الشباب والإنترنت: مونسنيور توماس حليم حبيب

الشباب والإنترنت: مونسنيور توماس حليم حبيب

\"\" 

أولاً: اهتمام الكنيسة بتثقيف الشباب

         إن اهتمام الكنيسة بالإنترنت تعبير خاص عن اهتمامها الطويل الأمد بوسائل الاتصال الاجتماعي, واهتمامها بالتقدم العلمي في جميع المجالات, حتى تواكب العصر وتطوراته, وتقدم للشباب كل ما هم مفيد وجديد لحياتهم الروحية والاجتماعية.

        تمثل وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة عوامل ثقافية لها دور بارز في هذا التاريخ. يشير المجمع الفاتيكاني الثاني إلي "أنه وإن كان لابد من التمييز الدقيق بين التقدم الأرضي ونموّ ملكوت المسيح, فإن التقدم الأرضي ذو أهمية كبيرة بالنسبة إلى ملكوت الله, وذلك بقدر ما يسهم في تنظيم المجتمع البشري تنظيماً أفضل وأكمل" (دستور راعوي – الكنيسة في عالم اليوم الفقرة 39). لهذا فالوسائل المتطورة تساعد على تقدم وتثقيف المجتمع البشري. وطبعا هذا ينطبق, بشكل خاص, على الانترنت الذي أسهم في إحداث تغييرات ثورية في جميع المجالات.

         لكن الخطورة تكمن في كيفية استخدام هذه الوسائل الحديثة, والأهداف التي ترمي إليها كوسائل نافعة أو مُضّرة. لذلك تحرص الكنيسة علي تشجيع الوعي باستخدام يضمن عدم الإفراط وعدم الانحراف عن مسارها الصحيح, وعدم الانسياق وراء الرغبات التجارية والدنيوية التي تهدف إلى المكاسب فقط  ولا يهمها مدي تأثيرها في المجتمع ثم في الأسرة و الشباب. وانطلاقاً من هذا المفهوم وهذه المساندة نودّ أن نقدم بعض الملاحظات عن هذه الوسيلة الحديثة أي الانترنت, لنرى ما فيها من الايجابيات والسلبيات.

ثانياً: مدى الاستفادة من الوسائل الحديثة ومدي خطورتها

         بات مدهشاً استخدام هذه التقنية العالية للترقي والتقدم في مجال العلم الحديث, كما يؤكد سعيد الذكر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني بقوله: "لا تنفك البشرية تتقدم فيه نحو اكتشاف الطاقات والقيم التي يختزنها العالم المخلوق". ويتراوح مضمون هذا التدفق العلمي بين المعلومات الواقعية والترفيه البحت, والصلاة والإباحية والتأمل والعنف. ووفقا لاستعمال هذه الوسائل تنشأ في النفوس مشاعر متباينة  من الرحمة أو التصلب, أو في الانطواء على عالم من الحوافز النرجسية المنغلقة على ذاتها التي لا تختلف عواقبها عن عواقب المخدرات. وأصبحت آفة خطيرة تهدد كيان المجتمع عند بثها للعنف بطريقة نقلها المعلومات والأخبار المثيرة لا حقيقة لها في الواقع, فأصبح  في إمكان كل شخص أن ينشئ موقعاً كما يحلو له ويسجل فيه ما يتراءى له من ثقافة أو عنف أو إباحية أو وعظ ديني قد يكون مفيداً أو مليئاً بالأحقاد والسباب لطرف ما, مما ينمي التطرّف بين الشباب, فللأسف لا شفافية في نقل الحقائق. ولم نتعلم أن نستخدم الضمير والعقل في تنقية الأمور. فكثير من الأفكار الهّدامة تدخل عبر هذه التقنيات الحديثة إذ لا رقيب عليها. ناهيك عن مدى خطورتها في محيط الأسرة الواحدة. وسوف أحاول أن أذكر بعض الأمثلة على ذلك:    

         للأسف, كما يقول المثل الشعبي "اللي يزيد عن حده ينقلب لضده", قد تكون هذه الوسيلة المتطورة سبب فصل زوج عن زوجته من جراء اهتمامه بهذه التقنية أكثر من اهتمامه بأمور الأسرة أو في الاستماع إلى أبنائه. وقد تتفاقم الأمور مع مرور الأيام. فالزوج لدى عودته من عمله يدخل حجرة الانترنت ويجلس يتحادث مع أصدقائه أو يفتح مواقع إباحية أو يتسلى … الخ, وينسي الأسرة ومشاكلها قلّما يهتم بزوجته … أو قد تكون وسيلة للتعرف إلى شخص أخر يريد الارتباط به. وسرعان ما تتطور الأمور بينهما عبر الانترنت ويثق أحدهما بالآخر, ولاسيما لان الصورة التي يرسمها كل طرف للآخر صورة جذابة, فيحب هذه الصورة. وقد تؤدي الدردشة إلى تقدم سريع في العلاقة تؤدى إلى لقاء للتعارف. وأحيانا قد يتم الزواج عبر هذا الأثير. ولكن سرعان ما يكتشفان انه ليس ما كانا يتمنيانه, فيفشل هذا الزواج  أو تحدث المفاجأة كما حدثت في هذه القصة الحقيقية, التي نشرتها جريدة الزمان العراقية بتاريخ 8 فبراير 2005: " أكتشف رجل في الأردن بعد ثلاثة أشهر من تعرفه إلى أمرآة عبر غرف الدردشة على شبكة الانترنت أنها زوجته عندما تقابلا أول مرة, فطلقها. وذكرت وكالة الأنباء الأردنية الرسمية (بترا) أن الرجل (ع) كان قد هجر زوجته (س) منذ شهور لاستحالة الحياة بينهما لكثرة المشاجرات بينهما, ثم تورط في علاقة مع أمرآة مجهولة عبر الإنترنت. وقال التقرير إنه عندما قرر الاثنان أن يلتقيا وجها لوجه في نهاية المطاف صدم بشدة عندما اكتشف أن حبيبته عبر الانترنت هي زوجته وقال لها "أنت طالق" في حين وصفت المرآة زوجها بأنه كاذب وسقطت مغشيا عليها" !!.

         وقد تتعرف شابه إلى شاب ليس له معتقداتها. وبعد دردشة طويلة ولقاءات متعددة عبر الانترنت يتحابان وتكون من الصعوبة إقناع طرف منهما بالتنازل وتكون النهاية أن احد الأطراف يتخلى عن معتقداته الإيمانية التي نشأ وتربى عليها, والتي باسبيلها ضحي آباؤه وأجداده بدمائهم. و سرعان ما تنتهي هذه القصة بمأساة. ولكن ماذا ينفع الندم بعد العدم.

         من القصص أيضا أنه في كثير من الأحيان يعتقد الشخص أنه قوي وأن هذه الدردشة عبارة عن تسلية لا أكثر ولا أقل. فقد يتحول الحديث إلى دردشة ساخنة حول أمور جنسية. ويبلغ الأمر لدى كليهما أنهما لا يستطيعان أن يوقفا الحديث بل يزداد مع الوقت إلى حد يوصفان الأجزاء الحساسة من الجسم وقد يمارسان الجنس عبر الانترنت, ويزداد شوق كل طرف إلى القيام بالعمل, وأحياناً كثيرة يسبب هذا الأمر السقوط الفعلي مع أي شخص لإشباع الرغبة الكامنة. لأن الشخص في هذه الحالة يكون كقشر البيض سهل المنال. كما يقول القديس بطرس في رسالته: "أصحوا واسهروا فإن إبليس خصمكم كالأسد الزائر يجول ملتمسا من يبتلعه" (رسالة بطرس الأولى 5, 9).

ثالثاً: التوجهات الضرورية لكيفية استخدام الانترنت

          كل ما تقدم لا يجعلنا نخاف أو نتقاعس عن أهمية استعمال الانترنت. ولكننا نحتاج إلى فهم الانترنت واستعماله كأداة للاتصال والبحث والدراسة وليس للانحراف والضياع. وقد يأتي هنا دور الكنيسة والرعاة لينظموا للشباب برامج تربوية كاملة كوسيلة للتنشئة والتربية, وطريقة الاستفادة من استخدامه, حتى يساعد الناس على إيقاظ الذوق السليم والرأي الأخلاقي الصحيح. إن هذا نوع من تربية الضمير. 
        
وعلى الشبيبة ألا تكتفي بأن تتعلم طريقة التصرف في استخدام هذه الوسائل استخداماً مسيحياً, بل أن تستفيد فائدة حقيقية من كل الإمكانيات التعبيرية التي توفرها هذه الوسائل.

         وهنا يكمن دور الوالدين في سبيل خير أبنائهم وخيرهم الشخصي. يتعين على الوالدين "أن يكتسبوا مواهب المشاهدين والمستمعين والقراء المتنبهين ويضعوها موضع التطبيق وذلك عندما يكونون المستعملين النموذجيين المدركين لدورهم الإعلامي الواعي داخل المنزل" (رسالة المجلس الحبري لوسائل الإعلام الفقرة 25). وفي ما يتعلق بالانترنت, غالباً ما يكون الأولاد والشبيبة أكثر تألقا من والديهم في هذه الأداة. غير أن الوالدين مضطرون, مع ذلك, لتوجيه أبنائهم ومراقبتهم في استعمالها. فإذا كان استخدامها يهدف إلى المزيد في التعرف إليها. فذلك خير وواجب.

         على الأهل يكونوا منتبهين إلى الطريقة التي بها يستخدم أولادهم التنقية المتوفرة على أجهزة الكمبيوتر التي في متناولهم, وذلك بهدف حمايتهم أفضل حماية من أخطار الإباحية والمقتنصين الجنسيين, وفي غيرها من الأخطار. فمهمة الوالدين الأساسية تقوم على مساعدة الأولاد لكي يصبحوا قادرين على استعمال الانترنت بصورة واعية ومسؤولة.

        إما بالنسبة إلى الأولاد والشبيبة, فان الانترنت بوابة مفتوحة على عالم أخاذ ومدهش, له تأثير شديد في مجال تنشئتهم. ولكن في الجهة الأخرى من هذه البوابة لا يبدو كل شيء سليماً وثابتاً وحقيقياً. كما يؤكد المجلس الحبري لوسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي: "للأولاد والشبيبة أن يُوّجهوا نحو التنشئة الإعلامية, متجنبين الطريق السهل الخالي من النقد وضغط الرفاق والاستغلال التجاري", وعليهم أمام أنفسهم, وأمام ذويهم وعائلتهم وأصدقائهم ورعاتهم ومعلميهم وأمام الله, أن يستعملوا الانترنت استعمالاً حسناً.

رابعاً: الإنترنت بين النفع والضرر

         إن الانترنت يضع في متناول الشبيبة إمكانيات هائلة لفعل الخير أو فعل الشر وفي وسعه أن يثري حياتهم إلى درجة قصوى لم تبلغها أحلام الأجيال السابقة, وأن يتيح لهم إثراء حياة الآخرين, كما في وسعه أيضا أن يغرقهم في الاستهلاك والتخيل الإباحي والعنفي والانعزال المرضي. أما الاستعمال السليم للانترنت فيسهم في إعدادهم للقيام بمسؤولياتهم تجاه الكنيسة والمجتمع, ولكن لن يكون ذلك بصورة آلية. ليس الانترنت وسيلة تسلية وحسب, ولا وسيلة أنعامات متصلة بالاستهلاك. إنه وسيلة في سبيل عمل مفيد.

 

         وأخيراً فقد علم السيد المسيح أن الإعلام والاتصال عمل أخلاقي. لأنه "من فيض القلب يتكلم اللسان. الإنسان الطيب من كنزه الطيب يخرج الطيب. والإنسان الخبيث من كنزه الخبيث يخرج الخبيث. أقول لكم إن كل كلمة باطلة يقولها الناس يحاسبون عليها يوم الدينونة" (متى 12/ 34 –37).

مونسنيور توماس حليم حبيب

السكرتير الأول للسفارة البابوية بالعراق

\"\"