مقدمة
يمكننا التعرُّف إلى شخصية يسوع من خلال لقبين أُطلقا عليه هما: "ابن الله" و"الابن". ولقد استعملهما هو على نفسه مراراً. فمن خلالهما كان يكشف عن سرّ العلاقة التي تربطه بالله "أبيه"، وبالتالي يوضح لكل من آمن به أنموذجاً للعلاقة مع الله الآب. وهنا تكمن فرادة المسيحية وعمق الحقيقة.
كيف يعرِّف الإنجيل عن بنوَّة يسوع لله؟.. إليك نصوص من الإنجيل:
إن الروح القدس يحلُّ بكِ (أي بمريم) وقدرة العلي تظللكِ، لذلك يكون المولود قدّوساً وابن الله يُدعى (لو1/35)..
وإذا صوت من السماء يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت (عند اعتماده: مت3/17 وعند تجليه: 17/5)..
فأجاب سمعان بطرس : أنت المسيح ابن الله الحي (مت16/16).
فقال نتنائيل: رابي أنت ابن الله (يو1/49)..
فسجد له الذين كانوا في السفينة (أي التلاميذ) وقالوا: أنت ابن الله حقاً (مت14/32)..
وكانت الأرواح النجسة تسجد له وتصرخ قائلة : أنت ابن الله (مر3/11..)
فقال له عظيم الأحبار: أستحلفك بالله الحي لتقول لنا أأنت المسيح ابن الله؟ فأجاب يسوع : أنت قلت .. (مت26/64)..
وأما قائد المائة، وكان واقفاً تجاهه، فإنّه لمّا رآه قد لفظ الروح هكذا، قال: كان هذا الرجل ابن الله حقاً (مر15/39)..
الله لم يره أحدٌ قط ، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عنه (يو1/18)..
إنّ الآب فيَّ وإني أنا في الآب (يو1/38)..
الآب يحبّ الابن وقد جعل في يده كلّ شيء (يو3/35)..
وكما أن الآب له الحياة في ذاته كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته (يو5/26)..
إني لست وحدي لأن الآب معي (يو16/32)..
لو كنتم تعرفوني لعرفتم أبي أيضاً (يو8/19)..
لا يأتي أحد إلى الآب إلاّ بي (يو14/6)..
يتمجَّد أبي إذا أتيتم بثمر كثير..
وكما أحبني الآب كذلك أحببتكم (يو15/8)..
الأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي (يو10/25).
إن ما أعطاني أبي هو أثمن من كلّ شيء (يو10/29)..
ما من أحد يعرف الابن إلاّ الآب ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومن يريد الابن أن يكشف له (مت11/27)..
أيها الآب القدوس احفظ باسمك الذين وهبتهم لي ليكونوا واحداً كما نحن واحد .. وكما أنت فيّ أيها الآب وأنا فيك كذلك فليكونوا بأجمعهم واحداً ليؤمن العالم أنك أنت أرسلتني .. (يو17/11و21)..
وأتى يسوع أمام التلاميذ بآيات أخرى كثيرة لم تدوَّن في هذا الكتاب ، وإنما دوِّنت تلك الآيات لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله، فإذا آمنتم نلتم باسمه الحياة (يو20/30-31)..
أما أنتم إذاً فصلوا هكذا: أبانا .. (مت6/9).. أحمدك يا أبتِ ربّ السماء والأرض لأنك أخفيت ذلك عن الحكماء والعقلاء وكشفته للصغار ، نعم يا أبتِ هكذا حَسُن لديك (مت11/25-26).
لا نفهم عبارة: "يسوع هو الابن" بالمعنى المجازي، أو: "يسوع هو النور" بالمعنى الأخلاقي، أي أنه ينير حياتنا بالتزامات أخلاقية مستقيمة، أو أي لقب أطلق على يسوع. بل المعنى اللاهوتي في كلتا العبارتين هو أن يسوع ينير لنا الطريق إلى الله على أنه أب لنصبح بدورنا أبناء. إنه صورة الله الإنسانية الذي يعيد للإنسان صورته الإلهية. يشبِّه بعض الآباء سرّ الثالوث الأقدس بالشمس، إنها كيان، وحرارة، ونور. فالمسيح هو "شعاع الآب"، كما تقول الليتورجيا. فبنوّته لله هي كشف عن سرّ أبوّته لكل إنسان ودعوة لكل من يؤمن بالابن إلى عيش البنوة لله.
الله أبانا
"لما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة، مولوداً في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فننال التَّبنِّي. والدليل على كونكم أبناء أن أرسل الله روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي :"أبّا" ( يا أبتاه ) . فلستَ بعد عبداً بل ابنٌ، وإذا كنتَ ابناً فأنت وارثٌ بفضل الله"… (غلا4/4-7)..
يسوع هو ابن الله
إن الأناجيل الإزائية تظهر أن يسوع منذ الحبل به، كما يعلن المبشّر، هو " قدوسٌ وابن الله يدعى" ، وفي اعتماده يُسرّ الآب بمناداته " ابنه الحبيب" ، كذلك في تجليه . ويشهد تلاميذه والجموع ببنوّته لله لفعالية كلامه، ولما رأوا من الآيات. وهو أيضاً يصرّح بأنه ابن الله، ولكن بعد تحفظ طويل !.. فلِمَ هذا التحفظ ؟.. ألأنه كان يخشى الفهم الخاطئ لحقيقة بنوّته الإلهية كما حصل لمعنى لقبَي " المسيح" و"ابن البشر"..
"إن فكرة تبنّي الله للإنسان فكرة قديمة نجدها في أسفار الكتاب المقدس الأولى. وقد كان شعب العهد القديم بجملته يعتبر نفسه ابناً لله" . ففي سفر الخروج نقرأ قول الله لموسى: "قل لفرعون: كذا قال الرب .. أطلق ابني ليعبدني"(4/22). وكذلك يقول النبي هوشع عن شعب الله: "من مصر دعوت ابني" (11/1). وكان الملك بنوع فائق "ابن الله"، فهو يمثّل الشعب كلّه، وفي شخصه تتجمّع وعود الله لشعبه، يقول ناتان النبي باسم الله لدواد الملك: "متى تمّت أيامك واضّجعت مع آبائك، سأقيم من يليك من نسلك الذي يخرج من صلبك وأقرّ ملكه.. أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً" (2صموئيل7/12-14). ويقول كتاب المزامير في ذلك : "وجدت داود عبدي، بدهن قداستي مسحته… يدعوني : انك أبي وإلهي وصخرة خلاصي".
إن "في انتقال لقب "ابن الله" من العهد القديم إلى العهد الجديد نلاحظ تغييراً جذرياً في المدلول والمعنى، مماثلاً للتغيير الذي حصل للقَبي "المسيح" و "ابن البشر". فهذه الألقاب ، بانتقالها من عهد التهيئة إلى عهد الكمال، ومن عهد الرمز إلى عهد التحقيق، قد تحوّل معناها من الملك المادي البشري المحصور في بقعة ضيقة من الأرض، الأرض المقدسة ، إلى الملك الروحي الإلهي الذي يتخطّى حدود الممالك الأرضية ويمتدّ امتداد الله في الكون بأسره".
أما إنجيل يوحنا فيوضح بشكل صريح عن علاقة الآب بالابن والابن بالآب. ويرى مفسرو الكتاب المقدس صلة وثيقة بين لفظة "الابن" المطلقة على يسوع، في الإنجيل الرابع خصوصاً، ونداء "أبّا" الذي كان يسوع ينادي به الله . لقد تفرّد يسوع باستعمال هذه الكلمة عن العهد القديم وعن جميع معاصريه للدلالة على فرادة العلاقة بينه وبين الله أبيه . ويرى اللاهوت المسيحي، فيما بعد، أن هذه العلاقة، تحمل معنى " الجوهر الواحد"، أي أن الآب والابن ، وبالتالي الروح القدس أيضاً، "من ذات الكيان".
غاية التجسّد: تأليه الإنسان
يقول الآباء: لقد صار ابن الله انساناً ليجعل الانسان ابناً لله .
فإذا كانت الأناجيل الإزائية تظهر بطريقة "تصاعدية" أن يسوع الإنسان هو ابن الله، فإنجيل يوحنا وكذلك رسائل بولس تسير بخط "تنازلي" للتعريف عن هذه الحقيقة: إن ابن الله ، "الكلمة"، "الحياة"، "النور"، "الحق.. يصير "بشراً" لينال مَنْ يؤمن به "التبني".
إن بنوّة يسوع الإلهية، في كل الأحوال، هي كشف عن محبة الله لخلاص البشر، لكي لا يبقى الله الإله البعيد المتسيِّد في نظر مَنْ حاولوا النظر إليه، بل ليكون "الله معنا" الـ"عمانوئيل"، القريب والمحب، و"الذي يخلّص" (وهذا تفسير لفظة يسوع) وبمعنى واضح كما كشفه الابن، ليكون " أبانا"..
يسوع النور يكشف عن نور الله ..
يصعد موسى في العهد القديم إلى جبل تجليات الله، ويطلب إلى الله أن يشاهد وجهه لكي يخبر الشعب بمصداقية مشاهداته، فيتمنّع الله مفسِّراً: "أما وجهي فلا تستطيع أن تراه، لأنه لا يراني الإنسان ويحيا". ويريه في نهاية الحوار "ظهره" ، وعندما ينزل موسى الجبل يضطر أن يضع على وجهه "حجاباً"، لأن الشعب لم يستطيع أن ينظر إليه لشدة النور الصادرة منه، لأنه رأى ظهر الله!! (خروج 33/18-23 و29-35). وبكل بساطة يأتي يسوع يكشف عن وجه الله "أبيه": "أنا والآب واحد، فمن رآني فقد رأى الآب". فما هي صورة الآب هذه التي كشف يسوع عنها؟…
لا شك أن شخصية يسوع بكاملها (حياته، تعاليمه، معجزاته، وخصوصاً موته وقيامته) تكشف عن سرّ الله أبيه.
من المفيد التعرّف على هذه الصورة من خلال بعض أمثال يسوع التي تظهر ذلك:
مثل الأب الحنون (لو15/11-32) : تظهر صورة الله في الأب الذي يقبل أن يُمات في سبيل ممارسة أبناءه لحريتهم ، هذا هو معنى قبول الأب توزيع ميراثه على أبناءه. ويظهر حنان الله الأب في انتظار وترقب عودة ابنه الضال ، وإعادته إلى كرامة الأبناء بعد توبته . وتبرز شدة حبه أيضاً في "تضرعه" إلى ابنه الأكبر للدخول إلى بيته الأبوي. وهكذا تظهر صورة الله بالأب المستعد دائماً "التنازل" من أجل أبنائه البشر.
مثل الزارع الصبور (مر4/1-9): مَنْ مِنَ البشر يقبل أن يخسر ثلاثة أرباع جهده، ورأسماله، ويقبل بربح الربع فقط؛ يعطي ثلثه الوفير؛ وثلثه المتوسط؛ والثالث الشحيح؟.. أليس الله يصبر صبراً شديداً على تفاعل كلمته فينا، رغم كلّ شيء؟..
مثل الكرّام الحازم (يو15/1-17): ربما نستنتج من المثلَين السابقين أو ما شابهما أن الله لشدة حبه للبشر لا موقف لديه تجاه تقصيرنا وخطايانا! لذلك يظهر لنا هذا المثل حزم الله وتقضيبه لكل فاسد (أنظر أيضاً: مثل التينة).
إن الله أبٌ ناضج يوّفق دائماً بين المحبة والحق، بين الحنان والعدالة، وما صليب وقيامة يسوع سوى علامة ذلك .
المسيحية نظرةٌ إلى الإنسان بقدر ما هي نظرة إلى الله
يقول الدكتور كوستي بندلي: إن الإنسان سقط لكونه أراد أن يجعل نفسه إلهاً دون الله، بالاستغناء عن الله. لقد كان يتوق إلى التأله ولكنه ضلَّ الطريق إذ اعتقد أن التأله يتم بانتفاخ الأنا . لقد كان في تصميم الله أن يتأله الإنسان ، فإنه لم يخلق الإنسان ليكون له عبداً بل شريكاً في حياته الإلهية . ولكن هذا التأله لم يكن ممكناً بمعزل عن الله بل كان مشروطاً باتحاد الإنسان بالله ، لأن من الله، ومن الله وحده، يستمد الإنسان كلّ موهبة وقوة وحياة . خارج الله ليس سوى العدم والفراغ والموت . ولكن الإنسان استمع إلى خداع الشرير فطمع بالتأله دون الله، فلم يبلغ مأربه بل انحط من مستواه الإنساني الأصيل عندما أراد أن يتشامخ فوقه وأخضع طبيعته للموت .
الإيمان بالثالوث والتجسد دعوةٌ للإنسان لمشاركة الله حياته
يقول فاريون: من هو هذا الإنسان؟ لم يعترف الرسل بإيمانهم بألوهية يسوع صراحة إلاّ في أعقاب تكوين استغرق زمناً طويلاً . سمعوا يسوع ينادي الله "بابا" (أبّا) ، وهي كلمة تدل على منتهى التوكّل البنوي . أحاول في صلاته أن أتصوّر دهشة الرسل لدى سماعهم يسوع يقول لله: "بابا " . رأوا يسوع يتصرّف كرجل له خبرة مباشرة بالله وبالإنسان . فظهر لهم كمن كان في آن واحد إلهاً ينظر إلى الإنسان وإنساناً ينظر إلى الله. وشاهدوا تلك الألفة الفريدة التي تربط إنساناً بالله، والتي عاشها يسوع، لا أمامهم فقط، بل من أجلهم أيضاً، إذ أنه دعاهم إلى المشاركة فيها: قولوا مثلي: بابا" (مت6/9).
حافظ يسوع على تلك الألفة حتى في منتهى الألم ، حين صمت الآب وبدا غائباً وأظهر للناس منتهى القسوة: "يا أبتِ ، في يديك أستودع روحي.. اغفر لهم". ولمّا قام من بين الأموات، اتّضح أن الله كان مع هذا الرجل . لكن السؤال بقي مطروحاً: هل هذا الإنسان هو الله؟ هل الله ويسوع اثنان أم واحد؟
وفي العنصرة، استولى روح يسوع على الرسل.. وقادهم إلى الأعمال نفسها -أعمال الرسل-، وإلى مواجهة الأخطار نفسها ، وإلى الجرأة نفسها في الموت .. فلم يعترف الرسل بأن يسوع هو إله إلاّ في العنصرة .
يقول القديس كيرلّس الأورشليمي : "لو كان التجسد مجرّد وهم، لكان الخلاص أيضاً مجرّد وهم". لو لم يصر الله إنساناً، كيف أمكن للإنسان أن يؤلَّه؟.. خضعت الكنيسة لمنطق دقيق فرض عليها عدم الفصل في وحدة إيمانها، بين الإيمان الثلاثي بتأليه البشرية وألوهية يسوع المسيح والثالوث الأقدس. فإن لم يكن الله ثالوثاً، كان التجسد أسطورة، وإن كان التجسد أسطورة، لم يكن هناك من تأليه للإنسان . فالأمور مترابطة .
بنوّة يسوع لله نموذجٌ لبنوّتنا
يقول بَلْتَسار: ندعو الابن ربنا. "تدعونني الرب والمعلِّم وأصبتم فيما تقولون، فهكذا أنا "(يو13/13). وإنه هو، بعد قيامته من الأموات يدعونا " إخوته "، فثمّة تكريم لنا فائق يوجب علينا، ونحن نتقبّل هذه التسمية، أن نعترف مع توما : " ربي وإلهي ". أجل لأنه ذهب في تنازله إلى حدّ غسل أرجلنا .. . يريدنا أن نقوم إلى جنبه، ومعه نقول صلاة الـ" أبانا ". ويريد أكثر من ذلك: أن نتقبّل غفرانه بالتوبة ونتغذّى به في الافخارستيا. يريد أن يقوم فينا في حضرة الآب وحتى أن يكون ، فينا، في الآب . يريدنا .. أن ندخل فيه، وبه – لأنه " السماء الجديدة والأرض الجديدة" – في حميميّة الحب الإلهي.
خاتمة: يسوع تجلّي الله يكشف عن تجلّي الإنسان..
المسيحية في عمقها ليست نظرة فريدة إلى الله كشفها الله نفسه في شخص ابنه يسوع المسيح وحسب، بل هي أيضاً نظرة ممثالة في الفرادة إلى الإنسان ، ولقد كشف ابن الله نفسه عن هذه النظرة بمجرد " أنسنته. فالذي قال: "أنا نور العالم" ، قال أيضاً لمن تبعه، وصار على غراره: "انتم نور العالم". قيمة الإنسان أنه صورة الله ومثاله . ويسوع آدم الجديد قد صحح هذه الصورة بعدما تشوَّهت بالخطيئة، ورممها بعد أن تكسّرت بالضعف، وأصلحها بعدما فسدت بالموت . إن الرغبة في التأله، وإن كانت من أصل الإنسان، هي أيضاً دعوة الابن ليصير كل من يؤمن به ابناً لله أبيه.
نقلا عن موقع terezia.org