يعقوب 4/3

[17] لوقا 23/46

[18] الرسالة إلى أهل أفسس 1/20

[19] متى 20/32 (راجع أيضاً: مرقس 10/51 ولوقا 18/41)

[20] يقول جان جاك روسو: "إنكم تقولون: أي خير في هذا الطلب الموجه إلى الله؟ أما يعرف جميع إحتياجاتنا؟ وأنا أجيب إن أهم إحتياج فينا هو أن نشعر بإحتياجاتنا. والخطوة الأولى للخروج من شقائنا هي معرفته. لنكن متواضعين فنصبح حكماء. ولنعرف ضعفنا لنصبح أقوياء".

[21] متى 17/20 ولوقا 17/6 ويوحنا 11/40

[22] مثل أن نقول بأن الله عادل بشكل مطلق ورحوم بشكل مطلق …

[23] لوقا 11/9

[24] Somme Theologique

[25] 9emelettre à une princesse d’allemagne

[26] متى 7/11

[27] لوقا 11/5و9

[28] لوقا 18/1

[29] مرقس 14/38

[30] لوقا 21/36

[31] أعمال 1/14

[32] 1 تسالونيكي 5/17

[33] أيوب 42/5

[34] سُئل أحدهم: "لماذا تريد أن تتعلم الصلاة ؟" فأجاب: "أريد أن أتعلم الصلاة لأني أريد أن أجد الله"

[35] ألم يعلّمنا يسوع أن نطلب خبزنا كفاف يومنا في الصلاة الربية ؟

[36] متى 6/33

[37] يعقوب 1/6-7

[38] مرقس 11/24

[39] مرقس 9/22

[40] مرقس 11/23

[41] سيراخ 35/21

[42] مزمور 50/19

[43] مزمور 37و 39

[44] لوقا 18/13-14

[45] القديس أوغسطينس

[46] لا ننسى أنه مرّ بعض الوقت ما بين تقدمة المخلع وإجراء المعجزة.

[47] لوقا 11/5+

[48] لوقا 18/1+

[49] لوقا 1/18

[50] لوقا 1/7

[51] متى 11/9

[52] متى 11/11

[53] لوقا 1/6

[54] لوقا 1/18

[55] متى 4/7

[56] لوقا 22/44

[57] 1 يوحنا 5/14

[58] متى 8/2

[59] لقد غفر يسوع للمخلع قبل أن يشفيه

[60] مراثي إرميا 3/44

[61] ألم يغفر للمخلع خطاياه بكلمة ؟

[62] على مثال الإبن الضال

[63] دانيال 9/23

[64] وإلا أصبح المخلع لا يحسن الصلاة !

[65] لأن هذا غير كاف كما في العلاقات البشرية

[66] إذ إن أمراً طفيفاً كاف ليبلبل هذا الإحساس وهذه الحرارة

[67] مع أن هذا الجانب مهم. وإلا أصبحت الصلاة الفعّالة بيد رجال الفكر

[68] وإلا فقدنا الشجاعة بسبب هجوم التشتتات وعدم تمكننا من تثبيت فكرنا وإنتباهنا إلى هذا الحضور

[69] التأمل التجاوزي، اليوغا …2 نقطة الذوبان في الكل …!!

[71] نبرة صوتية، أو كلمة معيّنة ثبت أنها واحدة من أسماء آلهة الهندوس

[72] يو 14/23