الكاردينال شونبورن: المسيحية، خيار بديل حقيقي

مقابلة قبل أيام قليلة على زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى النمسا

روما، 7 سبتمبر (ZENIT.org) – 2007

يرى رئيس أساقفة البندقية أن التحدي الأكبر اليوم هو في عيش الإيمان المسيحي بوصفه "بديلاً". ففي عالم قوامه العلمانية، يجب "تقديم الإيمان باعتباره خياراً بديلاً حقيقياً عن المجتمع الحالي". 

فقبل أيام قليلة على زيارة البابا بندكتس السادس عشر إلى فيينا، ماريازيل وهايليكنكروز (بين 7 و9 سبتمبر)، أجاب رئيس مؤتمر أساقفة النمسا الكاردينال شونبورن عن الأسئلة التي طرحتها عليه وكالة زينيت، فتحدث عن الرسالة البابوية وعن الصفات الإنسانية للبابا بندكتس السادس عشر، مركزاً على أهمية العائلات الكبيرة لمستقبل النمسا وأوروبا، وعلى وجود المسيح في قلوب المسيحيين

وقال الكاردينال: "عندما يتكلم البابا، يجب الإصغاء إليه بإمعان، لأن ما يريد قوله يقوله دائماً بوضوح. أنا لا أعرف ماذا سيقول لنا. وعلينا أن نكون منفتحين على ما سيقول".

ننشر في ما يلي الجزء الأول من هذه المقابلة.

س: إن زيارة البابا بندكتس السادس عشر المقبلة هي على كل لسان. ولكن من هو الأب الأقدس فعلياً؟

ج: الأمر بسيط. هو خليفة الرسول بطرس وبالتالي، بالنسبة إلينا، هو نائب المسيح، وممثل الرب على الأرض في الكنيسة المنظورة. بكل بساطة. وهذا في الوقت عينه أمر يصعب فهمه وضخم، ولكن في نهاية الأمر هذا هو سر رسالة بطرس. إن الشخص الذي يشغل هذا المنصب وبلده الأم ولغته إنما هي عناصر مهمة ولكن ثانوية. فهو في المقام الأول بالنسبة إلينا، وبحسب إيمان الكنيسة، الرسول بطرس الحاضر بيننا بكل ثقل وعظمة وقوة ما توقعه المسيح له، وما أوكل إليه من مهمة، وهي رسالة ما زالت مستمرة إلى ما بعد شخصية بطرس التاريخية.   

س: كيف يكون اللقاء مع الأب الأقدس؟

ج: بطريقة عادية جداً. في ما يخصني، أقول إنه شخص إلتقيته منذ 35 عاماً، وقد تتلمذتُ على يديه وتعاونتُ معه لسنين طوال، شخص عمّقتُ معرفتي به على مرّ السنين وتعلمتُ أن أقدّره، وشخص أكنّ له الإحترام والإجلال والكثير من الإعجاب. ولكن هذا كان قبل 19 أبريل 2005، قبل أن تتحول حياته وحياتنا جراء حدث كبير وهو حدث اختياره خليفة لبطرس

وقد دخلنا بطبيعة الحال في بعد جديد لعلاقتنا التي تبقى على ما هي عليه حتى في خلال لقاءاتنا معه. فهو الرجل والمعلم والكاردينال الذي أعرف جيداً ومنذ سنوات طوال، ولكنه أيضاً، كما قلتُ للتوّ، الرسول بطرس

س: أنت تعرف جوزيف راتزنغر/البابا بندكتس السادس عشر منذ وقت بعيد، حتى إنك قدّمتَ كتابه حول يسوع في روما. هلاّ حدثتنا عن شخصيته؟

ج: حول هذه المسألة يمكن أن نقول الكثير. فهو في مذكراته لا يتوقف مطولاً عند تفاصيل حياته ولكن ما يذكره بهذا الخصوص لهو مثير جداً للإهتمام. إنه متكتم إلى أبعد الحدود بشأن أموره الشخصية. وهو لا يخبر الكثير عن حياته الشخصية، ولكن مع ذلك نكتشف عنده جذوراً مسيحية عميقة وراسخة. ونشعر أنه يأتي من عائلة مؤمنة جداً، وعائلة متحدة بالإيمان والحب.

لقد تسنى لي أن أعمّق معرفتي بأخته ماريا التي توفيت فجأة في 2 نوفمبر 1991. ولطالما كان الإخوة الثلاثة قريبين جداُ من بعضهم ولا شكّ في أنه كان لهم والدين طبعاهم في العمق.

من هو البابا إذا ما عدنا إلى سيرته؟ هو لاهوتي عظيم موهوب وحادّ الذكاء. ولا أتردد ولو دقيقة واحدة في القول إنه من آخر كبار اللاهوتيين من حقبة المجمع – إلى جانب دولوباك وكونغار وراهنر وبالتازار. وقد كان الأصغر سناً في هذه المجموعة من اللاهوتيين الذين طبعوا المجمع الفاتيكاني الثاني ومن دون أي شك واحد من كبار هؤلاء من حيث قدراته الفكرية ومعرفته اللاهوتية.

س: أثناء لقائك مع البابا بندكتس السادس عشر في كاستل غاندولفو، تحدثتم عن تفاصيل برنامج زيارة قداسته إلى النمسا. فما هي توقعات الأب الأقدس من هذه الزيارة؟

ج: سوف يعلمنا بذلك وأظن أن الأمر جيّد هكذا. فعندما يتكلم البابا بندكتس السادس عشر يجب الإصغاء إليه بإمعان، لأن ما يريد قوله يكون دائماً واضحاً ومهماً وقوياً وشخصياً للغاية ومستقطباً. أنا لا أعرف ماذا سيقول لنا. ومن الجيد أن نكون منفتحين. وما أستطيع قوله بيقين هو أنه سوف يزوّدنا بكم وافر من العناصر لكي نواصل تأملنا فيها.

س: أي كنيسة سيجد البابا خلال زيارته؟ ما هو برأيك وضع الكنيسة في النمسا؟

ج: كيف هي الحال؟ في الواقع، الله وحده يعلم، لأن الإيمان يتجه إليه وكذلك أيضاً خفايا القلوب في علاقتها مع الله. وما من أرقام إحصائية يمكنها أن تقدّر ذلك. ولكن بطبيعة الحال، نحن نعيش في زمن يلعب فيه علم الإجتماع الديني وسيكولوجية الدين دوراً مهماً بالنسبة إلى الشباب. وبالتالي، فنحن نسعى باستمرار إلى تحليل الحيز الذي يحتله الدين في حياة الشباب وحياة الراشدين وفي حياة الكبار في السن.

لا شك في أن الأمور قد تبدلت تبدلاً كبيراً منذ منتصف القرن الماضي. ولكن ليس فقط في الكنيسة بل على صعيد المجتمع أيضاً. فنحن نعيش في مجتمع طرأت عليه تغيرات كثيرة.

واسمح لي أن أذكر لك مثالاً واحداً لا غير على ذلك: تضم منطقتنا منطقتين، إحداهما ريفية والأخرى حضرية، أي مدينة فيينا الكبرى وضواحي فيينا التي هي جزء من رئاسة أبرشية فيينا. منذ نصف قرن، كانت هذه المناطق أراضي زراعية، واليوم أصبحت هذه المناطق بمعظمها جزءاً من ضواحي فيينا. وقد تراجعت مساحة المنطقة الريفية بشكل كبير. إذاً كان التغيير جذرياً بالنسبة إلى عدد كبير من الأشخاص على الصعيد المهني والإجتماعي والعائلي، مع ما لذلك من تداعيات على السلوك الديني.

أعتقد أن التحدي الذي علينا أن نواجهه اليوم، في مجتمع تطغى عليه العلمانية كما هي حال مجتمعنا، هو تحدي عيش المسيحية والإيمان المسيحي كخيار بديل نوعاً ما، كعلامة فارقة في المجتمع، لا لكي نعزل أنفسنا عن باقي المجتمع وإنما لكي نقدم الإنجيل والإيمان كخيار بديل حقيقي لمجتمع اليوم.

 

س: إن عنوان زيارة البابا هو "النظر الى المسيح". ما هي المجالات التي يجب أن يكون حضور المسيح أكبر فيها؟

ج: أعتقد أن المسيح لا يقل حضوراً اليوم بيننا عمّا كان عليه في الماضي: لعلّ حضوره اليوم خفي أكثر وأقل وضوحاً. ولكنني سوف أذكر ثلاثة مجالات نشعر بأن حضوره أكبر فيها اليوم منه في الأمس.

أولاً، في كلامه. فأن يكون البابا بندكتس السادس عشر قد ألّف كتاباً عن يسوع، يتمحور بالأساس حول كلمته وتبشيره وتعاليمه ليس من دون مغزى. فنحن نلتقي المسيح في كلامه. ولهذا السبب يحرص البابا بندكتس السادس عشر على تشجيع أكبر عدد ممكن من الأشخاص على الإنفتاح على جذور الكتاب المقدس. ولهذا السبب أيضاً قرر أن تتمحور أعمال سينودس الأساقفة المقبل حول هذا الموضوع، فتتناول الكتاب المقدس وكلمة الله في حياة الكنيسة.   

ثانياً، إن المسيح حاضر في الأسرار، وفي العلامات التي أعطانا لكي نكون على تواصل معه: العماد ومشحة الروح القدس (التثبيت) والأسرار التي تطبع مسار حياتناكالزواج والكهنوت- وأسرار الشفاء، شفاء النفس (سر الإعتراف) وشفاء الجسد (مشحة المرضى)، وكلها تصبّ في السر الأكبر الذي هو سر حضوره الفعلي في الإفخارستيا

إن إكليل الأسرار هذا غاية في الأهمية لأن له أثر كبير على مسيرة إيماننا ويطال كافة أوجه حياتنا، ومنعطفاتها، ومراحلها، واضعاً إياها في علاقة مع المسيح.

أما الشكل الثالث من أشكال اللقاء مع المسيح –"النظر الى المسيح"- فهو لقاء المسيح في الفقراء الذي هو قريب جداً منهم ويتماثل وإياهم بشكل صريح حين يقول: "كنتُ مريضاً فساعدتموني وسجيناً فزرتموني وعرياناً فكسوتموني وجائعاً فأطعمتموني. إن يسوع المسيح يتماهى مع الفقراء والمعذبين، فنلتقيه بشكل أساسي بين هؤلاء.

وهذا ما يريد البابا أن يلفت انتباهنا إليه عندما يدعونا إلى الإلتفات إلى الله.

س: إن الهدف الرئيس للأب الأقدس ليست زيارته إلى النمسا بل الحج إلى ماريازيل. فأي أهمية لهذا المقام في حياة المسيحيين؟

ج: إن عنوان "النظلر الى المسيح" مستوحى بالفعل بشكل أساسي من ماريازيل. فعندما ننظر إلى تمثال ماريازيل الممتلئ نعمةً، وهو تمثال صغير جداً منحوت في خشب شجر الزيزفون منذ 850 عاماً ومجرّد من أي زينة منمقة، ومن دون الثياب الفاخرة التي تكسوه عادةً، نرى وجه أم الله السرية البسيط، باسماً، وعلى ركبتيها طفل يحمل تفاحة بيده، رمز ملكوت القدرة الإلهية. وبيدها تدلّ مريم إلى الطفل. وهي بهذه الحركة تقول لنا ما قالته في قانا الجليل "إفعلوا ما يأمركم به"، فتعلّمنا بذلك أن ننظر إلى المسيح.

إن مريم تنظر إلينا ولكنها تشير إلى المسيح. وهي بطريقة ما توجه إلينا النداء التالي: "أُنظروا في هذا الإتجاه، أُنظروا إلى ابني". وأظن أن هذا ما اختاره البابا يوحنا بولس الثاني شعاراً لحياته بكاملها وخصوصاً لحبريته. فشعار Totus tuus (كلّي لك) يعني بالفعل: إلى المسيح عبر مريم. فهي تدلّنا على الدرب الذي نسلكه. ولهذا السبب نبدأ حج الأب الأقدس ومع الأب الأقدس باتجاه ماريازيل، وعن سابق تصميم على الساحة المحازية لتمثال مريم.

في 8 ديسمبر 2006، في عيد الحبل بلا دنس، بدأنا التساعية الكبرى التي تستمر حتى 8 سبتمبر، وهي التساعية الكبرى استعداداً لشفاعة وعيد ماريازيل ولزيارة الأب الأقدس.

س: منذ فترة أثرتَ مشكلة النقص في عدد الأولاد. فكيف برأيك يكون المجتمع أكثر إصغاءً لحاجات الطفولة؟

ج: إنها قبل كل شيء المشكلة الكبرى التي يعاني منها مجتمع يعرّض بكل بساطة مستقبله للخطر عبر إنجاب القليل من الأطفال. فنحن ندرك تماماً أن أوروبا بمعظمها إجمالاً سيكون عليها أن تعالج مشكلة التراجع الديمغرافي وأنه لا يتمّ التوصل إلى توازن إلا من خلال موجات الهجرة الكثيفة. إن قراراً كهذا يعني المجتمع برمته الذي يتعين عليه اليوم أن يواجه مشكلة "اللامستقبل".

لمَ ترانا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وبالتحديد في دول  مثل النمسا حيث كل شيء على أفضل ما يرام وحيث تدابير الدعم العائلي لم تكن يوماً أفضل من اليوم. في أي وقت من تاريخنا لم تنقصنا القواعد كما تنقصنا اليوم. والمفارقة هي  أنه في الماضي كانت العائلات تنجب أطفالاً أكثر من اليوم.

لا شك في أن مأساة الإجهاض مسؤولة نوعاً ما عمّا يحصل. وهي مأساة يُضاف إليها عدم الرغبة في إنجاب الأولاد، الـ"لا" للأولاد، مع وسائل منع الحمل.

ففي السنوات الأربعين الأخيرة قالت أوروبا ثلاث مرات "لا" لمستقبلها: المرة الأولى مع اكتشاف حبوب منع الحمل والثانية مع الإجهاض والثالثة مع زواج المثليين. فبعيداً عن كل الإعتبارات الأخلاقية لهذه الظواهر، لا شك في أن هذه الـ"لا" التي تُقال هي "لا" للمستقبل.

إن كلمة "نعم" للمستقبل لا يمكن إلا أن تعني "نعم" للأولاد. وأعتقد أن الكثير من الأشخاص في أوروبا بدأوا يعون ضرورة اتخاذ قرار في هذا الصدد. وأن نقول "نعم" للمستقبل أمر جميل إذا ما اعتبرنا أن هناك أمل للمستقبل.

س: تضمّ مطرانية كولونيا منذ فترة "مراكز عائلية". فما هي المبادرات الملموسة التي تُتخذ في مطرانية فيينا باتجاه الدعم العائلي؟

ج: بطبيعة الحال هناك الكثير من المبادرات الداعمة للعائلة، كجمعية العائلات أو العمل العائلي. وثمة حركات دينية عديدة تضمّ منظمات عائلية مثل حركة شونستات. إن مختلف الحركات الدينية التي كانت وليدة التجدد لطالما التزمت في مجال العائلة. ولكنني أعتقد أن المسألة ليست هنا. بل المسألة هي مسألة النظر إلى الأمور.

فيسوع قال لتلاميذه الأول: "تعالوا وانظروا!". فعلينا إذاً أن ننظر وعلينا أن نتمكن من اللمس –وإلا فلا يمكن أن نحيا فيه.

خلال فترة عطلتي، أمضيتُ بضعة أيام في كنف عائلة شابة رُزقت بطفلها السادس. لاشك في أن حياتهم تتطلب الكثير من التضحيات، ولكنها حياة أكثر حيوية بأشواط من تلك التي نحياها عندما نخشى إنجاب ولد جديد. أعتقد أننا بحاجة إلى عائلات كهذه تقول "نعم" في نفسها وضميرها بالرغم من المقاومات الهائلة المحتملة من محيطها والتعليقات من قبيل: "هل جننتم؟ أولم يكن بوسعكم أخذ الحيطة؟". ومن خلال شهادة حياتها، تبين هذه العائلات أنه من الجميل والحسن أن يكون للعائلة أولاد.   

من المؤكد أن الأمر متعب ولكنه مرضٍ جداً وينمّي الذات. وأعتقد أن حياة عائلات كهذه تشجع عائلات أخرى على الخوض في هذه التجربة. والغريب في الأمر أن المسألة ليست مسألة مالية وقدرات مالية.

لا شك في أن تربية ستة أطفال أمر صعب. ولكن الحمد لله، إن العائلات في النمسا تحظى بمستوى جيد من الدعم. قد تكون بعض الأمور أفضل، ولكن من المهم أن نعيش هذه التجربة ونمكّن الآخرين من عيشها. فقد قال: "تعالوا وانظروا!".

وأنا ألمس ذلك في الكثير من العائلات الشابة التي لديها ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أطفال إن لم يكن أكثر. فنقول إذاك: المستقبل والرجاء والحياة هنا. وهي الصفات التي يتغذى منها المجتمع بكامله: أعني التضامن والإحترام المتبادل والتعاضد. والخبرة المنطقية بأنه علينا أيضاً أن نتخلى عن أمور كثيرة.

ففي هذه العائلات نجد القيم كافة التي نحتاجها بإلحاح كيما نتمكن من العيش والحب. وفيها أيضاً نتعلم. فالويل لمجتمع تضيع فيه هذه القيم لأنه إذاك يصبح سيئاً وغاشماً


س: ماذا تتوقعون من زيارة البابا؟

ج: تفعيل الإيمان وتفعيل الفرح في الإيمان؛ وتشجيعاً على أن نسير حياة الإيمان مع الكنيسة وليس على درب نسيره بمفردنا