الكنائس الشرقية الكاثوليكية

الجزء الأول

 

تمهيد

أيها الحضور الكرام

يسعدني أن أحدثكم في هذا المساء عن تاريخ الكنيسة الشرقية. تتألف الكنيسة الشرقية من مجموعة كبيرة من الشعوب المسيحية التي كانت تسكن في الماضي الجانب الشرقي من الدولة الرومانية، وتقيم اليوم في بلاد اليونان وأوروبا الشرقية وجزء من أوروبا الوسطى وأرمينيا وفي البلاد العربية، سوريا ولبنان والعراق وفلسطين وشرق الأردن ومصر، وفي جزيرتَيْ كريت وقبرص والجزر المنتشرة في بحر إيجه.

وفي حديثي عن الكنيسة الشرقية أُلحّ إلحاحاً أوفى على الأحداث التي جرت في بلادنا، ولا سيما في مصر وسوريا ولبنان وفلسطين.

إن تاريخ الكنيسة الشرقية مليء بالأحداث الدينية، ولا يمكنني أن أتحدث عنها كلّها في حديث يدوم ساعة واحدة. فإني أكتفي بالأحداث الهامة التي لا يزال لها تأثيرها في حاضرنا اليوم.

إن تاريخ الكنيسة الشرقية يقسم إلى قسمين كبيرين، وهما تاريخ الألف الأول من حياة الكنيسة الشرقية،وتاريخ الألف الثاني من حياتها. وحديثي في هذا المساء يتناول أحداث الألف الأول.

في هذا القسم الأول من حياة الكنيسة الشرقية ثلاثة أحداث كبيرة هي: الاضطهادات التي دامت ثلاثة قرون من العام 64 ولغاية العام 313 – وجو السلام والحرية الذي عاشته الكنيسة والذي دام أيضاً ثلاثة قرون من العام 313 ولغاية العام 636 – والفتح العربي الإسلامي الذي جرى في العام 636.

 

أولاً – الاضطهادات التي تحملتها الكنيسة في الشرق

من العام 64 لغاية العام 313

 لن أتمادى في الحديث عن الاضطهادات التي شنّتها الدولة الرومانية الوثنية على المسيحية، وذلك لضيق الوقت، ولأنكم تعرفون الكثير عنها بسبب اطّلاعكم على حياة كبار الشهداء في بلادنا.

بدأت الاضطهادات في عهد نيرون الملك في العام 64، عندما أصدر مرسوماً ملكياً يمنع الناس من اعتناق الدين المسيحي تحت طائلة العذاب والموت، بعد الحريق الذي شبّ في روما، فألقى مسؤولية الحريق على المسيحيين. والاضطهاد الذي بدأ في روما، امتدّ إلى الأقاليم البعيدة، أي إلى آسيا الصغرى وسوريا ومصر وغيرها من البلاد الخاضعة للدولة الرومانية.

إن هذه الاضطهادات التي دامت ثلاثة قرون لم تكن متواصلة طوال هذه القرون الثلاثة بل كانت متقطّعة، تتخللها سنوات سلام وهدوء تنمو الكنيسة في أثنائها وتشتدّ. وكان الأباطرة الذين هم من أصل سوري أكثر الأباطرة تساهلاً مع المسيحيين. وقيل إن الإمبراطور فلبّس العربي كان مسيحياً في الخفاء.

ولم تكن الاضطهادات تتصف بالضعف ذاته والشدة نفسها. أما أنواع العقوبات فكانت كثيرة، منها النفي، وحرمان الحقوق المدنية، ومصادرة الأملاك، والتعذيب، والحرق بالنار، وإلقاء الشهداء إلى الوحوش في ملاعب المدن.

إننا لا نعرف عدد الشهداء بالضبط. وأشهرهم في بلادنا بطرس وبولس، وإغناطيوس أسقف إنطاكية الذي أُلقي إلى الوحوش في ملعب روما، والشهداء جاورجيوس وسرجيوس وباخوس وكان ثلاثتهم ضباطاً في الجيش.

أما أسباب الاضطهادات فكثيرة، من بينها رفض المسيحيين نيل مظاهر العبادات الوثنية كعبادة الإمبراطور وتقديم الذبائح للأوثان، وطمع الحكام في أملاك المسيحيين، وخوف الأباطرة من انهيار الحكم الوثني.

 

ثانياً – جوّ السلام والحرية الدينية الذي عاشته الكنيسة في الشرق

من العام 313 ولغاية العام 636

 في العام 313 أصدر الملك قسطنطين الكبير مرسوماً عُرف في التاريخ باسم "مرسوم ميلانو" أعطى فيه للناس الحرية الدينية. والكنيسة استفادت من هذا المرسوم فنَعِمت بالسلام ونمت وانتشرت في الشرق كله انتشاراً واسعاً.

في جوّ السلام والحرية الدينية اللذين عاشتهما الكنيسة الشرقية مدة ثلاثة قرون جرت الأحداث الكبرى التالية:

 

1. تأسيس عاصمة جديدة للدولة التي قامت في الشرق.

2. التعمّق في فهم الأسرار الإلهية الكبرى، وفي ألوهية السيد المسيح، وألوهية الروح القدس وشخصية السيد المسيح، وعقد المجامع المسكونية الأربعة الكبرى لرفض البِدع الناشئة.

3. تأسيس البطريركيات الخمس رسمياً.

4. ازدهار الحياة الرهبانية، والتعاليم اللاهوتية، والطقوس الكنسية.

 

وإليكم تفصيل هذه الأحداث الأربعة الكبرى:

1- تأسيس عاصمة جديدة للدولة الرومانية قامت في الشرق

كان قسطنطين الملك ميّالاً إلى المسيحية، فأبعدها عن جوّ روما الوثني وأسّس في العام 330 مدينة جديدة في مكان مدينة صغيرة قديمة تُدعى "بيزنطية" سمّاها باسمه "القسطنطينية" وجعلها عاصمة الدولة الرومانية، وأهّلها لأن تكون عاصمة الدين المسيحي وقلبه النابض.

هذه المدينة الجديدة التي قامت على ضفاف مضيق البوسفور، أصبحت فيما بعد عاصمة الدولة الرومانية الشرقية التي عُرفت في التاريخ "بالدولة البيزنطية" أو "بدولة الروم" فالمؤرخون الغربيون كانوا يسمّونها "الدولة البيزنطية"، والمؤرخون العرب كانوا يسمّونها "دولة الروم".

كانت القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية فأصبحت خلال خمسين عاماً عاصمة الكنيسة الشرقية (330 – 381) ولعبت خلال تاريخ الكنيسة في الألف الأول وفي النصف الأول من الألف الثاني دوراً يضاهي الدور الذي لعبته كنيسة روما في الكنيسة الغربية. وسنرى ذلك في بعض الأحداث المقبلة.

 

2- التعمّق في فهم الأسرار الإلهية الكبرى

كانت الكنيسة، خلال القرون الثلاثة الأولى، تكتفي في عرض الدين المسيحي وتبشير الناس بالأقوال الواردة في الكتاب المقدس، لأن الاضطهادات لم تترك المجال للتفكير والتعمّق والتأمل في مضمون الوحي الإلهي المسيحي.

فلما نَعِمت بالحرية والسلام في مطلع القرن الرابع أكبّ المفكّرون المسيحيون على دراسة مضمون إيمانهم، ولا سيما فيما يتعلّق بشخص السيد المسيح وألوهية الروح القدس.

وقد أخطأ بعض المفكرين السير في الطريق الصحيح، فأنشأوا البِدع ونشروها ودافعوا عنها في كتاباتهم وأقوالهم وخطاباتهم. ومن أسباب البدع الرئيسة المفاهيم والألفاظ المختلفة في الفلسفات المتعددة.

تجاه هذه البدع الناشئة رأت الكنيسة نفسها ملزمةً بأن تعرض على المؤمنين التعليم الصحيح. واقتدى أساقفة الكنيسة بما عمله الرسل أنفسهم الذين عقدوا في القدس مجمعاً (في العام49 أو 50) أعطى الحل الصحيح لمشكلة إلزام الفرائض اليهودية على المسيحيين. فعقد الأساقفة، بمناسبة كل بدعة قامت في الكنيسة، مجمعاً مسكونياً أعطى الحل الصحيح لدحض البدعة. وكان عدد المجامع المسكونية التي عُقدت في هذه المدة أربعة هي:

مجمع نيقية (325) ومجمع القسطنطينية (381) ومجمع أفسس (431) ومجمع خلقدونية (451). وإليكم كلمة عن كلٍ من هذه المجامع.

 

مجمع نيقية المسكوني في العام 325

مجمع نيقية الواقعة بقرب القسطنطينية هو أول المجامع المسكونية. عُقد لدحض بدعة آريوس (كاهن مصري) الذي كان يعّلم أن المسيح كائن مخلوق قد وهبه الله قدرة إلهية على خلق العالم المادي من البشر والحيوانات والجمادات. فحرمه المجمع وأكّد أن المسيح مولود من الأب غير مخلوق. وعبّر عن إيمان الكنيسة في قانون الإيمان المعروف بقانون الإيمان النيقاوي.

وخرجت الكنيسة من هذا المجمع بسلام، أي أن المسيحيين لم ينقسموا بعضهم على بعض، بل آمن كلّهم بألوهية المسيح.

 

مجمع القسطنطينية في العام 381

هو المجمع الثاني، عٌقد لدحض بدعة مقدونيوس (بطريرك القسطنطينية) الذي أنكر ألوهية الروح القدس. فحدّد المجمع ألوهية الروح القدس، وفصّل قانون الإيمان النيقاوي بأن أضاف إليه عبارات تدل على الإيمان بألوهية الروح القدس.

ومن قرارات هذا المجمع التنظيمية أنه أعطى لكنيسة القسطنطينية المكانة الكنسية الثانية بعد أسقف روما. قال القانون الثالث: "وأمّا أسقف القسطنطينية فليكن له إكرام التقدّم بعد أسقف روما لأن القسطنطينية هي روما الجديدة". إن هذا القانون قد أزعج جداً أسقف الاسكندرية الذي كانت له مكانة الإكرام الثانية بعد أسقف روما. فاتخذت القسطنطينية هذه المكانة، فأصبحت لكنيسة الاسكندرية المكانة الثالثة.

ومع ذلك فقد خرجت الكنيسة من هذا المجمع بسلام، أي من دون أن ينقسم المسيحيون بعضهم على بعض.

 

مجمع أفسس في العام 341

مجمع أفسس هو المجمع الثالث. عُقد لدحض بدعة نسطوريوس (بطريرك القسطنطينية) الذي كان يعلّم أن في المسيح شخصين، شخصاً إلهياً وشخصاً إنسانياً، قد اتحد الواحد بالآخر اتحاداً معنوياً. وأن مريم العذراء التي ولدت الشخص الإنساني لا يجوز لنا أن نلقبها بوالدة الإله، بل بوالدة المسيح. كان نسطوريوس من مواليد مرعش في الجزيرة العليا. فلما حرم المجمع تعليمه وأقرّ لمريم العذراء لقب والدة الإله تشيّع له سكان الجزيرة وهم من الآشوريون وتبنّوا تعليمه، وهاجروا الدولة الرومانية وأسسوا في المملكة الفارسية المجاورة كنيسة مستقلّة، منشقّة عن الكنيسة الشرقية، عُرفت في التاريخ باسم الكنيسة الآشورية أو الكنيسة النسطورية. وكان انفصال الآشوريين عن الكنيسة الشرقية الواحدة أول انشقاق طائفي عرفته الكنيسة في القسم الأول من القرن الخامس. ولا تزال الكنيسة الآشورية قائمة حتى اليوم.

 

مجمع خلقدونية في العام 451

لم تخرج الكنيسة الشرقية الواحدة من هذا المجمع بسلام. فقد اصطدم بعقبتين كبيرتين، الأولى أن الألفاظ الفلسفية التي استعملها المجمع لم يكن لها المعنى الواحد لدى جميع أساقفة المجمع. والعقبة الثانية أن المجمع كان يمثّل أربع قوميات مختلفة: القومية الأولى، وهي قومية الروم، وكانت قومية الدولة البيزنطية، وهي الدولة المستعمرة التي كانت تحكم بقوة السلاح سوريا وفلسطين ومصر وأرمينيا. والقوميات الثلاث الأخرى هي القوميات الأرمنية والسوريا والقبطية، وكانت قابعة تحت سيطرة الدولة البيزنطية الحاكمة وتتوق بكل جوارحها إلى الاستقلال السياسي.

إن هذه القوميات الوطنية لم تكن قادرة على تحقيق استقلالها السياسي، فعمدت إلى تحقيق استقلالها الكنسي. والاستقلال الكنسي لا يتحقق إلا بتأسيس كنيسة مستقلّة يكون التعبير عن معتقداتها الأساسية مخالفاً لتعبير كنيسة الروم الرسمية التي تسندها الدولة.

عُقد هذا المجمع لدحض تعليم الراهب أوطيخا الذي كان يعلّم – ضد ال – أن في المسيح شخصاً واحداً وطبيعة واحدة. لقد اتخذ هذا التعليم من القديس كيرلس أسقف الإسكندرية (412 – 444) الذي كان يقول عن شخصية المسيح كلمة الله المتجسد "طبيعة واحدة لكلمة الله قد تجسدت". وكان يعني باللفظة الفلسفية "طبيعة" "شخص" المسيح الواحد. فلما حدّد المجمع أن في المسيح طبيعتين، الواحدة إلهية والثانية إنسانية، باعتباره أنه إله وإنسان معاً، رفض هذا التعبير كلّ من ناصر تعبير القديس كيرلس الذي ذكر أن للمسيح طبيعة واحدة.

ورأى مناصرو القوميات والوطنية أنها مناسبة ذهبية لتأسيس كنائس مستقلة عن كنيسة الروم الرسمية، وهي كنيسة الدولة الحاكمة، فتبنّوا تعليم كيرلس أسقف الإسكندرية وتوصّلوا، شيئاً فشيئاً، إلى تأسيس كنائس مستقلة، كانت خفّية في بادئ أمرها، وهي كنيسة الأقباط في مصر، وكنيسة السريان في سوريا، وكنيسة الأرمن في أرمينية.

ففي مصر وأرمينية كان كل الأقباط وكل الأرمن على رأي واحد، أي كانوا يناصرون تعليم الطبيعة الواحدة في المسيح، ويعارضون تعليم مجمع خلقدونية.

أما في سوريا فقد انشق المسيحيون بعضهم عن بعض. فالمسيحيون السريان قاوموا المجمع وناصروا تعليم الطبيعة الواحدة. أما المسيحيون الذين كانوا متأثرين بالحضارة اليونانية، وكانوا يسكنون الشاطئ السوري وجنوب سوريا ومنطقة حلب فقد قبلوا تعليم المجمع الخلقدوني، الذي سنده الملك البيزنطي مرقيانوس. فلقبّهم السريان "بالملكيين" وهو تعبير يدل على مساندتهم للاستعمار البيزنطي.

وكان الأسقف يعقوب البرادعي السريان أسقف الرها (أورفا) من أشدّ مقاومي مجمع خلقدونية. فرسم أساقفة السريان ونظّم الكنيسة السريانية إلى حد أن أبنائها عُرفوا في التاريخ "باليعاقبة".

فعلى أثر انعقاد المجمعين الثالث (مجمع أفسس 431) والرابع (مجمع خلقدونية 451) انشطرت الكنيسة الشرقية إلى خمس كنائس، سمّاها العرب فيما بعد "طوائف" وهي كنيسة الروم، وهي كنيسة الدولة البيزنطية الحاكمة، وكنائس القوميات المحلية الأربع، وهي الكنيسة الآشورية (أو النسطورية) في المملكة الفارسية، والكنيسة القبطية في مصر، والكنيسة الأرمنية في أرمينية، والكنيسة السريانية في سوريا. أما الكنيسة المارونية فلم تظهر إلى الوجود إلا في القرن السابع.

 

 3- إنشاء البطريركيات الخمس

 رأى الإمبراطور يوستينانوس (527 – 565) في القرن السادس أن في الإمبراطورية البيزنطية، وعاصمتها القسطنطينية، خمس كنائس كبرى تشرف على الكنائس الأخرى، وهذه الكنائس الكبرى هي كنائس روما والقسطنطينية والإسكندرية وإنطاكية والقدس. فأصدر مرسوماً ملكياً قسّم به العالم الروماني المسيحي إلى خمس بطريركيات. واعترف لأسقف روما، وهو البطريرك الأول، بالمسؤولية الكبرى إذ دعاه "رئيس كهنة الله أجمعين".

1) ما هي البطريركية؟

البطريركية هي مقاطعة كبيرة تشمل مجموعة من الكنائس المحلّية، يرئسها أول الأساقفة ويحمل لقب "البطريرك" ويتمتّع بصلاحيات واسعة في مجالي التعليم الديني والإدارة الكنسية.

كانت روما، وهي البطريركية الأولى، تضمّ الغرب كلّه، أي أوروبا الغربية وشمال أفريقية وبعض دول في وسط أوروبا، مثل بولونيا وكرواتية.

والبطريركية الثانية هي بطريركية القسطنطينية، وتشمل أوروبا الشرقية وبلاد اليونان وآسية الصغرى.

والبطريركية الثالثة هي بطريركية الإسكندرية، وتمتد إلى مصر كلّها وليبيا وبلاد الحبشة.

والبطريركية الرابعة هي بطريركية إنطاكية وتشمل سوريا ولبنان والجزء الروماني من العراق.

والبطريركية الخامسة وهي بطريركية القدس، ورقعتها فلسطين وشرق الأردن. وهي آخر البطريركيات تاريخياً وأقلّها عدداً.

 

2) علاقات البطريركيات بعضها مع بعض

إن أساس التنظيم البطريركي هو أن كل بطريركية مستقلّة عن البطريركيات الأربع الأخرى في الشؤون الإدارية الداخلية. فلا يخضع البطريرك إلا للقوانين العامة التي سنّتها المجامع المسكونية، وللقوانين والعادات المحلّية السائدة في حدود بطريركيته.

إن هذا الاستقلال لا يمنع أن تكون بين البطاركة روابط قويّة كنسيّة تضمّهم بعضهم إلى بعض. وقد عُرفت هذه الروابط في التاريخ باسم "الشركة الكنسية". فقد قامت بين البطريركيات الخمس شركة كنسيّة مبنيّة على وحدة الإيمان ووحدة الأسرار الكنسية الواحدة.

بالإضافة إلى هذه "الشركة الكنسية" الأساسية كان كل بطريرك منتخب يُعلِم البطاركة الأربعة الآخرين بانتخابه، ويذكر أخوته البطاركة في القداس ويرسل أسقفاً أو كاهناً يمثّله لدى كل واحد منهم.

إن النظام البطريركي كان له حسنات كثيرة في مجال رعاية المؤمنين كنسياً والاهتمام بهم روحياً. ومع ذلك فقد كان له خلال التاريخ الكنسي تأثير سلبي في وحدة الكنيسة الجامعة. فقد فصل شيئاً فشيئاً بطريركيات الشرق عن بطريركية الغرب، وهذا قد أدى في بدء الألف الثاني من حياة الكنيسة إلى انفصال الكنائس الشرقية عن كنيسة روما. كما جزّأ بطريركية القسطنطينية الواسعة إلى مجموعة متعددة من البطريركيات المستقلة في أوروبا الشرقية.

4- ازدهار الحياة الرهبانية، والتعاليم اللاهوتية، والطقوس الكنسية

1) الحياة الرهبانية

في هذه الحقبة الطويلة التي شملت القرون الرابع والخامس والسادس ازدهرت الحياة الرهبانية ازدهاراً رائعاً في الكنائس الشرقية، واتخذت شكلين أساسيين:

1 – الحياة المشتركة في الدير وفق النظام الذي رتبه القديس باسيليوس الكبير. يعيش الرهبان في الدير عيشة الصلاة والعمل، بعضهم مع بعض، تحت رئاسة راهب انتخبوه أو عيّنه البطريرك رئيساً عليهم.

وأشهر الأديار القديمة التي لا تزال قائمة حتى اليوم دير القديس سابا في جنوب القدس ودير مار جرجس الحميراء في منطقة تلكلخ بسوريا.

2 – الحياة النسكية في الصومعة. يعيش الناسك حياة منعزلة، بعيداً عن الناس، وحتى عن أخوته النسّاك. نشأت هذه الحياة النسكية أولاً في مصر ثم امتدت إلى سوريا. وأشهر النسّاك في بلدنا سمعان العمودي (توفي في العام 459) ومار مارون (توفي في العام 410).

 

2) التعالم اللاهوتية

تعتبر هذه الحقبة العصر الذهبي للآداب المسيحية. وقد سطع فيها عدد كبير من الآباء القديسين الذين اتّصفت كتاباتهم وتعاليمهم وخطبهم بروعة الإنشاء وعمق التفكير واختلاف المواضيع. وقد لمع القديسون إثناسيوس وأفرام وباسيليوس وشقيقيه غريغوريوس وصديقه غريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الذهبي الفم وكيرلّس.

 

3) الطقوس الكنسية

اتخذت الطقوس الكنسية شكلها الكامل، وهي الطقوس القبطية والأرمنية والإنطاكية والبيزنطية. واشتهر بين المرنّمين مار أفرام السرياني ورومانوس الحمصي.

وقامت الكنائس الجميلة الفخمة أهمها في بلدنا كنيسة جبل سمعان، وكنائس قلب لوزة والمشبّك والرصافة.

 

ثالثاً – الفتح العربي

التعايش المسيحي الإسلامي في الدولة العربية الواحدة

الحادث الثالث الهام في بلادنا هو الفتح العربي. كانت بلادنا – سوريا ومصر – خاضعة للدولة البيزنطية. وكان سكانها من سريان وأقباط يرزحون تحت نيرها الثقيل.

ففي أثناء معركة اليرموك (636) انضمّ فرسان الغساسنة الذين كانوا يحمون حدود الدولة البيزنطية ضد الفرس، انضموا إلى العرب. فانتصر العرب على الروم وهزموا ملكهم هرقليوس. ودخلوا إلى سوريا واستولوا على مدنها.

1) شروط الفتح

إن شروط فتح المدن السورية هي الشروط نفسها التي قَبِلَ بها محمّد نبيّ المسلمين مع أهل نجدان النصارى. فهو لم يرغمهم على الدخول في الإسلام، بل فرض عليهم الجزية. ومقابل الجزية تعهّد لهم بالمحافظة على دينهم وحياتهم وأرزاقهم وأشهر العهود العهد الذي قطعه الخليفة عمر بن الخطاب مع صغرونيوس بطريرك القدس في العام 638 عندما سلّمه مفاتيح مدينة القدس. وهذه الشروط قد توضحت شيئاً فشيئاً وعُرفت أحكامها "بسياسة العهود".

وسُمّي المسيحيون أهل الذمّة (أو الذمّيين) أي أن لهم حقّ الأمان في ذمّة المسلمين، بشرط ألا يتعاونوا مع أعداء المسلمين.

2) أوضاع المسيحيين بعد الفتح العربي

في بادئ الأمر تسلّم المسيحيون وظائف الدواوين. وممّا عرَّب الخليفة عبد الملك بن مروان لغة الدواوين استغنى عن كثير من الموظفين المسيحيين.

ومع ذلك استعان الخلفاء بعلم المسيحيين في الطب والفلسفة والكتابة. وكان المسيحيون مرتاحين في أيام الخلفاء العرب (ماعدا الخليفة المتوكّل الذي كان ضيّق الفكر. فاضطهد المسيحيين كما اضطهد المعتزلة). وعاشوا في طمأنينة وسلام في أيام الدولة الطولونية التي عاشت 37 سنة، وفي أيام الدولة الفاطمية (دامت قرنين) ماعدا في أيام حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي هدم كنيسة القيامة في القدس في العام 1009.

وتعاون المسيحيون مع المسلمين في بناء الدولة العربية الإسلامية، ولا سيما في المجال العلمي. فقد ترجموا إلى العربية الكتب الفلسفية والعلمية اليونانية والسريانية. ومن أشهر التراجمة حنين بن اسحق وقسطا بن لوقا. ومن أشهر أطبّاء النصارى آل بختيشوع.

3) تثبيت الطوائف المسيحية

لمّا دخل العرب إلى سوريا ومصر وجدوا طوائف النساطرة، والملكيين (الروم) والموارنة والسريان والأقباط والأرمن.

1 – النساطرة: أشهر بطاركتهم طيموتاوس (780 – 823). جعل بغداد مقرّ البطريركية النسطورية. وامتدت الكنيسة النسطورية غرباً إلى دمشق وحلب، وشرقاً إلى الهند وبلاد المغول والصين. وبقيت مزدهرة حتى القرنين الرابع عشر. وأشهر كتّابها عمّار البصري وابن الطّيب وإيليا النصيبيني.

2 – الملكيون (الروم): في بادئ الأمر تضعضعت بطريركياتهم الثلاث في الإسكندرية وإنطاكية والقدس. وبقيت الكراسي البطريركية فيها شاغرة حتى منتصف القرن الثامن.

ومن أشهر كتبتهم القديس يوحنا الدمشقي في دير مار سابا، وثاودوروس أبو قرّة أسقف حرّان، وعبد الله بن الفضل الإنطاكي الذي نقل الإنجيل إلى اللغة العربية.

3 – الموارنة: عاش مار مارون في منسك بقرب قورش (شمال غرب حلب). وانتقل تلاميذه إلى منطقة واقعة بين حمص وأفاميا، بقرب قرية الحبش الحالية. وكانوا على إيمان الملكيين. وانتقل رئيس الدير يوحنا مارون من سوريا إلى لبنان وأقام بين أهدن وزعرتا. وانتخبه المسيحيون بطريركاً عليهم. وبانتخابه تأسست الطائفة المارونية في القرن السابع.

4 – السريان: تعاونوا مع العرب تعاوناً وثيقاً. وأشهر كتبتهم يعقوب البرادعي أسقف الرها (أورفا) وأبو رائطة التكريتي، ويحيى بن عدي وعيسى بن زرعا.

5 – الأقباط: لمّا دخل العرب إلى مصر استولى الأقباط على معظم كنائس الملكيين. ونقل البطريرك خريستودول (عبد المسيح) مقرّ البطريركية من الإسكندرية إلى القاهرة (1047 – 1077). وأشهر كتبتهم ساويروس بن المقفّع.

6 – الأرمن: خضعوا للعرب (653) ثم ثاروا عليهم، فاستقلوا. وملك عليهم زعيمهم أشوط بكراتوني. واستولى الروم على بلادهم، ثم السلاجقة الأتراك. فهاجروا إلى كيليكية وتجمعوا فيها. وأشهر كتبتهم غريغوريوس أسقف ناركين صاحب الأناشيد الدينية.

 

الخلاصة

 نلاحظ أمرين هامّين:

أولاً – إن أجدادنا لم يحافظوا على وحدة الكنيسة الشرقية، فانقسموا طوائف يجهل بعضها بعضاً، وأحياناً يعادي بعضها بعضاً.

ثانياً – لما تعاون أجدادنا مع العرب، ولهم مع العرب قرابة بالدم والفلسفة، عاشوا في ظل الحكم العربي باطمئنان وسلام.

 

  تاريخ الكنيسة الشرقية

الجزء الثاني

   

تمهيد

أيها الحضور الكرام

أتابع حديثي معكم في هذا المساء عن تاريخ الكنيسة الشرقية فأعرض لكم الأحداث الثلاثة الكبرى التي جرت في الألف الثاني من حياة الكنيسة في الشرق. وهذه الأحداث الثلاثة هي: أولاً- الحملات الصليبية في العام 1099 ولغاية العام 1270 ونتائجها على أوضاع المسيحيين في الشرق، ثانياً- سقوط القسطنطينية في العام 1452 واستيلاء الأتراك العثمانيين على سوريا في العام 1517، ثالثاً- إنشاء كنائس كاثوليكية في الشرق (في القرن الثامن عشر).

 

أولاً- الحملات الصليبية  (1099 – 1270)

 قلت لكم في حديثي الأول إن المسيحيين، على اختلاف طوائفهم، كانوا ينعمون بالطمأنينة والسلام في أيام الخلفاء العرب. وأول خليفة ضيّق عليهم هو الخليفة العبّاسي المتوكّل (في القرن التاسع). وسبب ذلك ازدياد نفوذ الأتراك في البلاط العبّاسي. ولمّا قامت الدول العربية الطولونية والفاطمية والحمدانية داخل الخلافة العباسية كان المسيحيون في أمان، إلاّ في أيام الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي كان غريب الأطوار والذي هدم كنيسة القيامة والقبر المقدس في القدس.

ولما تسلّم الحكم في الدولة العباسية الأتراك السلاجقة ضيّقوا على المسيحيين العرب وعلى الحجاج الغربيين. ووصلت أخبار هذه المضايقات إلى الغرب فتحمّس الناس لإخوانهم المسيحيين في الشرق وعزموا على إنقاذ الأراضي المقدّسة من أيدي المسلمين. وهكذا نشأت فكرة الحملات الصليبية. فكان هدفها في بادئ الأمر دينياً، ثم انقلب بسرعة سياسياً واقتصادياً وتوسّعياً على حساب الدولة الإسلامية في الشرق.

 

وقام سكان الغرب بثماني حملات صليبية من العام 1099 ولغاية العام 1270 أي مدة 170 سنة. وقد ساعدتهم على القيام بحملاتهم أسباب كثيرة، أهمّها تفكّك العالم الإسلامي الذي كان مجموعة من الإمارات المتخاصمة، ورغبةُ نبلاء الغرب وعمّال الأرض في التخلص من الأوضاع الاقتصادية المتردّية في دول الغرب، وسيطرةُ سلطة البابا التي وحّدت كلمة الملوك والأمراء الغربيين، وتأمين طرق المواصلات في البر والبحر التي كانت خاضعة لسيطرة الدول المسيحية.

وحديثي لا يتناول إلاّ الحملة الأولى والحملة الرابعة لما كان لهما من تأثير في حياة المسيحيين الشرقيين.

 

1 – الحملة الصليبية الأولى (1099)

قام بالحملة الصليبية الأولى النظامية مجموعة من كبار قوّاد جيوش الغرب. وأسّسوا ثلاث إمارات، وهي إمارة أورفا وإمارة أنطاكية وإمارة طرابلس، ومملكة القدس.

وعامل الصليبيون المسيحيين الشرقيين في سوريا وآسيا الصغرى وفلسطين من الناحية الكنسية بأسلوبين مختلفين وفقاً للقوانين الكنسية السائدة آنذاك.

لقد اعتبروا السريان، أصحاب الإيمان بالطبيعة الواحدة في المسيح (المونوفيزيت)، منفصلين عنهم في المعتقد. فلم يتعرّضوا لأساقفتهم ولأبرشيّاتهم القائمة في المناطق ذات الأغلبية السريانية. أما الملكيون الروم فاعتبروهم متّحدين بهم في الإيمان الواحد، لأن الروم واللاتين (الغربيين) يؤمنون بأن في المسيح طبيعتين، إلهية وإنسانية.

 وكانت القوانين الكنسية آنذاك تمنع أن يكون للكنيسة الواحدة أسقفان يؤمنان إيماناً واحداً. ففي بادئ الأمر احترم الصليبيون وجود الأساقفة الروم الملكيين واعتبروهم أساقفتهم. ولكنهم على توالي الزمن، كانوا كلما شغَرَ كرسي أسقفي للروم بموت الأسقف نصبّوا عليه أسقفاً لاتينياً. فأصبح لكراسي الأبرشيات الرومية الملكية كلها أساقفة لاتين. ولمّا كان الكرسي البطريركي الرومي الملكي في القدس شاغراً يوم دخلوا القدس نصبّوا عليه بطريركاً لاتينياً. وهذا الأمر أثار حفيظة بطريرك القسطنطينية البيزنطي الذي كان يرى الأساقفة الروم الملكيين في سوريا وفلسطين ولبنان يُستبدلون بأساقفة لاتين. فاشتدّ النفور بين الكنيسة البيزنطية في القسطنطينية وكنيسة اللاتين سواءً أكانت في الغرب أم في الأراضي المقدسة التي استولى عليها الصليبيون.

 

2 – الحملة الصليبية الرابعة (1204)

 وبعد مائة عام قام الصليبيون بحملتهم الرابعة وهاجموا القسطنطينية نفسها واستولوا عليها بقوّة السلاح. فهرب الملك البيزنطي، وغادر القسطنطينية معه بطريرك القسطنطينية. ولمّا رأى الصليبيون أن الكرسي البطريركي القسطنطيني شاغر نصبّوا عليه بطريركاً لاتينياً. وهذا الحادث قد أقنع الروم البيزنطيين بأن الكنيسة اللاتينية تريد أن تسيطر عليهم، حتى بقوّة السلاح، إن اقتضى الأمر، وسبّب انشقاق الكنيسة وانفصال كنيسة الروم البيزنطيين عن كنيسة الغرب. وفي هذا الزمن اتخذت كنيسة الروم لنفسها اسماً خاصاً وهو "الكنيسة الأرثوذكسية" لتميز ذاتها عن الكنيسة الغربية التي أخذت تسمّي ذاتها "الكنيسة الكاثوليكية".

 

إن الحملة الصليبية الرابعة كانت في الواقع السبب الرئيس لانشقاق الكنيسة الذي لا يزال قائماً حتى اليوم. إن هذه الحملة قد اضمحلّت، ولكن الثقة بين كنيسة الروم البيزنطيين وكنيسة الغرب اللاتينية لا تزال مفقودة.

 

3 – النتيجتان الكبيرتان عن الحملات الصليبية

 1- لمّا اندحر الصليبيون عن سوريا ولبنان وفلسطين في نهاية القرن الثالث عشر ابتداءً من معركة حطين في العام 1187، رجع الأساقفة الروم الملكيون إلى كراسيهم وتضامنوا مع كرسي القسطنطينية البيزنطي وانقطعت علاقتهم بكرسي روما، لا بموجب قرارات مجمعية بل بواقع انعزالهم وابتعادهم عن الغرب.

2- والنتيجة الثانية أن دولة الأيوبيين الكردية ودولة المماليك ودولة التتر انتقمت لأنفسها من المسيحيين العرب المقيمين في سوريا ولبنان وفلسطين. وكان المسيحيون إلى أيام الصليبيين أكثر عدداً من المسلمين، بل كانوا الغالبية السكانية. فهاجر الكثيرون منهم إلى الدولة البيزنطية أو إلى بلاد الغرب، ودخل الكثيرون في الإسلام. وعاش الباقون عيشة الفقر والعزلة والجهل، وأصبحوا بالنسبة إلى المسلمين من الدرجة الثانية. لذلك نقول إن الحملات الصليبية كانت وبالاً على المسيحيين الشرقيين.

 

ثانياً – سقوط القسطنطينية في العام 1453

واستيلاء الأتراك العثمانيين على الشرق الأدنى في العام 1516

 توالت على الشرق الأدنى بعد اندحار الصليبيين عن الشرق عدة دول إسلامية، أهمّها الدولة الأيوبية ودولتا التتر والمغول. وظهرت في مطلع القرن الخامس عشر دولة جديدة هي دولة الأتراك العثمانيين. دامت هذه الدولة في بلاد الشرق العربي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في العام 1918.

أخذت الدولة العثمانية في القرن الخامس عشر تهدّد القسطنطينية. فالتجأ ملك الروم يوحنا الثامن إلى البابا أوجين الرابع (1431 – 1447) وطلب مساعدة الكنيسة اللاتينية ودول الغرب لصدّ الأتراك العثمانيين. فقبل البابا أن يساعد الدولة البيزنطية. ولكنه اشترط على الملك البيزنطي اتحاد الكنيسة البيزنطية بالكنيسة اللاتينية كما كانتا متحدتين في الألف الأول. فرضِيَ الملك بهذا الشرط واتّفق مع البابا على عقد مجمعٍ يضمّ الكنيستين في سبيل تحقيق الاتحاد. وعُقد المجمع في مدينة فلورنسا الإيطالية في العام 1439. وكان أهم موضوع من المواضيع المُدرجة في المجمع سلطة البابا في الكنيسة الجامعة. فاتفق الجميع على الإقرار بمكانة أسقف روما الأولى في الكنيسة الجامعة على أن تُحفظ حقوق وامتيازات البطاركة الشرقيين. فالاتفاق كان له طابع سياسي أكثر ممّا كان له طابع عقائدي. ولم يمضِ وقت طويل على عودة الروم إلى بلادهم حتى هجم الأتراك العثمانيون على القسطنطينية وحاصروها. أما الإمدادات العسكرية فلم تصلهم من الغرب. فاستولى العثمانيون على القسطنطينية في 29 أيار من العام 1453 وأزالوا الدولة البيزنطية عن الوجود. فعاد الروم البيزنطيون إلى وضع الانفصال الذي كان قائماً قبل انعقاد مجمع فلورنسا. وكان موقف الكنائس الشرقية في الشرق من مجمع فلورنسا موقفاً إيجابياً. فأرسلت هذه الكنائس، وهي كنائس الأرمن والسريان والآشوريين والأقباط، نوّاباً إلى روما للتوقيع على الاتحاد بكنيسة روما. وقد وقّعوا عليه في المدّة الواقعة بين عقد مجمع فلورنسا وسقوط القسطنطينية. ولكنّ الظروفَ السياسية الجديدة وخضوعَ أبناء هذه الكنائس للعثمانيين وبُعْدَ المسافة بين الشرق والغرب، كلّ ذلك قد ثبّت القطيعة بين هذه الكنائس وكنيسة روما. وأصبح المسيحيون الشرقيون كلّهم أرثوذكسيين، بمعنى أنهم منفصلون عن كنيسة روما.

 

ثالثاً – إنشاء كنائس كاثوليكية في الشرق في القرن الثامن عشر

 لم تكن بين أبناء كنائس الشرق العربي في القرن الثامن عشر وكنيسة روما أحقاد وحزازات سياسية كما كانت قائمة بين البيزنطيين واللاتين الغربيين، ولم تقُمْ يوماً قطيعة دينية بينهم وبين روما أصدرها أحد مجامعهم الكنسية. ولذلك لم يكونوا يعارضون الوحدة الكنسية مع كنيسة روما.

وقامت عوامل جديدة أنعشت فيهم فكرة الاتحاد بالكنيسة الرومانية. وأهمّ هذه العوامل هي:

1) المدارس الإكليريكية التي أسّسها الباباوات في روما لأبناء الطقوس البيزنطي (1576) والماروني والأرمني(1584).

2) تأثيرُ مَهمَّة المطران ليونارد هابيل المالطي الأصل الذي بقي في حلب خمس سنوات (1583 – 1587) اتّصل خلالها بالبطاركة والأساقفة الشرقيين فنبّه الأفكار إلى ضرورة الاتحاد بكنيسة روما.

3) جهود السفراء والقناصل الغربيين في القسطنطينية وحلب ودمشق وصيدا الذين كانوا أصحاب سيرة حميدة فجلبوا إليهم الكثير من أبناء الطوائف الشرقية، وعملوا على تحرير الكنائس الشرقية الكاثوليكية، واعتراف الدولة العثمانية بوجودها وكيانها.

4) أعمال الرهبان المرسلين الأولين الذين كانوا يلقون المواعظ في الكنائس الأرثوذكسية وينشرون الكتب الدينية ويعلّمون أبناء الكنائس الشرقية في المدارس، ويقومون بإرشاد أخويّات الرجال والنساء. واقنعوا الكثيرين منهم بأن تطوّر التعليم اللاهوتي في الغرب لا يتنافى مع المعتقد الأرثوذكسي التقليدي.

وكان الرهبان المرسلون يطلبون الصلاحية الروحية من الأساقفة الأرثوذكسيين أنفسهم. وفي غالب الأحيان كان الأساقفة والكهنة والمؤمنون يدعونهم من تلقاء ذواتهم إلى القيام بالخدمة الدينية في الكنائس والخورنيّات الأرثوذكسية.

وقد أبدى المرسلون إجمالاً – واليسوعيون خصوصاً – رحابة صدر استطاعوا أن يكتسبوا بها عطف الإكليروس الشرقي. فقد كانوا يبدون للأساقفة والكهنة الاحترام والإجلال والثقة التامة، وللشعب المسيحي المحبة الفائقة والتفاني المتواصل. وظهرت محبتهم المسيحية بنوع خاص في تأسيس المدارس والاعتناء بالمرضى. فمات الكثيرون منهم بمرض خفي كانوا يدعونه "الطاعون".

كل هذا قد أنعش في قلوب الناس فكرة الوحدة الدينية، وأثار فيهم الميل إلى الاتحاد بكنيسة روما.

 

نشأة الكنيسة الكاثوليكية

 إنّ هذه الجهود التي بُذلت لتحقيق الوحدة الكنسية بين أبناء كنائس الشرق وكنيسة روما لم تؤدِّ إلى توحيدهم جميعاً بالكنيسة الرومانية بل إلى إنشاء كنائس شرقية متعدّدة متّحدة بكنيسة روما. فنشأت كنائس الروم الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك، والسريان الكاثوليك، والكلدان الكاثوليك. أما الموارنة فكانوا متّحدين بروما منذ أمد بعيد، على الأقل منذ عهد الصليبيين. السؤال الذي يطرحه اليوم المؤرخون الشرقيون والغربيون معاً هو: هل كان قيام كنائس شرقية كاثوليكية منفصلة عن الكنائس الأرثوذكسية الحل الأفضل لتوحيد الشرقيين كلهم في البلاد العربية بكنيسة روما وتحقيق الوحدة الكنسية التي يتوق إليها الجميع؟

إن من درس بعمق ونزاهة تاريخ إقامة كنائس كاثوليكية شرقية في البلاد العربية، رأى بوضوح أن الذين ناصروا الوحدة مع كنيسة روما لم يكونوا يرغبون في الانفصال عن الكنائس الأرثوذكسية القائمة في الشرق، بل كانوا يريدون أن يبقوا متّحدين بالكنائس الأرثوذكسية ويحقّقوا مع روما بروح الأُخوّة والمحبة المسيحية الوحدة الكنسّية المنشودة. ولكنّ هذه الوحدة الجماعية المرغوب فيها لم تتحقّق لأسباب كثيرة خرجت عن نطاق إرادتهم، أهمّها السياسة العثمانية التي قررت أن يبقى المسيحيون على انفصالهم الطائفي، وموقف العنصر اليوناني الذي كان يخشى أن يفقد نفوذه الكنسي على الكنائس القائمة في البلاد العربية. إن هاتين العقبتين دفعتا في نهاية الأمر الذين يرغبون في الوحدة الكنسية إلى إقامة كنائس كاثوليكية منفصلة عن الكنائس الأرثوذكسية التي كانوا يحبّونها ويحترمونها احتراماً عميقاً.

 

الحركة المسكونية

 إن الدولة العثمانية قد اندثرت، وخفّ كثيراً تأثير العنصر اليوناني في مسيرة الكنائس الأرثوذكسية في بلادنا. ونحن نراها اليوم تحيا حياتها الكنسية بكرامة واستقلال. إن هذه الكنائس الأرثوذكسية في البلاد العربية، كالكنائس الكاثوليكية، تريد الوحدة الكنسية الكاملة. وهذا ما حمل الجميع على السعي إلى تحقيقها بأفضل السبل. وهذا السعي الصادق الذي يريد أن يحقق إرادة السيد المسيح في وحدة المسيحيين يُسمى "الحركة المسكونية".

ليس من مهمتي في هذا المساء أن أبحث في موضوع أسباب نجاح الحركة المسكونية. أكتفي بأن أقول أن الوحدة المسيحية هي عمل إلهي يتطلّب نعمة الله التي تأتينا بفضل الصلاة. وهي أيضاً جهود المسيحيين بالحوار العقائدي والمحبّة المسيحية والتعارف المتبادل والاحترام العميق لكل الكنائس القائمة.

 

مساهمة الكنائس الكاثوليكية في المجمع الفاتيكاني الثاني

 إن الكنائس الكاثوليكية في الدول العربية كانت ولا تزال مؤمنة بأن الحل الأفضل لمشكلة انشقاق الكنائس هو العمل الجماعي على إعادة الوحدة الكنسية الشاملة. وقد رأت في عقد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) – الذي كان أحد أهدافه توحيد الكنيسة – الفرصة الذهبية لعرض التراث الشرقي الأصيل على الأساقفة الغربيين في المجمع، والمطالبة بتحقيق المساواة الكنسية في الحقوق والواجبات بين الشرقيين والغربيين، وإحياء حقوق البطاركة الشرقيين وامتيازاتهم القديمة.

وكان للبطريرك مكسيموس الرابع صائغ ومعاونيه – ومن أبرزهم المثلث الرحمة المطران نيوفيطوس إدلبي – الفضل الأكبر في إيضاح مكانة الكنائس الشرقية، في نظر الأساقفة الغربيين الملتئمين في المجمع، والدفاع عن حقوقها وتقليدها وإبراز مقام البطاركة الشرقيين وسلطتهم الروحية في الكنيسة. وهذا ما حمل البطريك أثناغوراس بطريرك القسطنطينية أن يقول للبطريرك صائغ عندما زاره في اسطنبول بعد المجمع: "لقد تكلّمتَ في المجمع باسمنا".

 

 الخلاصة: نحن نسير على طريق الوحدة الكنسية

 نحن واثقون أننا نسير على الطريق الصحيح لأننا نسير على طريق المحبة.

لا داعي لأن أصف لكم المودّة القائمة بين أبناء الكنائس المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية في حلب وخارج حلب.

إنني أكتفي بأن أقول لكم أن زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سوريا في أيار 2001 قد جمعت كل بطاركة وأساقفة سوريا وجمعاً كثيراً من أبناء هذا البلد الحبيب، وكانت مظهراً من أجمل مظاهر المودة والاحترام المتبادل والرغبة لدى الجميع في تحقيق الوحدة الكنسية المنشودة.

 

ملحق: أسماء البطاركة الشرقيين الكاثوليك والأرثوذكس حالياً ( عام 2001 )

للروم الكاثوليك: غريغوريوس الثالث لحّام

للموارنة: مار نصر الله بطرس صفير

للسريان الكاثوليك: مار إغناطيوس بطرس الثامن عبد الأحد

للأرمن الكاثوليك: نرسيس بطرس التاسع عشر

للكلدان: رفائيل بيداويد

للأقباط الكاثوليك: استفانوس سيداروس (أنطونيوس نجيب حاليا)

للروم الأرثوذكس: إغناطيوس الرابع هزيم

للسريان الأرثوذكس: إغناطيوس زكا الأول عواص

للأرمن الأرثوذكس: الكاثوليكوس آرام الأول

للآشوريين: مار أدّاي

للأقباط الأرثوذكس: البابا شنودة الثالث

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب