خطاب البابا بندكتس السادس عشر أمام الجمعية العامة للأكاديمية الحبرية للحياة


الفاتيكان، 26 فبراير 2007 (ZENIT.org). –
ننشر في ما يلي النص الكامل للخطاب الذي ألقاه بندكتس السادس عشر نهار السبت 24 فبراير 2007 أثناء لقائه بالمشاركين في الجمعية العامة للأكاديمية الحبرية للحياة وفي المؤتمر العالمي: "الضمير المسيحي في مساندة الحق في الحياة"
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إنه لفرح حقيقي أن أستقبل في هذه المقابلة الحاشدة أعضاء الأكاديمية الحبرية للحياة، المجتمعين بمناسبة الجمعية العامة الثالثة عشرة، مع المشاركين بالمؤتمر العالمي الذي موضوعه: "الضمير المسيحي في مساندة الحق في الحياة".
أحيي الكاردينال خافيير لوزانو باراغان، رؤساء الأساقفة والأساقفة، الإخوة الكهنة، محاضري المؤتمر وجميع الآتين من مختلف الدول. أحيي بشكل خاص رئيس الأساقفة أليو زغريتشا رئيس الأكاديمية الحبرية للحياة، وأشكره لأجل الكلمات الطيبة التي وجهها إليّ، ولأجل العمل الذي يقوم به بمساعدة نائب الرئيس، الأمين العام وأعضاء المجلس الإداري، وللمهام الحساسة والمتعددة التي يلتزمون بها في الاكاديمية الحبرية.
إن الموضوع الذي سلطتم عليه اهتمام المشاركين، وبالتالي اهتمام الكنيسة والرأي العام، هو موضوع بالغ الأهمية: في الواقع، يحتاج الضمير المسيحي أن يتغذى وأن يتسلح بالدوافع والحجج العديدة والعميقة التي تدافع عن الحق في الحياة. وعلى الجميع أن يساندوا هذا الحق لأنه حق أساسي بالنسبة لسائر الحقوق البشرية.
تعبّر الرسالة العامة "إنجيل الحياة" عن هذا المفهوم بقوة فتقول: "بالرغم من الصعوبات والشكوك، يستطيع كل إنسان منفتح بصدق على الحقيقة والخير، على ضوء نور العقل وبعون النعمة السري، أن يصل إلى الاعتراف، عبر القانون الطبيعي المطبوع في القلب (راجع رو 2، 14- 15)، بالقيمة المقدسة للحياة البشرية منذ لحظة بدئها وحتى لحظة انتهائها، وأن يعبر عن حق كل إنسان بأن يعاين احترام هذا الخير الأعظم خير الحياة. وعلى الاعتراف بهذا الحق يُبنى التعايش البشري والجماعة السياسية" (عدد 2).
وتذكر الرسالة العامة نفسها أنه " يتوجب على المؤمنين بالمسيح أن يدافعوا عن هذا الحق بشكل خاص، مدركين هذه الحقيقة الرائعة التي ذكّر بها المجمع الفاتيكاني الثاني: ‘من خلال التجسد، اتحد ابن الله بشكل ما بكل إنسان‘ (فرح ورجاء، 22).
في حدث الخلاص هذا، يعتلن للإنسان، لا حب الله اللامحدود الذي ‘أحبّ العالم حتى انه بذل ابنه الوحيد‘ (يو 3، 16) وحسب، بل أيضًا القيمة السامية لكل شخص بشري" (المرجع نفسه).
لذا، فإن المسيحي مدعو باستمرار إلى التحرك لمواجهة الهجمات التي يتعرض لها الحق في الحياة. ويعرف أنه يستطيع أن يعتمد على الدوافع العميقة المتجذرة بعمق في القانون الطبيعي والتي يشاطرها كل إنسان سوي الضمير.
من هذا المنطلق، وخاصة بعد الرسالة العامة "إنجيل الحياة"، تم القيام بالكثير لكي يتم التعرف على هذه الدوافع بشكل أفضل، في الجماعة المسيحية وفي المجتمع المدني، ولكن يجب علينا ان نعترف بأن الهجمات على الحق في الحياة قد توسعت وتضاعفت في العالم بأسره وأخذت أشكالاً جديدة.
فهناك ضغوط متزايدة تطالب بتشريع الإجهاض في دول أمريكا اللاتينية وفي الدول النامية، وبتشريع استعمال الأشكال الجديدة من الإجهاض الكيميائي بحجة صيانة الصحة التوالدية: تتزايد سياسات المراقبة الديموغرافية، بالرغم من أنها باتت الآن تعرف نتائجها السلبية اقتصاديًا واجتماعيًا.
وفي الوقت عينه، في الدول المتطورة يتزايد الاهتمام بأبحاث التكنولوجيا البيولوجية العالية، لتطبيق أشكال دقيقة وواسعة من اليوجينيا وصولاً إلى البحث المهووس عن "الطفل الكامل"، مع انتشار أشكال التوالد الاصطناعي وأشكال أخرى من التشخيص للتوصل إلى اختيار جيني أفضل.
هناك موجة جديدة من اليوجينيا التمييزية التي تحظى بالقبول وبالرضا باسم رفاهية عيش فردية، خاصة في الدول المتقدمة اقتصاديًا، وتسعى إلى إقرار قوانين لأجل تشريع القتل الرحيم.
كل هذا يجري بينما تتزايد الضغوط، من جهة أخرى، لتشريع أشكال مساكنة مغيارة عن الزواج ومنغلقة على التوالد الطبيعي. في هذه الحالة، يبدو الضمير أحيانًا، تحت تأثير وسائل الضغط الجماعي، غير قادر على فهم خطورة الأمور الموضوعة قيد القرار، ويُضعف سلطان الأقوياء حتى الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة ويشلّهم.
من هنا تتزايد الضرورة للتوجه إلى الضمير، وإلى الضمير المسيحي بشكل خاص. "الضمير – يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكية – هو حكم العقل الذي من خلاله يكتشف الإنسان القيمة الخلقية لعمل ما سيقوم به، يقوم به الآن أو قام به في الماضي" (عدد 1778).
من هذا التعريف يظهر لنا أن الضمير الخلقي، لكي يتمكن من قيادة التصرف الإنساني بجدارة، عليه قبل كل شيء أن يرتكز على أسس حقيقة صلبة، أي عليه أن يكون مستنيرًا لكي يتعرف على قيمة الأعمال الحقيقية وعلى صلابة موازين التقييم، لكي يعرف أن يميز بين الخير والشر، حتى عندما لا تساعد البيئة الاجتماعية، والتعددية الثقافية والمصالح المتشابكة في ذلك.
إن تربية ضمير "حقيقي"، أي مبني على الحقيقة، و "قويم"، إي ضمير يتبع استنتاجاته دون تناقض أو خيانة أو مراوغة، هو أمرٌ صعب ودقيق جدّا ولكنه في الوقت عينه أمر لا غنى عنه. وللأسف هناك عوامل كثيرة تعيق هذه التربية. بوجه خاص، هناك ظرف العلمنة المعروف بما بعد الحداثة، والذي يتميز بأشكال غير واضحة من التفاوت المسموح، ويتميز برفض متنامٍ للتقليد المسيحي، والذي يشكك أيضًا بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة مبتعدًا عن شغف التفكير.
لا بل، بنظر البعض، لكي يكون الضمير الفردي حرًا، عليه أن ينعتق من المرجعية التقليدية ومن المرجعية العقلية على السواء. وبهذا الشكل، يتوقف الضمير، الذي هو فعل عقلي يهدف إلى التوصل إلى حقيقة الأشياء، عن لعب دور النور ويضحي مجرد خلفية يلقي فيها مجتمع وسائل الإعلام ما شاء من الصور والنزوات المتناقضة.
يجب أن نربي الأفراد على شوق التعرف على الحقيقة الأصيلة، وعلى حماية حرية الخيار أمام تصرفات الجماهير ومغريات الدعاية. يجب أن نغذي الشغف بالجمال الخلقي ووضوح نظرة الضمير. هذه هي مهمة الأهل والمربين الذين يرافقونهم، وهذا هو واجب الجماعة المسيحية أمام المؤمنين.
وفي ما يتعلق بالضمير المسيحي، ونموه وتغذيته، لا يجب ان نكتفي باللقاء السريع بحقائق الإيمان أثناء الطفولة، بل يجب أن نرافق الضمير في مختلف مراحل الحياة فاتحين القلب والعقل على قبول الواجبات الأساسية التي يرتكز عليها وجود الفرد والجماعة. بهذا الشكل فقط يصبح ممكنًا توجيه الشبيبة إلى فهم قيم الحياة، الحب، الزواج والعائلة. وهكذا فقط يمكن حملهم على تقييم جمال وقداسة الحب، فرح ومسؤولية الأبوة والأمومة ومشاركة الله في إعطاء هبة الحياة.
بغياب تربية مستمرة وذات كفاءة، تصبح صعبة إمكانية التوصل إلى حكم ضميري حول المشاكل التي يعرضها الطب الحيوي في مسائل الجنس، الحياة الناشئة، التوالد، إلى جانب كيفية التعامل مع المرضى والضعفاء في المجتمع.
من الضروري التحدث عن هذه المعايير الخلقية المتعلقة مع المهنيين، الأطباء ورجال القانون، لكي يتمكنوا من التوصل إلى تحكيم ضمير مؤهل في هذا المضمار، وإذا ما دعت الحاجة، إلى اعتراض ضمير. الضرورة نفسها تظهر في مجالات أدنى، كمجال العائلات والجماعات الرعوية، في عملية تنشئة الشبيبة والراشدين.
في هذا المضمار، إلى جانب التنشئة المسيحية الرامية إلى التعرف على شخص المسيح، على كلمته وعلى الأسرار، في مسيرة تحضير الأطفال والمراهقين، يجب دمج الحديث عن القيم الخلقية المتعلقة بالجسد، بالجنس، بالحب البشري، بالتوالد، باحترام الحياة في كل مراحلها، ويجب، في الوقت عينه، الاستنكار عبر براهين وحجج دقيقة، على التصرفات التي تناهض هذه القيم الأساسية.
وفي هذا المجال المعين، يجب ان ترافق خدمة الكاهن، خدمة المربين العلمانيين، حتى المتخصصين منهم، الملتزمين بهداية الجماعة الكنسية عبر علمهم المنوّر بنور الإيمان.
لذا، أطلب من الرب ان يرسل في ما بينكم، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، وفي ما بين الذين يكرسون حياتهم للعلوم، للطب، للقانون وللسياسة، شهودًا ذوي ضمير حقيقي وقويم، لحماية ولتعزيز "تألق الحقيقة" مساندةً لعطية ولسر الحياة.
أعتمد على معونتكم، أيها الإخوة المتخصصين، الفلاسفة واللاهوتيين، العلماء والأطباء. في مجتمع صاخب وعنيف أحيانًا، تستطيعون، عبر تخصصكم الثقافي وتعليمكم ومثلكم، أن تساهموا في إيقاظ صوت الضمير البليغ والواضح في القلوب.
"في الإنسان شريعة كتبها الله في قلبه – يعلمنا المجمع الفاتيكاني الثاني – تشكل الطاعة لهذه الشريعة كرامةَ الشخص البشري، وبحسب هذه الشريعة سيُدان الإنسان" (فرح ورجاء، 16).
وقد قدم المجمع الفاتيكاني الثاني تعليمات حكيمة لكي "يتعلم العلمانيون أن يميزوا بوضوح بين حقوقهم وواجباتهم كأعضاء في الكنيسة وكأعضاء في المجتمع البشري" ولكي "يتعلموا أن ينسقوا بين هذين الالتزامين، متذكرين انه يجب عليهم أن يتبعوا ضميره المسيحي في كل الأمور الزمنية، لكي لا يتباعد أي عمل بشري، ولو زمني، عن الله" (نور الامم، 36).
ولهذا السبب عينه، يدعو المجمع العلمانيين إلى قبول "ما يقرره الرعاة كمعلمي ومسؤولي الكنيسة"، ومن ناحية أخرى، يحض "الرعاة على الاعتراف بكرامة ومسؤولية العلمانيين في الكنيسة وعلى تعزيزها، من خلال الأخذ برأيهم الفطن"، ويختم النص قائلاً: "بفضل هذه العلاقات العائلية بين الرعاة والعلمانيين، يجب ان ننتظر خيرًا جمًا في الكنيسة" (نور الامم، 38).
عندما يتعلق الأمر بقيمة الحياة البشرية، يصبح التناغم بين السلطة التعليمية في الكنيسة والالتزام العلماني ضرورة هامة. فالحياة هي أولى عطايا الله وهي ركيزة كافة العطايا الاخرى؛ تأمين الحق في الحياة للجميع وبطريقة متساوية، هو واجب يتعلق بتتميمه مستقبل البشرية.
من هنا أهمية لقاء الدراسة هذا. أوكل مجرياته ونتائجه إلى شفاعة العذراء مريم، التي يحييها التقليد المسيحي كـ "أم جميع الاحياء" الحقيقية. فلتساعدكم ولتهدكم هي! وكخَتم لهذا الدعاء، أود أن امنحكم، مع عائلاتكم ومساعديكم البركة الرسولية.

ترجمة وكالة زينيت العالمية(zenit.org)
حقوق الطبع 2006- مكتبة النشر الفاتيكانية