رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني ‘مسبحة العذراء مريم’

الفصل الأول : “التأمّل بالمسيح مع مريم” 

يشكّل حدث التجلي الأيقونة المثلى للتأمّل المسيحي بوجه المسيح (متّى 17/2) الذي يدخلنا في عمق حياة الثالوث الأقدس. ومريم هي النموذج الأول لهذا التأمّل عبر مرافقتها ليسوع في مختلف أحداث طفولته مروراً بعرس قانا فالآلام فدخوله بالمجد. ومن خلال المسبحة، تدعونا مريم لإعادة “تذكّر” أسرار حياة المسيح والتأمل بها الذي يحررنا بقوّة الخلاص.

ودون التأمل، تغدو المسبحة تلاوة رتيبة و”ميكانيكيّة” حسب بولس السادس، تشبه كثرة الكلام لدى الوثنيين الذي حذّر منه المسيح (متّى 6/7). وأفضل الطرق هي التلاوة الهادئة ضمن وقت كافٍ للدخول في عمق سرّ حياة المسيح عبر قلب من كانت أقرب الناس إليه.

التذكّر هنا يأتي بالمعنى البيبلي أي أنه تأوين لأحداث الخلاص، الذي وإن وجد أعلى أشكاله في الإفخارستيّا، فإنّه لا ينحصر فيها لوحدها، وبهذا المعنى تشكّل المسبحة تأمّلاً خلاصيّاً في سرّ المسيح في مدرسة مريم، الذي ينبغي أن يوصلنا إلى التشبّه بالمسيح في حياتنا. ويشبّه الطوباوي بارتولو لونغو هذه الصلاة بلقاء صداقة مع المسيح والعذراء يجعلنا نكتسب مرّة بعد مرّة صفاتهما وخصالهما.

بهذا تلدنا مريم كأبناء جدد للمسيح وهي تشكّل الأيقونة الكاملة لأمومة الكنيسة.

والمسبحة هي أيضاً صلاة ترجّي من خلال
1-    عماد المسيح في الأردن.

2-    إعتلانه في قانا الجليل.

3-    إعلان ملكوت الله والدعوة إلى التوبة.

4-    التجلّي

5-    تأسيس الإفخارستيا.
شفاعة مريم التي ” تحمل صلوات الكنيسة بصلاتها”.

وأخيراً، هي صلاة توصلنا بعد التعمّق في سرّ المسيح إلى إعلانه نظراً لما لتركيبتها من بعد تعليميّ.

 

الفصل الثاني :”أسرار المسيح – أسرار مريم”  

تشكّل صلاة المسبحة “مختصراً للإنجيل” من خلال مختلف مراحلها، ولتدعيم طابعها الخريستولوجي يقترح البابا إضافة مجموعة رابعة إلى أسرار الفرح والحزن والمجد، وهي “أسرار النور” أي أسرار حياة المسيح العلنيّة بين المعموديّة والآلام. ويتأمّل البابا بالمجموعات الأربعة ولكننا سنتوقّف فقط على “أسرار النور” وهي خمسة :

 

كلّ من هذه الأسرار هو إعلان للملكوت الذي أصبح حاضراً في شخص المسيح، نور العالم، هذا النور الذي ظهر بشكل خاص من خلال حياته العلنيّة.

هذا الطريق المريمي لا يشمل كلّ الإنجيل؛ ولكنّه يستقي منه كما النبع ويشكّل حافزاً للتعمّق في قراءته والتأمّل به، في جوّ من الإيمان والصلاة والصمت على مثال مريم.

وبالأكثر، تدخلنا هذه الصلاة إلى عمق النفس الإنسانيّة من خلال الدخول في أجواء عائلة الناصرة، التي تذكّرنا بأهميّة العائلة في مخطط الله الخلاصي وتوضح لنا معنى الألم الخلاصي وتظهر لنا الهدف النهائي الذي هو الدخول في المجد.

 

الفصل الثالث :”حياتي هي المسيح” 

تستند تلاوة المسبحة على مبدأ التكرار الذي يسمح ب”هضم” أسرار المسيح، أي فهمها بالعمق. ويجعل الاكتفاء بالتلاوة السطحيّة من المسبحة صلاة “مملّة”. والواقع أن المسبحة هي كلام حبّ موجّه إلى الحبيب يعبّر كلّ مرّة عن معنى جديد، رغم استعمال نفس الكلمات.

وهي طريقة في عمقها إنسانيّة تعبّر عن مدى فهم المسيح للإنسانية عبر تجسّده. ونموذجها تكرار السؤال الموجّه إلى بطرس في قيصريّة فيليبس حيث السؤال المثلّث تعبير عن الديناميّة النفسيّة الخاصّة بالحبّ.

ومع روحانيّة الصمت، تشكّل المسبحة إحدى الوسائل الإنسانيّة للصلاة، التي تستوعب أبعاد الإنسان النفسية والعلائقيّة والروحيّة، وتوجّهها نحو الاتّحاد بالله.

 ذلك لا يمنعنا من تطوير هذه الطريقة لا سيّما عبر تفعيل عمقها التأملي الذي يجيب على حاجات زمننا حيث أخذ الكثيرون في التوجّه نحو طرق أخرى، فيها الكثير من العناصر الإيجابيّة والقريبة من المسيحيّة، غير أنّها تستند أحياناً على بعد إيديولوجي غير مقبول.

من هنا، يصبّ التطوير لصالح استثمار المفاعيل الرّوحيّة لهذه الصلاة بشكل أفضل :


1- إعلان السرّ : قد يساعد التأمّل في أيقونة تمثّل السرّ لدخول أعمق في التأمّل ضمن منطق سرّ التجسّد الذي أدخلنا في العلاقة مع الله. ولا ننسى أن المسبحة لا تحلّ محلّ القراءة الربيّة وإنما تساعد على التهيئة لها.


2- الإصغاء لكلام الله : قراءة مقطع مناسب للسرّ من الكتاب المقدّس والإصغاء إليه بروحانيّة أن الله هو المتكلّم. وفي بعض المناسبات, يمكن التعليق بشكلٍ بسيط على المقطع.


3- الصمت : يتغذى الإصغاء والتأمل من الصمت ويشجع البابا على برهة من الصمت تساعد على التعمق في محتوى ومعنى السرّ


4- الأبانا : كلّ ما سبق يرفع الروح إلى الآب الذي يوحدنا كإخوة في نفس الرّوح، حتى لو كانت التلاوة شخصيّة.


5-  السلام : لا تتناقض هذه التلاوة (عشر مرات) مع البعد الخريستولوجي لصلاة المسبحة. لا بل تظهره بصورة أوضح لكونها تعبّر عن البهجة لحصول التجسّد، التي تكمّل بهجة الله بمعجزة تجسّد ابنه من عذراء . ولا ننسى أن محور السلام المريمي هو اسم “يسوع المسيح”. ولتلاوة أكثر عمقاً يمكننا حسب بولس السادس إضافة كلمات مرتبطة بالسرّ الذي نتأمّل به.


6- المجد : المجد هي نقطة وصول التأمّل المسيحي والهدف الأخير له ويمكن تلاوتها ملحنّة لدى تلاوة المسبحة جماعياً.


7- الصلاة الختاميّة: يدعو البابا إلى تطوير هذه الصلاة لتصبح موجّهة لنيل ثمار التأمل الخاصّة بهذا السرّ.


8- المسبحة : تشكّل المسبحة الأداة التقليديّة لهذه الصلاة ولكنّها ليست مجرّد أداة بل لها بعد رمزي : فالمصلوب هو نقطة البداية والنهاية فيها وهي تربطنا بالله “كسلسلة” لطيفة، سلسلة البنوة لله كالمسيح خادم الله وكمريم أمة الله.


9- البداية والنهاية : في بعض المناطق تبدأ هذه الصلاة بالمزمور 69(70) وفي أماكن أخرى بالنؤمن لوضع إعلان الإيمان في أول الصلاة. وتختم عادة بالصلاة من أجل نوايا البابا وهذا يكسبها بعداً كنسيّاً.


10- أوقات صلاة المسبحة : قد تتلى كاملة كلّ يوم وقد تقسّم على أيّام الأسبوع ويقترح البابا نظراً لما ليوم السبت من بعد مريمي أن تتلى كالتالي : أسرار الفرح يومي الإثنين والسبت، أسرار الحزن يومي الثلاثاء والجمعة، أسرار المجد يومي الأربعاء والأحد وأسرار النور المستحدثة يوم الخميس. طبعاً مع ترك الحريّة للمؤمن في استحداث نظامه.

 

الخاتمة  

تهدف هذه الرّسالة لإظهار العمق اللاهوتي لهذه الصلاة الشعبيّة التي طالما أظهرت فعاليّتها. ويعيد البابا التشديد في نهايتها أنّها صلاة موجّهة طبيعيّاً نحو السلام لكونها موجّهة إلى المسيح الذي هو سلامنا (أف 2/14) ولما تولّده من روح المحبّة فتجعل الذين يتلونها صانعي سلام.

 وهي أيضاً صلاة من أجل العائلة، أي أنّها على نيّتها؛ وهي أيضا طريقة صلاة عائليّة بامتياز. ومن هنا ضرورة تشجيع العائلات على تخصيص وقت للصلاة ضمن العائلة، خاصّة المسبحة، التي تسمح لها بعيش جوّ عائلة الناصرة, فتضع أمامها حاجاتها ومشاريعها.

ويضيف البابا أنها صلاة تساعد الأطفال على النمو الرّوحي عبر مراحل حياة المسيح. ومع تحسين نوعية تلاوتها والإضافات الرمزيّة إليها، قد تشكّل المناخ الأفضل لجمع العائلات، لا سيّما إن أخذت بعين الاعتبار بعض أساليب رعاوية الأطفال والشباب التي تتناسب مع سنّهم وحماسهم.

ويختم معتبراً أن المسبحة هي كنزٌ يجدر بنا إعادة اكتشافه.

 

من إعداد الخوري نسيم قسطون