العلمانيون المتزمتون مقابلة مع مؤلف كتاب: الأصوليون الجدد

العلمانيون المتزمتون

مقابلة مع مؤلف كتاب "الأصوليون الجدد"


روما، 27 أغسطس 2007 (Zenit.org) –

تشكل النسبية الجامحة النموذج الجديد للأصولية، بحسب الكاتب ديكون دانيال براندنبرغ الذي يرى أن الكاثوليك مدعوون إلى النهوض والتحرك حيال ما يجري.

في مقابلة أجرتها معه وكالة زينيت، يعلّق ديكون براندنبرغ الذي سوف يُسَام كاهناً لجنود المسيح في شهر كانون الأول المقبل على كتابه "الأصوليون الجدد: ما وراء التسامح" الذي نشرته مؤخراً دار Circle Press.

* * *

س: بكلمة، ما هي الأصولية الجديدة التي تتحدّث عنها في كتابك؟

ج: عندما نسمع عن الأصولية، أوّل ما يبادر إلى ذهننا عادةً هو الذهنية الدينية الضيقة، ربما أيضاً مع منحى غير منطقي أو حتى متعصب، مثل التصرف الذي صدر عن بعض المسلمين بعد كلمة البابا بندكتس السادس عشر في جامعة ريغينسبروغ.

إن الأصولية "الجديدة" التي أصفها في كتابي غالباً ما تتّصف بصفات غياب المسامحة واللامنطق والتطرف عينها. أما الفارق الأساسي، فهو أن الأصوليين الجدد يدّعون أنهم علمانيون لا يتبعون أي ديانة. بيد أن دراسة أعمق للواقع تبيّن أن العقيدة النسبية التي تنطوي عليها نظرتهم إلى العالم تشعل الحماسة الدينية أكثر مما تفعل الكثير من عقائد الديانات السماوية الكبرى.

إن خبرة البابا يوحنا بولس الثاني مع النازية والشيوعية — وهما نظامان أيديولوجيان علمانيان بشكل مطلق — حملته على أن يكتب في رسالة " Centesimus annus" (السنة المئوية): "عندما يظنّ الناس أنهم يملكون سرّ البنية الإجتماعية المثالية التي تجعل الشر محالاً، يعتقدون أيضاً أن باستطاعتهم استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف والخداع، من أجل تحقيق هذه البنية. فتصبح السياسة عندئذٍ "ديانة علمانية" تعمل تحت غطاء خلق الجنة على هذه الأرض".

وأقول إن النسبية هي لعالمنا اليوم مرادف النازية والشيوعية في عالم الأمس. إن المنهجيات مختلفة– ألطف وأدهى إذ تعمل من الداخل إلى الخارج — ولكن أثرها على الناس وعلى البنى والعلاقات الإجتماعية تنطوي بالفعل على بعض أوجه التشابه.

إن الديانة العلمانية لم تمت مع انهيار هذه الأنظمة. خلال كلمة ألقاها في 11 يونيو الماضي، تطرّق بندكتس السادس عشر إلى صعوبات نقل الإيمان "في مجتمع وثقافة غالباً ما يجعلان من النسبية عقيدة لهما… ففي هكذا مجتمع يغيب نور الحق؛ وبالفعل، فإنه يُعتبَر أن الكلام عن الحقيقة أمر خطير و"سلطوي"".

إننا نواجه اليوم أصولية جديدة — ديانة علمانية جديدة –تعتبر أن أي إعلان للحقيقة، خصوصاً إذا ما تضمّن أحكاماً حول الأخلاق أو استحقاقات إحدى الديانات أو نظرة إلى العالم بالمقارنة مع غيرها، فيه تكبّر ضمني. فالنسبية الشائعة في أيامنا هذه لا تقبل منازعاً وتتصف بتعصب عدائي.

في النهاية، حين يجري التعتيم على الحقيقة أو تجاهلها، تصبح القوة هي الصواب. وهذا يصحّ لأي ديانة علمانية.

س: إنك تفتح كتابك على دراسة حالة طالب جامعي يُدعى جيف يتعرّض للمقاطعة في حرم الجامعة لدفاعه عن إيمانه، مع أنه قد فعل ذلك بطريقة معقولة ومحترمة. فما هي الحاجة إلى محاربة الأصولية العلمانية في حرم الجامعات؟

ج: إن حالة جيف هي واحدة من القصص الحقيقية التي لا تُعَدّ ولا تُحصى والتي تؤّدي بنا جميعها إلى نقطة أساسية: وهي أنه لا يكفي أن نفهم طبيعة هذه الأصولية الجديدة ومخاطرها. بل علينا أيضاً أن نتهيأ والآخرين لمواجهتها، باستخدام النقاش القائم على الحجج المنطقية والحوار المنطقي.

وهذا أمر ملحّ للغاية، سيّما وأن للنسبية أثراً مدمّراً يكاد يطال كل ميادين الحياة البشرية، من الدين إلى الأخلاقيات فتنظيم الحياة الإجتماعية والسياسية. والمعركة غير محصورة في حرم الجامعات بل تشمل مستويات التربية والعلم كافة، ووسائل الإعلام ، والحياة السياسية والإجتماعية.

س: هل من حلول محددة تقترحها كدواء مضادّ لمفعول النسبية؟

ج: بما أن هذه الأصولية الجديدة هي داء يصيب الإنسان والدين في آن معاً، فإن الدواء الذي أصفه في نهاية كتابي مؤلّف من مكوّنات إنسانية ودينية.

على الصعيد الإنساني، أنا أحثّ على الإحترام المتبادل والحوار والصراحة. والصراحة مهمة للغاية لأنها تفترض انفتاحاً مستمراً على الحقيقة.

أحياناً قد لا يكون من المريح أن تقف لك الحقيقة دائماً بالمرصاد. وقد يبدو من الأسهل أن نضع رجلنا في أرض نعرفها ونحطّ رحالنا في مكان مألوف من الوقائع والآراء التي يُخيّل لنا أنها أصبحت تحت سيطرتنا.

ولكن الحقيقة ليست سلعة يمكننا امتلاكها واعتبارها تحصيل حاصل. إنها أمر يسيطر علينا ويملكنا ويتحدّانا باستمرار لكي ننمو. وما تلافي هذا التحدي سوى هروب من النمو لتحقيق كامل قامتنا كبشر… وكأبناء لله الذي هو حقيقة.

أما على الصعيد الديني، فبرأيي العلاج هو الديانة الحقيقية: إيمان متجذّر في اللقاء الشخصي بإله يرفعنا ويحبّنا، يقودنا إلى تصرفات عميقة تقوم على أسمى الفضائل البشرية وتتفوّق عليها.

على سبيل المثال، تقوم الديانة الحقيقية على مبدأ الإحترام المتبادل وترفعه إلى مرتبة فضيلة المحبة. كذلك، فإن الإيمان يرتقي بالحوار إلى مستوى أعلى من خلال جعل الإنسان ينفتح على ملء طبيعته الروحية. وتصل الصراحة إلى ملئها عندما يجاهد الإنسان بكل ما أوتي من قوة لبلوغ الحقيقة الموضوعية.

إن النسبية واللاأدرية تقصّان جناحي الإنسان إذ تثنيانه عن التقصّي عن الأسئلة الكبرى والبحث بحماسة عن أجوبة لأعمق تطلعاته. ما يحرّر في الإيمان هو أنه يطرح مجدداً هذه المجموعة الواسعة من الأسئلة الجوهرية وتعطي الإنسان الحرية اللازمة للبحث عن الأسئلة.

 س: إن كتابك يذكر بين الفينة والفينة أفكاراً مقتبسة من ألكسيس دي توكفيل، المفكر الفرنسي الذي عاش في القرن التاسع عشر وصاحب كتاب "الديمقراطية في أميركا" Democracy in America. ماذا برأيك كان دي توكفيل ليقول اليوم لو رأى أثر النسبية في أميركا في أيامنا هذه؟

 ج: أعتقد أن دي توكفيل قد استشرف الخطر المحتمل للنسبية منذ البداية. هو كان من الأوائل الذين قالوا إن قيمة ديمقراطية ما تقاس بقيمة شعبها وإن صفة الأمة مرتبطة بالخصائص الأخلاقية لمواطنيها.  

 
من بين النقاط التي أناقشها في كتابي أنه قد أصبح لعقيدة التسامح أثر واضح وملموس على مسائل مثل الزواج والعائلة ونوعية العلاقات الإجتماعية عموماً؛ كما أنها تضعف الشعب الذي جعل أمتنا أمة قوية.

 س: ما هي برأيك المفاهيم الرئيسة التي تساعدنا على الخوض فعلياً في النقاش والفعل؟

 ج: قد يقول الكثيرون إن التسامح هو مفتاح العلاقات بين الأشخاص ولكنني سأذهب أبعد لأقول إن المحبة والحقيقة هما أهم بكثير.

 فإن كنتُ حقاً أهتمّ لأمر شخص ما– وهذه هي المحبة– سوف أبحث عن الحقيقة من أجله. فالطبيب لا يخدم مريضه إن أوهمه بأنه بخير، تماماً كما أن الوالدين يدمّران مستقبل ولدهما إن سمحا له بالقيام بأفعال مدمّرة مثل العلاقات الجنسية قبل الزواج أو تعاطي المخدرات. علينا أن نذهب إلى أبعد من التسامح ونسعى إلى الحقيقة؛ من هنا العنوان الفرعي لكتابي.  

 
لا يجوز أن نخاف الإعتراف بأن الحقيقة موجودة. إن الحسّ النسبي في مجتمعنا ينحى إلى رفض التصاريح القائمة على الحقيقة الموضوعية لأنه يفترض أن النمو في النضوج الفكري يتساوى مع النمو في الشك. بالنسبة إلى المفكّر المعاصر، يبدو أن الأناقة الفكرية تفترض الشك التلقائي، أي القدرة على رؤية الأمور من الزوايا كافة من دون الإلتزام بأي وجهة نظر.

 
مما لا شك فيه أن ثمة أمور كثيرة في الحياة تتسم بالتعقيد المشروع ولا يسهل الإجابة عن كل الأسئلة. إلا أن ذلك لن يشرّع يوماً غياب الأجوبة المطلقة على كل المسائل

 إن النضوج يعني الإنتقال من الشك إلى القناعة المتجددة حول ما هو جيّد وحقيقي. والحقيقة، في هذا الإطار، ليست مجرّد وهم أو سراب أو حالة ركود فكري نستقرّ فيها. على العكس، إن البحث عن الحقيقة هو مسيرة فيها من النشاط والفعالية والنمو والنقد والتمييز، لأنها تتطلب الذهاب إلى ما بعد الشك إلى تلقّف الواقع بكل أبعاده بعمق وربما بطهارة. مجدداً، إنها أن نسمح للواقع بأن يتحدّانا ويغيّرنا.

 يمكننا أن نحترم الناس ونقبل بحقهم بأن تكون لهم أفكارهم الخاصة، مع التأكيد في الوقت عينه على أن بعض الأفكار صائبة وأن أخرى تفتقر إلى كل ارتباط بالواقع المعيوش. إن جزءاً من الحوار يقوم على هذا الإحترام للغير والإستعداد للخوض في نقاش قائم على الحسنات الموضوعية لهذه الإفكار.

 وهذا هو المقصد من هذا الكتاب: تقديم أدوات ووسائل تتيح للكاثوليك الملتزمينمثل جيف — الخوض في حوار منطقي مع العالم العلماني من دون أن يفقدوا الثقة في الحقيقة التي تلقّوها.