الوثنية أو التوحيد

لما عبد أهل هذه المنطقة عشتروت آلهة الحب والخصب وكانوا يسعون الى عبادة هذه الاشياء في ذواتهم. ولما عبدوا البعل إله القوة كانوا يفتخرون بالقوة التي في ذواتهم وألّهوها فتعددت آلهتهم. ليس ان هناك آلهة كثيرين ولكن هناك شهوات كثيرة.
ولما انتقلوا الى عبادة الإله الواحد تنكروا لشهواتهم او قبلوا ذاك من حيث المبدأ ولو خطئوا وما تابوا الا لكونهم فهموا انهم يعودون الى هذا الإله الواحد بمعنى ان كل عقيدة لاهوتية تستتبع معتقدا اخلاقيا واحدا واذا نقاك المسلك الاخلاقي فهذا يدعم ايمانك بالله.
الفرق الحقيقي بين ديانة كثرة الآلهة وديانة الإله الواحد انك في ما سمي الوثنية انت تخلق الآلهة على صورتك وفي التوحيد – اذا استعرنا المصطلح المسيحي – الله يخلقك على صورته. في الوثنية تصعد الأسوأ فيك الى السماء وفي التوحيد تستنزل النور الالهي كاملا وتصبح نيرا او مؤهلا للتنور. عند الوثنيين الآلهة تجيء منك. عند الموحدين انت تجيء من فوق.
هذا لا يمنع سوء الاستعمال للتوحيد على مستوى المسلك. من هنا ان بولس الرسول يقول عن الطمع انه عبادة وثن. اذا ربطنا داخليا بين المعتقد والمسلك قد تظن نفسك موحدا وفي الواقع انت لست فقط مشركا ولكنك مشوه لصورة الله. بتعبير آخر انت داخليا – وفي كثرة الاحوال – خليط بين التوحيد والشرك. هذا اذا اردنا ان نتعمق قليلا ولا نظن ان الايمان هو ما تعبر عنه بالشفتين فقط او تشهد له باللسان ولكن ما تعبر عنه بالافعال. من هذه الزاوية امكن القول ان ليس من موحد كامل في الارض. كل منا وثني بمقدار.
 
الواقع انك إن احببت الله من كل قلبك ومن كل ذهنك لا تستطيع ان تحب الآلهة الاخرى اعني شهواتك من كل قلبك وكل ذهنك. وايمانك بالله يقوي مسلكك اذ يأبى كيانك الثنائية او الصدام بين الوحدة والكثرة. القلب البشري ساحة معركة بين الاله الواحد وكثرة الآلهة. هذا ما يخفي وراءه المعركة بين الحق والباطل او بين الطهارة والدنس. الحرب دائما عقائدية في الداخل البشري.
وما يمكنك من الصلاح ان الله يبين لك مسلكه هو. الانبياء تحدثوا عن رحمته ومحبته ووداعته وصفات كثيرة له كشفتها كتبنا القائمة على ان الله تكلم بالآباء والانبياء بانواع وطرق شتى وعند المسيحيين يضاف الى هذا انه تكلم بابنه الذي كان معنا في الجسد والذي نوحد بين اعماله واعمال الله. مهما يكن من امر فقد اوضح الفيلسوف برغسون ان البشرية لم تنتقل بنفسها من المجتمع الوثني الى المجتمع الموحد فالانتقال من المغلق الى المنفتح غير ممكن. هناك نقلة نوعية. كشف برغسون ان من كانت عندهم خبرة للإله الواحد هم الروحانيون او المتصوفة ونسميهم نحن انبياء. اذاً التوحيد لا تفسير له على الصعيد العقلي. انه اتخذ هذا التعبير لان الله الواحد الاحد كشف نفسه لاخصائه وهم كشفوا خبرتهم. وهذا ما سماه المؤمنون وحيا لانه ليس نتيجة تمخض عقلي. هكذا عند عاموس: "لست انا نبيا ولا انا ابن نبي بل انا راع وجاني جميز. فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب تنبأ لشعبي اسرائيل" (7:14 و15).
الفكرة الاساسية في التوحيد ان الله يختار من يبلغ هذه الرسالة البشر وهم ينقلون كلمته لا كلماتهم اذ لا بد من تعبير لغوي يصل الى الناس بلغتهم. الامر الذي يعني انه لا بد من بحث معاني الكلمات اذ هي متصلة بالتاريخ والبيئة وبهما متصلة الكلمة. المهم ان نعرف من وراء الكلمات مقاصد الخلاص التي هي في عقل الله. علماء التفسير نافعون ما في ذلك ريب لانهم يعرفون المعاني اللغوية. لكن هناك فئة اخرى وهي فئة الطاهرين والمقدسين الذين يخاطب الله قلوبهم فلا يقيدهم ظاهر الكلام ولكنهم يلتمسون لبه. وقد يكون المفسر رجل الله وانسان القلب المتضع المستنير. وفي الواقع هناك اهل الظاهر واهل الباطن لان الكلمات طبقات فمنها ما ينزل من العقل الى القلب ومنها ما يصعد من القلب الى العقل وكل من المسيرتين شرعية على الا يصطدم اهل الظاهر واهل الباطن والحقيقة الاخيرة هي عند الرب وندركها في اليوم الآخر كاملة صافية. فلا بد اذاً من استدخال النص الى القلب حتى يتم التقديس في قلب القارئ والمفسر معا.
 
وعندي ان المسألة كلها في ان تحب الكلمة الالهية وتعتبرها مخلصة لكيانك ومطهرة له لان غايتها لا تنحصر في ان تكون كلمة مفهومة ولكن كلمة محبوبة بحيث تصير انت بعد تلقيها كلمة اي ناقلا المعنى الالهي الى سلوكك فيقتدي بك الكثيرون فيصير كل مؤمن حق بما يقول كتابا الهيا فتصبح كلمة الله متجسدة فيك فلا تبقى هي اسيرة كتاب ولكن تصبح منسالة الى قلبك وعقلك معا ثم الى كل حواسك والى حواس من سمعك، هذا اذا ارتضيت ان تتخلى عن كل شهواتك المؤذية لتمكن الكلمة التي جاءت من الله ان تنبثق منك لتستقر في ناس تخلوا هم ايضا عن شهواتهم اذ لا تساكن الكلمة قلبا يكون خليطا بين خطاياه وطهارة الله الذي ينزل عليه.
عند ذاك فقط تكون ناكرا تعدد الآلهة وتصبح موحدا كيانك بالكيان الالهي بلا امتزاج ولا اختلاط لاننا معشر الموحدين ننكر جميعا الحلولية التي تجعل الله منصهرا فينا. وحدة بلا انصهار بينك وبين الرب لان الانصهار نوع من الحلولية. ان تشعر بنفسك الهي التطلعات، الهي الاحساس متشبها بالله، مألوها وشادا الآخرين الى المألوهية فهذا لعمري ممكن اذ ليس فيه شرك. ولكن اذا احسست انك مفصول عن الله لكونه فوق ولكونك تحت يعني بالاقل انك لم تحس بالقربى بينكما. من المنظار الذي اقف عنده يمكنني القول انك مع الخالق في اتحاد لا ينفي خالقيته ولا ينفي مخلوقيتك. هذا في الاقل يعني ان بينك وبينه ملامسة هي من جهته انعطاف حتى الحب ومن جهتك انت طاعة في التعبير عن الحب. واذا كان الحب بين البشر في الوثنية استيلاء احد منا على الآخر او تسلطا عليه ففي التوحيد ليس من سيطرة لواحد على الآخر وليس في النبوءة كلها سيطرة والحب يصير في التوحيد عطاء القلب الى القلب الآخر وتاليا عطاء الله من قلب بشري الى قلب بشري آخر فلا تستطيع انت ان اتخذك الله الا ان تنقله بالقدوة والتنوير وبطريقة ما تصير انت فم الله او يده او معينه ليسكن بالذين اصطفاهم لينقلوا مشيئته ويبدلوا القلوب الجافة ويجعلوها لله مساكن وذلك في سر لا ندرك اعماقه ولكن خبرة المقابسة بين مؤمن ومؤمن تدل عليه.
ان تؤمن بان الله هو وحيد وليس واحدا رقميا يجعلك ساعيا الى ان يراه الناس وحيدا ليس مثله شيء بحيث يصبح لكل مؤمن وحيدا. ويستتبع هذا الا نشرك بالله احدا ليس فقط نظريا. ان يصبح التوحيد حقيقة في الارض هو الا تشرك به شهوة من شهوات الارض. هذا التوحيد العملي في السلوك نتيجة التوحيد الذي في المعتقد. ذلك ان التوحيد في العقيدة يبقى جامدا ما لم يرتبط كل كيانك بالله وتسطع، عند ذاك، فيك وحدة تتحسسها بقلبك وان تعذر عليك تفسيرها بكلمات البشر.
هكذا تضرب تعدد الآلهة وهكذا تصبح انسانا غير متردد بين ربك والرغبات التي ليست منه. وهذا بدء خلاصك. واذا نزل عليك صفاته تكون له او تكون منه. بعد هذا تضع حدا للشرك او الوثنية في ذاتك.