إيران والفاتيكان وإسرائيل في المنتصف

 

هل كانت إيران ـ الخوميني وراء محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني عام 1981 ؟

ولماذا اهتم الموساد بشكل خاص بالكشف عن تجنيد محمد آغا في إيران لاغتيال البابا ؟

وهل حصدت إسرائيل ثمار هذا الكشف من خلال إنشاء الفاتيكان علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ؟

                                   \"\"           

دراسة من إعداد : إميل أمين – مصر

من موقع أبونا www.abouna.com

لم يكن نهار الأربعاء الثالث عشر من مايو قبل نحو ربع قرن من الزمان يوما اعتياديا في ساحة القديس بطرس في

الفاتيكان  بروما… كان البابا يوحنا بولس الثاني يستقل المركبة البابوية
" كامبغنولا" بمقعدها الجلدي الأبيض الشهير … وصل البابا إلى الحشد وحمل طفلة محتضنا إياها ومن ثم أعادها إلى أمها المبتهجة .. لم يكن البابا يوافق أبدا على أن يوضع في قفص مضاد للرصاص كلما ظهر علانية … كما انه كان قد رفض نصيحة مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام كيسي بارتداء سترة واقية من الرصاص… كان يرى أن ذلك ضد كل ما تمثله البابوية… لم يكن يخطر ببال احد أن رصاصات ستنطلق من على مقربة منه لتمزق أحشاءه….كان الموت قريبا لكن يبدو أن يد العناية الإلهية كانت اقرب…غير أن المثير في الأمر برمته أن أحدا من أجهزة استخبارات أوربا إضافة إلى أمريكا لم يكن لديه الجواب القاطع عمن كان وراء محاولة الاغتيال…. كان الأمر يزعج البابا ويقلق واشنطن…. شخص واحد فقط كان يشغل في ذلك الوقت منصب مدير جهاز أل " ها موساد لي تيوم" الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية كان يشغله الأمر كما البابا فقد رأى أن الأمر فرصة ذهبية  لتحقيق حلم طال انتظاره ….هكذا تجلى في سماوات جريمة القرن مثلث يمتد من روما مرورا بتل أبيب وصولا إلى المفاجأة الكبرى … طهران ؟ ماذا جرى في ذلك النهار وما هي ابعاد تلك القصة التي يعلن عنها للمرة الأولى بعد ربع قرن من الزمان؟

لعقود طويلة عانى اليهود في أوربا من رجال الدين ـ الاكليروس حتى انه في بعض المناسبات الدينية كان لا بد من إحضار احد هؤلاء وصفعه أمام العامة والاستهزاء به دلالة على وضاعة اليهود عموما وردا لما اقترفت أياديهم من إحداث عذابات بالسيد المسيح حسب الفكر المسيحي.

 غير انه مع حلول القرن السادس عشر الميلادي وظهور الانشقاق اللوثري الذي قاده مارتن لوثر الألماني بدأت الأحداث تنعطف في اتجاه أخر ، يميل أصحابه إلى اليهود ومن هنا كانت البدايات للدعم الأوروبي والذي سيتحول لاحقا أمريكيا لكل ماهو يهودي ، غير أن العداء الرئيسي ظل باقيا على حاله بين الفاتيكان تلك المؤسسة التي يتبعها روحيا الكاثوليك حول العالم والذين يتجاوزن اليوم نحو مليار وثلاثمائة مليون نسمة وبين اليهود كشعب وإسرائيل كدولة حتى العقود الأولى من القرن العشرين وان كان المشهد تغير لاحقا بعد انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في روما "1962-1965 " .

ففي عام 1904 وجه تيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية رسالة للحبر الروماني " بابا الفاتيكان " طالبا دعم الفاتيكان لعمليات تهجير اليهود إلى فلسطين ، غير أن البابا الكاثوليكي لم يجبه في طلبه وأبدى رفضه للتعاطف مع الحركة الصهيونية ووجه ردا قال فيه " رغم إننا لا نقدر على منع اليهود من التوجه إلى القدس ، لكننا لا يمكننا أبدا أن نقره وأضاف البابا " إن اليهود لم يعترفوا بالسيد المسيح ، وانه إذا جئتم إلى فلسطين وأقمتم هناك سنكون مستعدين كنائس ورهبان لان نعمدكم ".

 كانت الإجابة تمثل رفضا فاتيكانيا مطلقا للكيان الصهيوني الناشئ وتدلل على قوة وصلابة تلك المؤسسة التي قال عنها أول رئيس وزراء إسرائيلي " دافيد بن جوريون " انظروا إلى عدد الأشخاص الذين يستطيع البابا حشدهم لمساعدته".

والمحقق تاريخيا انه منذ العام 1581 والفاتيكان يعيش تحت مظلة حكم رسمي أصدره البابا غريغوريوس الثالث عشر بإدانة اليهود يقول نصه " إن خطيئة الشعب الذي رفض المسيح وعذبه تزداد جيلا بعد جيل وتحكم على كل فرد من أفراده بالعبودية الدائمة".

ورغم أن وثيقة NOSTRA AETATE "  " " في أوقاتنا الحالية" والتي صدرت في ستينات القرن الماضي قد حاولت التخفيف من غلواء التعامل الكاثوليكي مع اليهود إلا أن حزازات الصدور كانت لا تزال قائمة كما هي ولم توجد أبدا علاقات دبلوماسية بين الفاتيكان وإسرائيل .

ورغم تلك القطيعة كانت إسرائيل وقادتها ينظرون بافتنان لمفهوم اختيار البابا كحاكم مطلق يتم انتخابه مدى الحياة وكقائد ليس عرضه للمحاسبة أمام أي سلطة قضائية أو يخضع لأي سلطة تشريعية .

ولان الحضور الكاثوليكي ضارب جذوره حول العالم فكثيرا ما كانت أجهزة إسرائيل الاستخبارية السرية تسعى جاهدة لتعظيم الاستفادة من هذا التواجد الكوكبي غير انه في مواجهة  الأبواب الفاتيكانية الموصدة أمامها كان قادتها يعودون يجرون خيبة الآمال رسميا وسريا سيما بعد فشلهم في محاولة تجنيد أي من رجال الدين العاديين أو المتنفذين من حول البابا كأعضاء الكوريا الرومانية " حكومة الفاتيكان "  ليصبحوا أعين لإسرائيل داخل الكرسي ألرسولي .

ومع انتخاب البابا البولندي الأصل " كارول فوجتيلا " والذي سيختار اسم يوحنا بولس الثاني عام 1978 كان الفاتيكان يرفض ويجدد رفضه بشدة الاعتراف الدبلوماسي بإسرائيل وقد وسم هذا البابا بنوع خاص بتعاطف ما مع القضية الفلسطينية كامتداد لذات الرؤية الفاتيكانية القائمة ضمن أمانة سر الدولة أي وزارة الخارجية في مدينة بطرس والتي تصر على أن الضفة الغربية وقطاع غزة أراضي محتلة والى مرتفعات الجولان على انه تم ضمها من سورية إضافة إلى رفض سيطرة إسرائيل على مدينة القدس المقدسة لدى الأديان الثلاث  كما أن البابا كان قد استقبل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية  وكبار مساعديه في عدة اجتماعات خاصة مطولة وفي كل مرة كان يوحنا بولسالثاني يؤكد التزامه بإيجاد وطن للفلسطينيين وقد نجح ضابط الاتصال بين البابوية ومنظمة التحرير          " الكاهن ابراهيم عياد " العربي الأصل  في خلق عاطفة وجدانية قوية جعلت قادة إسرائيل يفقدون صوابهم وقد ساعد عياد عرفات على كتابة رسالة سنة 1980 إلى البابا يوحنا بولس الذي ابتهج عند تلقيها  تقول " اسمح لي أن احلم من فضلك … أراك تذهب إلى القدس محاطا باللاجئين الفلسطينيين  العائدين وتحمل أغصان الزيتون وتوزعها عند قدميك".

ليس هذا فقط بل إن الكاهن النشيط – ضابط الاتصال رتب لقاء بين وزير خارجية منظمة التحرير الفلسطينية والكاردينال كاسارولي وزير خارجية الحبر الأعظم " البابا" وعلى اثر الاجتماع تم توسيع مكتب الشرق الأوسط والسفارة  البابوية لدى المنظمة وتم توجيه سفراء الحبر الأعظم بان يحثوا الحكومات الممثلين لديها على دعم طموحات منظمة التحرير الفلسطينية في إنشاء دولة للفلسطينيين .

كانت تلك التحركات تصيب إسرائيل بالرعب في الوقت الذي كانت فيه علاقاتها الرسمية مع الفاتيكان ما تزال محدودة والزيارات الحكومية قليلة ولا يمثل مبعوثوها الرسميون سوى دقائق قليلة في حضرة البابا .

كانت إسرائيل تبحث عن مدخل وطريق لعقل وقلب الفاتيكان والبابوية وبخاصة أنها كانت تدرك أن مرحلة متقدمة من العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والكرسي ألرسولي تتجلى في الأفق.

 فغداة فوز حاكم كاليفورنيا الجمهوري رونالد ريجان بمنصب الرئاسة الأمريكية عين في ذات الوقت وليام كيسي مديرا لإدارة المخابرات المركزية الأمريكية CIA ، كان ريجان ابن لأب ايرلندي كاثوليكي من الطبقة العاملة وأم  بروتستنتية ، كان يشعر بالارتياح في التعامل مع رجال من الطبقة العاملة  من ذوي الأصول الكاثوليكية، رجال عصاميون مثل كيسي الكاثوليكي الورع الذي شاركه الكثير من طباعه وبسبب هذا التجانس كان معظم الرجال الذين عينهم ريجان في أهم المراكز السياسية في أدارته من الكاثوليك مثل وزير الخارجية ألكسندر هيج ومستشار الأمن القومي ريتشارد ألن … كان جميعهم يرون اقتناع الكنيسة الراسخ بمناهضة الشيوعية .

 نجحت حكومة ريجان في توثيق العلاقات مع الحبر الأعظم ووجه الاثنان حرابهما إلى قلب الشيوعية في أوروبا الشرقية منطلقين من بولندا موطئ قدم البابا وأول مسمار يدق في نعش الشيوعية من خلال حركة تضامن العمال بقيادة ليش فاليسيا والذي سيصبح لاحقا أول رئيس غير شيوعي لبولندا .

لم يكن الموساد الإسرائيلي على نحو خاص بعيد عن هذا التعاون فمنذ قيامه احتفظ بقناة خلفية للاتصال والتنسيق مع المخابرات المركزية و الأمريكية  غير أن القضية الأولى والأخيرة كانت تتمثل في كيفية إقامة علاقات دبلوماسية رسمية  مع الفاتيكان مباشرة والاستفادة المباشرة من تلك العلاقة وليس من خلال وسيط حتى لو كانت أمريكا .

كان الثالث عشر من آيار  مايو 1981 موعدا لا ينسى في إسرائيل ذلك  لأنه سيقدر لها انطلاقا من أحداث هذه اليوم  المرور في قلب تلك المؤسسة التي وصفها " وول ديورانت " المؤرخ الأمريكي الكبير في موسوعته قصة الحضارة بأنها " أهم واكبر مؤسسة بشرية عرفها التاريخ".

يكتب كارل برنشتاين الصحافي الأمريكي الشريك لبوب وود وورد في كشف فضيحة ووترجيت في كتابه " صاحب القداسة " الذي يروي قصة حياة يوحنا بولس الثاني يقول : في الثالث عشر من مايو 1981 كان البابا يمر بسيارته بين الجماهير المهللة له فجأة دوى صوت الرصاصات التي أصابته في المعدة وفي الكوع الأيمن وفي إصبع السبابة ليده اليسرى ، استولى الذهول للحظات على الجميع فلم يكن احد ممن حوله أو من الإدارة البابوية يتخيل حدوث مثل هذا الشيء … إن شخصا يحاول اغتيال البابا.

 في مستشفى جيمللي بوسط روما اخضع البابا لجراحة فورية استغرقت حوالي خمس ساعات ونصف أزيل خلالها 22 بوصة من الأمعاء بالإضافة إلى فقدانه 60 % من دمه نتيجة النزيف الداخلي .

 

 

 

بعد القبض على "علي آغا" الشاب التركي الذي وجه رصاصاته إلى صدر البابا الروماني اقر انه كان يعمل بمفرده بدون تحريض من أي جهة لكن الواضح أن هناك من لم يكن مقتنعا بدور آغا المنفرد أبدا  .

أثيرت اتهامات كثيرة منها أن وراء المحاولة الاتحاد السوفيتي وبلغاريا وقد تكون تركيا لكن بالرغم من التحقيقات المكثفة بمعرفة السلطات الإيطالية والمخابرات الأمريكية لم يثبت بشكل قاطع صدق أي من هذه الاتهامات سيما وان كثير من الحقائق حول محاولة الاعتداء على حياة البابا كانت متضاربة أو مجال للتفسيرات المتعددة ولعل فشل وكالات المخابرات في العالم في التعاون سويا والعمل فورا وتجميع المعلومات ساعد على عدم الوصول إلى نتائج محددة حتى وقت معين لكنه سيقدر لاحقا أن تنكشف تفاصيل أكثر إثارة عن محاولة الاغتيال .

في ذلك اليوم – الثالث عشر من مايو – كما يروي المؤلف البريطاني توماس جوردون في كتابه " جواسيس جدعون " الذي يثير عاصفة جديدة حول أسرار محاولة اغتيال يوحنا بولس الثاني ، كان مدير عام جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية " الموساد" إسحاق هوفي جالسا على مكتبه متسائلا عن السر وراء ذلك الحادث الغريب  والذي لم يكن ضمن قائمة اهتمامات الموساد آنذاك.

يقول جوردون : أثرت حقيقة أن كل جهاز استخبارات غربي كان يحقق في محاولة اغتيال البابا على قرار هوفي إبقاء الموساد بعيدا ، كان ما يزال ينتظر المعلومات عندما تم استبداله بنعوم أدموني في  سبتمبر أيلول سنة 1982 .

كان أدموني من خلفية بولندية بلد البابا كما كان لديه أكثر من مجرد فضول عابر حول الكنيسة الكاثوليكية . فخلال عمله متخفيا في الخارج في أمريكا وفرنسا شاهد مدى قوة نفوذ الكنيسة الكاثوليكية … لقد ساعدت روما في وصول جون ف. كيندي الكاثوليكي إلى البيت الأبيض وفي فرنسا استمرت الكنيسة في لعب دور مهم في السياسة . وحالما استقر به المقام في منصبه الجديد طلب أدموني ملف الموساد عن محاولة اغتيال البابا كان فيه مقتطفات من المعلومات وتقرير من " كاستا " أي عميل ميداني إسرائيلي يعمل في روما حول ملابسات الحادث .

لم يكن شغل أدموني الشاغل التوصل إلى القاتل الحقيقي لتقديمه للعدالة بل كان يحدوه الأمل في فتح نافذة من العلاقات على الكرسي ألرسولي وهو ما سيتحقق لاحقا وهذا ما يتضح في تصريح وليام كيسي مدير الاستخبارات الامركية المركزية لاحقا من أن اهتمام الموساد بملف اغتيال البابا هو أن " الموساد شعر بان تلك قد تكون الطريق إلى الفاتيكان " وربما كان أدموني يفكر بشيء يقايض به الحبر الأعظم ".

كان الموساد مقتنعا بان الاستخبارات الأمريكية قد أقنعت البابا أن المخابرات الروسية KGB  كانت وراء محاولة اغتياله ، لكن ذلك كان جزءا من نظرية الاحتمالات عند الموساد الذي طرح احتمالات أخرى في مقدمتها إمكانية وجود أجهزة أخرى خلف الحادث ، غير أن التساؤل الذي لم يكن أدموني يمتلك له جوابا هو هل سيسمح هذا الكشف للموساد إذا تبين وجود يد أخرى خلف محاولة الاغتيال بإيجاد طريق أخر لتجاوز باب الفاتيكان البرونزي هذا إذا لم يصبح مستشارا دنيويا سريا للبابوية أو على الأقل السماح بتبادل المعلومات معه وبالمقابل أن يكون قادرا على تغيير موقف الحبر الأعظم من إسرائيل ؟

 

 

 

بعد ستة شهور وحسب رواية " توماس جوردن " ظهرت الإجابة : لقد تم وضع خطة اغتيال البابا في طهران مع موافقة كاملة من أية الله الخميني وكان المقصود من قتل البابا أن يكون الخطوة الافتتاحية في الجهاد أو الحرب المقدسة ضد الغرب وما كان الخميني يراه بالقيم المنحطة التي تدعمها اكبر الكنائس المسيحية .

ومع الأخذ بالحسبان احتمال فشل آغا تأكد مشرفوه الإيرانيون بان يبدو رجلا متعصبا يعمل وحيدا وسربوا تفاصيل عن خلفيته ، لقد ولد محمد على اغا في قرية " يستلتيب " النائية في شرق تركيا وترعرع في بيئة أصولية إسلامية لدى بلوغه التاسعة عشرة انضم إلى الذئاب الرمادية وهي مجموعة إرهابية موالية لإيران ومسؤولة عن معظم العنف في تركيا .

في فبراير شباط من عام 1979 اغتال آغا رئيس تحرير صحيفة اسطنبول المعروفة بدعمها للسياسات الغربية ، وبعد اعتقاله تمكن آغا من الفرار من سجنه بمساعدة الذئاب الرمادية .

في اليوم التالي تلقت الصحيفة رسالة مرعبة حول زيارة البابا يوحنا بولس الثاني  إلى تركيا والتي كانت مقررة بعد ثلاثة أيام جاء فيها " ترسل الإمبريالية الغربية الخائفة من تحول تركيا وشقيقاتها الدول الإسلامية إلى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية في الشرق الأوسط إلى تركيا في هذه اللحظة الحساسة قائد الصليبيين يوحنا بولس الثاني ، الذي تقدمه كقائد ديني وإذا لم يتم إلغاء هذه الزيارة سأقتل عامدا البابا القائد" .

عند هذا القدر من المعلومات كان نعوم أدموني مدير الموساد مقتنعا بان الرسالة كتبت في طهران بأسلوب ومحتوى كانا بالتأكيد فوق مستوى مهارات كتابة آغا الأمي تقريبا وقد اظهر البحث الذي قامت به حواسب الموساد في خطب الخميني انه أشار إلى قائد الصليبيين  والبابا القائد في وصفه ليوحنا بولس أكثر من مرة .

من خلال عملائه السريين في إيران اكتشف الموساد أن آغا بعد هروبه من سجنه ذهب إلى إيران حيث أمضى هناك شهورا في معسكرات تدريب مختلفة استطاع الموساد من خلال مصادره الخاصة في تلك المعسكرات التوصل إلى معلومة قاطعة وهي أن  محمد على آغا تلقى وعدا بأنه عندما يحين  الوقت ستتاح له فرصة قتل البابا وقد غرس المشرفون عليه في ذهنه أن انتخاب البابا في نفس الوقت تقريبا الذي حرر فيه الخميني المحبوب إيران من نظام الشاه لم يكن مصادفة .

في كانون الثاني يناير من عام 1981  وحسب رواية توماس جوردون سافر آغا إلى ليبيا وكان الموساد مندهشا في البداية من هذا الجزء من رحلته حتى اكتشف مخبر في طرابلس أن احد ضباط أل CIA  الخائنين ويدعى " فرانك تيربل " كان موجودا في البلد في نفس الوقت .

كان الموساد يعلم أن المشرفين على آغا في طهران رتبوا له لقاء مع تيربل  وسربوا تلك المعلومة بعد محاولة اغتيال يوحنا بولس مما سمح للروس بان يدعوا بان CIA  نظمت المكيدة ومثل الموساد كان للمخابرات الروسية KGB  قسم فعال للحرب النفسية .

ملأت قصة تورط أل CIA  آلاف الأعمدة الصحفية والكثير من ساعات البث التلفزيوني والإذاعي ولزيادة التشويش قام رجال الدين في طهران بوضع خطة لآغا بعد مغادرته ليبيا في فبراير  شباط سنة 1981 سافر بموجبها إلى صوفيا في بلغاريا والتقى رجالا اخبروه أنهم أعضاء في جهاز استخبارات البلد السري .

على ضوء ذلك ردت أل CIA  بعدما أغضبتها محاولات أل KGB  تلطيخ سمعة الوكالة أن البلغار استخدموا  آغا نيابة عن الكرملين .

كان الوضع بالنسبة للموساد رائعا لاستغلال القول المأثور فرق تسد، لن يكون الموساد قادرا على إضعاف موقف أل CIA  مع الفاتيكان وحسب ولكن على المدى الطويل وبتقديم نسختهم عن المكيدة على أنها الصحيحة سيجد طريقة لجعل البابا يستمع إليه وسينتج عن ذلك أشياء كثيرة قد يستطيع ضباطه الوصول إلى شبكة جمع المعلومات الهائلة الخاصة بوزارة خارجية الفاتيكان وقد يستطيع العملاء الميدانيون للموساد التعامل معها واستغلال الكهنة والرهبان إذا اقتضت الضرورة ويمكن زرع أدوات التجسس الالكترونية عندما تحين الفرصة في كل تلك ألاماكن المقدسة التي لاحظها رجل الموساد زافي زامر والذي صاحب رئيس وزراء إسرائيل جولدا  مائير في زيارتها للفاتيكان في عهد البابا بولس السادس .

وعن طريق رئيس الأساقفة لويجي بوغي رجل المهمات السرية استطاع الموساد تزويد البابا يوحنا بولس بالقصة الكاملة لمحاولة اغتياله وقد استخدم الموساد وسيط كاثوليكي نمساوي لإطلاع بوغي على الأمر برمته وبتفاصيله الدقيقة والتي ربما ستبقى في طي ملفات الموساد إلى أن تحين الحاجة إلى استخدامها مجددا .

وفي فجر الثالث والعشرين من كانون الأول ديسمبر من عام 1983 كان البابا يوحنا بولس يتوجه إلى سجن " ريبيبا " في روما حيث يوجد آغا في حراسة مكثفة ، كانت هناك مجموعة صغيرة من الصحفيين ترافق البابا منهم " توماس جوردون نفسه ".

في أعقاب اللقاء قالت الإذاعات العالمية إن البابا أهدى علي آغا شيئين الأول مسبحة مصنوعة من الفضة واللولوء والأمر الثاني هو غفرانه ومسامحته .

 وقد يكون ذلك صحيحا إلى حد بعيد غير أن القصة لا تتوقف عند هذا الحد ذلك أن التساؤل الذي يطرحه الكاتب البريطاني المتخصص في الشأن ألمخابراتي الإسرائيلي هو : هل ذهب البابا للقاء آغا للتأكد من رواية الموساد؟

يصف جوردون اللقاء بالقول " بادر البابا علي آغا بسؤال .. كيف حالك؟ كان سؤال البابا عن شعور اغا أبويا تقريبا .. أجاب اغا بإيطالية تعلمها في السجن " جيد … جيد " وفجأة كان اغا يتكلم بسرعة وطلاقة وكانت الكلمات تأتي بصوت خافت لا يستطيع سوى البابا سماعه .

أصبحت تعابير البابا يوحنا بولس أكثر تأملا ، وكان وجهه قريبا من وجه آغا ويحجبه جزئيا عن الحراس والصحافيين .

همس آغا في أذن البابا اليسرى وهز البابا رأسه بشكل لا إرادي تقريبا . توقف آغا وظهرت على وجهه علامات الشك . أشار يوحنا بولس بحركة سريعة من يده اليمنى لعلي آغا  ليستمر فيما يقوله.

كان الرجلان قريبين جدا من بعضهما بحيث تلامس رأسيهما تقريبا وبالكاد تحركت شفتا اغا . كانت هناك نظرة الم على وجه يوحنا بولس وأغلق عينيه كما لو أن ذلك سيساعده على التركيز بشكل أفضل .

توقف آغا فجأة في منتصف الجملة ولم يفتح يوحنا بولس عينيه . وتحركت شفتاه فقط لم يكن بمقدور احد سوى آغا أن يسمع كلماته.

تابع آغا الحديث مرة أخرى . وبعد دقائق قليلة قام البابا بتحريك يده قليلا . توقف آغا عن الكلام ووضع يوحنا بولس يده اليسرى على جبينه كما لو انه يريد حجب عينيه عن اغا.

ضغط يوحنا بولس على ذراع الشاب كما لو انه يشكره على ما قاله ، استمر تبادل الحديث إحدى وعشرين دقيقة ثم وقف البابا ببطء على قدميه ومد يده مشجعا آغا على القيام بالمثل ، حدق الرجلان في أعين بعضهما البعض وبعد تقديم البابا لهديته التي استلمها آغا في ذهول انحنى البابا للامام وهمس مجددا بكلمات سمعها الاغا فقط .

والتساؤل المثير ما الذي دار في الحوار وهل ثبت آغا قصة نعوم أدموني ؟

الإجابة الرسمية التي صدرت عن حاضرة الفاتيكان في أعقاب اللقاء المثير هي أن علي آغا لا يعرف سوى إلى مستوى معين وهو لا يعرف شيئا على المستوى الأعلى وإذا كان هناك مؤامرة فقد خطط لها محترفون والمحترفون لا يتركون آثارا ولن يجد احد شيئا .

غير أن بعض التساؤلات تثار في هذا الإطار حول إمكانية تسجيل ما دار في حوار البابا وآغا على وجه السرية إذ انه من المؤكد أن موعد اللقاء كان معد مسبقا مما يعطي فرصة لأجهزة الاستخبارات الإيطالية أو الأمريكية لرصد وتسجيلهذا اللقاء السري للغاية سيما وانه في العام 1983 كانت الحرب الباردة على أشدها وكان الغرب في حاجة لدليل قاطع لإدانة المعسكر الشيوعي   . لكن  هل منع البابا بأوامر رسمية منه تسجيل ما دار في اللقاء وهل التزمت أجهزة الاستخبارات بأوامره إذا كان قد أعطاها بالفعل أم قامت في خلسة من البابا ومنافاة لإرادته بتصوير اللقاء وبقي الأمر سرا حتى الساعة ؟ وهل ضرب البابا صفحا عن ذكر تفاصيل اللقاء في أوراقه الخاصة أو في أي وثائق سرية فاتيكانية ؟ تساؤلات كثيرة ربما سيعلن عنها يوما ما وربما تكون قد مضت إلى غياهب النسيان مع البابا الراحل الذي قصد عدم إذكاء حروب دينية إذا كشف عما جرى حال ثبوت رواية الموساد وتورط إيران بالفعل في محاولة الاغتيال .

غير انه في الأفق يمكن إلى حد بعيد ربط الأحداث التي جرت لاحقا بعضها البعض والخروج منها باستنتاجات مثيرة يرى البعض أنها عززت  من حضور الموساد وإسرائيل بالشكل الأوسع وتؤكد على فاعلية الدور الذي قام به نعوم أدموني في كشف سر محاولة اغتيال البابا والذي تقف وراءه طهران .

ففي 13 نيسان  ابريل من عام 1986 وصل البابا يوحنا بولس الثاني إلى الحي اليهودي القديم في روما للتخفيف من الذكريات المؤلمة ، كان أول حبر أعظم يدخل إلى معبد يهودي كما سيصبح لاحقا أول بابا روماني كاثوليكي يدلف إلى مسجد إسلامي .

تبادل قبلة مع الحاخام الأكبر وسارا معا حتى أخذا مكانهما على المنصة حيث يقف المرتل لقراءة التوراة. استمع البابا إلى كلمة رئيس الطائفة اليهودية في روما الذي وجه فيها اللوم إلى البابا بيوس الثاني عشر لصمته على الفظائع التي ارتكبها النازي ضد اليهود على حد قوله .

ومع اتهامات الحاخام كان البابا في كلمته يعترف بالآلام التي عانها اليهود على مر السنين في البلاد المسيحية قائلا إن الكنيسة تأسف للكراهية وكافة المظاهر الموجهة ضد السامية وضد اليهود في أي وقت من أي شخص .. غير انه حرص على التذكير بان أبواب الأديرة والكنائس كانت تفتح خلال الحرب العالمية الثانية لإيواء ضحايا الإعدام من اليهود .

في ذلك اليوم رأى العالم عامة وإسرائيل خاصة بابا مختلفا ليس كمعلم للجماهير لكنه كرجل حمل وزر وتاريخ مفجع آل على نفسه أن يغيره .

كان واضحا أن خطة نعوم أدموني قد نجحت لذا فقد انتهز الحاخام الأكبر الفرصة وطلب من البابا إقامة علاقات دبلوماسية بين الفاتيكان ودولة إسرائيل .

في تلك الزيارة الفريدة من نوعها كان يجلس في مؤخرة الكنيس الوسيط الكاثوليكي النمساوي الذي لعب دور الجسر بين البابوية وبين إسرائيل والذي قام بإيصال الرسالة التي تحوي ابعاد وتفاصيل وأسرار ما جرى في ساحة " سان بيترو " في ذلك النهار الحار من آيار  مايو عام 1983.

كانت إسرائيل قد حققت جزءا من خطتها على حساب إيران لكن ما تريده لم يكن قد اكتمل أي الاعتراف الدبلوماسي البابوي بإسرائيل والذي سينتظر حتى كانون الأول ديسمبر من سنة 1993 عندما تم إقامة علاقات دبلوماسية رغم معارضة متشددي وزارة الخارجية البابوية الذين كانوا يفضلون الانتظار لحين  قيام الدولة الفلسطينية  لكن اتفاقيات اوسلو بين إسرائيل  والفلسطينيين وربما خدمات نعوم أدموني  كانت قد عززت من فكرة سرعة عودة تلك العلاقات وكان من الواضح كذلك أن مناورات  أدموني وما استجد  على العلاقات بين الطرفين في عهد خلفه " شابتي شافيت " قد أثمر ونجحت المناورات الإسرائيلية في إقناع حاضرة الفاتيكان بان إسرائيل كما منظمة التحرير الفلسطينية تسعى لتسوية النزاع ومواجهة التهديد المشترك المتمثل فيما يطلق عليه الأصولية الإسلامية.

 غير انه ورغم انقضاء نحو أربعة عشر عاما على الاعتراف الرسمي وإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل  إلا أن الراصد للأحداث يرى أنها ليست بالمطلق على ما يرام والدليل على ذلك عدد المرات التي حدثت فيها خلافات علنية واعتراضات إسرائيلية سيما في العاميين الماضيين  على إدانة البابا بندكتوس لأعمال الإرهاب والترهيب التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين وهذا ما لم تقبله إسرائيل ورأت  انه محاباة للعرب  .

فيما الأمر الأخر الذي أسفرت عنه محاولة اغتيال يوحنا بولس الثاني وبعيدا عن تقارير الموساد ومكائد طهران والدبلوماسية والاستخبارات الدولية هي اقتناع بابا روما بان النزاع الحقيقي في القرن القادم لن يكون بين الشرق والغرب ولا بين روسيا وأمريكا أو أوربا بل  بين العالم المسيحي والاتجاهات الأصولية الإسلامية .

 كان البابا حريصا في خطبه العلنية على فصل الإسلام كدين ومعتقد عن الأصولية الإسلامية . ففي عام 1985 بدا البابا حوارا اسماه أساقفة الإدارة البابوية المتشدّدين " حوارا مزعجا " يستهدف المؤمنين بالله كان لدى الحبر الأعظم فكرة جيدة عن بعض نواحي الديانة الإسلامية، التوحيد القوى، الخضوع والتسليم التام لإله رحيم ، الالتزام بالصلاة المنتظمة وممارسة الصوم من اجل التوبة " وهذا تختفي ملامحه بسرعة في الغرب " لكن كان لديه ارتياب وعدم ثقة نحو الإسلام الأصولي وحدد إيران على وجه الدقة كمصدر له ومشجع عليه  فيما يمكن أن يعد إشارة لاقتناعه الكامل بصدق رواية الموساد .

كان البابا مقتنعا بالضرورة القصوى للحوار مع الإسلام في كل أنحاء العالم سيما  في العالمين  العربي والإسلامي ولهذا سجل له التاريخ انه أول بابا في التاريخ يزور المسجد الأموي في دمشق وفي حواراته ولقاءاته كان يؤكد على أن الحوار بين المسيحيين والمسلمين أصبح اليوم أكثر صعوبة من قبل في عالم يزداد علمانية ويقترب أحيانا من الإلحاد لكن يمكن للشباب على حد قوله "أن يصنعوا مستقبلا أفضل إذا عاهدوا أنفسهم على بناء هذا العالم الجديد حسب نهج وتدبير الله … سيما وانه علينا " أن نبين اليوم القيم الروحية التي يحتاجها العالم ".

والتساؤل : هل كان البابا يحاول قطع الطريق على الأصولية الإيرانية التي رتبت لاغتياله في محاولة لإشعال نيران الحرب الدينية بين العالم ؟ وهل لهذا السبب استقبل البابا عينه عام 2000 الرئيس الإيراني المعتدل والمنفتح محمد خاتمي في مكتبه في تلك الزيارة التاريخية معطيا بذلك إشارة مرور خضراء للتسامح والحوار سيما وان خاتمي كان قد دعا في ذلك العام لاعتباره عام الحوار بين الحضارات ولم يربط بين الرجل وبين نظام قام على محاولة  اغتياله ؟

 ربما يكون كل ما تقدم صحيح غير أن الدرس الأكبر المستفاد هو أن إسرائيل حاضرة كالخطيئة الرابضة خلف الباب للعالمين الإسلامي والمسيحي على السواء فسياسة فرق تسد لا تزال تؤتي أكلها حتى لو كان قرار اغتيال البابا صدر بالفعل من طهران ولولا حكمه وفلسفة وتسامح البابا الراحل لربما شهد العالم موجه اشد من العداوات والكراهيات في زمن تدعم فيه الأصولية اليمينية الأمريكية  فكرة صراع الحضارات وفي ظل رئيس يرى أن الإسلام هو العدو المرتقب والبديل الطبيعي للشيوعية وهذا ما رفضه يوحنا بولس الثاني وأكد على رفضه في أهم الوثائق التي صدرت عن حاضرة الفاتيكان في السنوات الماضية " وثيقة عقيدة الكنيسة الاجتماعية " والتي تفصل كثيرا بين الدين في محتواه الروحي والأخلاقي السامي وبين المتنطعين من حوله والمسخرين له لتحقيق أهدافهم المصبوغة على الدوام بالصبغة السياسية الدنيوية.

 

الكاتب/ إميل أمين

 

مسئول راديو الفاتيكان في القاهرة

كاتب متخصص بشؤون الفاتيكان وله عدة كتابات سياسية وفكرية