الرسالة الثانية 1992 الحضور المسيحي في الشرق.. شهادة ورسالة
رسالة بطاركة الشرق الكاثوليكCPC
في مناسبة انعقاد اجتماعهم في القاهرة
من 17 إلى 22 شباط 1992
اخوتنا الأساقفة
أبناءنا وبناتنا،
عليكم أوفر النعمة والسلام
تحيةٌ وشكر
1. بهذه التحيّة الرسوليّة (1 بطرس 1: 2)، نستهل هذه الرسالة الراعوية المشتركة التي انبثقت من الاجتماع الثاني لمجلسنا، الذي عُقد في القاهرة ما بين السابع عشر والثاني والعشرين من شباط (فبراير) عام 1992، في ضيافة غبطة البطريرك اسطفانوس الثاني غطاس، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك. وبينما نوجه إليكم هذه التحية، فإننا نشكر الله تعالى دائمًا »في أمركم جميعًا ونذكركم في صلواتنا. ولا ننفك نذكر ما أنتم عليه من نشاط الإيمان وجهد المحبة وثبات الرجاء بربنا يسوع المسيح، في حضرة إلهنا وأبينا« (1 تسالونيقي 1: 2ـ3).
في ضوء الفصح
2. إننا نتوجه إليكم، يا اخوتنا، وأبناءنا وبناتنا الكاثوليك، في شرقنا الحبيب وعالمنا العربي العريق. ومن خلالكم نتوجه أيضًا إلى جميع اخوتنا وأخواتنا المسيحيين، والمؤمنين بالله، ومواطنينا، وإلى كل إنسان ذي إرادة صالحة في منطقتنا. وبما أن هذه الرسالة تصدر في عيد الفصح المجيد، فإننا نستمطر عليكم نعمة المسيح الذي »قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور«. لقد قام المسيح، حقًا قام، ومنه نستمد لمسيرتنا الأرضية العزيمة والأمل بينما نتوجه إلى ملء الملكوت حيث يكون »الله كلّ شيء، في كل شيء« (1 قورنتس 15: 28)، أبد الدهور.
خبرةٌ وتفكير
3. لقد شعت نعمة الإيمان، لأول مرة، في شرقنا، ومنه وصلت إلى جميع أنحاء المعمورة. ولقد تمخضت هذه النعمة، في بلادنا ومجتمعاتنا، عن خبرة إيمانية وحضارية، غنية وطويلة، نريد أن نغذيها بدائم صلاتنا وتفكيرنا كي تواصل شق طريقها وسط ظروف دائمة التجدد والتغير. وفي كل هذا نستلهم نعمة الروح القدس الذي يرشدنا إلى الحق كله، ويعلمنا جميع الأشياء، ويذكرنا بجميع ما قاله لنا ربنا ومعلمنا يسوع المسيح (راجع يوحنا 14: 26؛ 16: 13)، طالبين إلى هذا الروح عينه »أن يقيم عندكم ويكون فيكم« (يوحنا 14: 17). لقد تناول اجتماعنا الثاني معنى حضورنا المسيحي ووجه شهادتنا المسيحية في مجتمعاتنا. ونود، في هذه الرسالة الراعوية، أن نشكركم في تفكيرنا ورؤيتنا، فنسير وإياكم، مسترشدين مشيئة الله علينا، ونداءات المجتمعات التي ننتمي إليها. وتأتي هذه الرسالة الراعوية استمرارًا للحوار الذي بدأناه معكم في الرسالة الأولى التي وجهناها إليكم، إثر اجتماعنا الأول في لبنان (24 آب ]أغسطس[ 1991).
أ) في العالم
وحدة وتواصل
4. يشكل العالم اليوم وحدة متواصلة بفضل وسائل الاتصال الدائمة التطور. لقد أصبح عالمنا أشبه ما يكون بمدينة كبيرة تتواصل أطرافها، وتتفاعل في ما بينها، وتؤثر جزئياتها في مجمل الجسم البشري تأثيرًا متبادلاً. وعليه فليس من الممكن اليوم أن تظل أية جماعة بشرية بمعزل عن مسيرة التاريخ، متفرجة أو محايدة إزاء ما يجري حولها. إن تضامن البشرية في السراء والضراء لهو إحدى العلامات الكبرى التي يعيش عالم اليوم في ظلها. وهذا ما يدعونا إلى أن نلقي نظرة، ولو سريعة وجزئية، إلى ما يجري حولنا وفي كنائسنا، حيث إن حضورنا المسيحي في الشرق يتحدد ضمن هذه البيئة وفي إطارها.
متغيرات وصراعات
5. نشأ في السنوات الأخيرة واقع جديد على الساحة الدولية، وحدثت متغيرات عميقة لا ندري حتى الآن ما ستؤول إليه من نتائج. ولا تزال هذه المتغيرات تتفاعل في جميع مناطق العالم، وتحمل الدول والمجتمعات إلى إعادة النظر في حساباتها لتحدد موقعها وموقفها في هذه الظروف المستجدة. وفي وسط هذه المتغيرات دفنت صراعات لتحل مكانها صراعات أخرى، ضمن توزيع جغرافي وسياسي جديد. وهذا ما أدى إلى تساؤلات كثيرة تقلق المجتمع الدولي، وتشحذ ما فيه من طاقات لإدارة هذه الصراعات بشكل يؤول إلى خير البشرية وسلامها وطمأنينتها واستقرارها. وريثما تصل الأمور إلى ما ترجوه الأسرة البشرية وتتمناه، لا تزال مجتمعات بأكملها تعاني مما فجرته هذه المتغيرات من صراعات، مع ما تخلفه من آلام ودمار وضغائن. وعليه فبينما يسير العالم نحو الاستقرار المرجو، تحرك البشرية طموحات عظيمة وتنتابها تعثرات مقلقة تعبث بمصير العالم أكثر من أي وقت مضى.
»النظام العالمي الجديد«
6. لقد نوهنا في رسالتنا الأولى بما راح يعرف اليوم بـ »النظام الدولي الجديد«، الذي تبحث عنه الأسرة الدولية، والذي لا يزال قيد المجهول. فإذا كان المقصود بهذا النظام مناخًا هادئًا ومنشرحًا ومنفرجًا يستطيع العالم من خلاله أن يعالج مشاكله الكثيرة والمستعصية لخير البشرية جمعاء، فإنه من حقنا أن نرى فيه أملاً جديدًا للبشرية وهي تسير نحو الألف الثالث من تاريخها الميلادي. أما إذا تحول هذا النظام إلى حالة من استئثار قوى معينة بمصير العالم بحيث توجهه وفق مصالحها وأنانياتها، فهذا ما يضع علامة استفهام كبرى حول وضع البشرية في المستقبل. لا يزال البحث جاريًا، ومن السابق لأوانه أن نجزم بأن الكلمة الأخيرة قد قيلت. ونأمل أن تكون هذه الكلمة كلمة خير تعزز قواعد العدل والسلام والنمو للبشر أجمعين.
الشمال والجنوب
7. إن المستجدات المفاجئة والمثيرة التي حصلت في أجزاء مهمة من الكرة الأرضية ـ والتي نرجو، بالرغم من المعاناة والصراعات التي ترافقها، أن تكون في صالح شعوب تلك المناطق ـ لا يمكن أن تنسينا أن إحدى المشاكل الكبرى التي تواجه البشرية اليوم هي الوضع في العالم الثالث والعلاقة بين الشمال والجنوب، الشمال الصناعي المتقدم، والجنوب الفقير النامي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يتعامل النظام العالمي الجديد مع هذا الواقع المأساوي؟ هل يتمخض ما يجري عن تعامل إيجابي وحقيقي بين الشمال والجنوب؟ هل يأخذ هذا التعامل بعين الاعتبار تطلعات شعوب الجنوب ومشاكلها؟ هل يعمل على تلبية الحاجات الحقيقية، الحضارية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية، لهذا الجزء المعاني من عالم اليوم، محترمًا خصوصياته وتطلعاته وأمانيه؟ هل يعطى العالم الثالث الفرصة بأن يسمع صوته، ويحدد شكل مساهمته في تطور البشرية، أم أنه يحكم عليه بأن يظل تابعًا متخلفًا لا حول له ولا قوة؟… الأسئلة كثيرة ومهمة وملحة ومصيرية.
العيش معًا
8. وفي وسط كل هذا يبقى التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية اليوم، وهو مشكلة العيش معًا بين مختلف العائلات البشرية. ولا نغالي إذا قلنا إن جميع المشاكل التي يعاني منها عصرنا إنما هي فروع وامتداد لهذه المشكلة الأساسية. يمتاز عالمنا الحالي بوعي الشعوب والفئات المتعددة بفرادتها وأصالتها. وكثيرًا ما يؤدي ذلك إلى صعوبة التوفيق بين هذا الوعي وبين متطلبات السلام وحسن الجوار، داخل الوطن الواحد وبين مختلف البلدان أو المناطق، مما يفكر صفو العلاقات البشرية ويفجر الأزمات التي غالبًا ما تتحول إلى اقتتال دام. وعليه يبقى السؤال الملح الذي تواجهه البشرية اليوم: كيف يمكن أن نعيش معًا في الاحترام والسلام مع التعددية التي يمتاز بها عالمنا؟ كيف أن نحول التعددية من ذريعة للتنافر والتناحر إلى دعوة للتواصل والتكامل؟ هل يتغلب منطق »إما أنا وإما هو« أو منطق »أنا وأنت«؟… ذلك هو السؤال.
ب) في عالمنا العربي
طرف أساسي
9. يشكل العالمي العربي، على تعدد بلدانه وأنظمته السياسية والاجتماعية، وشعوبه وأقلياته واتجاهاته، وحدة جغرافية وثقافية متميزة. ولا يعيش عالمنا هذا بمعزل عن المتغيرات والمستجدات التي تجري حوله، لأنه يشكل جزءًا هامًا من العالم، يتفاعل معه على كل الصعد وفي جميع المجالات، مع كل الانعكاسات الإيجابية والسلبية التي ينطوي عليها هذا التفاعل. لا بل يمكن القول إن العالم العربي طرف أساسي ومؤثر في لعبة المتغيرات والمستجدات والصراعات والتساؤلات بسبب موقعه الجغرافي، وروابطه الحضارية، وغنى موارده الطبيعية وأهمها النفط، والمعضلات السياسية التي تجتاحه والتي تتسم بطابع دولي يهم العالم بأسره. وهذا ما يعطي العالم العربي أهمية خاصة في الصراع العالمي، ويلقي على كاهله مسؤولية مميزة عند البحث عن السلام والاستقرار للعالم كله. وهذا أيضًا ما يفسر لماذا تحولت منطقتنا إلى »بؤرة صراعات دولية«، كما قلنا في رسالتنا الأولى، تضني شعوبه وتقلق العالم.
مخاض حضاري
10. يعاني العالم العربي، لكونه جزءًا من العالم الثالث، من مخاض حضاري عميق. فهو عالم يبحث عن ذاته، وعن صيغة لوجوده، وعن موقع له في عالم اليوم يستطيع من خلاله أن يكون عنصرًا إيجابيًا في صنع الحضارة الإنسانية، والمساهمة في تثبيت دعائم الاستقرار والسلام، إنطلاقًا من أصالة هويته وفرادة تراثه. ويجري هذا البحث وسط تحولات اجتماعية وجغرافية ـ سياسية واقتصادية وثقافية عميقة، ووسط صعوبات جمة، داخلية وخارجية، تجعل ميلاده عسيرًا لا يخلو من مد وجزر، ومن إنجازات وتعثرات. وفي هذه المعاناة التاريخية يشعر أن العالم ينظر إليه من خلال قوالب لا يتعرف على نفسه فيها، وهذا ينعكس على موقفه هو من العالم، وعلى نظرته إليه، فينشأ بين الطرفين توتر يصعب أحيانًا التحكم بآليته السلبية.
تحديات
11. إن المشاكل التي ينطوي عليها هذا المخاض كثيرة ومتشعبة ومعقدة نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، التراث والحداثة، الاستقرار السياسي، النظم السياسية والاجتماعية، التنمية الاجتماعية والاقتصادية، الوحدة في التنوع بعيدًا عن الانقسام والتفتت، الدين والمجتمع، الحريات العامة ومنها الحرية الدينية وحرية الضمير، مشاكل العدل والسلام وحقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة، التعامل مع الأقليات على اختلاف أنواعها، موقفه من عالم متنوع ومتعدد ومتطور. يعيش الإنسان العربي في خضم كل هذه المشاكل، يبحث عن ذاته وهويته بين ذاكرة الماضي وأبواب المستقبل. وأمام هذا الرهان التاريخي يتقرر مصيره ومستقبله بقدر ما يستوعب هذه التحديات، ويحدد عناصرها المتشابكة، ويتحكم بآليتها، ويعمل على معالجتها بـتأن وحكمة ودراية وصبر، خدمة للإنسان في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
مشاكل حالية
12. بالإضافة إلى كل هذا يعاني العالم العربي من قضايا سياسية ملحة تخيم على مسيرته ومصيره بعد أن كانت عنصرًا أساسيًا في المتغيرات الحاصلة فيه. إن الطابع الدولي الذي تتسم به هذه القضايا، والأطراف المتعددة المتورطة فيها، تزيد من تعقيدها. وفي مقدمتها تأتي القضية الفلسطينية التي أثرت تأثيرًا عميقًا على التاريخ الحديث للمنطقة، وهزت الضمير العربي هزة عميقة، ولا تزال وجهًا أساسيًا من معاناته ومخاضه، بينما يظل الشعب الفلسطيني ضحية الظلم والقهر والمعاناة. أما المسألة اللبنانية فإنها لا تزال معلقة بعد الآلام والويلات التي جرتها على جميع الأطراف، لا سيما اللبنانية منها والفلسطينية. أضف إلى ذلك الحروب الكبيرة أو الصغيرة التي حصلت وتحصل في أطراف بلدان العالم العربي أو بينها مخلفة الويلات والدمار والمعاناة، نخص منها بالذكر مأساة الشعب العراقي، الذي ينتظر الخروج من العزلة والحصار اللذين فرضًا عليه، ليعود إلى المساهمة في حياة الأسرة العربية والدولية. نقول هذا في الوقت الذي تتوجه فيه الأسرة الدولية والأطراف المعنية نحو معالجة هذه المشاكل وحلها. وإننا نرجو الله أن تكون هذه التوجهات والمبادرات الجارية فرصة حقيقية وجادة لحل المشاكل القائمة حلاً عادلاً ودائمًا وشاملاً، ولإقامة نظام عادل يكفل للجميع حريته وكرامته، ولتدعيم علاقات إقليمية ودولية، جديدة وإيجابية، لخير جميع شعوب المنطقة بغير استثناء.
ج) في كنائسنا
كنائس حية
13. لا تشكل كنائسنا بمؤمنيها جزرًا منعزلة أو جسمًا غريبًا يعيش على هامش حركة التاريخ، بل هي كنائس حية تعيش في خضم التفاعلات العالمية والإقليمية، تتأثر بها، لا بل وتؤثر فيها. إن جماعاتنا المسيحية خميرة تجد موقعها الطبيعي في العجينة البشرية (راجع متى 13: 31)، وتتفاعل باستمرار مع ربها ومع نفسها ومع بيئتها. تتفاعل مع ربها لتكتشف بهدي من إيمانها مشيئته عليها؛ ومع نفسها ـ بفكرها وروحانيتها وتراثها وخبراتها ـ لتجد فيها بذور دعوتها وتجددها؛ ومع مجتمعاتها لتصغي إلى نداءاتها ومعاناتها واحتياجاتها. وفي وسط هذا كله تكتسب وجهها المميز، وعطاءها الفريد، وأصالتها التي تمتاز بالقدم والتجدد الدائم. وفي هذا المنعطف التاريخي الذي نجتازه، والحافل بالتفاعلات والمتغيرات والتحديات، عالميًا وإقليميًا ومحليًا، تقف كنائسنا وقفة تفكير وتأمل لتجدد أمانتها لله وللإنسان.
نذكر ونشكر
14. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نعرب عن شكرنا لله لما تختبره كنائسنا من تجليات الروح في حياتها ومسيرتها الأرضية. فالروح القدس يسكن كنائسنا، ويعمل فيها، ويجدد شبابها، لأنه الروح الذي يعمل كل شيء جديدًا (رؤيا 21: 5). وهذا ما يثلج صدورنا ويشجعنا على مواصلة المسيرة وإياكم بكل ثقة، مهما كثرت الصعوبات وتراكمت التحديات. ففي كنائسنا نشهد اليوم حركة واسعة من التفكير الجاد والمسؤول والخلاق الذي يرمي إلى إبراز هويتنا الإيمانية والكنسية والمجتمعية، الآن وهنا. وينبت هذا التفكير، متزامنًا متشابكًا، في مختلف الفئات والكنائس المسيحية ليصب كله، بالرغم من تنوع الظروف التي ينطلق منها، في بوتقة المسيرة الكنسية الواحدة في شرقنا العزيز. ولا يتوقف الحد عند التفكير بل يتعداه إلى الترجمة الفعلية في مختلف المجالات، نذكر منها الحياة الكنسية، والحياة الليتورجية، والعمل الاجتماعي، والالتزام بالحياة العامة بكل أوجهها، ومشاركة العلمانيين المتنامية في حياة الكنيسة، والنضج في الإيمان لدى مختلف قطاعات الشعب المؤمن، ونمو الدعوات إلى الحياة الكهنوتية والرهبانية وسائر أشكال الدعوة في الكنيسة، وغير ذلك من المجالات. إن بذور التجدد المختلفة، التي أخذت تنمو في كنائسنا، لهي مؤشر خير لحيويتها ومستقبلها.
… ونتساءل
15. إن بذور التجدد هذه تتزامن مع شتى الصعوبات والعقبات والمشاكل التي يجدر بنا أن نتأمل فيها ونواجهها ونحن ننظر إلى المستقبل. إننا لا ننس ما يساورنا وإياكم من قلق ومخاوف في هذا المنعطف التاريخي المثير والصعب الذي نعيشه. إننا ننظر إلى أنفسنا في بعض الأحيان، وإذا بنا أشبه ما نكون بسفينة تشق طريقها وسط الأمواج والعواصف. وهذا ما يوقظ في قلوبنا الخوف من الحاضر والمستقبل، على أنفسنا وعلى وجودنا، وعلى أصالتنا وهويتنا، مع ما يولده هذا الخوف أحيانًا من شعور بالإحباط واليأس. إن الصعوبات الجمة والحقيقية التي تتعرض لها جماعاتنا المسيحية، في كل آن في حياتها اليومية، لا تغيب عن أذهاننا. وتأتي هذه الصعوبات من التوترات التي قد تنشأ في كل كنيسة على حدة لسبب أو لآخر، أو من حالة الفرقة والتباعد بين الكنائس المختلفة في شرقنا، أو من علاقتنا مع الآخرين التي لا تسودها دائمًا روح الأخوة والاحترام، أو من حالة عدم الاستقرار المزمن الذي نعيشه في منطقتنا. وهذا كله يولد فينا تساؤلات كثيرة ومقلقة تجعلنا نعيش في توتر دائم جرحًا فاغرًا يستنزف دماءنا، ويحد من حيويتنا، ويضع علامة استفهام على وجودنا وشهادتنا.
… وندعو
16. ومع ذلك نتذكر جميعًا أن إيماننا بالمسيح هو مصدر طاقة روحية جبارة سكنت فينا في الماضي وعبرت بنا وسط الصعوبات وتقلبات التاريخ العاتية. وهي الطاقة التي تواكب حاضرنا ومستقبلنا لتعطينا الثقة بأنفسنا والطمأنينة في مسيرتنا. إن المسيح يرافقنا وسط الأمواج والعواصف ليقول لنا: »ما لكم خائفين، يا قليلي الإيمان؟« (رومة 3: 18). إن إيماننا قوة محررة تعتقنا من رواسب الخوف التي تنتابنا بسبب الصعوبات. إن كنائسنا كنائس فصحية، والتوتر شكل من أشكال الحياة بما تنطوي عليه من موت وقيامة. ولهذا فإننا ندعو جميع المؤمنين في بلداننا إلى التفكير والعمل، مهما كانت الصعوبات، مجذرين في مسيحهم وكنائسهم ومجتمعاتهم، وسائرين بروح الإيمان والفرح، ومتذكرين دومًا أن »آلام هذا الزمن الحاضر لا تعادل المجد الذي سيتجلى فينا« (أعمال الرسل 1: 8.).
حضور
17. بعد أن استعرضنا وإياكم الظروف العالمية والإقليمية والكنسية التي نعيش فيها، نود الآن، في وسط هذا كله، أن نحاول تحديد بعض معالم دعوتنا ورسالتنا في ضوء إيماننا. ولقد اخترنا »الحضور« كواقع إيماني يرافق تفكيرنا، ويوحد أطرافه، ويحدد اتجاهه العام. ويعني الحضور أن نكون في وسط المجتمع الذي نعيش فيه علامة لحضور الله في عالمنا، مما يدعونا إلى أن نكون »مع« و »في« و »من أجل«، لا »ضد« أو »خارج« أو »على هامش« المجتمع الذي نعيش فيه. وهذا مطلب أساسي من متطلبات إيماننا ودعوتنا ورسالتنا. ويقف الحضور بين نقيضين: الانعزال والذوبان. وكلاهما شر قاتل. فالانعزال يلغي رسالتنا، والذوبان يقضي على هويتنا. أما الحضور الأصيل فهو ضمان لهذه وتلك، إذ يعمق أمانتنا لله ولأنفسنا وللمجتمع الذي أراده الله مكانًا لمسيرتنا الأرضية.
حضور رسالة وشهادة
18. إن حضورنا المسيحي لا يريد أن يكون حضورًا من أجل ذواتنا، لأن السيد المسيح لم يؤسس كنيسته كي تبقى في خدمة نفسها، بل لتكون شاهدة وصاحبة رسالة هي رسالة مؤسسها ومعلمها بالذات. إن إسقاط الشهادة والرسالة من حياتنا المسيحية ومسيرتنا الكنسية إنما هو إلغاء لذواتنا وللهدف الذي من أجله دعانا مخلصنا. تكون الكنيسة كنيسة المسيح حقًا بقدر ما تكون علامة لمحبة الآب الخلاصية للبشر بنعمة السيد المسيح وبقوة الروح القدس. لقد حدد السيد المسيح معنى حضورنا بقوله: »تكونون لي شهودًا" (أعمال الرسل 2: 32.). واستجاب الرسل لتلك الدعوة: »ونحن شهود على ذلك« (رؤيا 1: 5؛ 3: 14). ولقد عبر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عن هذا الوجه من الحياة المسيحية والكنسية بقوله: »الوجه الأول للرسالة هو شهادة الحياة المسيحية التي لا غنى عنها. المسيح الذي نتابع رسالته، هو »الشاهد« المثالي (رسالة الفادي، رقم 42، 43)ونموذج الشهادة المسيحية… إن المسيحيين والجماعات المسيحية يندمجون في صميم حياة شعوبهم. وهم »آيات« إنجيلية بأمانتهم لوطنهم وشعبهم وثقافتهم الوطنية، ومع الاحتفاظ بالحرية التي أكسبهم إياها المسيح. (راجع متى 13: 44 ـ 46). إن الشهادة للتطويبات الإنجيلية تبقى الطريق الأول للإنجيل نحو قلوب البشر وضمائرهم. وإذا كانت الجماعات المسيحية في الشرق قد انغلقت في الماضي على ذاتها، وفقدت معنى الرسالة والشهادة بسبب ظروف تاريخية قاهرة، مكتفية بالبحث عن الاستمرار في الوجود فحسب، فإنها مدعوة اليوم إلى التحرر من رواسب الماضي لتحيي معنى الرسالة في حياتها فتنفتح على العالم المحيط بها، وتشهد لذاك الكنز الثمين الدفين، الذي عثرت عليه، والذي يفرح قلبها كما يفرح قلب كل إنسان (متى 5: 14 ـ 16).
نور وملح وخميرة
19. وإننا نجد في تعليم سيدنا ومخلصنا ما يدعونا إلى مثل هذا الحضور حيث يدعونا إلى أن نكون نورًا: »أنتم نور العالم. لا تخفى مدينة على جبل، ولا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة، فيضئ لجميع الذين في البيت. هكذا فليضئ نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الصالحة، فيمجدوا أباكم الذي في السماوات« (متى 5: 13)؛ وملحًا: »أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح فأي شيء يملحه؟ إنه لا يصلح بعد ذلك إلا لأن يطرح في خارج الدار فيدوسه الناس« (متى 13: 33)؛ وخميرة: »مثل ملكوت السماوات كمثل خميرة أخذتها امرأة فجعلتها في ثلاثة مكاييل من الدقيق حتى اختمرت كلها« (لوقا 12: 13). فإذا انعزل النور عن البيت فإنه يفقد معنى وجوده، وإذا انتزع الملح عن الطعام فلا فائدة منه، وإذا خرجت الخميرة من العجين تحجرت وفسدت. وعندما لا نكون نورًا وملحًا وخميرة فإننا نتحول إلى كيان جامد متحجر يكون عبئًا على نفسه وعلى مجتمعه.
»لا تخف، أيها القطيع الصغير«
20. تحمل الكلمات الإنجيلية الآنفة الذكر بشرى سارة عظيمة للمسيحيين في الشرق. وإذا قرأناها في ضوء وضعنا كأقليات في مجتمعاتنا، فإنها تصبح قادرة على أن تحول هذا الوضع، من واقع اجتماعي يضغط على نفسياتنا ونظرتنا غلى أنفسنا ونظرة الآخرين إلينا، إلى واقع دعوة وشهادة ورسالة نعيشه في فرح الإيمان. إن النور ضئيل في البيت ولكنه يضيء البيت كله، والملح قليل في الطعام ولكنه يعطيه نكهته، والخميرة صغيرة في العجين ولكنها تخمره وتعده لأن يكون خبزًا. إننا نذكركم بما قلناه في رسالتنا الأولى: »إن الكنيسة لا تقاس بالأرقام والإحصاءات، بل بوعي أبنائها الحي لدعوتهم ورسالتهم«. لقد حان الوقت لنستوعب هذا الواقع الكمي لنحوله إلى واقع نوعي، حيث يحل حجم القوة الروحية محل الحجم العددي. وبذلك نتحرر من كل ما خلفه وضع الأقلية في التاريخ من رواسب نفسية واجتماعية قاتلة، كتجربة الانكفاء، وعدم الثقة بالنفس وبالمجتمع، والتظلم، والانعزال أو الذوبان: »لا تخف، أيها القطيع الصغير« (أعمال الرسل 2: 47). لقد كان المسيحيون الأولون، الذين نشأوا في بلادنا، أقلية صغيرة متواضعة. غير أنهم كانوا يمتازون بحيوية الإنسان الجديد وحماسه وفرحه، مما جعل الناس أجمعين ينظرون إليهم بإعجاب واندهاش: وكانوا »ينالون حظوة عند الشعب كله« (1 تيموتاوس 6: 14). إن نظرة الناس إلينا تقررها، بشكل من الأشكال، نوعية حضورنا وكثافته، لا قلة عددنا أو كثرته.
إيمان شخصي
21. يرتبط حضورنا المسيحي ارتباطًا وثيقًا بنوعية إيماننا وعمقه وكثافته وأصالته وصدقه. إن الإيمان هبة من الله وصلتنا في يسوع المسيح. ولقد عهد السيد المسيح في هذه الوديعة الثمينة إلى رسله، الذين قاموا بدورهم بنقلها إلى خلفائهم. ولقد تناقلت الأجيال المسيحية عبر القرون هذه الوديعة »بريئة من العيب واللوم« (قرار في مهمة الأساقفة الراعوية، رقم 14)، رغم التقلبات والتحديات والصعوبات التاريخية الكثيرة. ولا يسعنا إلا أن نشكر لله ما تحلت به كنائسنا المسيحية في الشرق من شجاعة وثبات وصبر وحكمة مكنتها من المحافظة على الوديعة، فوصلتنا حية وقد أثرتها الأجيال المتعاقبة بفكرها وتراثها وثقافتها وحياتها وشهادتها واستشهادها في كثير من الأحيان. ومما لا شك فيه أن التحديات الحالية والمتغيرات العميقة، التي تجري حولنا، تدعونا إلى تجديد الأمانة لإيماننا، فيتحول ما تسلمناه من آبائنا وأجدادنا إلى قبول واع وحر ومسؤول وعامل وفاعل فينا. فمن الملاحظ أن الإيمان يواجه اليوم تحديات حقيقية ناجمة عن متغيرات مهمة في الأطر الاجتماعية التقليدية التي لم تعد، كسابق عهدها، تسند إيماننا. وعليه فإن الإيمان الذي يعتمد فقط على الوراثة من غير أن يتحول، بنعمة الله واستجابتنا، قناعة شخصية عميقة، لم يعد كافيًا لمواجهة التحديات الحاضرة. وهذا الإيمان الشخصي هو الذي يصب بدوره في الكنيسة فيجعل منها جماعة حية تستمد وجودها، لا من قوانين اجتماعية عابرة ومتقلبة، بل من الحب الإلهي الذي يجمعنا في المسيح بقوة الروح القدس.
تثقيف الإيمان
22. إن انتقال الإيمان من مجرد واقع وراثي إلى قبول شخصي رهن، نوعًا ما، بالتعمق في الإيمان وتثقيفه، لأن جهل الإيمان أو السطحية فيه قد يؤدي إلى فقدانه، خاصة في إطار التحولات العميقة في أنماط الحياة في المجتمع الحالي، حتى في شرقنا، حيث تغيرت الأجواء التقليدية التي أسهمت في الماضي في المحافظة على الإيمان ودعمه. إن جهل الإيمان هو جهل المؤمن لنفسه. وعندما يجهل المؤمن نفسه يفقد هويته ودعوته ورسالته، وتفقد الجماعة المؤمنة أصالتها لتتحول إلى مجرد جسم اجتماعي انسلخ عن التفاعل الحي مع أصوله الإلهية. وفي هذا المجال لا يسعنا إلا أن نشيد بكل الجهود المبذولة والمبادرات الرامية إلى نشر الثقافة الدينية والوعي الكنسي والخبرة الروحية لدى المؤمنين البالغين عن طريق الحركات المسيحية المتعددة، والمؤسسات المناسبة، والمراكز والمعاهد المتخصصة. وندعو إلى مواصلة تلك الجهود وتكثيفها، وتوفير الإمكانات البشرية والمادية لها، فتسهم في خلق جيل جديد من المؤمنين المدركين معنى انتمائهم إلى مسيحهم وكنيستهم ومجتمعهم، فتصل رؤية الإيمان إلى كل مجالات حياتهم، العامة والخاصة، لتغنيها وتحييها بنور الإيمان.
التربية الدينية
23. أما التربية الدينية فتظل المكان الأساسي الذي فيه يعي المؤمن هويته المسيحية، وانتماءه الكنسي، ورسالته في المجتمع، انطلاقًا من بذور الإيمان التي زرعها الله فيه بنعمة العماد المقدس. لا نبلغ إذا قلنا إن الوجه الأصيل للمؤمن وحيوية الجماعات المؤمنة رهن، بشكل من الأشكال، بنوعية التربية الدينية التي يتقبلونها في الكنيسة. إن التربية الدينية حق للمؤمن وواجب عليه، وتنتظر من الكنيسة أن توفر لها الظروف الملائمة، والأدوات الناجعة، والمتابعة المستمرة، فتأخذ أهميتها ودورها في حياة الكنيسة في بلادنا، سواء أكان ذلك في البيت أو المدرسة أو الرعية، ذلك المثلث التربوي الذي ينشأ فيه المؤمن وينضج من كل جوانب حياته المسيحية. من الضروري أن تبقى التربية الدينية مجالاً أساسيًا من التزام كنائسنا ومؤسساتنا كي يصبح الإيمان »حيًا، وصريحًا، وفاعلاً«، في حياة المؤمن والجماعة المسيحية. وهنا نوجه تحية التقدير والمحبة لجميع الذين يكرسون حياتهم لمثل هذا العمل النبيل من كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين. إن كنائسكم تقدر جهودكم وتدعوكم إلى الاستجابة المستمرة لمتطلبات هذه الرسالة السامية بإعداد أنفسكم لها من الناحية العقائدية والتربوية والروحية.
حضور الصلاة
24. إن الإنسان الشرقي إنسان يصلي. يقف أمام ربه، في السراء والضراء، في حوار متصل يمجد الله وينقي القلب ويجدد الحياة. ومما لا شك فيه أن الحياة الروحية والليتورجية والافخارستية تشكل إحدى الثوابت البارزة في تاريخ شرقنا العزيز. إن الشرق المسيحي هو »الشرق الذي يصلي« (البابا بيوس الحادي عشر). ومن المعروف أن الصلاة الليتورجية كانت دومًا في كنائسنا الإطار الحي الذي تناقلت فيه الأجيال المتعاقبة وديعة الإيمان وعملت على تنشئته وتنميته في قلوب المؤمنين. إن الصلاة على أنواعها هي أسمى مظاهر الحضور المسيحي. وإذا ما اقترنت بالالتزام في المجتمع لتخصبه ويخصبها فإنها تعطي الصورة الحقيقية للمؤمن، الذي يستمد مخزونه الروحي من الوقوف أمام ربه فيتحول هذا المخزون إلى طاقة عمل والتزام في شتى مجالات الحياة. إن أرضنا هي أرض الحوار التاريخي بين الله والبشر. ويستمر هذا الحوار الأزلي بين الله والإنسان ويتجدد عبر كل جماعة مؤمنة يحاورها ربها، وتحاور هي ربها، فتستمد من ينابيعه الصافية قوتها الروحية وهويتها الإيمانية. وهنا لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن حركة من التوجه إلى الصلاة تعم الكنيسة في كل مكان. وهو بعث يجد في تراثنا الروحي العريق أصولاً وجذورًا عميقة تدعونا إلى تفعيلها وتنشيطها. ولقد أدى ذلك في كنائسنا إلى نشأة مجموعات صلاة كثيرة نود أن نشجعها، ونغذيها بروحانيتنا وتراثنا، ندعوها إلى المساهمة في حياة الكنيسة وتجددها الروحي.
النسك والتقشف
25. أما الوجه الموازي لثوابت الصلاة في تراثنا المشرقي فهو الحضور النسكي كما تعبر عنه الحياة الرهبانية بأنواعها المختلفة، وكما يعبر عنه التقشف المسيحي الذي يمارسه عامة المؤمنين. إن هذا النهج من الحياة المسيحية نشأ وترعرع في الشرق، ولا يزال يؤدي شهادة لحيوية الإيمان المسيحي في بلادنا والعالم. لقد كانت الأديرة في التاريخ العربي مرجعًا من مراجع التعرف على المسيحية، كما ينوه بذلك الأدب العربي القديم. إن المعاناة والمحن التي تنقض على شعوبنا من كل جانب لتدعونا إلى أن نتذكر أن الحياة جهد وجهاد روحيان تسموان بالنفس، وتدفعانها إلى النقاء الروحي، وتعطيانها روح المواجهة للصعوبات والمحن. إن التقشف يؤهل المؤمن لأن ينظر إلى الخليقة والتاريخ نظرة صافية خالية من كل هوى مما يساعده على الحضور الإيجابي والفاعل في عالم اليوم وقضاياه. وهذا ما يدعونا إلى تشجيع الحياة النسكية في كنائسنا كي تكون موقعًا متقدمًا من الحضور المسيحي والشهادة الإنجيلية في بلادنا. كما يدعونا إلى تبني القيم الإنجيلية الأساسية التي تنطوي عليها الحياة النسكية والعيش بموجبها لتكون سندًا في حياتنا ومسيرتنا المسيحية، وتحول وجودنا إلى علامة حية للملكوت.
المسيح المتجسد
26. إن التجسد هو قلب إيماننا المسيحي: »نزل من السماء وتجسد بقوة الروح القدس من مريم العذراء وتأنس« (قانون الإيمان). ويعبر يوحنا الإنجيلي عن هذا الواقع الإلهي بقوله: »في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله… والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا«. وهذا ما يجد صداه في الرسالة إلى العبرانيين: »لما كان الأبناء شركاء في الدم واللحم، شاركهم يسوع أيضًا فيهما مشاركة تامة… فحق عليه أن يكون مشابهًا لإخوته في كل شيء«. إن الطبيعة البشرية التي تجسد فيها ربنا وسيدنا يسوع المسيح ليست طبيعة وهمية، إنما هي طبيعة واقعية بكل كثافتها واتساعها (ماعدا الخطيئة)، مع ما تنطوي عليه من ملامح فردية واجتماعية وثقافية. وعليه فإن سر التجسد يبقى الأساس والنموذج الذي تتمثل به الجماعة المسيحية في مسيرتها الأرضية، مما ينعكس على نشاطها الرعوي بمختلف مستوياته ومجالاته.
الكنيسة المتجسدة
27. إن تجسد الكنيسة هو وجه من أوجه سر المسيح المتجسد. فالكنيسة واقع إلهي وإنساني يعاش في نطاق الزمان والمكان بكل ما يرتبط بهما من حيثيات تاريخية وجغرافية واجتماعية وحضارية. تتفرس الكنيسة في هذا الواقع البشري الملموس لتأخذ منه ملامح وجهها المميز وطابعها الخاص، وهذا ما ينعكس على شكل ممارستها لدعوتها ورسالتها الآن وهنا. أما الوسيط لهذا التجسد فهي الكنائس الخاصة حيث إن »الكنيسة المنتشرة في جميع العالم« تصبح »نظامًا مجردًا ما لم تكن مجسدة وحية في كنائس خاصة«. وفي هذه الكنائس الخاصة »توجد حقًا وتعمل كنيسة المسيح الواحدة، المقدس، الجامعة، الرسولية«. إن الكنيسة حضور، ويتم هذا الحضور عن طريق الكنائس الخاصة عندما تتجسد في عالم الإنسان الواقعي »الذي يتحدث بلغة بعينها وله تراث ثقافي معين، كما له نظرته إلى العالم وماضيه التاريخي وتكوين إنساني خاص«. »إن البشارة الإنجيلية تفقد الكثير من قوتها وفاعليتها، إن لم تأخذ في الاعتبار واقع الشعب الذي تخاطبه، وتستخدم لغته، وإشارته ورموزه، وإن لم تجب عن التساؤلات التي يرددها، ولم تندمج في حياته الواقعية«، على ألا يؤدي ذلك إلى تفريغ البشارة من مضمونها أو إلى تحريفها. إن هذا التجسد لهو من متطلبات جامعية الكنيسة وشموليتها، الذي لا يمكن أن يعطي ثماره الحقيقية إلا إذا ظلت الكنائس الخاصة في شركة إيمان عميقة وحية مع الكنيسة الجامعة.
التراث الشرقي
28. وهنا لا بد لنا من أن نلاحظ أن كنائسنا في الشرق أظهرت عبر التاريخ مقدرة فائقة على هذا التكيف الحضاري، الذي أدى إلى نشوء حضارات وتراثات مختلفة ومتنوعة غذت التراث الكنسي العام والثقافة الإنسانية بغنى عطائها وأصالة مساهمتها. وهو التراث الذي أشار إليه المجمع الفاتيكاني الثاني، وأشاد بغناه، واعتبره ثروة للكنيسة بأسرها. ولا تزال هذه التراثات حية عبر مختلف الكنائس المشرقية تستضيء بها وتضيء، وتجد فيها حافزًا لمواجهة التحديات الثقافية والحضارية الحالية. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نشجع المبادرات التي ترمي إلى إحياء هذا التراث وترجمته ودراسته وتمحيصه وتعميمه كي يغذي الذاكرة المسيحية في بلداننا، وهو ما يتم، ولو بشكل متواضع حتى الآن، في مختلف كنائسنا. وحبذا لو وضع كل هذا تحت تصرف المؤمنين من مختلف كنائسنا ليشكل تراثنا المشترك الذي به نفجر ونستنير، إذ إنه مرجع من مراجع حيوية إيماننا وحياتنا المسيحية.
تجسد في اللغة العربية
29. إن التفاعل الحضاري لكنائسنا لم يتوقف في وقت من الأوقات، بل احتفظ بحيوية متجددة عبر الأجيال والمراحل التاريخية المتعاقبة التي مرت بها منطقتنا. وهنا لا بد من الإشارة إلى الحيوية الثقافية التي امتازت بها كنائسنا بعد الفتح العربي، حيث لم تقف الكنائس الشرقية المختلفة متفرجة، سجينة ماض ولى، بل راحت تعمل جاهدة للتعبير عن ذاتها، وفق الظروف الثقافية الجديدة. فدخلت اللغة العربية تدريجيًا في مجالات حياتها الطقسية والفكرية واليومية. وبهذا نجحت كنائسنا في اجتياز تلك العتبة التاريخية بنجاح، بالرغم من جميع الصعوبات والعقبات، فاكتسبت أوراق اعتمادها، وأصبحت جزءًا لا ينفصل عن المسيرة الحضارية في هذه البقعة من العالم، التي أرادها الله حيزًا لإيمانها وعمقًا لتجسده الحضاري. ولهذا فإن المقولة السائدة: »أبت العربية أن تتنصر والنصرانية أن تتعرب« تناقضها الوقائع التاريخية الدامغة.
… وفي الحضارة العربية
30. لم يكتف المسيحيون في الشرق باتخاذ اللغة العربية كأداة تعبير في طقوسهم وثقافتهم ومعاملاتهم اليومية، بل تعدوا ذلك إلى الاهتمام بالشأن الثقافي والحضاري العام. لم يقف المسيحيون متفرجين إزاء التبلور التدريجي للحضارة العربية، بل أسهموا فيها مساهمة فعالة، سواء عن طريق الترجمة أو التأليف، خالقين بذلك صيغة رفيعة للتعاون الحضاري مع اخوتهم المسلمين تعتبر نموذجًا حضاريًا نفخر به بحق، وصورة من الصور المشرقة للعيش معًا. وهذا هو التعاون الذي أدى إلى تفتح حضارة عربية أصيلة مدت الثقافة الإنسانية بديناميتها وغناها لقرون عديدة. وبذلك نشأ التراث الثقافي الواحد الذي أسهم الأطراف الثلاثة في بلورته، والذي جعل التعاون والتلاحم الحضاري بين المسيحية والإسلام واليهودية في بلادنا حقيقة واقعة في أمانة كل طرف لإيمانه ومعتقده. ولم يقتصر الأمر على تلك الحقبة المبدعة للحضارة العربية، بل تعداه إلى الفترات التاريخية اللاحقة. ففي عصر النهضة الحديثة كان المسيحيون أسوة بإخوتهم المسلمين، من رواد تلك النهضة الثقافية والسياسية في العالم العربي التي لا نزال من معينها حتى اليوم. وهذا هو الحوار الحضاري الخلاق الذي ندعو الجميع في بلداننا إلى المضي به قدمًا، مما يقتضي التواصل المستمر بينهم في ظروف تاريخية جديدة تفتح الباب أمام المستقبل.
التراث المسيحي العربي
31. ونود هنا أن ننوه بهذا التراث الضخم والواسع والفريد الذي اتخذ من العربية لغة له، هو ما أصبح يعرف اليوم بـ »التراث المسيحي العربي«، الذي نشأ بنوع خاص ما بين القرنين الثامن والرابع عشر في مختلف الكنائس المسيحية في الشرق. لقد بقي هذا التراث حتى زمن قريب دفين المكتبات على شكل مخطوطات أثرية تبهر الباحثين بعددها، وتنوع موضوعاتها، وغنى مضامينها، وأصالة طروحاتها. أما اليوم فإننا نشيد بجميع الجهود التي تبذل منذ سنوات لتحقيق هذا التراث ونشره ودراسته وتمحيصه بالإضافة إلى البحوث العلمية التي تتناوله. ونود أن نشجع هذا الاتجاه ونوفر له الظروف الملائمة، كي يستمر ويتنامى لما فيه من إفادة ومن حافز لصقل فكر مسيحي عربي في عصرنا الحالي. ونوجه النداء إلى جامعاتنا ومعاهدنا ومراكز البحث العلمي عندنا كي تولي هذا الموضوع اهتمامها وتوظف له الإمكانات البشرية والمادية اللازمة.
المتطلبات الحالية
32. إن العودة إلى مثل هذا التراث لهو حافز لملاقاة احتياجات كنائسنا الحالية الملحة في المجال الثقافي والفكري. وفي مقدمتها تأتي أهمية الكتاب المسيحي والنتاج الفكري الأصيل. إن تراثنا المشرقي عريق وأصيل، ولكنه بحاجة إلى ديمومة الحيوية والتجدد والخلق والإبداع لخدمة المتطلبات الجديدة في ظروفنا الراهنة. إن حركة الترجمة والبحث والتأليف والنشر، بالرغم من نشاطها المتنامي في العقود الأخيرة، لا تزال محدودة إذا ما قارناها بما يستجد من احتياجات. وهذا ما يدعونا إلى مضاعفة الجهود، وإتخاذ المبادرات العملية، لإثراء المكتبة المسيحية العربية بما يلزمها من وسائل فكرية متنوعة تسند مسيرتنا المسيحية، وتعطيها مضمونًا ثقافيًا لا يمكن الاستغناء عنه. ويتصل بهذه الضرورة الحاجة إلى دور نشر وتوزيع متخصصة تنسق في ما بينها لبعث الحركة الفكرية المسيحية في بلداننا. أضف إلى ذلك ضرورة الاهتمام بوسائل الإعلام الحديثة بغية إقامة أداة عصرية للإعلام والثقافة تكون في الوقت عينه أداة حقيقية للحضور المسيحي والشهادة المسيحية.
تفاعل وأصالة
33. إن هذا الحوار الثقافي الذي يميز خبرتنا المسيحية في الشرق يجب ألا ينفصل عن الأصالة والفرادة، لأن التفاعل الحضاري يفرض الأصالة ويستدعيها. على هذا الأساس يثرينا مجتمعنا ونثريه بدرونا. بالتفاعل يجري بين ذاتين أصيلتين تعملان معًا لخلق صيغة حضارية واحدة تمجد الله وتشرف الإنسان وتخدمه. إن التقمص العابر والتلون الآني، الذي يسقط بموجبه أحد الطرفين ذاته وأصالة مساهمته ليذوب في الآخر، لن يؤدي إلا إلى حوار مزيف لا يفيد أحدًا ولا يسهم في شيء. وعليه فإن مسؤوليتنا مزدوجة، تجاه إيماننا وتجاه تراثنا. ففي الأمانة لهذا وذاك نستطيع أن نقدم مساهمة حقيقية في المسيرة الحضارية الواحدة. إن الشأن الثقافي مجال حيوي لتطور مجتمعاتنا، مما يتطلب متابعة تطوره، وتعميق علاقته بتراثنا من جهة، وتفاعله مع الثقافة العالمية من جهة أخرى. وهذا ما يؤهلنا أن نسهم في بلورة ثقافة عربية ووطنية أصيلة ومتجددة تناسب إرثنا الحضاري ومتطلبات عصرنا، بروية وموضوعية وروح نقدية، بعيدًا عن الانجرافات الإيديولوجية التغريبية التي تسلخنا عن ذاتنا وعن محيطنا الثقافي، وبعيدًا، في الوقت عينه، عن الاستسلام للشعارات المبتذلة
4- حضور الخدمة
المسيح الخادم
34. عندما حدد السيد المسيح الأوجه المتعددة لعمله الخلاصي شدد على الخدمة كطابع مميز لرسالته. فهو الملك الذي »أتى ليخدم لا ليخدم«. إن السيد المسيح هو المعلم والرب الذي »أخذ منديلاً فائتزر به، ثم صب ماء في مطهرة وأخذ يغسل أقدام التلاميذ، ويمسحها بالمنديل الذي ائتزر به«. ولقد تجلت خدمته خاصة تجاه المنبوذين والهامشيين في المجتمع: المرضى، والمعوقين، وأصحاب العاهات الطبيعية، والفقراء، والخطأة، والنساء، والأطفال، وغيرهم ممن كان المجتمع لا يعيرهم أي اهتمام. لقد وقف السيد المسيح مع جميع هؤلاء، وأخرجهم من عزلتهم، وداوى جراحهم الروحية والمعنوية والجسدية، وأعاد إليهم كرامتهم الإنسانية، متخطيًا الحواجز الاجتماعية والعادات السائدة، وحتى أحكام الشريعة، لأن »السبت جعل للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت«. وفي تعليمه رفع السيد المسيح من شأن الخدمة وأولادها شرفًا فريدًا حيث إن كبير القوم خادمهم. وبهذا لم تعد الخدمة شأن العبيد، بل شأن الأحرار الذين يضعون حريتهم في خدمة المعوزين والمحتاجين. ولقد تجلت خدمة السيد المسيح الملوكية في أسمى صورها على الصليب حيث لم يكتف بتقديم ما عنده فحسب، بل ذاته وحياته أيضًا في سبيل من يحبهم. فقد جاء ليخدم و»يفدي بنفسه جماعة الناس«.
الكنيسة الخادمة
35. لم يكتف السيد المسيح بوصف نفسه بالخادم، بل دعا أتباعه إلى السير في إثره فيكونوا علامة لحضوره بين البشر عن طريق خدمتهم لغيرهم: »أنتم تدعوني المعلم والرب، وأصبتم في ما تقولون، فهكذا أنا. فإذا كنت أنا الرب والمعلم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضًا أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضًا ما صنعت لكم«[1]. ولقد رأت الكنيسة دومًا في مثال السيد المسيح وتعليمه دعوة ملحة لها كي تضع نفسها في خدمة كل إنسان، أيًا كان، خاصة المتألم من شتى أنواع البؤس البشري، وكل الإنسان، روحًا وجسدًا. وقد لخص المجمع الفاتيكاني هذا التوجه الكنسي بقوله: »(ولهذا السبب)، إذ يعلن المجمع أن للإنسان دعوة سامية، ويؤكد أن زرعًا إلهيًا قد وضع فيه، فإنه يعرض على الجنس البشري تعاون الكنيسة الصادق لتأسيس أخوة شاملة، وفقًا لهذه الدعوة، فلا يدفع الكنيسة أي طموح دنيوي ولا تتوخى إلا غاية واحدة وهي أن تتابع، تحت زخم الروح القدس المعزي، عمل المسيح نفسه الذي أتى إلى العالم ليشهد للحق، ليخلص لا ليدين، ليخدم لا ليخدم«[2]. وترجمت الكنيسة، على مدى تاريخها الطويل، هذا التوجه إلى مؤسسات ومبادرات متنوعة تعنى بأعمال الرحمة الجسدية والروحية.
خدمة الإنسان
36. إن الرسالة الروحية للكنيسة لا تنفصل عن رسالتها الاجتماعية، لأن محبة الله التي أفيضت في قلوبنا تتوجه إلى الإنسان في الوقت عينه الذي فيه تتوجه إلى الله: »أحبب الرب إلهك بكل قلبك، وكل نفسك، وكل قوتك، وكل ذهنك، وأحبب قريبك حبك لنفسك«. إن سير الكنيسة نحو خيرات الملكوت السماوي لا يليها عن الشؤون الزمنية والأرضية، بل بالعكس من ذلك يزيد التزامها بكل ما هو إنساني، عزمًا وتصميمًا. فهي »السامري الرحيم« الذي يتوقف ليداوي جراح الإنسان: »رآه فأشفق عليه، فدنا منه وضمد جراحه« لقد تضامن الله مع الإنسان في كل شيء ما عدا الخطيئة، فاتخذ جسدًا مثل أجسادنا ليحررنا من الخطيئة ومن كل ما يشوه صورته فينا من آفات روحية ومعنوية وجسدية. وتظل الكنيسة علامة حية وملموسة ومرئية تشهد في التاريخ لهذا التضامن الإلهي بوقوفها إلى جانب الإنسان كي تخفف من آلامه بكل أنواعها وكي تعزز نموه من كل جوانبه.
في شتى المجالات
37. وإذا نظرنا إلى كنائسنا فإننا نجد أن الخدمة الاجتماعية والإنسانية تشكل أحد جوانب رسالتها البارزة. وتتنوع هذه الخدمة لتشمل مختلف حاجات الإنسان المتألم، المادية والثقافية والاجتماعية والتنموية. وإننا نذكر ذلك لا من باب المفاخرة، بل كي نجدد تضامننا مع كل ألم وعوز، والتزامنا بعمل كل ما في وسعنا للمساهمة في تخفيف حدة ألم الإنسان بكل أشكاله ومظاهره. كما تود كنائسنا أن تلم بما يمكن أن يعلق بهذا العمل من سلبيات كي تنقيه دومًا ليكون بروح المسيح وإنجيله. بالإضافة إلى ذلك فإننا ندعو المؤمنين عامة، والمؤسسات المسيحية الاجتماعية بنوع خاص، إلى أن تتنبه دومًا إلى احتياجات المجتمع لتكتشف ما استجد منها، وتفتح مجالات جديدة لعملها، فيواكب هذا العلم مسيرة المجتمع ومعاناته وتطلعاته واحتياجاته. وهي لا تهدف من ذلك إلا إلى بناء الإنسان، إنسان واع لكيانه وكرامته الإنسانية، انطلاقاً من هذه الحقيقية الأساسية أن كل إنسان مخلوق على صورة الله، وأن كرامته مستمدة من هذا الشبه الإلهي. ولا تقصد كنائسنا من وراء عملها الاجتماعي هذا، تجاه أي محتاج، أية منفعة ذاتية ولا أية مصلحة مهما كان نوعها ولا أية نية مبطنة. فهي تخدم كل إنسان متألم على أنه إنسان، وعلى أنه صورة للمسيح المصلوب والمعذب في تاريخ الإنسانية.
تجديد الرؤية
38. وعليه، فإننا نوجه النداء إلى المؤمنين والمؤسسات الاجتماعية في الكنيسة كي يجددوا رؤاهم الاجتماعية، وخدماتهم المتعددة، فتتجاوب دومًا مع المحبة المسيحية الأصلية التي تلهمها وتحييها. ولقد آن الأوان أن يحصل تواصل حقيقي بين جميع من يعملون في هذه المجالات، أشخاصًا ومؤسسات، بغية التنسيق الدائم والتقويم المستمر الذي يدفع هذا العمل إلى الأمام، وفق الحاجات المستجدة. كما تستحثهم على العمل بروح التعاون مع جميع من يعملون في هذه المجالات في مجتمعنا، لأن العمل الاجتماعي والإنساني هو مكان ممتاز للحوار والتعاون بين كافة المسيحيين وكافة أبناء المجتمع الواحد، حيث إن الإنسان المتألم يجمعنا ويوحدنا. وهذا كله يفترض إنشاء دوائر متخصصة تتمكن من أداء دورها بجدارة وفاعلية. إن الرؤية الواضحة التي تتحول إلى مشروع عملي تنعشه روحانية إنجيلية حقيقية لقادرة على جعل هذا الجانب من رسالة الكنيسة شهادة حية لالتزامنا بقضايا النمو الإنساني من كل جوانبه. وهذا كله يعود بالنفع على الجميع، على مستوى التنظيم والتنسيق والتطور والتشعب والتنوع والتعاون، مما يحقق بصورة أفضل الغاية النبيلة والسامية التي وضعت من أجلها هذه المؤسسات في إطار من الخدمة الحقيقية: خدمة الجماعة المؤمنة وخدمة المجتمع ونموهما. ويتطلب ذلك ارتدادًا مستمرًا إلى روح الإنجيل وقيمه، فلا تكون الخدمة تعبيرًا عن ملكيات مختلفة وعناوين وأسماء حيث إن العنوان الأكبر الذي يجب إظهاره هو الله وحبته وخلاصه. وهنا أيضًا نوجه تحية التشجيع والمحبة إلى جميع الذين يعملون بتفان متناه في شتى حقول العمل الاجتماعي، خاصة أشدها صعوبة وتضحية.
»نكون مسيحيين معًا أو لا نكون«
39. لقد وردت هذه العبارة في رسالتنا الأولى، ونود هنا أن نذكر ما ورد في تلك الرسالة تحت عنوان »إلى اخوتنا المسيحيين«: »إن كنائسنا في الشرق تمتاز بقدمها، وغنى تراثاتها، وتنوع تعابيرها الطقسية، وأصالة روحانياتها وآفاقها اللاهوتية، وقوة شهادتها عبر القرون التي وصلت حتى الاستشهاد البطولي في بعض الأحيان. وكل هذا رصيد حي نحمله في قلوبنا، وحافز أمل عظيم، ومصدر ثقة وثبات نستلهمه بينما نتلمس طريق المستقبل. إن التنوع هو السمة الأساسية للكنيسة الجامعة والمسيحية في الشرق. ولقد كان هذا التنوع دومًا مصدر غنى للكنيسة جمعاء عندما عشناه في وحدة الإيمان وبروح المحبة. ولكنه، يا للأسف الشديد، تحول إلى انقسام وفرقة بسبب خطايا البشر وابتعادهم عن روح المسيح. ومع هذا فإن ما يجمعنا أكثر وأهم مما يفرقنا ولا يحول دون تلاقينا وتعاوننا. إن مسيحية الشرق، على انقساماتها، تشكل في أساسها وحدة إيمان لا تتجزأ. إننا مسيحيون معًا في السراء والضراء. فالدعوة واحدة والشهادة واحدة والمصير واحد. وعليه فنحن مطالبون بالعمل معًا، بشتى الطرق والوسائل، لتثبيت جذور المؤمنين الموكلين إلينا، بروح الأخوة والمحبة، في مجالات عدة يدفعنا إليها الخير المشترك لعامة المسيحيين، كما تدفعنا إليها تطلعات جميع المؤمنين من مختلف الكنائس المسيحية، الذين يضعون كبير آمالهم في تعاوننا وتقاربنا. في الشرق، نكون مسيحيين معًا أو لا نكون. وإن لم تكن العلاقات بين الكنائس في الشرق دومًا على ما يرام لأسباب كثيرة، منها الداخلية ومنها الخارجية، فقد حان الوقت أن ننقي ذاكرتنا المسيحية من رواسب الماضي السلبية مهما كانت مؤلمة، كي ننظر معًا إلى المستقبل بروح المسيح وبهدي إنجيله وتعاليم رسله«
»ليكونوا واحدًا«
40. ومن هذا المنطلق، فإننا نشجع كل توجه مسكوني حقيقي يرمي، في الحق والمحبة، والحكمة والتواضع، إلى إعادة وحدة الإيمان والإفخارستيا إلى جميع المؤمنين بالمسيح فيعود قميص المسيح إلى سابق عهده موصولاً غير مخيط. إن العديد من الإنشقاقات في الكنيسة بدأت في الشرق لأسباب متعددة. وغالبًا ما رافق هذه الانشقاقات روح الضغينة والكراهية المنافية لروح المسيح. وعليه فإننا نرى أن دعوة السيد المسيح: »ليكونوا واحدًا كما نحن واحد… ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني«، إنما تتوجه، في المقام الأول، إلى ضمائرنا المسيحية في الشرق، وتستحثنا على العمل جاهدين لرفض منطق الشقاق والفرقة، والتوجه إلى طريق التلاقي والوحدة، »عندما يشاء ومثلما يشاء«. في احترام التراثات والخصوصيات المشروعة لكل تقليد كنسي. إن الوحدة المسيحية ليست في شرقنا ترفًا أو مجرد حديث أكاديمي، إنما هي جرح يعاني منه المؤمنون يوميًا، ويرجون أن تتكاثف الجهود لمداواة هذا الجرح الذي يشل حيويتنا ويحد من شهادتنا المسيحية.
المؤسسات المسكونية
41. إننا نلاحظ بفرح وابتهاج نمو الحركات والمؤسسات المسكونية في العالم المسيحي، وقيام الحوارات المسكونية المتعددة الأطراف في الشرق والغرب، ونرافقها بصلواتنا واهتمامنا وتشجيعنا، كي تأتي بالثمار المرجوة، إذا ما تأسست على قواعد ثابتة وصريحة. أما في الشرق، فلا شك أن »مجلس كنائس الشرق الأوسط« الذي انضمت إليه الكنائس الكاثوليكية في الشرق، عام 1990، يعتبر في طليعة المؤسسات المسكونية في منطقتنا، وهو مدعو إلى اتخاذ أهمية متنامية في خدمة المسيحيين في الشرق وفي خدمة الإنسان في مجتمعنا. يهدف هذا المجلس، كما يتضح من نظامه الأساسي، إلى بلورة الحضور المسيحي، وبعث التجدد الروحي، والعمل من أجل الوحدة المسيحية، وإظهار الشهادة المشتركة، وتعزيز التعاون في مجال الخدمة الاجتماعية، والاهتمام بقضايا العدل والسلام. إننا نجدد التزامنا بهذا المجلس كي يكون المنبر »للتلاقي والبحث عن القواسم المشتركة، التي تؤدي إلى حضور مسيحي جماعي وشهادة مشتركة في شرقنا العزيز«. علمًا بأن هذه الشهادة المشتركة لا تريد »نفع ذاتها، بل تبتغي مجد الله وخدمة الإنسان في مجتمعاتنا«، كما تريد أن تكون »علامة حية للتآخي والتلاقي بين جميع أبناء الله في هذه البقعة من العالم« وعليه فإننا سنبذل كل ما لدينا من جهد لمساندة المبادرات التي يتخذها المجلس في مختلف أقسامه فيصبح تعاوننا معه وجهًا من أوجه حياتنا الكنسية ونشاطنا الراعوي. وهنا أيضًا يأتي »مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك«، وهو هيئة أنشئت في آب ]اغسطس[ 1991 لتكون رافدًا من روافد الشركة والأخوة بين المسيحيين في الشرق، فيعمل على تثبيت وتعميق أواصر التواصل والوحدة بين جميع الكنائس في المنطقة، أسوة بغيره من المجالس والهيئات، المحلية أو الإقليمية، الكاثوليكية وغير الكاثوليكية والمسكونية، بالتعاون معها.
الروح المسكونية
42. إن المؤسسات لا تكفي إذا لم تنعشها الروح المسكونية الحقيقية، لأن العمل المسكوني روحانية إنجيلية قبل أن يكون عملاً ميدانيًا. وعليه فإننا نشير إلى معالم تلك الروحانية كما وردت في الوثيقة المجمعية »قرار مجمعي في الحركة المسكونية« لنسعى إلى العيش بموجبها. تقوم هذه الروحانية بتجدد كنائسنا الروحي الذي يعتبر »ضمانًا وعلامة تبشر بنجاح التطورات المقبلة للحركة المسكونية«، وتوبة القلب حي إننا نعزز الاتجاه نحو الوحدة بمقدار ما نجتهد في أن نحيا »حياة اشد طهرًا بحسب الإنجيل«. وبمقدار ما نتحد »بالآب وبالكلمة وبالروح اتحادًا وثيقًا« وهو ما يجعل »الأخوة المتبادلة أكثر عمقًا وسهولة«، والبحث عن التعارف الأخوي المتبادل، بعيدًا عن التصنيفات المتسرعة والأفكار المسبقة. إن هذه التوجهات الروحية هي التي تنقي القلوب، وتجعلنا قادرين عل ملاقاة الاخوة، لا انطلاقًا من مخاوفنا وظنوننا، بل انطلاقًا من روح المسيح الذي يحررنا من كل ما يحول دون رؤية الآخر كأخ لنا في الإيمان.
صعوبات وعقبات
43. ومما لا شك فيه أن مسيرتنا المسكونية، والعلاقة بين الكنائس، تعترضها صعوبات وعقبات ومشاكل. قد تكون هذه المشاكل حقيقية، وقد تكون وليدة الظنون والمخاوف وسوء الفهم وتفسيرات سلبية خلفتها بين الكنائس قرون طويلة من التباعد والفرقة. قد تنشأ هذه المشاكل سواء في الحقل الراعوي أو في غيره من مجالات الحياة. إن مثل هذه الصعوبات تدعونا إلى التلاقي والحوار في مصارحة أخوية صادقة، بروح المسيح وإنجيله. إن مثل هذه الأجواء الإنجيلية لتشكل البيئة المناسبة والأرضية الصالحة التي تساعد على إزالة ما قد يطرأ من إشكالات بيننا. وحبذا لو نشأت في كل أبرشية منابر تكون المكان الذي تعالج فيه مثل هذه المشاكل كلما طرأت، بالإضافة إلى التشاور والتعاون في مجالات كثيرة تقتضيها مصلحة المؤمنين والشهادة المشتركة.
نداء حار وأخوي
44. إن الظروف التي يعيشها المسيحيون في الشرق، بما فيها من تحديات وصعوبات، ليست بالسهلة في وقتنا الحاضر، ومن المؤكد أننا لا نستطيع أن نواجهها وحدنا. ولذلك فإننا نتجاوب مع كل المبادرات والخطوات التي تأتي من سائر الكنائس المسيحية في شرقنا، خاصة من قبل الكنائس الأرثوذكسية الشقيقة التي نكن لها كل المحبة والتقدير والاحترام. إن صعوبات الماضي، مع ما خلفته من مرارة في القلوب، لا يمكن أن تشكل حاجزًا أمام التبادل الأخوي لما فيه خير المسيحيين والمواطنين عامة في بلداننا. إننا نوجه نداء حارًا وأخويًا إلى كل الكنائس المسيحية للتلاقي، فلا نوفر أي جهد صادق يرمي إلى التعاون الحقيقي في كل الميادين التي تمس حياة المؤمنين، فنعزز وحدة المحبة انتظارًا لذلك اليوم العظيم الذي فيه يهبنا الرب نعمة وحدة الإيمان التي أرادها السيد المسيح لكنيسته.
أبعاد الحوار
45. إن الشرق أرض الحوار بين الله والإنسان عبر تاريخ التدبير الخلاصي. ولقد بلغ هذا الحوار قمته في المسيح حيث إنه يجمع في طبيعته اللاهوت والناسوت في آن واحد. ففيه ترتفع البشرية إلى خالقها، ويقترب الله من أبنائه البشر في حوار دائم يكون صدى لذلك الحوار الأزلي القائم في الثالوث الأقدس بين الأقانيم الثلاثة. ولقد حاور الله الإنسان في يسوع المسيح ليتمكن البشر من أن يتحاوروا في ما بينهم. فمن »كانوا بالأمس أباعد« صاروا »أقارب بدم المسيح«. »فإنه سلامنا، فقد جعل من الجماعتين جماعة واحدة وهدم في جسده الحاجز الذي يفصل بينهما«[3]. وعليه لم يبق هنالك »يهودي ولا يوناني«، »عبد أو حر«، »ذكر أو أنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع«.
كنيسة الحوار
46. وفي المجمع المسكوني عرفت الكنيسة نفسها على أنها كنيسة الحوار من منطلق هويتها ودعوتها ورسالتها. ولقد تجسم ذلك في فترة ما بعد المجمع بسلسة من الانفتاحات على أبناء عصرنا في كل الاتجاهات، فأقيمت المؤسسات الضرورية لتجسيم هذا التوجه في الواقع الملموس. أما بلادنا فقد كانت دومًا مقرًا للحضارات وممرًا، مع كل ما في ذلك من تقارب وتنافر، من تكامل وصراع، من احتكاك وصدام. ولقد أدى هذا الوضع، في كل الأحوال إلى صيغ حضارية تستقبل التعددية وتستوعبها. كما تمتاز بلادنا اليوم، كما في الماضي، بالتعددية بمختلف أشكالها، الدينية والعرقية والثقافية والكنسية، مما يجعل الحوار دعوتها الأساسية وتحديها الأكبر. أما كنائسنا، التي عاشت في وسط كل هذا التنوع الحضاري والإنساني، فإنها ترى أن مثل هذا الوضع إنما هو من علامات الأزمنة، التي تقرأها في ضوء إيمانها ورسالتها، لتكتشف فيها دعوتها، وهي دعوة إلى الحوار قبل كل شيء، فتكون علامة حية لوحدة الأسرة البشرية في عالم تمزقه الانقسامات، وفي وقت تدعى فيه الديانات إلى اتخاذ دور إيجابي في حل مشاكل الإنسان، بدل أن تكون مصدر تناحر واقتتال بين أبناء الأسرة البشرية الواحدة والوطن الواحد.
شروط الحوار
47. والحوار موقف روحي قبل كل شيء يقف فيه المرء أمام ربه محاورًا، فتسمو نفسه، ويطهر قلبه ووجدانه، فينعكس ذلك على حواره مع نفسه وعلى حواره مع الآخرين، أفرادًا وجماعات. إن الحوار روحانية تنقلنا من الاستبعاد إلى الاستيعاب، ومن الرفض إلى القبول، ومن التصنيف إلى التفهم، ومن التشويه إلى الاحترام، ومن الإدانة إلى الرحمة، ومن العداوة إلى الألفة، ومن التنافس إلى التكامل، ومن التنافر إلى التلاقي، ومن الخصومة إلى الأخوة. ويعني الحوار مع الآخر معرفته والتعرف عليه والاعتراف به، معرفته كما يعرف هو نفسه، والتعرف عليه بكامل شخصيته، والاعتراف به كمكمل لنا أكثر منه خصمًا أو منافسًا أو عدوًا، وذلك بعيدًا عن الأفكار المسبقة من أي نوع كانت، والمصالح والأنانيات. في مثل هذه الأجواء يتحول الحوار إلى غنى متبادل من غير أن يتنازل أي من الطرفين عن ذاته أو عن تراثه أو عن شخصيته أو عن كيانه. ولا ريب في أن التعصب، بكافة أشكاله ـ باسم الله أو الدين أو القومية أو الطائفية أو الأرض أو العرق أو اللغة أ, باسم الانتماء الحضاري أو الثقافي أو الاجتماعي ـ هو عدو الحوار الأول. إن الفرق شاسع بين المؤمن والمتعصب: فالمؤمن يستخدمه الله، أما المتعصب فإنه يستخدم الله، والمؤمن يعبد الله، أما المتعصب فيعبد نفسه متوهما أنه يعبد الله، والمؤمن يسمع كلام الله، أما المتعصب فيشوهه؛ والمؤمن يرتفع إلى مستوى الله ومحبته، أما المتعصب فينزل الله إلى مستواه؛ والمؤمن يتقي الله، أما المتعصب فيهدد الآخرين بإستمرار؛ والمؤمن يكرم الله، أما المتعصب فيحط من قدره وسموه، والمؤمن يعمل مشيئة الله، أما المتعصب فيضع مشيئته هو مكان مشيئة الله؛ والمؤمن نعمة للبشرية، أم المتعصب فنقمة عليها. إن التعصب شكل من أشكال إنكار الله والإنسان معًا. في المتعصب تتحول طاقة الإيمان والمحبة إلى طاقات للكراهية والاعتداء، ظنًا منه أنه يؤدي لله عبادة إذا ما اعتدى على من يختلف عنهم دينًا أو عرقًا أو لغة أو لونًا أو تراثًا. أما في المؤمن فإنها تتحول إلى طاقات تلاق وتعاون وبناء.
حوار مع اخوتنا المسلمين
48. إن حوارنا هو حوار مع اخوتنا المسلمين قبل كل شيء. إن العيش المشترك بيننا على مدى قرون طويلة يشكل خبرة أساسية لا عودة فيها، وجزءًا من مشيئة الله علينا وعليهم. وفي الوقت الذي فيه تبحث المسيحية والإسلام معًا في عالمنا عن صيغة للتواصل والحوار والتلاقي يجدر أن تستجوب خبرة كنائسنا في هذا المضمار، علمًا بأن هذه الكنائس تود أن تكون جسرًا من الحوار بين الشرق والغرب، بين المسيحية والإسلام، لما لنا من قرابة إيمانية مع الغرب المسيحي وما لنا من قرابة حضارية مع الشرق المسلم. وفي رسالتنا الأولى وضحنا هذه القرابة الحضارية، وما تنطوي عليه من التزام متبادل: »إن عيشنا المشترك الذي يمتد على قرون طويلة يشكل، بالرغم من كل الصعوبات، الأرضية الصلبة التي نبني عليها عملنا المشترك حاضرًا ومستقبلاً، في سبيل مجتمع متساو ومتكافئ لا يشعر فيه أحد، أيًا كان، أنه غريب أو منبوذ. إننا ننهل من تراث حضاري واحد نتقاسمه، وقد أسهم كل منا في صياغته انطلاقاً من عبقريته الخاصة. إن قرابتنا الحضارية هي إرثنا التاريخي الذي نصر على المحافظة عليه وتطويره وتجذيره وتفعيله كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخوي. إن المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين. كما أن المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين. ومن هذا المنطلق فنحن مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ. ولذا يتحتم علينا أن نبحث، بشكل مستمر، عم صيغة، لا للتعايش فحسب، بل للتواصل الخلاق والمثمر الذي يضمن الاستقرار والأمان لكل مؤمن بالله في أوطاننا، بعيدًا عن آلية الحقد والتعصب والفئوية ورفض الآخر. وإننا على قناعة بأن قيمنا الروحية والدينية الأصلية خليقة بأن تساعدنا على تخطي المشاكل التي قد تطرأ على مسيرة عيشنا المشترك. وهذا ما يفرض علينا أن ينظر بعضنا إلى بعض بروح الانفتاح والتعرف المتبادل الحقيقي، لأن الإنسان عدو ما يجهل. إن عالم اليوم تمزقه آفات الفرقة والتعصب والتمييز على اختلاف أنواعها. وإننا نطمح إلى إرساء قواعد عيش تكون نموذجًا لعالمنا، بدل أن نشوه قصد الله فينا فنكون صورة عكسية لما يصبو إليه إنسان اليوم من السلام والوئام والتعاون على أساس المواطنة الحقيقية والصادقة. لقد أرادنا الله، جلت حكمته، معًا في هذه البقعة من العالم. وإننا نقبل هذه الإرادة برحابة صدر، ونرجو أن تعمل هذه الإدارة على توسيع قلوبنا بحيث تتسع للجميع مهما كانت انتماءاتهم المختلفة« (رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الأولى، آب 1991). ومن المعروف أن الحوار الإسلامي المسيحي تجسد في بلادنا على مستويات كثيرة في التاريخ لعل أهمها هذا الحوار اليومي البعيد عن الشكليات الذي يجري في خضم الحياة اليومية، حيث عملت حكمة الفريقين على تطوير عيش مشترك يمتاز بغنى التواصل والتعاون. كما تجلى أيضًا في حوارات أكاديمية لا يزال نتاجها الأدبي قائمًا حتى اليوم. ومع أن مثل هذه الحوارات اتسمت في بعض الأحيان بالجدل العقيم، إلا أننا نلمس أن الكثير منها جرى من منطلق الرغبة في المعرفة في جو من الألفة والصراحة والانفتاح والموضوعية.
مسؤولية متبادلة
49.في زمن المخاض الحالي الذي يجتاح عالمنا العربي يبقى أن إحدى المشاكل الكبرى التي يواجهها هي علاقته مع مختلف الفئات الوطنية على اختلاف معتقداتها. إن المسيحيين والمسلمين تشاركوا في »العيش والملح« قرونًا طويلة. وهذا ما يلقي على الطرفين مسؤولية متبادلة. فالإسلام يتحمل مسؤولية كبرى في هذا المجال إذ إنه مدعو إلى تطمين المؤمنين المسيحيين الذين يعيشون معه في الوطن الواحد. إن المسلم في الشرق لا يستطيع أن يطور أي مشروع لنظام اجتماعي وسياسي من غير أن يأخذ بالحسبان الجماعة المسيحية بشكل يعطيها الثقة، لا بأن حقوقها الدينية محفوظة فحسب، بل أيضًا بأنها جزء لا ينفصل عن حياة المجتمع، وكاملة العضوية في الجماعة الوطنية، بما فيها من حقوق وواجبات. والمسيحيون، من جانبهم، يتحملون مسؤولية مماثلة تدعوهم إلى التخلص من العقد الاجتماعية والنفسية، التي خلفها لهم التاريخ، فيجدوا في إيمانهم ما يحررهم من كل ما يحول دون قبولهم لذاتهم، ودون تلاقيهم مع الآخر، فيتحول حضورهم إلى التزام إيجابي وصادق وحازم في حياة مجتمعاتهم. بهذا يساعد المسيحيون مجتمعهم على أن يستوعبهم ويلقي إليهم نظرة إيجابية. إن المسيحيين والمسلمين لا يحدون من حرية بعضهم البعض، بل يجدون أنفسهم مدعوين معًا إلى مستوى اعمق من الحرية تتيح لهم لقاء الآخر في الصفاء الروحي بعيدًا عن التصفيات المتسرعة، كما تمكنهم من مواصلة هذه الخبرة التاريخية، الخصبة والغنية، مع ما يعتريها من صعوبات. إننا مدعوون إلى تغيير تلك الآلية السلبية التي يمكن أن تتحكم بعلاقاتنا المتبادلة، وإبطال مفعولها، وتحويلها إلى آلية تقبل العيش في الاختلاف. لا يكفي أن يكون بعضنا بجانب البعض، بل بعضنا مع البعض، في سبيل خير الإنسان في بلداننا. إن خبرتنا تمتاز بدينامية مستمرة تستوعب المستجدات وتتطلع إلى المستقبل. وحبذا لو تشكلت منابر أو مؤسسات حوارية فيها نلتقي بشكل دوري كي نبلور ونطور معًا نمط تواصل وتبادل وتعاون يعود بالخير على الجميع.
اخوتنا اليهود طرف في هذا الحوار
50. إن الحوار لا يتجرأ. إن الحوار مع الله يعني الحوار مع أي إنسان أو أية جماعة مهما كانت الصعوبات والعقبات. ومما لا شك فيه أن أبناء الديانة اليهودية هم جزء من هذا الحوار. إن الظروف السياسية المعاصرة التي عصفت بالمنطقة وضعت الكثير من اليهود في وضع صراع وصدام مع المسيحيين والمسلمين العرب. وهذا ما يجعل الحوار عسيرًا وصعبًا. لكن الخبرة التاريخية التي عشناها مع الإسلام في ظل الحضارة العربية، والتي كان اليهود فيها طرفًا مهمًا، تبقى النموذج الذي يمكن السير في خطاه لرسم معالم المستقبل. وهنا نود أن نذكر ما قلناه في رسالتنا الأولى بهذا الخصوص: »نتوجه إليكم انتم اخوتنا اليهود، مع الصراع الذي أدمى شعوبنا منذ مطلع هذا القرن. لقد ذهب ضحية هذا الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والعربي ـ الإسرائيلي الكثير من الأبرياء، وذلك لدى جميع الأطراف. ونجم عنه خاصة ظلم صارخ في حق الشعبين الفلسطيني واللبناني. إن الكتب المقدسة تجمع بيننا، وكذلك مشاركتكم في الحضارة العربية في العصور الغابرة. ولهذا فإننا في توقفنا أمام مستقبل هذا الشرق العزيز، لنرى أن لكم أيضًا ولكل ذي نية صالحة مسؤولية في إعادة السلام والعدل والاستقرار في مجتمعاتنا وفي الأرض التي تحوي مؤسساتنا. وأول خطوة في طريق العدل والسلام تحرير الذات من الخوف والثقة المتبادلة: وهذا يعني التحرر من رؤية العداء المحتوم بين شعوب المنطقة، ومن ربط الأمن والسلام بالقوة والعنف. فالعدل هو الطريق الوحيد إلى الأمن والسلام. وكذلك رؤية صورة الله في الخصم هي الطريق التي تؤدي إلى الاعتراف المتبادل بحقوق الشعوب. ولهذا فإننا ندعوكم إلى الانفتاح على الشرق وتغيير نظرتكم إليه، بحيث تتمكنون من إيجاد مكانكم فيه على أسس جديدة« (المرجع نفسه). أما وقد بدأت مسيرة السلام، فإننا ندعو اخوتنا اليهود إلى الحوار المباشر مع الشعب الفلسطيني، في القبول المتبادل لإنسانية الآخر في كل أبعادها، بعيدًا عن التحجيم والاستبعاد، كي يكون مدخلاً إلى الحوار مع العالم العربي من أجل البحث معًا عن سلام حقيقي يكفل لكل طرف حقوقه الأساسية المشروعة، وللمنطقة استقرارها ونموها، انطلاقاً من الشرعية الدولية المتمثلة في قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالنزاع العربي ـ الإسرائيلي. وفي ما يخص لبنان، فإن القرار 425 يفرض جلاء قوت الاحتلال الإسرائيلية دون قيد ولا إبطاء. إن تطبيق هذا القرار يفرض نفسه كمقدمة لمعالجة المشكلة العامة بروح العدل وحسن النية. في هذا المنعطف التاريخي والمصيري الذي تمر به منطقتنا حاليًا، نرى أن القبول المتبادل، الشجاع والسخي، هو أضمن السبل وأسلمها لخير المنطقة وسلامة شعوبها وازدهار مستقبلها.
ومع كل ذي إرادة صالحة
51. لا نريد أن نستثني أحدًا من هذا الحوار. هنالك في بلداننا الكثير من البشر يعملون بإدارة صالحة، ونية حسنة، لتطوير المجتمع نحو مزيد من الإنسانية والعدل والخير، في مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية. إننا نمد أيدينا، في كل موقع من مواقع الحياة والنشاط الإنساني، لكل إرادة صالحة، مهما اختلفت عنا، في تعاون إنساني صادق ينبذ الزيف والخداع، علمًا بأن إيماننا المسيحي يحملنا على ألا نرى في أي إنسان عدوًا، بل أخًا نسير معه في الحوار وتبادل الخبرات في سبيل الخير العام. وعليه فإن جماعاتنا المسيحية تطمح إلى أن تكون أداة تواصل وتقارب ومصالحة بين الجميع في وقت يتطلع فيه البشر إلى صيغة إيجابية من العيش معًا.
أولية الإنسان
52. للإنسان أولية مطلقة بين خلائق الله. فقد جعله الله على صورته ومثاله ولم يتوان عن الموت من أجله على الصليب، كي يسير به نحو الانعتاق والقيامة. وبما أن المسيح هو الإنسان الجديد »فلا تلقى الأضواء الحقة على سر الإنسان إلا من خلال الكلمة المتجسد… إنه الإنسان الكامل الذي رمم في ذرية آدم المثال الإلهي الذي شوهته الخطيئة الأولى. لأنه هو الذي أخذ الطبيعة البشرية دون أن يلاشيها فرفع هكذا طبيعتنا أيضًا إلى مرتبة وكرامة لا مثيل لهما. فبتجسده أتحد ابن الله نوعًا ما بكل إنسان. لقد اشتغل بيدي إنسان وفكر كما يفكر الإنسان وعمل بإدارة إنسان وأحب بقلب إنسان« (دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، رقم 22). إن السيد المسيح هو طريقنا نحو الإنسان، كما يعلم البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته »فادي الإنسان«. والإنسان هو بدوره »طريق الكنيسة«: »إن الإنسان في كامل حقيقة وجوده، أي في شخصه وحياته الجماعية والاجتماعية… هذا الإنسان هو بمثابة الطريق الأول الذي يجب على الكنيسة أن تسلكه لدى قيامها برسالتها. إنه طريق الكنيسة الأول الذي شقه السيد المسيح، إنه الطريق الذي يمر دائمًا بسر التجسد والفداء« (فادي الإنسان، رقم 14). ولا شك في أن الإنسان يحتل مكان الصدارة في حضارة اليوم. ومع ما في هذا الواقع من مفارقات، حيث تمتهن كرامة الإنسان كل يوم بشتى الأشكال، غير أن الكنيسة ترى فيه علامة من علامات الأزمنة يدعوها الله فيها إلى الالتزام بقضايا الإنسان المتنوعة.
إنسان متألم
53. والإنسان، في منطقتنا، هو إنسان متألم. فقد تألبت عليه المحن من كل جانب في تاريخه المعاصر، حتى بات يعيش تحت علامة الألم والمعاناة، ويسير في درب الآلام وهو يحمل صليبه. إنه يتألم في كيانه الداخلي بسبب القيود النفسية والاجتماعية التي لا يرى في بعض الأحيان لها مخرجًا، وفي ظروف معيشته اليومية التي يصارع من أجل تحسين أحوالها في وضع محدود الإمكانيات، وفي تطلعاته الإنسانية والسياسية والحضارية حيث يرى أن الآخرين يرفضون له هذا الحق، ويريدون تحجيمه وتطويعه، وفي رغبته في أن يكون له مكان على مائدة الشعوب فيسهم في تطويرها وإنمائها. إنه يتألم بسبب قيوده الداخلية، أو بسبب ما يفرض عليه، أو بسبب تدخل الآخرين في شؤونه أو بسبب نظرة الآخرين إليه، أو بسبب الأدوات القمعية التي يتعرض لها كل يوم من أهل بيته ومن الآخرين. إنه ينظر إلى ماضيه المجيد وحاضره الصعب ومستقبله الغامض ويتألم. وفي وسط كل هذا يتوق إلى الانعتاق والتحرر كي يحقق إنسانيته، ويجعلها قادرة على اتخاذ دورها في مسيرة العالم الحالي. لذا نراه يبحث بحثًا مقلقًا عن ذاته وأصالته، وعن شخصيته ورسالته. وفي ثورة غضبه وضيقه نراه بعض الأحيان يلجأ إلى التعبير عن ذاته تعبيرًا سلبيًا عن طريق العنف أو التطرف أو العدوانية أو التعصب حيث يرى أن العالم يهدده في هويته وشخصيته وكيانه. ولعل مثل هذه الاتجاهات إنما هي تعبير ظاهر عن خوفه الخفي وقلق وعدم استقراره.
تضامن كنائسنا
54. هذا هو الإنسان الذي نعلن تضامننا معه، لأنه جزء من إنسانيتنا، وعمقنا الحضاري، وبيئة دعوتنا ورسالتنا. إن الظروف التاريخية التي عاشتها المنطقة والمسيحيون في بلادنا، منذ أكثر من قرن من الزمان، أعطت الانطباع بأن المسيحيين يتطلعون إلى الغير طالبين منهم ضمان وجودهم وحمايتهم. أضف إلى ذلك الرغبة الأجنبية في الهيمنة على الشرق مما حمل إلى الظن أن الرهان المسيحي هو الطريق السهل في بعض الأحيان للوصول إلى هذه الغاية. وهذا ما أدى إلى الاعتقاد السائد أن المسيحيين في الشرق فئة غريبة عن المنطقة، مع العلم بما قامت به شخصيات مسيحية، رائدة وفريدة وشجاعة، من نضال في سبيل التحرر القومي والاستقلال الوطني والتطور الثقافي. مهما يكن من أمر فإن كنائسنا ترفض أي تقريب ثقافي أو سياسي، وتؤكد تضامنها واندماجها الملتزم بمجتمعاتها، من منطلق إيمانها وهويتها ودعوتها ورسالتها، في هذا المنعطف الخطير من تاريخ المنطقة. إن آمال هذا الإنسان وأفراحه، وأحزانه وضيقاته، لهي آمالنا وأفراحنا، وأحزاننا وضيقاتنا. لذلك نعرب عن تضامننا الحق والعميق معه (راجع دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، رقم 1).
من أجل الإنسان
55. إن تضامن كنائسنا مع إنسان المنطقة، في آلامه وتطلعاته، يريد أن يكون تضامنًا متواضعًا يستمد من التطويبات الإنجيلية روحه ونهجه ومضمونه. إن كنائسنا تدرك تمام الإدراك أن الإنسان المسيحي في بلادنا يشارك أبناء وطنه سراءهم وضراءهم فهو يعيش الآلام عينها، ويعاني من الحدود والجراح عينها، وتسكنه التطلعات والآمال نفسها. إن تضامننا مع إنساننا الشرقي يود أن يكون تضامنًا نبويًا يتخطى هم الدفاع عن حقوقنا كأقليات وملل، مع كل ما يكتسبه هذا الدفاع من ضرورة وأهمية ومشروعية، ليصل إلى حد المشاركة في الدفاع عن حقوق الإنسان وتحرر الشعوب وحقها في العيش الكريم، والمساهمة في مشاريعها التنموية، والعمل على إثبات كرامة الإنسان في وجه كل القوى الداخلية والخارجية التي تقمعه وتذله وتحول دون تحقيق أمانيه الإنسانية المشروعة. إن تحرير الإنسان وتطويره بشكل يتجاوب مع الكرامة التي أولاه الله إياها، ومقاومة الظلم أيًا كان مصدره وأيًا كان فاعله، لهي جانب من سر المسيح الكنيسة ومثالنا هو السيد المسيح الذي ضحى من أجلنا كي نضحي نحن أيضًا في سبيل غيرنا: »وإنما عرفنا المحبة بأن ذاك (المسيح) قد بذل نفسه في سبيلنا. فعلينا نحن أيضًا أن نبذل نفوسنا في سبيل اخوتنا« (1 يوحنا 3: 16). وهذا كله يفترض في جماعاتنا المسيحية ارتدادًا عميقًا يسير بهم من مجرد الاهتمام فقط بمشاكلهم وظروفهم ومستقبلهم إلى الاهتمام بكل ما يتعلق بالإنسان الشرقي عامة في كل مجالات حياته. كما يقتضي ذلك أن يتوجه المسيحيون بالتزامهم إلى الموقع التي يتخذ فيها القرار، الذي يؤثر على حياة الناس، كالعمل السياسي مثلاً، فيتحملوا مسؤولياتهم فيها خدمة لجميع أبناء المجتمع الواحد. من أجل ذلك كله يصبح من الضروري إنشاء المؤسسات المناسبة التي تجسم التزامنا بالإنسان في منطقتنا، أو تفعيل المؤسسات القائمة وتنشيطها، كلجان العدل والسلام، كي تكون أداة تحت تصرف الأساقفة للإعلام حول كل ما يتعلق بقضايا العدل والسلام والتنمية وحقوق الإنسان والتحرر الإنساني، وتنشئة المؤمنين على المشاركة الملتزمة بالحياة العامة في كل قطاعاتها، واتخاذ ما يلزم من مبادرات لصالح الإنسان في جميع المجالات. صحيح أن إمكانياتنا المادية ضئيلة، وقد يكون تأثيرنا المعنوي محدودًا، غير أن الطاقات الروحية التي نستمدها من إيماننا لجديرة بأن تشحذ هممنا للتجاوب مع كل ما كان »حقًا وشريفًا وعادلاً وخالصًا ومستحبًا وطيب الذكر«[4]. إن الإنسان، الذي اختاره الله ودعاه وخصه بحبه، لا يمكن ألا يكون طريق كنائسنا، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من صعوبات ومشاكل[5]. فنحن لا نستطيع ان نسكت عندما يهان الإنسان، وتداس كرامته، وتنتهك حقوقه الأساسية. وفي هذا المجال نريد أن نلفت انتباه الجميع إلى وضع المرأة في الشرق، فنعمل على تعزيز مكانتها في الكنيسة والمجتمع، بحيث تأخذ دورها كاملاً في بناء الحياة الإنسانية، وتحتل الموقع الذي لا يستطيع أحد أن يحل مكانها فيه، في مختلف المجالات، انطلاقًا من غنى طبيعتها وأصالة عطائها. لقد رفع السيد المسيح من شأن المرأة، وخصها بالتقدير والاحترام، في مجتمع لم يكن يوليها حقها من الكرامة. إن المجتمع الذي لا يعير المرأة الاهتمام الكافي لهو مجتمع مبتور يحرم نفسه من مقوماته الأساسية.
شركة الإيمان والمحبة
56. إن إنغراس كنائسنا الحضاري وتضامنها العميق مع إنسان منطقتنا لا يتناقض مطلقًا مع الشركة العميقة التي نعيشها مع الكنيسة الجامعة المنتشرة في العالم بأسره. ليس ذلك فحسب، بل إن انتماءنا الحضاري والإنساني هو المدخل إلى البشرية جمعاء من جهة، وإلى الكنيسة الجامعة من جهة أخرى. فخصوصياتنا هي طريقنا إلى الانفتاح على البشرية والكنيسة لنغنيهما ونغنى بهما. وفي هذه المناسبة نود أن نعلن ما يربط كنائسنا الكاثوليكية في الشرق من شركة الإيمان والمحبة مع كرسي روما، الذي يرئسه خليفة القديس بطرس، الذي يمثل وحدة الإيمان وضمانها. وإننا نكن لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني كل التقدير والمحبة والاحترام لما يوليه من اهتمام وفهم لمنطقتنا ولكنائسنا والعالم بأسره. إننا نفخر بأن يكون على رأس الكنيسة الكاثوليكية راع يسير إلى الأمام بإيمان وثقة بالرغم من الصعوبات والعقبات، ويدعونا إلى السير معه في خدمة الكنيسة والبشرية جمعاء.
شركة الإيمان والانتماء الحضاري
57. إن شركة الإيمان مع الكنيسة الجامعة، والانتماء الحضاري والكنسي إلى شرقنا العريق، لهما القطبان اللذان نهتدي بهما كي نحدد موقفنا وموقعنا على جميع الصعد والمستويات. إننا نؤمن أن شركة الإيمان لا تلغي الانتماء، كما أن الإنتماء لا يتناقض وهذه الشركة، لأن الكنيسة واحدة بإيمانها ومتنوعة في تعابيرها الثقافية والحضارية وطقوسها وروحانيتها. إننا نعرف أن مثل هذا الوضع ليس من السهل عيشه في بعض الظروف، لكننا نرى فيه جانبًا من دعوتنا ورسالتنا التي نحملها بفرح قبل أن يكون صليبنا اليومي الذي نقبله، راجين أن يكون طريق مجد لكنائسنا.
مسيحيو الشرق في الشتات
58. لأول مرة في تاريخهم الطويل يكون مؤمنو الشرق المسيحي في الشتات أكثر مما هم عددًا في أوطانهم وكنائسهم الأم. ولقد حصل ذلك إثر ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ونفسية قاهرة. إن واقع الهجرة يقلقنا، لكنه ينطوي، في الوقت عينه، على إمكانات جديدة يجدر بنا أن نفكر فيها. إنه يقلقنا لأننا نرى أن الأرض التي نشأت عليها المسيحية تفرغ شيئًا فشيئًا من مؤمنيها، الذين يلجأون إلى الهجرة حارمين بلدانهم وكنائسهم من عطائهم ومشاركتهم وحيويتهم، علمًا بأن مجتمعنا بحاجة إلينا ونحن بحاجة إليه. فهو يعيش منا ولنا ونحن نعيش منه وله. إن هجرة المسيحيين تحرم مجتمعنا من إحدى مقوماته، وتحرم مسيحيتنا من عمقها الحضاري والثقافي. إذا هاجرنا خسرنا وخسر الوطن. وعليه فلا يسعنا إلا أن نعمل كل ما في طاقتنا كي نحد من نزيف الهجرة. غير أن الهجرة تفتح، في الوقت عينه، إمكانات جديدة لكنائسنا، إذ تعطي بعدًا عالميًا لحضورها المسيحي. لذا فإننا نكن لمسيحيي بلادنا الذين يعيشون في الشتات كل المحبة، ونوليهم تفكيرنا واهتمامنا. إن غربتهم واندماجهم في مجتمعات جديدة تسلخهم عن أوطانهم وعن كنائسهم الأم وعن تراثهم وخصوصيات تعبيراتهم الروحية والطقسية. وعليه، فبينما ندعو هؤلاء المؤمنين إلى الإخلاص للمجتمعات التي يلجأون إليها، فإننا نعرب عن مخاوفنا من خطر ذوبانهم كليًا في هذه المجتمعات فيفقدون ارتباطهم بكنائسهم من غير أن يجدوا في كثير من الأحيان طريقًا إلى الاندماج في الكنائس المضيفة، مما يهدد إيمانهم وحياتهم الدينية تهديدًا جديًا. إن وضع هؤلاء المؤمنين يستحق كل الفهم وحسن التقدير. ومن الضروري معالجة أمورهم بشكل جدي في حوار أخوي مع كل المعنيين بهذه المشكلة، أي كنائسنا والكرسي الرسولي الروماني والهيئات الأسقفية في الكنائس المضيفة، فيبقى هذا الرابط التراثي والكنسي والروحي ضمانًا للمحافظة على إيمانهم. ويفرض هذا خلق القنوات الضرورية كي تبقى كنائسنا على اتصال مع مسيحيي اشرق في الشتات كي يكونوا، ولو من بعيد، سندًا لكنائسهم وأوطانهم، وجسر حوار لها مع العالم، وامتدادًا لشهادة الإيمان التي تؤديها كنائسهم في أوطانها.
خاتمة
مواصلة التفكير
اخوتنا الأساقفة،
أبناءنا وبناتنا،
59. لقد تأملنا وإياكم في هذه الرسالة الراعوية في شتى المواضيع التي تهم عن قرب حضور الشهادة والرسالة الذي نود أن يدمغ الوجود المسيحي في بلادنا. إن هذا التفكير الذي نعرضه عليكم، أينما كنتم ومهما اختلفت أوضاعكم، لا نعتبره نقطة نهاية، بل منطلقًا لتفكير حقيقي وواسع في كنائسنا. وهذا ما يفرض تواصلاً دائمًا بيننا وبينكم ينشأ عنه مشروع كنسي نصوغه معًا ونهتدي به في هذه الظروف المصيرية من تاريخنا وتاريخ المنطقة. وأملنا أن تفتح هذه الرسالة الجماعية، التي تصدر لأول مرة في التاريخ عن جميع البطاركة الكاثوليك في الشرق، باب التفكير والتبادل والتشاور فيتمخض عن ذلك مبادرات عملية تبلور شيئًا فشيئًا طبيعة حضورنا وشهادتنا، مجدًا لله وخدمة للناس أجمعين.
في هدى السيد المسيح
60. إن السيد المسيح هو »الألف والياء، والأول والآخر، والبداية والنهاية«، وهو يرافقنا، كما رافق تلميذي عماوس ليفسر لنا الكتب، ويهدينا سواء السبيل، ويسير بنا إلى مجد قيامته. إنه نقطة الارتكاز التي تجمع بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وتتيح لنا، انطلاقًا منها، أن نتحرك في كل الاتجاهات بحرية وطرقة وثقة وفرح وجرأة وحماس. وهو الذي نتعرف عليه في كل إفخارستيا نحتفل بها فيسندنا ويشجعنا ويقوينا ويقدسنا. إنه السيد الذي به ومعه ومن أجله نسير بقوة الروح القدس لمجد الله الآب.
ونعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الآب وشركة الروح القدس تكون معكم جميعًا. آمين
+ اسطفانوس الثاني غطاس، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك.
+ مكسيموس الخامس حكيم، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم.
+ مار أغناطيوس أنطون الثاني حايك، البطريرك الإنطاكي للسريان الكاثوليك.
+ مار نصر الله بطرس صفير، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.
+ مار روفائيل الأول بيداويد، بطريرك بابل للكلدان.
+ يوحنا بطرس الثامن عشر كسباريان، بطريرك الأرمن الكاثوليك.
+ ميشيل صباح، البطريرك الأورشليمي للاتين.
صدر في عيد الفصح 1992.