رسالة البابا يوحنا بولس الثاني بمناسبة اليوم الإرسالي العالمي


يمثل اليوم العالمي للإرساليات مناسبة هامة واحتفالاً حيوياً في حياة الكنيسة ونستطيع القول بأن أهميته تتزايد بقدر ما نقترب من أعتاب عام الألفين بعد الميلاد. إن الكنيسة التي تعي أنه خارج المسيح “لا يوجد اسم آخر أعطي للبشر به يستطيعون أن يخلصوا” (أع12:4). تتبين الآن أكثر من أي وقت سابق كلمات القديس بولس الرسول الويل لي إن لم أبشر بالإنجيل” (1كو16:9). ومن هذا المنطلق أعتقد أنه من الملائم أن أوجه الاهتمام نحو بعض النقاط الهامة والأساسية للبشارة السارة التي يجب على الكنيسة أن تعلنها وتحملها إلى البشرية في ألفها الثالث.

 

2.  إن يسوع المسيح المرسل من الآب هو الرسول الأول والمخلص الوحيد للعالم. وهو أيضاً وبنفس القدر الذي كان بالأمس وهكذا سيكون غداً وإلى نهاية الأزمنة عندما تجتمع في شخصه كل الأشياء. فما أتمه يسوع من خلاص ينفذ إلى الأعماق الدقيقة لكل شخص محرراً إياه من سلطان الشر ومن الخطيئة ومن الموت الأبدي. وفي الواقع فإن الخلاص هو حدث “الحياة الجدية” في المسيح. إنه عطية مجانية من الله بها يستحث الارتباط الحر عند الإنسان: لذلك وجب أن يكون الكفاح للوصول لهذا الخلاص يوماً بيوم “وبجهاد يعادل الجهاد على الصليب” (إعلان الإنجيل10) إن عاوننا الشخصي الذي لا يكل والمقترن بتسليم بنوي للإرادة الإنسانية أمر ضروري لإتمام الإرادة الإلهية. بهذه الطريقة يصل الإنسان إلى النقطة الأولية والأكيد والنهائية وهي أن المسيح اشترانا بصليبه وليس هناك أي نوع آخر من الحرية نستطيع من خلاله أن نصل إلى السلام الحقيقي والسعادة الدائمة لأنهما ينبعان فقط من الالتقاء بالإله الحق “سوف تعرفون الحق والحق يحرركم” (يو32:8). باختصار عذا هو “الخبر السار” إن المسيح أتى مرسلاً إلى الفقراء والمساكين وأسرى كل عبودية عالمية، إلى كل المعذبين في كل زمان ومن أي اتجاه. إنه الابن المرسل من الآب لكي يبلغ رسالة الخلاص الموجهة إلى كل إنسان، ولهذا فلكل إنسان على وجه الأرض الحق في أن يعرف المسيح؛ وهذا نابع من المصير الأبدي للإنسان كما يقول القديس بولس الرسول “إن كل من يدعو باسم الرب يخلص” (روم13:10).

 

3.  ومع كل ذلك فلا يقدر إنسان أن يؤمن بالمسيح ما لم يسمع عنه وما لم يبشر به (روم 14:10-15) ولهذا فإن الوصية العظيمة التي تركها المسيح قبل صعوده هي: “اذهبوا..، بشروا وعلموا” (مت19:28) ومن هذا المنطلق فإن الرسالة المسلّمة إلى الكنيسة التي أسسها لتستكمل عبر التاريخ عمل البشارة الذي بدأه كسر عالمي مقدس” لخلاص العالم (نور الأمم48) وقناة لمنح النعمة (إعلان الإنجيل14) للبشرية جمعاء ومن هنا ينبع “امتياز” وفي نفس الوقت “التزام مطلق” (راجع الرسالة بمناسبة اليوم العالمي للإرساليات 1996) حيث أنه من منطلق الإيمان الذي قبلناه يتحتم علينا وعلى كل عضو في جسد الكنيسة “امتياز” و “نعمة” و “واجب” المشاركة الفعالة في البشارة بالإيمان. وأمام العديد من البشر المحبوبين من الله الآب (رسالة الفادي3) والذين لم تصلهم بشارة الإيمان والخلاص المسيحي؛ لا يستطيع الإنسان المسيحي إلا أن يقشعر ضميرياً ما عاشه القديس بولس أمام مسؤوليته “الويل لي إن لم أبشر بالإنجيل” (1كو16:9). فكل مسيحي إذن مسؤول بصورة ما أمام الله عن الإيمان الذي يم يصل بعد إلى ملايين من البشر.

 

4.  إن اتساع حجم الرسالة الموكلة إلينا والمتزامن مع وعينا بحدود إمكانياتنا الشخصية يمكن أن يتسبب في فقداننا الحماس، لكن لا يجب علينا أبداً أن نصل إلى هذه النقطة أو أن نضطرب أو نخاف: فنحن لسنا بمفردنا. إن الرب ذاته يؤكد لنا ذلك “أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء العالم” (مت20:28) “لا أترككم يتامى” (يو18:14) سأرسل لكم الروح المعزي” (يو7:16). إنه لمن المشجع خاصة في لحظات الظلام والتجربة أن نتذكر أنه بالرغم من أن الجهد البشري ضروري ومطلوب، إلا أن عمل البشارة يظل دائماً أولاً وأخيراً عمل الله، وعمل الروح القدس المعزي فهو في البشارة يمثل العامل الأول بلا منازع (راجع رسالة الفادي21) إن البشارة تتم في الروح، إنها إرسال بالروح (الرسالة السابقة) وفي الواقع إنه بفضل عم الروح يحتل الإنجيل مكانه في قلوب البشر ويتجسد في ضمائر البشر وينتشر عبر التاريخ (الرب المحيي42). إن كل مسيحي بحكم المسحة التي قبلها في سري المعمودية والتثبيت يستطيع بل ويجب أن يطبق على ذاته كلمات الرب مؤمناً انه أيضاً يمتلك” الروح القدس الذي يرسله ليعلن البشارة السارة وليدعم بمساهمته الفعالة كل مبادرة رسولية.

 

5.  إن الاستجابة النموذجية للدعوة العامية نحو الإحساس بالمسؤولية الأساسية هي  ما  قدمته  القديسة تيريزا للطفل يسوع التي نحتفل هذا العام بالذكرى المؤوية على انتقالها. إن حياة وتعاليم القديسة تيريزا يبرزان الرباط الوثيق بين حياة التأمل وحياة البشارة. فلا وجود للبشارة دون حياة صلاة عميقة وبدون وحدة مع الرب ومع ذبيحته على الصليب. إن الجلوس تحت قدمي المعلم (لو39:10) يمثل بلا أدنى شك بداية لكل نشاط رسولي حقيقي. فإذا كانت هذه نقطة البداية فإن ما يتبعها هو مسيرة يجب إتمامها عبر مراحلها الإجبارية أي في “ذبيحة الصليب”. إن اللقاء بالمسيح “الحي” هو عينه الالتقاء بالمسيح “العطشان” وبنفس المسيح المستمر على الصليب يصرخ عبر العصور “عطشه” الملتهب إلى خلاص النفوس (روم28:19). ولإرواء عطش الله المحبة، ولإرواء عطشنا ليس هناك من سبيل آخر إلا أن نحب وأن ندع أنفسنا للحب والحب هو أن ندع أنفسنا نخترق بعمق برغبة المسيح الملتهبة “أن جميع الناس يخلصون” (1تيمو 4:2) أن ندع أنفسنا للحب بمعنى أن نسمح لله أن يستخدمنا حسب “طرق الرب التي ليست كطرقنا” (أش 8:55) حتى نصل إلى أن يكون كل البشر تحت كل سماء قادرون بدورهم على أن يعرفوه ويصلوا إلى الخلاص عبر معرفته.

 

6.  ليس الجميع مدعوون بالتأكيد إلى الرحيل في سبيل البشارة “فإننا مرسلون بحكم كياننا قبل كل شيء وليس بقدر ما نقول أو أن نفعل” (رسالة الفادي23) فليس المهم “أين” نبشر بل “كيف” نبشر. إذ يجب أن نكون رسلاً حقيقيين وبأعظم درجة من الخصوبة حتى ونحن بين جدران منازلنا أو في أماكن عملنا أو كنا رقوداً في سرير بالمستشفى أو داخل دير مغلق لا نبارحه… المهم هنا هو القلب الذي يضطرم بالحب الإلهي القادر وحده أن يحول ليس فقط ألام النفس والجسد بل أيضاً تعب الحياة اليومية، إلى نور وحرارة جديدة تصل إلى جميع أعضاء جسد المسيح السري وحتى أقاصي الأرض.

 

7.  أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إني آمل من صميم القلب ونحن على أعتاب الألف الثالث الميلادي، أن تختبر الكنيسة جمعاء دفعة جديدة للإلتزام الرسولي وذلك بأن يتبنى كل معمد برنامج القديسة تيريزا شفيعة الإرساليات وأن يسعى إلى تحقيق ذلك في داخل ظروف حياته اليومية بقدر ما يستطيع “سأكون الحب داخل الكنيسة أمي وبذلك سأكون كل شيء بالنسبة لها”. فلتكن مريم العذراء سلطانة الرسل والحاضرة في العلية مع التلاميذ والتي انتظرت في صمت وصلاة حلول الروح القدس يم العنصرة،والتي صاحبت منذ لحظة البداية المسيرة البطولية للبشارة، فهي خير ملهمة اليوم لكل المؤمنين حتى يقتدوا بها في حثها المستمر وفي تضامنها داخل حقل البشارة المتسع الأطراف.

بهذه المشاعر وبينما أشجع كل مبادرة تعاون في سبيل البشارة للعالم أجمع أبارك الجميع من قلبي،،،


الفاتيكان في 18 مايو 1997

عيد حلول الروح القدس


المرجع: عن مجلة صديق الكاهن