الله محبّة بقلم: البابا بنديكتوس السادس عشر

DEUS CARITAS EST

إلى الأساقفة، الكهنة، الشمامسة، الأشخاص المكرسين،

وإلى كل المؤمنين العلمانيين

المقدمة

   1. "الله محبّة، ومَن ثبت في المحبة ثبت في الله، وثَبتَ الله فيه" (1 يو 4 / 16). هذه الكلماتِ مِنْ رسالةِ يوحنا الأولى تعبّر بوضوحِ رائعِ، عن قلب الإيمانِ المسيحيّ: الصورة المسيحية لله والصورة الناتجة للبشريةِ ومسيرتها. في الآية نفسها، يَعْرضُ القدّيسَ يوحنا أيضاً نوع مِنْ خلاصةِ للحياةِ المسيحيةِ: "نحن نعرف محبة الله لنا ونؤمن بها".

   "نحن نؤمن بمحبة الله": بواسطة هذه الكلماتِ، يعبّر المسيحي عن الخيار الأساسيَ لحياتِه. أنْ يَكُونَ المرء مسيحياً هذا لا يأتي نتيجةَ خيار أخلاقي أَو فكرة سامية، بل كنتيجة للقاء بحدثِ،بشخص، بمن يُعطي الحياة أفقاً جديداً واتّجاهاً حاسماً!.

يَصِفُ إنجيلُ القدّيسِ يوحنا ذلك الحدثِ بواسطة هذه الكلماتِ: "هكذا محبة الله العالم حتى وهب ابنه الوحيدَ، كي لا يهلك كل مَنْ يُؤمنُ به، بل تكون لَهُ الحياةُ الأبديّةُ" (يو 3 / 16). بإعتِرافه بمركزيةِ المحبّة، احتفظَ الإيمانُ المسيحي بصميمِ إيمانِ إسرائيل، بينما أعطاه في الوقت ذاتهِ عمقاً وبعداً جديدين. فاليهودي التقيُ يصلّي كل يومٍ بكلماتَ كتابِ سفرِ التثنية، وهو يعرف أن فيها مَركزَ وجودِه: "إسْمع يا إسرائيل: الربّ إلهُنا ربٌ واحد، فأحبب الرب إلهَكَ بكُلّ قلبكَ، بكُلّ نفسكَ وبكُلّ قوّتك" (تث 6 / 4 ـ 5). لقد جمع السيد المسيح هذه الوصيةِ مع الوصية الأخرى جاعِلاً منهما وصيةً واحدة أي محبّة الله ومحبة القريب، هذه الوصية متواجدة في سفرِ اللاويين: "أحبب قريبك كنفسك" (أح 19 / 18)؛بما أنَّ الله أحبَّنا أولاً (راجع 1 يو 4 / 10). فالمحبّة لَمْ تَعُدْ مجرّد "وصيّة"؛ بل هي الجواب على عطية الحبِّ الذي به الله يَقتربُ إلينا.

   في عالم ارتبطَ فيهِ اسم الله بالثأرِ أحياناً أَو حتى بواجب الكراهيةِ والعنفِ، تكتسب هذه الرسالةِ واقعية ومعنى. لهذا السبب، أردت في رسالتي الأولى التحدّث عن المحبَّة التي يُغدقُها الله علينا والتي  يَجِبُ علينا تِباعاً أَنْ نشركَ الآخرين فيها. هذا هو، بشكلٍ جوهري، ما يتضمنه الجزءان الرئيسيانُ مِنْ هذه الرسالةِ، المرتبطان ببعضهما بشكل كبير. الجزء الأول يبدو ذو طبيعة فكريّة، فقد أردتُ فيه – في بِدايةحبريتي – تَوضيح بَعْض الحقائقِ الضروريةِ المتعلقة بالمحبِّة التي يعرضها الله على الإنسان بطريقة سرية ومجانيّة، والصلة الجوهريةِ بين تلك المحبّة وحقيقةِ الحبِّ الإنسانيِ. الجزء الثاني يتعلق أكثرِ بالحياة العملية،لأنه يُعالج كيفية العيش الكنسي لوصيةِ محبّة القريب. الموضوع واسع، لكن معالجته بشكلٍ مطوَّل تَتجاوزُ مجالَ الرسالة الحالية. رغبتي هي أَنْ أُؤكّدَ بَعْض العناصرِ الأساسيةِ، لِتكون دافعاً للعالم لأجل الإلتزامِ المتجدّدِ في التجاوب الإنسانيِ مع محبة الله.

 

الجزء الأول

وحدة الحبِّ

في الخَلْقِ

وفي تاريخِ الخلاص

 

   مشكلة تعبير

2. إن محبّة الله لنا هي أمرٌ أساسيٌّ لحياتِنا، وهي تطرح أسئلةَ مهمةَ حول من هو الله ومَنْ نحن. في إعتِبار هذا، نَجِدُ أنفسنا فوراً أمام مشكلة في التعبير. فاليوم، أَصْبَحَ تعبيرَ "حب" أحد أكثر التعابير المستخدمة والمُسَاءة الإستعمالِ كثيراً، فبه ارتبطت معاني مختلفةَ جداً. بالرغم من أنَّ هذه الرسالة ستعالج كيفية فَهْم وممارسةِ المحبِّة في الكتاب المقدّسِ وفي تقليدِ الكنيسةَ، لا نَستطيعُ ببساطة فَصْل هذا عنْ معنى الكلمةِ في الثقافاتِ المختلفةِ وفي الإستعمالِ المعاصرِ.

 

–  إختلاف ووحدة بين الحب والمحبة الـ   "eros" وال"agape"

   قبل كل شيء لنذكر الاستعمال الواسعِ لكلمة "حب": فهي يمكن أن تعني محبة الوطن، محبة مهنة معينة، محبة بين الأصدقاء، محبة العملِ، محبة بين الآباءِ والأطفالِ، محبة بين أفرادِ العائلة، محبة القريب ومحبة الله. وسط هذا التعدّدِ للمعاني، على أية حال، واحد منها يَبْرزُ بشكلٍ خاص: الحب بين الرجلِ والمرأةِ، حيث الجسد والروح يشتركان فيهِ دون انفصام ويُعطى للإنسان وعداً بالسعادة لا يُقاوم. فيهِ تتجلّى خلاصة الحبِّ؛ وبالمقارنة معهُ تَبْدو فوراً كُلّ أنواع الحب الأخرى باهتة. لذا يُطرح السُؤال: هل لكُلّ أشكالِ المحبة هذهِ أساس واحد، وهل المحبة، رغم تجلّياتها العديدة، هي في النهاية حقيقة واحدة، أَم أننا نَستعملُ نفس الكلمةِ للدلالة على حقائق مختلفةَ كلياً؟   

3.  دعت اللغة اليُونانِيَّة القدِيمَةِ، الحبَّ الذي ينشأ بين الرجلِ والمرأةِ دون تفكيرٍ أو إرادةٍ مسبقين، بل يَفْرض نفسه بطريقةٍ ما على البشرِ، بالـ eros. لنُلاحظُ مباشرة بأنّ العهد القديمِ اليونانيِ يَستعملُ كلمةَ eros مرّتين فقط، بينما العهد الجديد لا يَستعملُها مطلقاً: فمن بين الكلماتِ اليونانيةِ الثلاث الدالّة على الحبِّ: philia, eros (حب الصداقة) و agape يُفضّلُ كُتّابَ العهد الجديدِ الأخيرة، والتي كانت نادرة الإستعمال عند اليونان. أما بالنسبة إلى التعبيرِ philia الدال على محبة الصداقةِ، فهو مُستعملُ بشكلٍ مُعمقِ في إنجيلِ القدّيسِ يوحنا للكلام عن العلاقةَ بين السيد المسيح وتلاميذه. إن الميل لتَفادي كلمةِ eros مع الرؤيةِ الجديدةِ للحبِّ المعبَّر عنه بكلمةِ agape، يُشير دون شك إلى أنّ النظرة الجديدِة والمُتميّزةِ حول الفَهْم المسيحيِ للحبِّ هي ذات اعتبار جوهري.  إنَّ نقدَ المسيحيةِ الذي بَدأَ بعصر التنويرِ ونَما تدريجياً بشكلٍ جذري، رَأى في هذا العنصرِ الجديدِ أمراً سلبيّاً للغاية. فطبقاً لفريدريك نيتشه، قد قامت المسيحيةَ بتسميم الـ eros الذي من جهته، بينما لم يضمحل بالكامل، تَحوَّل بشكل تدريجي إلى رذيلة [1] بهذا كَانَ الفيلسوف الألماني يُعبّر عن وجهة نظر سائدة وهي المتسائلة: ألا تعمل الكنيسةُ، بكُلّ وصاياها وموانعها لتحويل الشيءِ الأثمنِ في الحياةِ إلى مرارةِ؟ ألا ترفع صافرةَ الإنذار فيما يتعلق بتلك البهجة التي نلناها هديةً من الخالقِ والتي تمنحنا سعادةً تجعلنا نتذوق منذ الآن شيئاً إلهياً؟

 

4. لكن هَلْ هذه هي الحقيقة؟ هَلْ حطّمتْ المسيحية حقاً الـeros ًً؟ لنلقي نظرة على العالم ما قبل المسيحيّة. اليونانيون -مثل الثقافات الأخرى – قد إعتبروا الـ  erosقبل كل شيء نوعاً مِنْ السكر، بهِ تُقَهْر العقلانية مِن قِبل "جنونٍ إلهيّ"، يخطف الإنسانَ بعيداً عن وجودِه المحدودِ وبهذه القوة الإلهية التي تقتحم حياته يتمكن من اختبار سعادة لا متناهية. كُلّ السُلُطات الأخرى في السماء وعلى الأرضِ تَبْدو إذاً ثانوية. يَقُولُ فيرجليوس فيBucolics"الحب ينتصر على كل شيء" ومن ثم يضيف: "دعنا نحن أيضاً نستسلم للحب" [2]. في الأديانِ، وَجدَ هذا الموقفِ تعبيراً لهُ في طقوس الخصوبةِ، التي شكّلت الدعارةَ "المقدّسةَ" جزءاً منها تلك التي إزدهرتْ في العديد مِنْ المعابدِ .هكذا إحتُفِلَ بالـ  erosكقوَّة إلهية، كتواصل مع العالم الإلهي.

 

   عارضَ العهد القديمُ بِحزم هذا الشكل من التديُّن، الذي كان يُمثّلُ إغراءً قويّاً ضدّ الإيمانِ التوحيديِ، وحاربه كظاهرة تدهور في الدين. لَكنَّه بذلك لم يرفض أبداًeros  في حد ذاته؛ بل بالأحرى، قد أعلنَ الحرب على الجانب المشوّه والتدميريّ منه، لأن هذاالتأليه المُزيَّف للـ  eros  يُعرّيه في الحقيقة من كرامتِه ويلغي منهُ معناه الإنساني. في الواقع إن المومسات في المعبدِ، اللواتي كان عليهنّ أن يمنحوا نشوة الإلوهة، لَمْ يكن يُعتبًرْن بشراً وأشخاصاً، بل كن يُستعملن كوسائل إثارة لإختبار "الجنون الإلهي": في الواقع هن لم يكنَّ إلاهات، بل أشخاصاً إنسانيينَ مُستغَلّين.اللاواعي وeros  لهذا فإن الـغير منضبط، لا يُعتبر إعتلاءاً في "النشوةِ" نحو الألوهة، بل سقوطاً وإهانة للإنسان. ومن ثمّ فإنه من الواضح بأن الـeros يحتاج بالضَّرُورة لأَنْ يخضع للتأديب والتنقية فلا يكون مجرَّد خبرة لذةٍ عابرة، بل تذوق مُسبق لذروةِ الوجود، لتلك السعادةِ التي يشتَاقُ لها كل كياننا.

 

5.  من خلال هذه النظرة العامّةِ والسريعةِ لمفهومِ  eros في الماضي والحاضر نستنتج بوضوح أمران: أولاً، هناكعلاقة أكيدة بين الحبِّ وعالم الألوهة: يَعِدُ الحبُّ بالأبدية، بالخلودـحقيقة أعظم جداً ومختلفة كلياً عن وجودِنا اليوميِ. رغم ذلك رَأينَا أنَّ الطريقَ لإنْجاز هذا الهدفِ لا يقوم ببساطة على الإذْعان للغريزةِ. فالتنقية والنضجِ أمران ضروريان وهما يتطلّبان في بعض الأحيان سلوك طريقَ التخلّي أيضاً. هذا ليس رَفْضاً أَو "تسميماً" للـ eros، بل شفاءً له في سبيلِ عظمته الحقيقية.

 

هذا يرتكز قبل كل شيء على حقيقة الكائن البشري المؤلَّف مِن جسدٍ ونفس. فالإنسان يكون ذاته حقاً عندما يتحد جسده ونفسه بحميمية؛ يمكننا القول بأننا غلبنا التحدي المعروض مِن قِبل الـ eros عندما ينجح هذا الإتحاد. إذا ما أراد الإنسان أن يَكُونَ روحاً صافيةَ ورَفَض جسدهُ معتبراً إيّاهُ إرثاً حيوانياً فقط، يَفْقدُ عندها الروح والجسد كرامتَهما. من الناحية الأخرى، إن أنكرَ الروحَ وبالتـالي اعتبر المادة والجسـد بمثابتة الحقيقية الوحيدة، فهو يَفْقدُ عظمتَه على نفـس النمـط. كان الأبيقوري غاسـيندي (Gassendi) ينادي ديسكارت (Descartes) على سبيل المزاح "يا نفس!" وديسكارت كان يجيبه "يا جسد!" [3] رغم أنَّهُ لا الروح يحب بمفرده ولا الجسدُ: بل الإنسان، الشخص،يحب كمخلوق واحد متكوّن من الجسد والنفس، فقط عندما يتحد هذان البعدان، يصير الإنسان ذاته بشكلٍ كامل. بهذا الشكل فقط، حبُّ eros قادر على بُلُوغ عظمتِه الأصيلةِ.

 

   في الوقت الحاضر تُنتَقدُ كثيراً مسيحيَّة الماضي على أنها كانت ضدَّ الجسد؛ وفي الحقيقة تلك الميولِ قد وُجِدَت دائماً. رغم ذلك فإن إبراز أهمية الجسـد بحسب الطريقة المُعاصرة لهو أمرٌ خادعُ. فالـ  erosبإنحداره لـ "الجنـسِ" لا غير، أَصْـبَحَ" سلعة"، مجرّد شيء يُشتَرى ويُباع، بل بالأحرى، الإنسان نفسه قد أصبحَ سلعة. في الواقع هذا ليس الـ "نَعَمْ" السامي للجسد. بالعكس، فالإنسان صارَ الآن يَعتبرُ الجسد والجنس كالجزء المادي فقط من ذاتهِ، ذاك الجزء الذي يُستَعملَ ويُستَغلَّ عند الرغبة. ولا يَراه كمجال لممارسة حريتِه، بل شيئاً يُحاولُ أن يجعل منهُ، بحسب رغبته، مصدر متعةٍ غير مؤذية. في الحقيقة هنا نحن نتواجد أمامَ واقع يحطّ من كرامة الجسد الإنسانيِ، لأنه لم يدخل بشكل كاملٍ حيّزَ حُريتِنا الوجوديةِ؛ لم يعد يُشكّل التعبير الحيوي عن تكامل كياننا، لَكنَّه قد حُصِرَ في المجالِ البيولوجي لا غير. إن الإعلاء الظاهري للجسد يُمْكِنُ أَنْ يَتحوّلَ بسرعة إلى كراهية للبعد الجسديّ. على عكس ذلك قد اعتبر الإيمان المسيحي دائماً الإنسانَ كوحدة ـ ثنائية، فيها تتداخل النفس مع الجسد بشكل يمنح كلَّ بعدٍ منهما كرامةً جديدة. نعم فالـ  erosيعمل على رفعنا "في النشوةِ" نحو الله، ليسير بنا لما هو أبعد من أنفسنا؛ لكن لهذا السبب بالذات يتطلّب منّا مسيرة ترويضٍ، تخلّي، تنقية وشفاء.

 

 بشكل عمليّ، ماذا يتطلّب طريقُ الترويض والتنقيةِ هذا؟ كيف على الحبّ أن يُعاش كيما يُحقق بالكامل وعده الإنساني والإلهي؟ أول إشارة مهمة يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَها في نشيد الأناشيد، أحد أسفار العهد القديمِ المشهورِ لدى الصوفيين. طبقاً للتفسيرِ السائد اليوم، كانت القصائد المحتواة في هذا الكتابِ أصلاً أغاني حبّ، ربما كانت تخص حفلة زفاف يهوديِ وتقَصدَ إعلاء شأن الحبِّ الزوجيِ. في هذا السياقِ من المفيد جداً مُلاحَظَة استعمال الكتابِ لكلمتين عبريتينِ مختلفتينِ للإشارة إلى "الحبِّ". أولاً هناك الكلمة "دوديم" وهي عبارة عن صيغة جمع تلمّح للحبّ الذي ما زالَ في طور بحث غير محدد. الكلمة الأخرى هي "أحابا" والتي ترجمتها النسخةَ اليونانيةَ للعهد القديمِ  بلفظٍ مماثل "أغابيه" والتي، كما رَأينَا، أصبحت التعبيرَ المثاليَ لفكرةِ الكتاب المقدس عن الحبِّ. بعكس الحب غير المُحدّد، والمتّسم بالبحث، تُظهرُ هذه الكلمةِ تجربةَ الحبّ التي تَتضمّنُ إكتشافاً حقيقيّاً للآخر، وبهذا تتجاوز الصيغة الأنانيّة السائدة بوضوح في الكلمة الأولى. هكذا يُصبحُ الحبُّ اهتماماً بالآخر ولأجل الآخر. هو لا يبحث عن منفعتهِ الشخصية وعن الغَرَق في نشوة السعادةِ؛ بل يَطلب خيرَ المحبوبِ: يتحول إلى تخلّي وهو جاهزٌ، بل حتى راغبٌ في التضحيةِ. 

   هنا يُصبح القرار الجازم جزءاً من مسيرة نضج الحبِّ نحو المستويات الأعلى والتنقيةِ الداخليةِ، هذا القرار يُترجَم في صيغتين: صيغة الخصوصية (فقط هذا الشخصِ المعيّنِ) وصيغة "إلى الأبد". الحبّ يَعتنقُ الوجودَ في كُلّ أبعادِه، حتى البعد الزمني. لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غير ذلك، لأن وعدَه يتجه نحو قرارٍ جازم: الحبُّ يتطلّع إلى الأبديّة. نعم، الحبّ هو "نشوة"، لكن لَيس بمعنى لحظة مِنْ اللذة، لكنها نشوةُ مسيرةٍ، نزوحٍ مستمرٍ خارج الذات المنعزلةِ والمُنغلقة نحو حريّة بذل النفس، وهكذا نحو إكتشافِ الذات الأصيلِ لا بل إكتشاف الله: "مَنْ يُريدُ أن يكَسْب حياته يفقدها، أمّا مَنْ يَفْقدُ حياتَه يكسبها" (لو 17 / 33)، يَقُولُ السيد المسيح في عدة مقاطع من الإنجيلِ (مت 10 / 39؛ 16 / 25؛ مر 8 / 35؛ لو 9 / 24؛ يو 12 / 25). بهذه الكلماتِ، يُصوّرُ السيد المسيح طريقه الخاص، الذي يَقُودُ خلال الصليبِ إلى القيامة: طريق حبةَ الحنطةِ التي تسْقطُ في الأرض وتمُوتُ، وبهذه الطريقة تحْملُ ثمراً كثيراً. بوصفهِ أعمقَ لحظات تضحيتِه الشخصيّة والحبِّ الذي بها يصلُ إلى كماله، يُصوّرُ السيد المسيح بهذه الكلماتِ، جوهر الحبِّ لا بل جوهر الوجود الإنساني نفسه.

 

  7. لقد قادتنا، بشكلٍ عفوي، هذه التأملات الفلسفية حول جوهرِ الحبِّ، إلى التأمل في إيمانِ الكتاب المقدس. كنا قد بَدأنَا بسُؤالٍ فيما إذا كانت معاني كلمة "محبة" المختلفة، لا بل المتعارضة، تخفي في بنيتها وحدة عميقة، أم أنها تبقى دون ارتباطٍ، واحدةً بِجانب الأخرى. لكن قبل كلِّ شيءٍ، كانت قد طُرحَت المسألة فيما إذا كانت رسالةُ الحبِّ التي أُعلنتْ في الكتاب المقدس وتقليدِ الكنيسةَ، تشترك في بعض النقاط مع التجربةِ الإنسانيةِ المشتركةِ للحبِّ، أَم تُعارضها. هذه المسألة قادَتنا لإعتِبار كلمتين أساسيتينِ: الـ eros كتعبيرٍ يُشير إلى الحبِّ "الدنيويِ" و الـ agape، كتعبيرٍ يُشير إلى الحبِّ المُؤسَّس على الإيمان والذي منهُ يتّخذ شكله. في أغلب الأحيان تُصوَّر هاتان الفكرتان على أنهما متعارضتان، فإحداهما تُعتبر حبَّ "صعودٍ" والأخرى حبَّ "تنازل". هناك تصنيفات أخرى مماثلة، فنميِّز على سبيل المثال  بين الحبِّ التملُّكي والحبِّ المُضحّي (amor concupiscentiae – amor benevolentiae)، إليهما يُضاف أيضاً في بعض الأحيان، الحب الذي يطلبُ منفعتَه الخاصة

في النِقاشِ الفلسفيِ واللاهوتيِ، قد حصلت غالباً مبالغة في النظرة إلى الفروق بين هذه المعاني إلى حدّ جعلها نقيضة فيما بينها: فقد اعتُبِر الحبّ المسيحي على أنه الحبّ المتنازِل والمُضحّي أي الـ agape؛ أما الثقافة غير المسيحية، وخصوصاً اليونانية، فقد اعتُبرت بأنها تتميّز بالحب الصاعد، الشهواني والتملُّكيّ أي الـ eros. إن سِرنا بنظرية التناقض هذه إلى نهايتِها، لوجدنا أن جوهر المسيحيةِ سَيُفْصَلُ عنْ العلاقاتِ الحيويةِ الأساسيةِ في الوجودِ الإنسانيِ، وتُصبحُ عالَماً على حِدى، ربما جديراً بالإعجابِ، لكنه منفصلٌ بشكل حاسم عن النسيجِ المعقّدِ للحياةِ الإنسانيةِ. في الحقيقة إن الـ eros والـ agape – الحب الصاعد والحبِّ المتنازل – لا يُمْكن فصلهما بالكامل. فكلّما وَجَدَ الإثنان، رغم سماتِهما المختلفةِ، وحدةً صحيحةً في حقيقةِ الحبِّ الواحدة، كلّما تحققت الطبيعةُ الحقيقيةُ للحبِّ بشكلٍ عام. حتى لو أن الـ eros في بادئ الأمر هو طمّاع وصاعد، يسحر بوعده العظيمِ بالسعادةِ، إلا أنه في إقتِرابه من الآخرينِ، يتحول تدريجياً وعلى نحوٍ متزايد مِن الإهتمام بذاته، إلى الإهتمام بسعادةِ الآخرين، يَهتَمُّ بالمحبوبِ، يُضحّي بنفسه ويُريدُ أن "يتواجد لأجل" الآخر. بهذا الشكل يدخل عنصر الـ agape إلى هذا الحبِّ؛ وإن لم يحدث ذلك فالـ eros ينحطّ ويَفْقدُ حتى طبيعتَه الخاصة. من ناحية أخرى، لا يَستطيعُ الإنسان أن يعيش فقط من خلال الحبّ المُضحّي، المتنازل. فهو لا يَستطيعُ أن يمنح دائماً، بل يَجِبُ عليهِ أيضاً أَنْ يَتقبَّل. فمن يرغب في إعْطاء الحبِّ يَجِبُ عليه أيضاً أَنْ يتقبَّل الحبَّ كعطيّة. طبعاً الإنسان يستطيع، كما يُخبرُنا الربّ، أن يُصبحَ ينبوعاً تتدفَّق منهُ أنهار ماءٍ حيِّ (راجع يو 7 / 37 ـ 38). لكن كي يُصبحَ ينبوعاً، عليه أَنْ يَشْربَ دائماً وبشكل متجدِّد مِنْ الينبوع الأولِ والأصليِّ، أي يسوع المسيح، الذي من قلبِهِ المطعونِ يتدفَّق حبُّ الله (راجع يو 19 / 34).

لقد رَأى آباء الكنيسةِ في رواية سُلَّمِ يعقوب رموزاً عديدة للإتّصالِ المتلازمِ بين الصُعُود والنزول في الحبِّ، بين الـ eros الذي يبحث عن الله والـ agape الذي يمنح العطية المُقْتَبَلة. في هذا المقطع من الكتاب المقدس نقرأ كَيفَ أن البطريرك يعقوب رَأى في حلمٍ، فوق الصخرة التي كَانَ يستعملها كوسادة، سُلّماً يصل إلى السماءِ، عليه كانت ملائكة الله تَصْعدُ وتَنزل (راجع تك 28 / 12 ؛ يو ا / 51). إن التفسير الذي يعطيه البابا غريغوريوس الكبير لهذا المقطع، في كتاب القاعدة الرعويةِ، لَمؤثرٌ حقاً. فهو يقول بأنّه على الراعي الصالح أن يَكُونَ متجذّراً في التأملِ. فقط بهذه الطريقة َيَكُونُ قادراً لأن يأخذَ على عاتقهِ احتياجاتِ الآخرين ويَجْعلها احتياجاته الخاصة: "برحمة أحشائه يحمل في ذاتهِ ضعف الآخرين" [4]. في هذا السياق يَتكلّمُ القدّيسَ غريغوريوس عن القدّيسِ بولس، الذي خُطِفَ عالياً ليتأمل أسرار الله الأكثر سموّاً، ولِذلك، بَعْدَ أَنْ عادَ مرةً أخرى، كَانَ قادراً على أَنْ يُصبحَ كُلاً للكلِّ (راجع 2 كو 12 / 2 ـ 4 ؛ 1 كو 9 / 22). يُشيرُ أيضاً إلى مثالِ موسى، الذي كان يدخلُ الخيمةَ المقدسةَ مراراً وتكراراً، باقياً في حوارٍ مَع الله، كي يكون عند خروجهِ قادراً بقوَّةِ الله على خدمةِ شعبهِ. "في الداخل [الخيمة] هو يُحْمَلُ عالياً بواسطة التأملِ، في الخارج يترك نفسهُ منهمكاً بهموم المتألمين". [5]

 

8. هكذا نكون قد وجدنا إجابةً أولى، ولو أنّها ما زالَت عامة، عن السؤاليَن المطروحَين سابقاً. "الحب" في الأساس، هو حقيقة واحدة، مع أنَّ لها أبعاداً مختلفة؛ وفي أوقاتٍ مختلفةٍ، يَظْهرُ البُعد تلوَ الآخر بوضوحٍ أكبر. وفي حال انفصلَ البُعدانِ كليّاً عن بعضهما، تكون النتيجة نوعاً من الكاريكاتير أَو على الأقل شكلاً فقيراً مِنْ الحبِّ. وقد رَأينَا أيضاً بإختصار كيف أنَّ إيمانَ الكتاب المقدس لا يشكِّلُ عالَماً موازياً، أَو معارضاً لظاهرةِ الحب الإنسانية الفريدة، بل بالأحرى هي نظرة تتقَبَّل الإنسانَ بكاملِهِ؛ وتتدخَّلُ في بحثِه عن الحبِّ، كيما تنقّيه وتكشف أبعاداً جديدةً منه. إن جِدَّةَ إيمانِ الكتاب المقدس هذه تظهَرُ بصورةٍ رئيسيةٍ في عنصرين يستحقّانِ أن نشيرَ إليهما: صورة الله وصورة الإنسان.

 

جِدَّةُ إيمانِ الكتاب المقدس

   9. هناك أولاً صورة جديدة لله. ففي الثقافاتِ التي أحاطت عالم الكتاب المقدس، بقيت صورة الله والآلهةِ غير واضحة لا بل متناقضة. أمَّا خلال مسيرةِ إيمانِ الكتاب المقدس، فإن محتوى صلاةِ بني إسرائيل الأساسية، "إسمع" كان يتوضَّح دون ملابسات: "إسْمع يا إسرائيل، الرب إلهنا ربٌ واحد" (تث 6 / 4). يوجدُ إلهٌ واحدٌ فقط، خالق السماءِ والأرضِ، ولِذا فهو إلهُ الناس أجمعين. هنا نجدُ حقيقتان هامّتان: كُلُّ الآلهة الأخرى لَيستْ بآلهة، والواقع الذي نعيش فيهِ لهُ مصدرٌ واحد وهو الله، خالقه. طبعاً إنَّ فِكرة الخَلْقِ تُوْجَدُ في أمكنةٍ أُخرى، رغمَ ذلك واضحٌ جداً هنا أنّ الخالقَ لَيسَ إلهاً بين عدّة آلهة، بل هو الله الحقيقي الواحدُ نفسه، مبدعُ كُلّ موجود؛ فالعالم بأكمله يوجَدُ بقوَّةِ كلمتِه المبدعةِ. هذا يعني أن الخليقة ثمينةٌ في عينيهِ، لأنه هو ذاتهُ أرادها وبهِ قد "صُنِعَت". هنا يَظْهرُ العنصرُ الآخر المهمُ: الله يحب الإنسان. تلكَ القوَّة الإلهية التي أراد أرسطو في ذروة الفلسفة الإغريقية أن يدركها بالتفكُّر، هي في الحقيقة لكُلّ موجودٍ، موضوعَ اشتياقٍ وحُبّ — كواقعٍ محبوب هذا اللاهوتِ يُحرّكُ العالمَ [6] – لكن هذا اللاهوت في ذاته لايَفتقرُ إلى شيءِ ولا يَحبُّ، بل يُحَبُّ فقط. أمّا الإله الواحد الذي آمن بهِ إسرائيل، فهو يَحبُّ حبّاً شخصياً. حبُّه، علاوة على ذلك، يتضمَّنُ اختياراً: بين كُلِّ الأممِ يَختارُ إسرائيل ويُحبُّهُ – لَكنَّه يَعْملُ ذلك بهدف شفاءِ الجنس البشري بأكملهِ. الله يَحبُّ، ويمكننا أن ندعوَ حبَّه أيضاً بالـ eros، رغم أنَّهُ agape بشكلٍ تام  [7]

   لقد وصف الأنبياء، وخصوصاً هوشع وحزقيال، عاطفةَ الله نحوَ شعبهِ بصورٍ حسيَّةٍ جريئة. فعلاقة الله مَع إسرائيل توْصف بإستعمال إستعاراتٍ كالخطوبةِ والزواجِ؛ بالنتيجة تُعتَبَر عبادة الأصنام زنىً ودعارة. هنا نَجِدُ إشارة واضحة — كما رَأينَا — لطقوس الخصوبة وسوءَ إستخدامها للـ eros، لكن في نفس الوقت تُوصف علاقةِ الأمانة بين إسرائيل وإلهه. يقوم تاريخ علاقةِ الحبِّ بين الله وإسرائيل في المستوى الأعمقِ، بمنحهُ الشريعةَ، بذلك يَفْتحُ عيونَ إسرائيل لحقيقة طبيعة الإنسان، ويريهِ الطريقَ المؤدّية للإنسانيَّةِ الحقيقيّة. هذه الحقيقة تقول بأنّ الإنسان، إذا ما عاشَ بالأمانةِ نحوَ الإله الواحدِ، يختبرُ نفسه على أنّهُ محبوبٌ من قِبل الله، ويَكتشفُ الفرحَ في الحقيقةِ والبر – فَرَحاً في الله الذي يَغدو سعادتَه الجوهريّة: "مَنْ لي في السماءِ سواكَ؟ ولا شيء على الأرضِ أَرْغبُ عداكَ … لي إنه لأمر حَسنٌ أَنْ أكُونَ قُرْب الله" (مز 73 [72] / 25 ، 28).

 

10. كما رَأينَا فإنّ eros الله نحو الإنسان هو أيضاً agape بشكلٍ تام. هذا ليس فقط لأنه مَمْنُوحٌ بطريقةٍ مجانية إلى أقصى الحدودً، بدون أيّ إستحقاق سابق، لكن أيضاً لأنه حبُّ متسامِح. هوشع هو أكثرُ نبيٍّ يُظهر لنا بُعدَ الـ agape في حبِّ الله للإنسان، بُعداً يتخطّى  بشكلٍ كبير صفةَ المجانيّة. لقد إرتكب إسرائيل "زناً" وكَسرَ العهدَ؛ وكان على الله أَنْ يَحْكمَ عليهِ ويُنكرَهُ. لكن في هذه النقطةِ بالذات يَظهر كيف أنَّ الله هو إلهاً وليس إنساناً: "كيف أتخلّى عنكم يا بيتَ أفرايم؟ كيفَ أهجركم يا بني إسرائيل؟ … قلبي يضطربُ في صدري، وكلُّ مراحمي تتقد. لن أُعاقبَكُم في شدَّةِ غضبي، فأدمِّركم بعدُ يا بني أفرايم، لأنّي أنا الله لا إنسانٌ، وقدّوسٌ بينكم فلا أعودُ أغضبُ عليكم." (هو 11 / 8 ـ 9). حبُّ الله العاطفيِّ لشعبهِ – للإنسانيةِ – هو في نفس الوقت حبٌّ مُتسامح. هو عظيم جداً بِحيث يجعلُ الله يتصرَّف ضِدَّ نفسه، الحبُّ ضدَّ العدل. هنا يمكن للمسيحيين أَنْ يَرو تلميحاً مُستتراً لسرِّ الصليبِ: عظيم جداً حبُّ الله للإنسانِ، حتى أنّه يُصبحُ هو نفسهُ إنساناً ويتبعه حتى الموتِ، وبهذا يُصالحُ العدلَ مع الحبّ.

   إنَّ البُعدَ الفلسفي الّذي يُلاحَظُ في رؤيةِ الكتاب المقدس هذه، وأهميتها مِنْ وجهةِ نظر تاريخِ الأديانِ، يَكْمنُ في الحقيقة بأنّه من ناحيةٍ نَجِدُ أنفسنا أمامَ صورة سامية تماماً لله: الله هو المصدرُ النهائيُ والمُطلَق لكُلّ كائن؛ هذا المبدأِ الخَالِق كلّ الأشياء – الكلمة، المنطق الأوَّل – هو في الوقت نفسهِ عاشقاً بعاطفةِ حبٍّ حقيقي. بهذا لم تسمو فقط قيمة الـeros بل قد نُقِّيَ لدرجة أنه أصبحَ واحداً مع الـagape   هكذا يُمْكِنُنا أَنْ نفهم كيف أنَّ قبولَ سفر نشيد الأناشيد في قانون الكتاب المقدّسِ كان على أساس التفسير القائل بأنهُ عِبارة عن أغانيِ حبٍّ تَصِفُ علاقةَ الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله. هكذا أصبح سفر نشيد الأناشيد في الأدبِ المسيحيّ واليهودي، مصدر معرفةٍ وتجربةٍ صوفية، فيها تُُعبِّرُ عن جوهرِ إيمانِ الكتاب المقدس: نعم، فبإمكان الإنسان أَنْ يتحدَ مَع الله – هذه هي في الحقيقة رغبةُ الإنسان الأصليّة – هذا الإتحادِ ليس غَرَقاً في محيطٍ إلهيٍّ مجهول؛ إنهُ بالأحرى وحدة تَخْلقُ الحبَّ، وحدة فيها يَبْقى الله والإنسانُ أنفسهم، ومع ذلكَ يصبحانِ واحداً. يَقُولُ القدّيس بولس:"مَن اتّحد بالربِّ صارَ وإيّاهُ روحاً واحداً" (1 كو 6 / 17). 

11. الجِّدّة الأولى في إيمانِ الكتاب المقدس تكمنُ، كما رَأينَا، في صورة الله. الثانية، وهي متصلة جوهرياً بالأولى، تكمن في صورةِ الإنسان. تتكلم رواية الخلق في الكتاب المقدس عن وحدةِ آدم، الرجل الأول، وقرار الله إعْطائه معيناً يُساعده. ولا واحدة من كُلّ المخلوقات الأخرى، كانت قادرة على أنْ تكونَ ذاك المعين الذي يَحتاجُه الرجل، بالرغم من أنَّه أعطى اسماً لكُلّ وحوش وطيور البرّية وهكذا جَعلهم بالكامل جزءاً من حياتِه. لذا يُشكّلُ الله إمرأةً مِنْ ضلعِ الرجلِ. هنا فقط يَجِدُ آدم المعين الذي يحتاج: "هذه الآن عظمٌ مِنْ عظامِي ولحمٌ مِن لحمِي" (تك 2 / 23). هنا يمكن أن نلاحظ بعض التلميحاتِ لأفكارٍ توجدُ أيضاً، على سبيل المثال، في الأسطورةِ التي ذَكرَها أفلاطون، والقائلة بأن الإنسانَ كَانَ أصلاً  كرويَ الشكل، لأنه كَانَ كاملاً في نفسه ومكتفياً بذاته. لكن كعقابٍ لكبريائهِ، قام زيوسِ بشطرهِ نصفين، كيما يَشتاقُ كل نصفٍ إلى نصفه الآخرِ، ويكافح بكُلّ الوجود لإمتِلاكه وهكذا يستعيدُ كماله [8]. صحيحٌ أن القصة الكتابية لا تَتكلّمُ عن عقابٍ، لكن الفكرة القائلة بأن الإنسانَ هو ناقصٌ بطريقةٍ ما، وهو بطبيعته يسيرُ ليجدَ في الآخر الجزءَ الذي يُمْكِنُ أَنْ يكمّلهُ، الفكرة القائلة بأنه فقط في شركته مع الجنس الآخرِ يُمْكِنُ أَنْ يُصبحَ "كاملاً"، هي فكرة موجودة دون أدنى شك في الرواية الكِتابية. هذه تنتهي بنبوءة حول آدم: "لذلكَ يَتْركُ الرجلُ أبّاه وأمَّه ويتَّحِدُ بإمرأتِِه فيصيرانِ جسداً واحداً" (تك 2 / 24).

علينا أن نشير إلى أمرين مهمَّين. أولاً، إنَّ الـ eros متجذّرٌ بطريقةٍ ما في طبيعةِ الإنسانِ نفسها؛ آدم هو في بحثٍ دائمٍ، لذا "يَتْركُ أباه وأمه" لكي يَجدَ إمرأةً؛ وهكذا يمثُّل الإثنانِ سويةً كمالَ الإنسانية ويُصبحانِ "جسداً واحداً". الأمر الثاني، وهو ليس بأقلَّ أهمية: مِنْ وجهةِ نظر الخَلْقِ يُوجّهُ الـ eros الإنسان نحو الزواج، نحو رابطٍ وحيدٍ ونهائي؛ بهذا الشكل، وفقط بهذا الشكل، يُنجزُ غرضَه الأعمقَ. أمامَ صورةِ الله الواحد توجدُ صورةُ الزواجِ الواحد. هكذا يُصبحُ الزواجُ المؤسس على حبٍّ واحدٍ ونهائيّ أيقونةَ العلاقةِ بين الله وشعبه والعكس صحيح. ونمطُ محبة الله يُصبحُ مقياسَ الحبِّ الإنسانيِ. هذا الإرتباط الوثيقِ بين الـ eros والزواج، ليس لَهُ تقريباً أي شبيه في الأدبِ خارج الكتاب المقدس.

 

   12. مع أننا تكلمنا حتى الآن، بشكلٍ رئيسيٍّ، عن العهد القديمِ، إلا أنَّ وحدة العهدين العميقة والتي تُشكِّلُ الكتاب المقدّسِ الواحد، قاعدةَ الإيمانِ المسيحيِ، أصبحت واضحة تماماً. إن جِدَّة العهد الجديد الحقيقية لا تكمن في الأفكارِ الجديدةِ، بل في شخص المسيح نفسه، فهو مَن يُجسِّد تلك المفاهيم بواقعيةٍ لم يسبق لها مثيل. حتى في العهد القديمِ، لم تكمن الجِدَّة في مجرّد أفكارٍ مُجرّدةِ لكن في عملِ الله المتجدِّد والذي لم يسبق له مثيل. يتخذ هذا العملُ الإلهيُّ شكلَه الأسمى في يسوع المسيح، فهو الله نفسه الذي يبحثُ عن "الخِروف الضائع"، أي الإنسانية المتألمة والتائهة. يَتكلّمُ يسوع في أمثالِه عنْ الراعي الذي يَذْهبُ في البحث عن الخروفِ الضائع، عن المرأةِ التي تبْحثُ عن الدرهم المفقود، عن الآبِ الذي يَذْهبُ للقاء ومعانقةِ إبنه الضال، هذه ليست مجرَّد كلماتٍ: بل تشكّل تفسيراً لكيانِ المسيحِ ولما يعمل. في موته على الصليبِ تتحقق ذروةُ ذلك المُنعطف الذي به يذهب الله ضدّ نفسهِ، وبهِ يُعطي نفسَهُ لكي يَرْفعَ الإنسان ويُخلّصه ـ إنهُ الحبُّ في شكلِه الأكثر جذريّة. إن من يتأمَّلُ جنب المسيح المطعون، الذي يتحدَّث عنهُ يوحنا (راجع يو 19 / 37)، يُدرِكُ النقطةَ التي بدأنا منها هذه الرسالة: "الله محبّة" (1 يو 4 / 8). هنا يمكننا أن نتأمَّلَ هذه الحقيقة. ومِنْ هنا يمكننا تعريف ماهيّة الحبِّ. إنطلاقاً من هذا التأملِ، يَكتشفُ المسيحيُّ طريقَ حياتِه وحبِّه.

 

13. لقد جعلَ يسوع فعلَ تقدمتهِ هذا حاضراً بشكلٍ دائمٍ بتأسيسهِ الإفخارستيا خلال العشاء الأخيرِ. فقد استبقَ موتَه وقيامته بإعْطاء ذاته لتلاميذه، في الخبزِ والخمر، منحهم جسدَه ودمّه كالمنّ الجديد (يو 6 / 31 ـ 33). إذا كان العالم القديم قد أدركَ أنّ الغذاءَ الحقيقيَّ للإنسان – أي ما يعطي الإنسان الحياة – هو اللوغوس (الكلمة)، الحكمة الأبديّة؛ الآن قد أصبحت هذه الكلمة نفسها، بواسطة الحبّ غذاءً حقيقياً لنا. إن الإفخارستيا تجذبنا إلى فعلِ تقدمة يسوع لذاته. نحن بها لا نقتبل الكلمة المتجسّد بشكلٍ جامِد، بل نَتّحدُ بقوّة تقدمتهِ لذاتهِ. إنّ صورةَ الزواجِ بين الله وإسرائيل تتحقق الآن بطريقةٍ لم يكن لأحدٍ أن يتخيّلها سابقاً: ما كانَ سابقاً وقوفاً في حضرةِ الله، يُصبحُ الآن، من خلال الإشتراك في تقدمة يسوع لذاتهِ، بواسطةِ جسده ودمه، اتّحاداً مع الله. إنَّ الطابع الصوفيّ لسرّ الإفخارستيا، والمؤسَّس على تنازلِ الله نحونا، يتخطّى بشكل جذري، ويسمو بنا أعظم جداً مِنْ أيّ جهدٍ صوفيّ يُمْكِنُ أَنْ يُنجزه الإنسان بنفسهِ.

 

  14. أمّا الآن فعلينا أن نعتبر أمراً آخر: إنّ الطابع "الصوفيّ" لسر الإفخارستيا لهُ صفة إجتماعيةُ، لأنني بتناولي القربان المقدّس أُصبحُ واحد مَع الربّ، مثل كل الآخرين الذين يتناولونهُ. يقول القدّيس بولس: "نحن على كثرتنا جسدٌ واحدٌ لأن هناك خبزاً واحداً، ونحنُ كلُّنا نشتركُ في هذا الخبزِ الواحد" (1 كو 10 / 17). فالإتحاد مَع المسيح هو أيضاً إتحادٌ بكُلّ أولئك الذين يمنحُ المسيحُ نفسه لهم. أنا لا أَستطيعُ إمتِلاك المسيح لنفسي فقط؛ يُمْكِنُني أَنْ أنتمي له فقط بالإتحادِ بكُلّ مَن أَصْبَحَ، أَو سيُصبحُ، ملكه. فتناول القربان المقدس يأْخذُني خارجَ نفسي نحوه، وهكذا أيضاً نحو الوحدةِ مَع كُلّ المسيحيين. كلّنا نُصبحُ "جسداً واحداً"، مجتمعين بالكامل في وجودٍ وحيد. إنَّ محبّة الله ومحبّة القريب هما الآن أمران متّحدان حقاً: الله المتجسّد يجذبنا جميعاً لشخصه. هكذا يمكننا أن نَفْهمُ كيف أنَّ الـ agape أصبحَت تُعبِّر أيضاً عن الإفخارستيا: بواسطتها تأتي إلينا agape الله بشكلٍ جسدي، كي يواصلَ عملَه فينا ومن خلالنا. فقط من خلال هذا الأساس المسيحاني ـ الأسراري، يُمْكِنُنا أَنْ نَفْهمَ بشكل صحيح تعليم يسوع عن الحبِّ. إن الإنتقال مِنْ الشريعة والأنبياء إلى الوصية المزدوجة أي محبّة الله والقريب، وتأسيس كل حياة الإيمانِ على هذه الوصية المركزيةِ، لَيستْ ببساطة مسألة مبادئ أخلاقيةِ، يمكن أن تتواجد بِجانب الإيمانِ بالمسيح والإحتفال به بالأسرار. إنَّ الإيمان والعبادة والأخلاقيات هي أمور مُرتبطة ببعضها وهي تشكّل حقيقةً واحدةً تَتضح في لقائَنا مع agape الله. هنا يسقط أي تضاد بين العبادةِ والأخلاقِ. في "العبادة" نفسها، في تناول القربان المقدس، توجد حقيقة أننا محبوبين وحقيقة مَحَبَّة الآخرين. أيُّ احتفالٍ بالإفخارستيا لا يُترجَم إلى ممارسةٍ عمليةٍ للحبِّ، هو احتفال متُمزّقُ جوهرياً. بالمقابل -كما سنرى بالتفصيلِ – تصبحُ "وصية" الحبِّ ممكنةً فقط لأنها ليست مجرَّد أمرٍ مطلوب. الحبّ يُمْكِنُ أَنْ يكونَ "وصية" لأنه كان أولاً عطيّة.

  15. إنطلاقاً من هذا المبدأ علينا أن نفَهْم أمثالِ يسوع الكبيرة. الرجل الغني (لو 16 / 19 ـ 31)، الذي يترجّى مِنْ مكانِ عذابِه، أن يَعْلَمَ إخوته مصير أولئك الذين يُهملونَ بإصرار الفقيرَ المحتاج. يتّخذُ يسوعُ طلب النجدةَ هذا كتحذيرٍ لمساعدتنا في العودة إلى الصراط المستقيم. كذلك مَثَل السامريّ الصالح (راجع لو 10 / 25 ـ 37)، الذي يوضح أمرين مهمينَ جداً: حتى ذلك الوقتِ، بينما كان مفهوم "القريب" يدلُّ جوهرياً على الأشخاص المنتمين لذات الشعب بالإضافة للغرباء الذين إستقرّوا في أرضِ إسرائيل؛ بكلمةٍ أخرى، كان يدلّ على جماعةٍ متماسكة في بلدٍ أو في شعبٍ معيَّن. تُلغى الآن هذه الحدود. أيّ شخصٍ يَحتاجُني، وبإمكاني مساعدته هو قريبي. يتّخذُ إذاً مفهومُ "القريبِ" بُعداً شمولياً، ومع ذلكَ يَبْقى واقعيّاً. فعلى الرغم مِنْ أَنَّه يمتدّ ليشملَ كُلّ البشرية، لا يمكن إختِصاره بمجرَّد صيغة حبٍّ عام ونظريّ، حبٍّ لا يَدْعو إلى إلتزامٍ، بل هو يتطلَّبُ إلتزاميَ العمليّ هنا والآن. يبقى هنا واجب الكنيسة الدائم تأويل العلاقةِ بين القريب والبعيد لأجل حياةِ أعضائها العمليّة. أخيراً، يَجِبُ أَنْ نَذْكرَ المَثَلَ الكبير الذي يتحدَّث عن الدينونة الأخيرة (راجع مت 25 / 31 ـ 46). الذي فيه يُصبحُ الحبُّ معياراً للقرارِ الحاسم حول قيمة أو لا قيمة حياةٍ إنسانيةٍ ما. يسوعُ يجعل هويتهُ واحدة مع أولئكَ المُحتاجين، الجياعِ، العطشى، الغرباء، العراة، المرضى والمسجونين. "كلَّ مرَّةٍ عملتم هذا لواحدٍ من إخوتي هؤلاءِ الصغار، فلي عَمِلتُموه" (مت 25 / 40). حبّ الله وحبّ القريب أَصْبَحا واحداً: في أقل الناس شأناً نَجِدُ يسوعَ نفسه، وفي يسوع نَجِدُ الله.

 

حبّ الله وحبّ القريب

   16. بَعْدَ أَنْ تأمّلنا في طبيعةِ الحبِّ ومعناه بالنسبة للكتاب المقدس، يبقى لدينا سؤالين متعلّقين بموقفِنا الخاصِ: هَلّ بالإمكان حقاً أَنْ نَحبُّ الله دون أن نراه؟ وهَلْ يُمْكِنُ أن نُؤْمَرَ بأن نحب؟ ضدّ وصيةِ الحبِّ المزدوجة، يظهرُ هذان السؤالان بشكلِ إعتراض. الله لَمْ يرهُ أحدٌ قط، كَيْفَ يمكننا إذاً أن نَحبًّه؟ علاوةً على ذلك، لا يُمْكن أنْ يُؤْمَرَ الإنسانُ بالحبّ؛ فهو في النهاية شعورٌ إمّا أن يكون أَو لا، فلا يُمْكِنُه أَنْ يَكُونَ نتاجَ الإرادةِ. يَبْدو أنَّ الكتاب المقدّسُ يعزِّز الإعتراض الأولَِ عندما يقول: "إذا قال أحدٌ: "أنا أُحبُّ اللهَ" وهو يكرهُ أخاهُ كانَ كاذباً، لأن الذي لا يُحبُّ أخاهُ وهوَ يراهُ، لا يَقدِرُ أن يُحِبَّ الله وهو لا يَراهُ" (1 يو 4 / 20). لكن هذا النَصّ لا يَعتَبِرُ حبَّ الله شيئاً مستحيلاً؛ على العكس، ففي السياق الكامل لرسالةِ يوحنا الأولى، والتي اقتبسنا منها المقطع السابق، يظهر جليّاً بأنّ مثل هذا الحبِّ يُطْلَبُ بشكلٍ واضح. يتأكَّدُ هنا الرابط المستحيل الكسر، بين حبِّ الله وحبّ القريب. فالواحد متّصل مباشرةً بالآخرِ لدرجة أنّ حبَّ الإنسان لله يُصبحُ كذباً إذا كان هذا يُغلِق قلبَه نحو قريبه، إن لم يكن يَكْرهه. يجب بالأحرى تفسير كلمات القدّيسِ يوحنا بمعنى أنّ حبَّ القريب هو طريقٌ تؤدّي إلى اللقاءِ مَع الله، وأنَّ من يَغْلقُ عينيه أمامَ قريبه يعمي نفسه عن مشاهدة الله أيضاً.

 

 

17. في الواقع، لم يرَ أحد الله قطً كما هو في ذاته. ورغم ذلك فإن الله لَيسَ خفيّاً بشكلٍ كلّي؛ وهو لم يَبْقى محجوباً بالنسبة لنا. إنَّ الله أحبَّنا أولاً، تقُولُ رسالةَ يوحنا المذكورة ( راجع 4 / 10)، وحبُّ الله هذا قد ظَهرَ في وسطِنا. لقد أَصْبَحَ مرئياً عندما "أرسلَ إبنَه الوحيدَ إلى العالمِ، كي نحيا به" (1 يو 4 / 9). لقد جَعلَ الله نفسه مرئياً: في يسوع نحن قادرون على رُؤية الآبِّ (راجع يو 14 / 9). في الحقيقة، هناك عدة طرق لرؤية الله. في قصّةِ الحبَّ  التي يسردها لنا الكتاب المقدس، يأتي الله إلينا، يُريدُ أن يربح قلوبِنا، طول الطّريق حتى العشاء الأخيرِ، حتى قلبه المطعون على الصليبِ، حتى ظهورات القائم وحتى الأعمالِ العظيمةِ التي بواسطتها، ومن خلال عمل الرُسل، وجّهَ مسيرة الكنيسة الناشئة. حتى في تاريخِ الكنيسةِ اللاحقِ: لم يكن الربُّ غائباً: فهو يأتي دائماً للقائنا – من خلال أشخاصٍ يَعْكسونَ حضورَه، من خلال كلمتِه، في الأسرار المقدسة، وخصوصاً في الإفخارستيا. في ليترجية الكنيسةَ، في صلاتِها، في جماعة المؤمنين الحيّة، نحن نختبر حبَّ الله، نُدركُ حضورَه ونَتعلّمُ كيف نجده في حياتِنا اليوميةِ. هو الذي أحبَّنا أولاً وما زال؛ لذلك نحن أيضاً، يُمْكِنُنا أَنْ نجيبَه بالحبِّ. الله لا يأمر بأن يكون لدينا شعوراً نحن أنفسنا عاجزون عن انتاجه. هو يَحبُّنا، يَجْعلُنا نَرى ونختبر حبَّه، ومن بواسطة حبِّه المبادرِ "أولاً"، يُمْكِنُ أن يَلِد فينا الحبَّ كجواب.

 

   في تطوّر هذا اللقاءِ بشكلٍ تدريجيّ، يتوضَّح كيف أنّ الحبَّ لَيسَ مجرّدَ شعور. المشاعر تَأتي وتَذْهبُ. الشعور يُمكنُ أَنْ يَكُونَ شرارةً أولى رائعة، لَكنَّه لَيسَ ملء الحبِّ. في وقت سابق تَكلّمنَا عن عمليةِ التنقيةِ والنضوجِ الذي بواسطتها يُدركُ الـ eros ذاته بشكلٍ كامل، فيُصبحُ حبّاً بكل معنى الكلمة. هي خاصيةُ الحبِّ البالغِ أن يتضمَّن كُلَّ قوى الإنسانِ الكامنة؛ فيَشْغل الإنسان بكامله. إنَّ لقاءنا بمظاهر حبِّ الله المرئية يُمْكِنُ أَنْ تُصْحي فينا شعور الفرحِ المتولّد من خبرة أن نكونَ محبوبين. لكن هذا اللقاءِ يدعو إرادتنا وفكرَنا أيضاً للمشاركة. إن الإعتراف بالله الحيّ هو طريقٌ نحو الحبِّ، والـ "نعم" الصادر عن إرادتنا والخاضع لإرادتهِ، يُوحِّدُ العقل، الإرادة والمشاعر في فعلِ حبِّ واحدٍ وشامل. لكن هذه العمليةِ هي عبارة عن مسيرة دائمة؛ فالحبّ لا "ينتهي" أبداً ولايُكمَل؛ بل يَتغيّرُ ويَنْضجُ في مسيرة الحياة بأكملها، وهكذا يَبْقى أميناً لنفسه. إرادة الشيءَ ذاته، ورَفْض الشيء ذاته [9] هو ماعُرِفَ بالعصر القديمِ كالمحتوى الأصيل للحبِّ: أن يصير الواحد مشابهاً للآخر، ما يُؤدّي إلى وحدة الإرادةِ والفكرِ. تكمن قصّة الحبَّ بين الله والإنسان في أنَّ الشركة في الإرادة تنمو لتصبح شركة في الفكر والشعور، وهكذا تتطابق إرادتنا مع إرادة الله على نحو متزايد: إرادة الله لَمْ تَعُدْ بالنسبة لي أمراً غريباً يُفرَضُ عليّ من خلال الوصايا، لَكنَّها غدت إرادتي أنا، المؤسَّسة على إختباري كيف أنَّ الله في الحقيقة هو أقرب منّي لنفسي [10] عندها ينمو تسليم النفسِ لله ويصبح الله فرحنا (راجع مز 73 [72] / 23 ـ 28).

 

 

الجزء الثاني

المحبة

ممارسة المحبة من قِبَل الكنيسة

كـ "جماعة محبّة"

 

   خدمة الكنيسة الخيريّة كظهور لمحبّة الثالوث

   19. كان القديس أغسطينوس يقول: "إذا كنتَ تَرى أعمال المحبة فأنتَ تَرى الثالوث" [11]. قد تركّز إنتباهَنا في التأملات السابقةِ، على المطعون (راجع يو 19 / 37؛ زك 12 / 10). وقد تعرَّفنا على خطةِ الآبِ الذي، بدافعِ حبّهِ (راجع يو 3 / 16)، قد أرسلَ إبنَه الوحيدَ إلى العالمِ ليفدي الإنسان. بمَوته على الصليبِ -كما يخبرنا يوحنا الإنجيلي – يسوع "أسلَمَ الروح" (يو 19 / 30)، كعربون لعطية الروحِ القدس الذي كان سيمنحه بعد قيامته (راجع يو 20 / 22). بهذا كَانَ يُنجزُ وعدُ "أنهار الماءِ الحيِّ" المتدفّق من قلوبِ المؤمنين، بفضل حلول الروح القدس (راجع يو 7 / 38). فالروحَ القدس، في الحقيقة، هو تلك القوَّةِ الداخليةِ التي تجعل قلوبَهم مطابقة لقلبِ المسيح وتدفعهم لمَحَبَّة إخوتِهم كما أحبهم هو، عندما إنحنى لغَسْل أرجل تلاميذه (راجع يو 13 / 1 ـ 13). وقبل كل شيء عندما أعطىَ حياتَه لأجل الجميع (راجع يو 13 / 1؛ 15 / 13).

إنّ الروحَ هو أيضاً القوة التي تُحوّلُ قلب الجماعة الكنسيّة، كيما تُصبح في العالمِ شاهدة لمحبّة الآبِ، الذي يريد أن يجَعل الإنسانيةِ عائلةً واحدةً في إبنِه. كلُّ نشاطِ الكنيسةِ ليس إلا تعبيراً عن حبٍّ يُريدُ خير الإنسان الكامل: يَطلبُ نشرَ الإنجيل بواسطة الكلمةِ والأسرار، وهي مهمّةٌ تتخذ في أغلب الأحيان طابع البطوليّة في تحقيقها التاريخي؛ كما يهدف لتَرْقِية الإنسان في مختلف مجالات الحياةِ والنشاط البشري. لذا فالخدمةُ التي تقوم بها الكنيسة، عندما تعين بشكلٍ دائم الإنسان المتألم والمحتاج، هي محبّة أيضاً حتى في ما يتعلَّق بإحتياجاتهِ الماديةِ. عن هذا الجانب، عن خدمةِ أعمال المحبة، أودُّ الحديث في الجزءِ الثانيِ من هذه الرسالة.

 

أعمال المحبة، مسؤولية على عاتق الكنيسةِ

20. إن محبّة القريب، المؤسَّسة على محبةِ الله، هي أولاً وقبل كل شيء مسؤوليّةُ كُلّ مؤمن، لَكنَّها أيضاً مسؤوليّة الجماعة الكنسيّة ككل، هذا ينطبق على كافة المستويات: مِنْ الجماعة المحليّة إلى الكنيسةِ الخاصة وإلى الكنيسةِ العالمية ككل. يجب على الكنيسة كجماعة أيضاً أن تُمارسَ أعمال المَحَبَّة. هذا يعني أنّه مَنْ الضَّرُوري أَنْ تحتاج المحبة للتنظيم كيما تُصْبِحَ خدمةً جماعيّة منظّمةً. لقد وعت الكنيسةُ منذ بداياتها هذه المسؤوليةِ كأمرٍ أساسي: "وكانَ المؤمنون كلُّهم مُتَّحدينَ، يجعلونَ كلَّ ما عندهم مُشتركاً بينهم، يبيعون أملاكهم وخيراتِهم ويتقاسمون ثمنها على قدرِ حاجةِ كلِّ واحد منهم" (أع 2 / 44 ـ 45). في هذه الكلماتِ، يُزوّدُنا القدّيسَ لوقا بنوعٍ مِنْ تعريفٍ للكنيسةِ، التي تَتضمّنُ بين عناصرها الجوهريةَ الأمانة لـ "تعليم الرسل"، و"المشاركة" (koinonia), و"كسر الخبزِ" و"الصلاة" (راجع أع 2 / 42). إن عنصر "المشاركةِ" (koinonia) الذي لَمْ يُحدَّد أولاً، يتوضَّحُ بشكل عملي في الآيات التي أوردناها: فهي تقوم في الحقيقة على جعل كُلّ الأشياء مشتركةً بين المؤمنين، وبإزالة أيّ فارق بين غنيٍّ وفقير ( راجع أع 4 / 32 ـ 37). في الواقع، مع نمو الكنيسة، هذا الشكل الجذري للمشاركةِ الماديةِ لم يكن في مقدوره أن يدوم. لكن بَقي جوهره الأساسي: ضمن جماعة المؤمنين يجب ألا يكون هناك أي شكل من أشكال الفقر الذي يمكن أن يحرم شخصاً ما من أن يحيا حياةً كريمة.

 

21. كان إختيارُ سبعة أشخاصٍ، كبدايةٍ للخدمةِ الشمّاسيّة (راجع أع 6 / 5 ـ 6)، خطوةً حاسمةً في مسيرة البحثِ الشاقة عن طُرقٍ عمليَّة تحقِّقُ هذا المبدأ الكنسيَّ الأساسيّ. فقد وقع في بدايات الكنيسةِ، عدم تكافؤ فيما يتعلق بتوزيعِ المعيشة اليوميّة للأراملِ الناطقين بالعبرية وأولئكَ الناطقين باليونانية. وقد أحسَّ الرسل، الذين كَانوا قَدْ إئتُمنوا قبل كل شيء على "الصلاةِ" (الإفخارستيا والليترجيا) و"خدمة الكلمةِ"، بالإرهاق الزائد بسبب "خِدْمَة الموائد"، لذا فقد قرّروا أن يتركوا لأنفسهم الخدمة الرئيسيّة وأن يعينوا للخدمة الأخرى، الضرورية أيضاً في الكنيسةِ، مجموعةً مؤلّفةً مِنْ سبعةِ أشخاص. لكن حتى هذه المجموعة لَم تكن لتنفِّذ عملاً تقنيّاً بحتاً أي توزيعِ المعيشة: كَانَ عليهم أن يكونوا رجالاً "ممتلئين من الروحِ والحكمةِ" (راجع أع 6 / 1 ـ 6). بكلمةٍ أخرى، كانت خدمتهم الإجتماعية عَمليّة جداً، وفي نفس الوقت روحية؛ فقد كانت مهمتهم مهمّةً روحيّة حقيقية، تهدف لتحقيقِ مسؤولية أساسية ملقاة على عاتق الكنيسةِ، أي محبّة القريب المنظّمة بشكلٍ جيد. بتشكيلِ مجموعةِ السبعة هذه أصبحت "الشمّاسية" — خدمة محبةِ القريب المُمارسة بشكلٍ جماعي ومنظَّم — جزءاً من بنية الكنيسة الأساسيّة.

 

22. مع مرور السَنَوات وإنتشار الكنيسة، أصبحَت خدمة المحبة إحدى مجالاتها الأساسية، إلى جانبِ خدمة الأسرار المقدسة وإعلانِ الكلمةِ: إنَّ ممارسة أعمال المحبّة نحو الأراملِ والأيتامِ، نحو السجناء والمرضى والمحتاجين من كُلّ نوع، قد غدا أمراً جوهرياً في الكنيسة تماماً كخدمة الأسرار والتبشير بالإنجيلِ. لا يمكن للكنيسةُ أن تهملَ خدمةَ المحبةِ كما لا يُمْكِنُها أن تُهمِلَ الأسرارَ والكلمة. بضعة إشاراتٍ تكفي لتبيِّن هذا. يصف الشهيد يوستينوس († نحو 155)، في سياق كَلامهِ عن إحتفالِ يوم الأحد عندَ المسيحيين، نشاطَهم الخيريَ أيضاً، المرتبط بالإفخارستيا في حد ذاتها. فمن كان وضعه يسمحُ كانَ يمنح تقدمته بحسب مقدرتهِ، كلُّ واحدٍ قدر ما يشاء؛ والأسقفُ بدوره كانَ يَستعملُ هذه التقادم لدَعْم الأيتامِ، الأرامل، وأولئك الذين بسبب مرضٍ أو أي أمرٍ آخر كانوا في حاجةٍ، السجناء والغرباء أيضاً [12]. الكاتب المسيحي العظيم ترتليانوس († بعد 220) يَسرد كَيفَ أن اهتمامَ المسيحيينَ بالمحتاجينِ من كُلّ نوع، كان يثير عجبَ الوثنيين [13]. وعندمـا يصـف أغناطيـوس الأنطاكـي († نحو 117) كنيسـةَ رومـا بأنّها "المتَرَأِّسـة في المحبة (agape)"،  يمكننا أن نفهم تعريفَهُ هذا على أنه يشير أيضاً بشكلٍ ما لِنشاطِها الخيري. [14]

 

23. في هذا السياق قَدْ يَكُونُ من المفيد الرجوع إلى بعض البُنى القانونية الأولى والمتعلّقة بخدمةِ المحبة في الكنيسةِ. نحو منتصفِ القرن الرابعِ أخذت "الشماسية" في مصر شكلها؛ فقد كانت هي الخدمة المسؤولة، ضمن كُلّ دير، عن كافة نشاطات الإغاثةِ، بمعنى آخر، عن خدمة المحبة. منذ هذه البدايات وحتى القرن السادسِ تطورت في مصر هيكليّةً ذات حقوقٍ قانونية، كانت السلطات المدنية نفسها تأتمنها على جزءٍ من الحبوبِ لتوزيعه على الشعب. في مصر لَيس فقط كُلّ دير، بل كل أبرشية  كَانَ لديها خدمة الشماسية الخاصة؛ كمؤسسةٍ تطوّرتْ في الشرق والغرب. البابا غريغوريوس الكبير († 604) يَذْكرُ شماسيّةَ نابولي، بينما في روما، تمَّ توثيق الخدمات الشماسية بدءاً مِنْ القرنين السابع والثامن؛ لكن من الطبيعي أن النشاطَ الخيريَ نحو الفقراء والمتألمين، والموافق للمبادئ المسيحية كما جاءت في "أعمال الرسل"، كَانَ منذ البداية يشكِّلُ جزءاً أساسياً مِنْ كنيسةِ روما. هذه الخدمة قد وجَدَت لها تعبيراً حياً في شخص الشمّاس لورانس († 258). كان وصف إستشهادِه الدراميّ معروفاً مِن قِبَل  القدّيسِ أمبروسيوس († 397) وهو يُزوّدُنا في نواتهِ بصورةٍ أصيلةٍ لهذا القدّيس. كمسؤولٍ عن العنايةِ بفقراء روما، كَانَ لورانس قَدْ أُعطي مهلةً زمنيةً، بعد إعتقالِ البابا والشمامسةِ، ليجمَعَ كنوزَ الكنيسةِ ويُسلّمَها إلى السلطاتِ المدنيّة. أمّا هو فقد وزّعَ تلكَ الأموال للفقراء وبعد ذلك قدّمهم إلى السلطاتِ معتبراً إيّاهم كنز الكنيسة الحقيقيّ [15]. مهما كانت صحّة هذه التفاصيل التاريخية، بَقي لورانس في ذاكرةِ الكنيسة دائماً كداعيةٍ عظيمٍ لأعمال المحبة الكنسيّة.

 

24. إن ذِكِراً للإمبراطور يوليانوس المُرتد († 363) يُمْكِنُ أَنْ يُظهِرَ، مرةً أخرى، كم كانَت الممارسةَ المُنظَّمةَ لأعمال المحبة أمراً جوهرياً في الكنيسةَ الأولى. عندما كان طفلاً ابن ستِّ سنواتٍ، شَهدَ يوليانوس بأمِّ عينيه عملية إغتيال أبّيه، أَخيه وأفراداً آخرين من عائلته، مِن قِبل حُرّاسِ القصرِ الإمبراطوريِ؛ وقد نسب ـ عن صحةٍ أو عن خطأ ـ هذا العمل الوحشي للإمبراطورِ قسطنطيوس، الذي كان يُشيد بنفسه كمسيحيٍّ بارز. بهذا الشكل فَقَدَ الإيمانُ المسيحي قيمتَه بشكلٍ حاسمٍ في نظر يوسيتينوس. وعندما أصبحَ إمبراطوراً، قرّرَ إعادة الوثنيةِ، الدينَ الروماني القديم، وإصلاحها بشكلٍ يجعل منها القوة الدافعة في الإمبراطورية. في مشروعِه هذا إستلهم يوستينوس المسيحيةِ بشكلٍ كبير. فقد أَسّسَ سلطةً هرميّة من أساقفةٍ وكهنة. كان على الكهنة أَنْ يهتمّوا بمحبَّة الله والقريب. في إحدى رسائلِه، [16] ذكرَ بأنَّ الأمرَ الوحيد الذي أعجبه في المسيحية كَانَ نشاطَ الكنيسةَ الخيريَ. وهكذا إعتبرَ ضرورياً لدينِه الوثنيِ الجديد، إقامة نشاطٍ مكافئ بِجانب نظامِ الكنيسةِ الخيري. طبقاً له، كان هذا سببَ شعبيّة "الجليليّين". كانت هناك إذاً حاجةً لتقليدهم لا بل لتجاوزهم. بهذه الطريقةِ، كان الإمبراطور يؤكّد بأنّ أعمال المحبة كَانتْ ميزّةً حاسمةً للجماعة المسيحية، للكنيسة.

 

25. نذكر الآن، حقيقتين ضروريتين قد ظَهرتَا في تأمُّلاتِنا:

   أ) تعبِّر الكنيسةُ عن طبيعتها العميقة بثلاثِ واجباتٍ: إعْلانُ كلمةِ الله (البشارة ـ الشهادة)، الإحتفال بالأسرار المقدسة (الليترجيا)، وخدمة المحبةِ (الشماسيّة). تَفترضُ هذه الواجباتِ بعضَها البعض وهي متلازمةٌ دون انفصام. إنَّ أعمالَ المحبةِ بالنسبة للكنيسة، لَيستْ نوعاً مِنْ نشاطِ إغاثةٍ إجتماعيةٍ يُمْكِنُ التنازلُ عنه لآخرين، لكنها جزءٌ لا يتجزّء من طبيعتِها، وتعبيرٌ لا غنى عنه عن جوهرها [17].

   ب) الكنيسة هي عائلةُ الله في العالمِ. في هذه العائلةِ لا أحد يَجِبُ أَنْ يُعاني من نقصِ ما هو ضروري. مع ذلك تتجاوز الـ "محبة ـ agape" في نفس الوقت حدودَ الكنيسةِ؛ يَبْقى مَثَلُ السامريّ الصالح معياراً يَفْرضُ محبَّةً شاملةً نحو من نلتقيهِ من المحتاجينِ "بِالصُّدفَة" (راجع لو 10 / 31) دون أي تمييز. لكن دون أيُّ إنْتقاصٍ مِنْ شموليّةِ وصيةِ المحبِّة هذه، للكنيسةِ أيضاً احتياجٌ معيّن: ضمنَ الكنيسةِ كعائلةٍ يجب ألا يكونَ هناك مَن يُعاني بسببِ الحاجةِ. بهذا المعنى يَبرز تعليمُ الرسالةِ إلى أهل غلاطية: "ما دامَت لنا الفُرصَةُ، فَلْنُحسِنْ إلى جميعِ الناسِ، وخُصوصاً إخوتِنا في الإيمان." (غل 6 / 10).

 

العدالة وأعمال المحبة

   26. منذ القرن التاسع عشرِ، إعتُرِضَ على نشاطِ الكنيسة الخيري، وتطور هذا الإعتراضُ بعد ذلك بإصرارٍ خصوصاً مِن قِبَل الماركسيّة: كان الإعتراضُ يقول بأنَّ الفقراء لَيسوا بِحاجةٍ إلى الصدقةِ بل إلى العدالة. إنَّ أعمالَ المحبة – الصدقات – هي في الواقع حجّةٌ للأغنياءِ ليتَجَنَّبوا بها إلتزاماتهم بإقامة العدالة ووسائلٌ لتَسكينِ ضمائرهم، بينما يُحافظون على منزلتِهم الخاصة ويَسرقون الفقراءَ حقوقَهم. بدلاً مِنْ أنْ نُساهِمَ من خلال أعمالِ الصدقةِ الفردية إلى إبْقاء الوضع الراهنِ، نَحتاجُ لبِناء نظامٍ إجتماعيٍّ عادلٍ، يأخُذُ فيه كُلُّ واحدٍ حصَّته مِنْ خيراتِ العالم وعندها لا يحتاج للإتكال على الصدقةِ. يجب أن نعترف بأنَّ في هذا الإعتراضِ بعضُ الحقيقةِ، لكن هناكَ أيضاً الكثير من الخطأ. إنّها لحقيقةٌ أكيدةٌ أن مسعى العدالةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ معياراً أساسياً للدولة وأنَّ هدفَ النظامِ الإجتماعي العادلِ هو أَنْ يَضْمنَ لكُلّ شخصٍ، طبقاً لمبدأ التعاضد، حصته مِنْ خيرات الجماعة. هذا ما أكّده دائماً التعليم المسيحيِ حول الدولة وتعليمُ الكنيسةِ الإجتماعيَ. لقد اتّخذت مسألةُ نظامِ الجماعةِ العادلِ، من الناحية التاريخيّةِ، بُعداً جديداً بدخولِ الصناعةِ إلى المجتمعِ في القرن التاسعِ عشر. سبّبَ ظهورُ الصناعةِ العصريةِ تفككَ الطبقاتِ الإجتماعيةِ القديمةِ ، بينما أَحْدَثَ نموُّ الطبقةِ العاملةِ أثاراً جذريّةً في نسيجِ المجتمع، الذي فيهِ أصبحت العلاقةُ بين رأس المالِ والعملِ قضيَّةً حاسمةً — قضية لم تكن معروفةً سابقاً بشكلِها هذا. أصبح رأسُ المالِ ووسائلُ الإنتاجِ مصدرَ القوَّةِ الجديد الذي، تركَّزَ في أيدي القلِّة، فأدّى لإنتهاك حقوقِ الطبقات العامِلةِ، أمرٌ كان لا بُدَّ أنْ يَثُوروا عليهِ.

 

   27. علينا أنْ نعتَرفَ بأنّ قيادةَ الكنيسةِ لم تدرك إلا ببطءٍ أنّ قضيةَ بنيةِ المجتمعِ العادلة قد اتّخذت أبعاداً جديدة. كان هناك بَعْض الروادِ، مثل الأسقف كيتيلير (Ketteler) مِنْ ماينز (†1877)، وكإستجابة لحاجاتٍ عمليّةٍ نشأت مجموعاتٌ، جمعياتٌ، فرقٌ، إتحاداتٌ، وبشكلٍ خاصٍّ مؤسساتٌ رهبانيةٌ جديدةٌ تأَسّستْ في القرن التاسع عشرِ لمكافحة الفقر والأمراض ولتلبية الحاجة لتعليمٍ أفضل. في عام 1891 تدخَّلت سلطة التعليم البابوية بواسطة الرسالة العامة "التوق للتجديد" (Rerum Novarum) للاون الثّالث عشر. تلتها في عام 1931 رسالة بيوس الحادي عشر "الســنةُ الأربعون" (Quadragesimo Anno). ثمّ نشـرَ الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرون عام 1961 رسالتهُ العامة "أمٌ ومعلّمة" (Mater et Magistra)، بينمـا واجـه بولـس السـادس عام 1961 في رسـالتهِ العامـة "ترقي الشـعوب" (Populorum Progressio) وعام 1971 في إرشاده الرسولي "ثمانون سنةً" (Octogesima Adveniens)، المشكلةَ الإجتماعيةَ بإصرارٍ، والتي احتدَّت في ذلك الوقت خصوصاً في أمريكا اللاتينية. أمّا سلفي العظيم يوحنا بولس الثّاني فقد تَركَ لنا ثلاثة رسائل اختصت بالشأن الإجتماعي: "مزاولة العمل" (Laborem Exercens) عام 1981، "الإهتمام بالشأن الإجتماعي" (Sollicitudo Rei Socialis) عام 1987، وأخيراً "السنة المئة" (Centesimus Annus) عام 1991. هكذا وبمواجهة حالاتٍ وقضايا جديدة، تطوَّر التعليم الإجتماعي الكاثوليكي بشكل تدريجي، ومن ثمَّ عُرِضَ بشكلٍ شاملٍ عام 2004 في "ملخَّص عقيدة الكنيسة الإجتماعية" مِن قِبَل المجلس البابوي "عدالة وسلام" (Iustitia et Pax). رَأتْ الماركسيةُ في الثورةِ العالمية وتمهيداتها العلاج الحاسم للمشكلةِ الإجتماعيةِ: بواسطة الثورة وتعميم ملكيّة وسائلِ الإنتاج، إدّعت، تغيّيرُ الأمور فوراً نحو الأفضل. هذا الوهمُ قد إختفى. اليوم في الحالةِ المعقّدةِ التي نتواجد فيها، خصوصاً بسبب نمو إقتصادٍ مُعَولَم، غدت عقيدة الكنيسة الإجتماعية دليلاً أساسياً يعرضُ الإتجاهات الصحيحةِ حتى ما وراء حدودِ الكنيسة: فمِنَ الضَّرُوري، أمام التطوُّر والنمو، أَنْ تُواجَهَ هذه التعليماتُ ضمن سياقِ الحوارِ مع كلِّ من هو مهتمٌّ بشكلٍ جَدّي بالإنسانيةِ والعالمِ الذي نَعِيشُ فيه.

 

28. كيما نحدِّد بدقّةٍ أكبر العلاقةَ القائمة بين الإلتزامِ الضروريِ بالعدالةِ وخدمةِ المحبة، يجب أن نعتبر أمرين أساسيين:

   أ) إنَّ نظامَ المجتمعِ العادل والدولةِ هي مسؤوليةُ العملِ السياسي الأساسيّة. فإذا لَمْ تَكُنْ الدولةُ قائمةً على العدالةِ تُصبحُ، كما يقولُ أغسطينوس، مُجرَّد عصبةِ لصوصٍ كبيرة [18]. أنّهُ لأمرٌ أساسيٌّ في المسيحيةِ التمييزُ لما هو لقيصر ولما هو لله (راجع مت 22 / 21). بكلمةٍ أخرى، التمييزُ بين الدولةِ والكنيسة، أَو بحسبِ تعبيرِ المجمع الفاتيكاني الثاني، "إستقلالُ الأشياءِ الزمنية" [19]. فالدولةُ لا تستطيعُ أن تَفْرضُ ديناً معيّناً، مع ذلك عليها أن تضْمنَ حُريةَ ممارستِه والسلامَ بين أتباعِ الأديانِ المختلفةِ. من جهتها، الكنيسةُ، كتعبيرٍ إجتماعيٍّ للإيمانِ المسيحيِ، لها إستقلاليتها وهي تحيا بشكلها الجماعيّ على أساسِ الإيمانِ، أمرٌ يَجِبُ أَنْ تحترمه الدولة. هنا لدينا مَجالين مُتميّزين، لكنهما في نفس الوقت مترابطَين دائماً.

العدالةُ إذاً هي الهدفُ والمعيارُ الجوهريّ لكُلّ عملٍ سياسي. فالسياسةُ ليست مُجرَّد آليَّةٍ لتَعريفِ قواعدِ الحياةِ العامّةِ: بل إنَّ أصلَها وهدفَها يكمنانِ في العدالةِ، وهذهِ العدالة هي ذاتُ طبيعةٍ أخلاقيّة. هكذا يَجِبُ أَنْ تُواجِهَ الدولةُ السؤالَ: كيف يُمكنُ تحقيقَ العدالةِ هنا والآن. لكن هذا السؤالُ يَفترضُ سؤالاً آخرَ أكثرَ جذريّة: ما هي العدالة؟ هذه المشكلةُ متعلّقةٌ بالفكرِ العمليّ؛ لكن كيما نعملَ بشكلٍ صحيحٍ، يجبُ على الفكر أَنْ يُنقّى دائماً، لأن عَماهُ الأخلاقيّ، الناتجُ عن تقديمِ المصالحِ الخاصةِ وحبِّ السُلطة، هو خطرٌ لا يُمكنُ إبعاده بالكامل. 

عند هذهِ النقطة تجتمعُ السياسةُ مع الإيمان. الإيمان له طبيعتُه الخاصةُ في اللقاء مَع الله الحيّ — لقاءٌ يَفْتحُ آفاقاً جديدةً تتجاوزُ حدودَ العقل. لَكنَّه في الوقت نفسِهِ قوةٌ تُنقّي العقل. مِنْ وجهةِ نظرِ الله، يقومُ الإيمانُ بتحريرِ العقلِ مِنْ عَماهُ ويُساعدُه كي يَكُونَ دائماً ذاته بشكلٍ كامل. فالإيمانُ يمكِّنُ العقلَ من أن يقومَ بعملِهِ بشكلٍ أفضل، وأن يميِّزَ بشكلٍ أفضلَ ما هو خاصٌ به. هنا تبرزُ عقيدةُ الكنيسة الكاثوليكية الإجتماعيّة: فالكنيسةُ لَيْسَ لَها أيُّ نيةٍ في التسلُّط على الدولة. ولا حتى تحاولُ أن تفرضَ على أولئك الذين لا يوافقونها إيمانها، طريقةَ تفكيرٍ، وأنماطَ تصرّفٍ مؤسَّسةٍ على الإيمانِ. هدفها ببساطةٍ هو أَنْ تُساعدَ على تَنْقِية العقلِ والمُسَاهَمَةِ كيما يُقبَل ويَتحقَّقَ هنا والآن، كل ما هو صحيح.

تَبني عقيدةُ الكنيسةِ الإجتماعيةِ موضوعَها على أساسِ العقل والشريعةِ الطبيعية، أي على أساسِ كلّ ما يتّفق مع طبيعةِ كُلّ إنسان. والكنيسةُ تعرِفُ بأنّه لَيسَ من مسؤولياتها جَعْلُ هذه العقيدة سائدة في الحياةِ السياسيةِ. تودُّ الكنيسة بالأحرى، أن تُسَاعِدَ في تَشكيل الضمائرِ في الحياةِ السياسيةِ وأن تُساهمَ في خَلقِ بصيرةٍ تنفذُ إلى قلبِ متطلباتِ العدالةِ الأصيلةِ، بالإضافة إلى إستعدادِها للعملِ وَفقاً لذلك، حتى عندما تواجهها المصاعبُ الناتجةُ عن المصالحِ الشخصية. هذا يعني أنَّ بناءَ العدالةِ الإجتماعيّة والمدنيّة، التي تضمن لكُلِّ شخصٍ حقوقَه، هي مهمّةٌ أساسيّةٌ على كلِّ جيلٍ أَنْ يواجهها من جديد. وبما أنّها مهمّةٌ سياسيةٌ، لا يُمكنُها أَنْ تَكُونَ مسؤوليةَ الكنيسةِ بشكلٍ مُباشر. رغم ذلك، وبما أنها أيضاً من أُولى مسؤولياتِ الإنسانيةٌ، تَجِدُ الكنيسةُ نفسَها مُلْزَمة بأن تقدِّم، بواسطةِ تنقيةِ العقلِ والتربية الأخلاقيّة، مُساهمتَها الخاصة كيما تُفهَمَ متطلباتِ العدالةِ وتُنجَزَ على الصعيدِ السياسي.

لا تَستطيعُ الكنيسة ولا يَتوجّب عليها أنْ تَأْخذَ على عاتقها المعركةَ السياسيةَ لتحقيق مجتمعٍ أكثر عدالةً. هي لا تَستطيعُ ولا يَتوجَّبُ عليها أنْ تحلّ مكانَ الدولة. رغم ذلك هي لا تَستطيعُ ولا يتوجَّب عليها أنْ تَبْقى على هامشِ النضال في سبيل العدالةِ. بل يجِبُ عليها أَنْ تَلْعبَ دورَها بواسطة الحجّجِ العقلانيةِ كما يَجِبُ عليها أَنْ تعملَ على إيقاظِ القِوى الروحيّة التي بدونها لا يمكن للعدالةِ، وهي أمرٌ يتطَلَّبُ التضحيةَ أيضاً، السيَاْدَةَ والإزدهار. لا يمكن للكنيسةِ إنجازُ المجتمعِ العادلِ فهذا يقع على عاتق السياسة. رغمَ ذلك فإنَّ ترقيةَ العدالةِ بواسطةِ الجُهودِ الرامية لإنفتاحِ العقلِ والإرادة على متطلبات الخير العامِ لأمرٌ يهمُّ الكنيسة بعمق. 

   ب) إن المحبة -الصدقة – هي لأمرٌ ضروريٌ في كلِّ الأحوال، حتى في أكثرِ المجتمعاتِ عدالةً. فليس هناكَ أيُّ تنظيمٍ دولي يُمْكِنُه أَنْ يُغني عن خدمةِ المحبة. مَنْ يُريدُ إزالةَ المحبّةِ يَستعدُّ لإزالةِ الإنسان في حد ذاته. سيكون هناك دائماً من يَتألَّم ويحتاجُ للتعزيةِ والمساعدة. سيكون هناكَ دائماً من يشعر بالوحدة. سَتَكُونُ هناك دائماً حاجاتٌ ماديّةٌ حيث لا غِنى عن المُساعدةُ من خلال محبّةِ القريب العمليّة [20]. إنَّ الدولةَ التي تُزوّدُ كُلّ شيءٍ، وتأخذُ على عاتقها كُلّ شيءٍ، تصبحُ في النهاية مجرَّد بيروقراطيةٍ عاجزةٍ عن ضمانِ الأمر الأساسي الذي يحتاجه كل شخصٍ متألم: الإهتمام الشخصي المُحِب. نحن لَسنا بِحاجةٍ إلى دولةٍ تُنظّمُ كل شيء وتُسيطرُ على كُلّ شيءِ، بل لدولةٍ تعترف بسخاءٍ وتدعمُ مبدأ التعاضُد والمبادرات الناشئة عن القوى الإجتماعيةِ المختلفةِ التي تتسمُ بالعفويّةِ والقربِ من المحتاجين. الكنيسةُ هي إحدى هذهِ القوى الحيّة: هي حيّةُ بنار الحبِّ التي يضرمها فيها روحُ المسيح. هذا الحبُّ لا يُقدِّمُ للناسِ المساعدةَ الماديةَ فقط، بل راحةً وشفاءً للنفسِ، أمرٌ يتجاوزُ أغلبِ الأحيانِ في ضرورتهِ الدعمَ المادي. فالإدّعاءُ بأنَّ البُنى الإجتماعية العادِلة تُلغي الحاجةَ لأعمالِ المحبةِ يُخفي في ذاتِهِ مفهوماً مادياً للإنسان: الفكرة الخاطئة القائلة بأنّ الإنسان يحيا "بالخبزِ لوحده" (مت 4 / 4؛ راجع تث 8 / 3). إنها لقناعةٌ مُذِلَّةٌ للإنسان متجاهلةٌ لكلِّ ما هو خاصٌ بهِ.

 

29. الآن يُمْكِنُنا أَنْ نحدِّدَ بدقةٍ أكبرَ، العلاقةَ في حياةِ الكنيسةِ، بين الإلتزامِ لأجلِ مجتمعٍ عادلٍ من جهةٍ، والنشاطِ الخيريّ المُنظَّمِ من جهةٍ أخرى. رَأينَا بأنّه ليسَ واجباً مباشراً للكنيسةِ تشكيلُ بنى اجتماعية عادِلة، بل هو أمرٌ متعلّقٌ بالمجالِ السياسي، أي بمجالِ العقلِ المسؤولِ عن ذاته. في هذا للكنيسةِ واجبٌ غيرُ مباشر، يكمنُ في المُسَاهَمَة في تنقيةَ العقلِ وفي توعيةِ القوى الأخلاقيةِ والتي بدونها لا يمكن إنشاءُ بنى اجتماعية عادلة ولا هذه يمكنها أن تَثبُتَ بشكلٍ فعّالٍ على المدى البعيد.

إنَّ الواجبَ المباشرَ للعَمَلِ من أجلِ مجتمعٍ عادلٍ هو من نصيبِ المؤمنينَ العِلمانيين. كمواطنينَ في الدولةِ، هم مدعوونَ بشكلٍ شخصيّ للإشتِراكِ في الحياةِ العامّة. لذا هم لا يَستطيعونَ التخلّي عن دورهِم في العديد مِنْ المجالات الثقافيةِ والإداريةِ والتشريعيةِ والإجتماعيةِ والإقتصاديةِ المختلفةِ، الهادفة من خلالا مؤسساتها للعملِ من أجل الخير العام [21]. مهمّةُ المؤمنين العلمانيين إذاً هي تشكيلُ الحياةِ الإجتماعيةِ بشكلٍ صحيحٍ، مع احترامِ حكمها الذاتيّ المشروعَ والتعاونَ مَع المواطنين الآخرينِ طبقاً لواجباتهم الخاصةِ متممين مسؤولياتهم المحددة [22]. وبالرغمِ من أنه لا يمكنُ الخلطُ بين أشكالِ المحبةِ الكنسيّة الخاصة ونشاطِ الدولة، يَبْقى أمراً حقيقياً أنّ المحبةَ يَجِبُ أَنْ تكونَ المُحرّكَ لكاملِ حياةِ المؤمنين العلمانيين ولذا أيضاً لنشاطِهم السياسيِ، الذي يعيشونه كـ "محبةٍ إجتماعية" [23].

أمّا منظماتُ الكنيسةِ الخيرية، فتُشكّلُ عملاً خاصاً بالكنيسة، وهي تقوم بمهمّةٍ موافقةٍ لطبيعتها، فهي في هذا لا تَتعاونُ بشكلٍ موازي، لكنها تتصرَّفُ كمسؤولةٍ مُباشرة، بعملٍ مُطابقٍ لطبيعتِها. لا يُمكِن للكنيسة أنْ تُعفى مِنْ مُمَارَسَةِ أعمالِ المحبةِ كنشاطٍ مُنظَّمٍ للمؤمنين، ومن الناحيةِ الأخرى، لَنْ يَكُونَ هناكَ أبداً وضعٌ يكونُ فيهِ عملُ محبةِ كُلِّ فردٍ مسيحي غير ضروري، لأن الإنسانَ بالأضافة إلى العدالةِ هو بحاجةٍ دائمةٍ للحبّ.

 

   البنى المتعدّدة القائمة بالخدمةِ الخيريةِ في المحيط الإجتماعيِ في وقتنا الحاضرِ

   30. قبل مُحَاوَلَتي تَعريف الوجه الخاص لنشاطاتِ الكنيسةَ في خدمةِ الإنسان، أودُّ أَنْ أَعرضَ الوضع العام للكفاحِ من أجل العدالةِ والمحبة في عالمِ اليوم.

   أ) لقد جَعلَتْ وسائلَ الإتصالِ اليومَ كوكبنَا أصغرَ حجماً، وضيّقتِ المسافةَ بين الناسِ والثقافاتِ المختلفةِ بشكلٍ سريع. إذا كان هذا "العيشُ معاً" يُسبّبُ سوءَ فهمٍ وتَوَتّراتٍ أحياناً، إلا أنَّ قدرتنا على معْرِفةِ حاجاتِ الآخرين بشكلٍ يكادُ يكون فورياً، يَضعُنا أمامَ تحدٍ كيما نشاركهم أوضاعهم وصعوباتهم. على الرغم مِنْ التقدّمِ العلمي والتقني العظيمِ، نَرى كُلّ يومٍ كَمْ من المعاناةِ مازالت في العالمِ بسبب أنواعَ الفقر المختلفة، منها الماديُّ والروحيّ. هذه الأزمنةُ تَدْعونا إذاً لنكون على إستعدادٍ جديدٍ لمُسَاعَدَةِ القريب المحتاج. لقد سبق وشدَّدَ المجمع الفاتيكاني الثاني على هذه النقطةِ بكلِّ وضوح: "اليوم، إذ اكتسبت وسائلِ الإتصال سرعةً أكبر، وأُزيلت تقريباً المسافات بين الناسِ […]، يجب على النشاطِ الخيريِّ ويُمكنه أَنْ يُعانقَ كُلّ الناس وكُلّ الإحتياجات" [24].

من الناحيةِ الأخرى – وهذه هي إحدى التَحدّيات وفي نفس الوقت إحدى الأمور المُشجّعة في واقع العولمةِ – يضعُ الوقتُ الحاضرُ تحتَ تصرّفنا وسائلاً عديدةً لتقديمِ المساعدةِ الإنسانيةِ لإخوتِنا وأخواتِنا المحتاجين، ناهيك عن الأنظمة الحديثة لتَوزيع المأكل والملبسِ، وتقديم السكن والعناية. بتجاوزِ حدودِ الجماعات الوطنيةِ يتسّع أفقُ الإهتمامِ بالقريب على نحوٍ متزايدٍ ليشملَ العالمَ بأكملهِ. لقد لاحظَ المجمع الفاتيكاني الثاني عن حقٍ بأنّ "واحدةً من علاماتِ الأزمنة اليوم، تستحقّ الذكرَ بشكلٍ خاصٍ، ألا وهي إحساسُ التضامن المحتوم والمُتزايد بين كلِّ الناسِ" [25]. تعملُ المؤسسات الحكومية والجمعياتُ الإنسانيةُ للتَرويج لهذا، بشكلٍ رئيسي من خلالِ الإعاناتِ الماليةِ أَو الإعفاءات الضريبية، وهذا يتمُّ من خلالِ المصادرِ الكبيرةِ التي توفرها الأولى للأخرى. بهذا يتجاوزُ تضامنُ المجتمع المدني بشكلٍ ملحوظ مبادرات الأفراد.

   ب) هذا أدّى لولادةِ ونمو العديد مِنْ أشكالِ التعاونِ بين مختلف مبادراتِ الكنيسةَ والدولة، والتي تَبَيَّنَ أنها مُثمرة. إنَّ مبادرات الكنيسةِ، بتتميمها عملها بشفافيةٍ وإخلاصِها لواجبِ شَهادَة المَحَبَّة، قادرةٌ على إضفاءِ روحٍ مسيحيةٍ إلى المبادرات المدنيّة، وذلك بدعمها للتنسيق المتبادل الذي يُؤثّرُ بلا شك في فعاليّة الخدمةِ الخيريةِ [26]. منظماتٌ عديدةٌ ذاتَ أهدافٍ خيريةٍ أَو إنسانيةٍ نشأت أيضاً وهي تَتعهّدُ بإنْجازِ حلولٍ إنسانيةٍ مُجديةٍ للمشاكلِ الإجتماعيةِ والسياسيةِ المعاصرة. وقد رأينا بشكلٍ ملحوظٍ، في أيامنا هذه نموَّ وإنتشارَ أنواعٍ مختلفةٍ من العملِ المتطوّعِ، الذي قد أخذَ على عاتقه مسؤوليةَ العديد من الخدماتِ [27] أَود هنا أَنْ أَوجِّهَ كلمةً خاصّةً ملؤها الإمتنانُ والتقدير لكُلّ من يَشتركُ بطرقٍ عديدة في هذه النشاطاتِ. هذا المجهودُ الواسعُ الإنتشارِ يُشكّلُ مدرسةَ حياةٍ للشباب، تَربيهم على التضامنِ وعلى الإستعدادِ لَيس فقط لمساعدةِ الآخرين مساعدةً ماديةً بل ببذل أنفسِهم. هكذا ضِدّ ثقافة الموتِ، التي تَجِدُ تعبيراً لها على سبيل المثال في المخدّرِات، يبرز الحبُّ الذي لا يطلب منفعته، بل بإستعداده لأن "يخسر نفسه" لأجل الآخر (راجع لو 17 / 33 والمقاطع الإزائية)، يَظهَرُ كثقافةِ حياة.

في الكنيسةِ الكاثوليكيةِ، وفي كنائسَ وجماعاتٍ كنسيّة أخرى، ظهرت أشكالٌ جديدةٌ مِنْ النشاطِ الخيريِ، كما استعادت أشكالٌ قديمة حياتها بإندفاعٍ جديد. في هذه الأشكالِ الجديدةِ، يتم أغلب الأحيان الربط بشكلٍ مثمرٍ بين التبشير بالإنجيل وأعمالِ المحبةِ. أود هنا بصراحةٍ تأكيدَ ما كتبهُ سلفَي العظيمَ يوحنا بولس الثّاني في رسالته العامة "الإهتمام بالشأن الإجتماعي" [28]، عندما أَكّدَ إستعدادَ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ للتَعَاوُن مع المنظمات الخيريةِ التابعة لهذه الكنائسِ والجماعات، لأننا جميعاً نتحرَّكُ بفضل دافعٍ أساسيٍّ واحدٍ نحو الهدفِ نفسه: حركةً إنسانيةً حقيقيةً، تَرى في الإنسانِ صورةَ الله وتُريدُ مُسَاعَدَته للعَيْش بطريقةٍ مطابقةٍ لكرامته هذه. لقد أَكّدَت الرسالة العامة "ليكونوا واحداً" (Ut Unum Sint) بأنّه لبناءِ عالمٍ أفضل ضروريٌ هو صوت المسيحيين الموحَّد وكفاحهم لإحترام حقوقِ وحاجاتِ الجميع، خصوصاً الفقراء، الوضيعين والعُزَّل." [29]. هنا أوَدُّ أَنْ أَبدي فرحي بِأَنَّ هذا النداءِ قد وَجدَ استجابةً كبيرة من خلال المبادراتِ العديدةِ في كافة أنحاء العالم.

 

   السمات الخاصة بنشاطِ الكنيسةَ الخيريَ

   31. إنّ زيادةَ عدد المنظمات المُتنَوِّعة التي تجتهد في سبيل الحاجاتِ الإنسانيةِ المُخْتَلِفةِ، تُفَسَّر في النهاية، بالحقيقة القائلة أنَّ وصية محبِّة القريب قد كتبها الخالقُ في طبيعةِ الإنسانِ نفسها. لكنهّا أيضاً نتيجةُ حضورِ المسيحيةِ في العالمِ، التي تُنعشْ بشكلٍ دائمٍ هذه الوصية التي غالباً ما توارت عبرَ التاريخ في غياهب الظلمات وتجعلها فعّالة. إنّ إصلاحَ الوثنيةِ التي حاولَ الإمبراطورِ يوليانوس المُرتد أن ينجزَه هو عبارة عن مثالٍ أوليٍّ لهذا التأثيرِ؛ هنا نَرى كَيفَ أنَّ قوَّةَ المسيحيةِ قد انتشرتْ خارجَ حدودِ الإيمانِ المسيحيِ. لهذا السبب، من المهم جداً أن يَبقى نشاطَ الكنيسةِ الخيريّ محافظاً على تألُّقِهِ وألا يَصْبحَ مجرَّد شكلٍ آخر من أشكالِ المساعدةِ الإجتماعيةِ. فما هي إذاً العناصرُ الضروريةُ التي تُشكِّل جوهرَ أعمالِ المحبَّة المسيحية والكنسيّة؟

   أ) بحسب مثلِ السامري الصالح، يجب على أعمال المحبة المسيحية أولاً أن تستجيبَ ببساطةٍ للحاجاتِ الفوريةِ التي تعرضها بعض الحالاتِ المعيّنةِ: إطعام الجياع، إلباس العراة، الإِهْتِمام بشفاء المرضى، زيارة المسجونين، إلخ. يجبُ على منظماتِ الكنيسةِ الخيريةِ، إبتداءً من منظمة كاريتاس Caritas (على المستوى الأبرشيِ، الوطني والدولي)، أَنْ تعْملَ كلّ ما بوسعها لتأمينِ الوسائل وقبل كل شيء الأشخاص الذين يتَّخذونَ على عاتقهم هذا العمل. فيما يخصُّ الخدمةَ التي يقومُ بها الأشخاصُ لأجل المتألّمين، يَجِبُ عليهم أولاً أَنْ يَكُونوا مؤهّلين بإحتراف: يَجِبُ أَنْ يُدرّبوا بشكلٍ صحيحٍ لما عليهم أن يقوموا بهِ وكَيفية القيام به، وأن يلتزموا بإستمرارهم في الخدمة. لكن هذه القدرات الإحترافية مع أنها مَطلبٌ أساسيٌ، إلا أنها تبقى غير كافية. فنحن نَتعاملُ مع البشرِ، وما يحتاجه الإنسانُ يفوقُ دائماً العنايةَ الصحيحةَ تقنياً. هو يَحتاجُ للإنسانية. يَحتاج إهتماماً يَنبع من قلبٍ صادقٍ. أولئكَ الذين يَعْملونَ في منظماتِ الكنيسةِ الخيريةِ يجب أنْ يتميّزوا بأنَّهُمْ لا يُلبّونَ بمهارةٍ حاجات اللحظة الحاضرة وحسب، بل يُكرّسونَ أنفسهم للآخر بإهتمامٍ صادقٍ، بشكلٍ يجعله يختبر غِنى إنسانيتهم. لذلك، بالإضافة للتدريب المحترف، من أهم الأمور على الإطلاق لمن يعمل في المنظمات الخيريةِ هو "تشكيل القلبِ": مَنْ الضَّرُوري أَنْ يقوموا أولئكَ بتوجيه الآخر إلى اللقاءِ مَع الله في المسيح، الذي يَوقظُ فيهم المحبة ويَفْتحُ نفوسَهم على الآخر. بشكلٍ يجعلُ من محبّة القريبِ بالنسبةِ لهم لا مجرَّد وصية تُفَرضُ من الخارج، بل كنتيجةٍ لإيمانِهم العامل بالمحبِّة (راجع غل 5 / 6).

   ب) يجب على النشاطِ المسيحي الخيري أَنْ يَكُونَ مستقلاً عن الأحزاب والإيدولوجيات. فهو لَيسَ وسيلةً لتَغيير العالمِ بشكلٍ إيدولوجي، ولَيسَ في خدمةِ إستراتيجيات دنيويّة، بل هو تحقيقٌ هنا والآن للحبِّ الذي يحتاجُ إليهِ الإنسانُ دائماً. إنَّ العصرَ الحديثَ، خصوصاً مع بداية القرن التاسع عشرِ، قد سيطرت عليه فلسفاتُ تقدُّمٍ مُخْتَلِفة، كانت الماركسيَّةُ أشدّ أشكالها جذريَّةً. تشكُّلُ نظرية التفقير جزءاً من الإستراتيجيةِ الماركسيةِ، وهي تدَّعي أنَّ الشخصَ الذي يتمتّع بالقوَّةِ نتيجةَ الظلمِ، ويقوم بمبادراتِ خيريةٍ، هو في الحقيقةِ يَخْدُمُ ذلك النظامِ الظالمِ، أو يَجْعلُه يَظْهرُ على الأقل محتملاً إلى حدٍّ ما. بهذا الشكل تُكبَحُ الثورةُ المُحتملة ويُمْنَعُ الكفاحُ من أجلِ عالمٍ أفضل. لهذا السبب قد عورضَت الصدقةُ كما رُفِضَت وهوجِمَت كوسيلةٍ تُبقي على الوضع الراهنِ. في الواقع إنّها لفلسفةٌ لا إنسانية. فالإنسان الحاضرُ يُصبحُ ضحيّةً لإله المستقبل — مستقبلٌ ما زالَ تحقيقه في أحسن الأحوال موضعَ شكٍ. في الحقيقة كيما نجعل العالم أكثر إنسانيّةً لا يمكننا أن نتخلّى ولو بشكلٍ مؤقت عن التصرف بشكلٍ إنساني هنا والآن. فنحن نُساهمُ في بناء عالمٍ أفضل فقط عندما نصنعُ الخيرَ الآن وبشكلٍ شخصيّ، بكلِّ القلب وحيثما نجدُ فرصةً مناسبةً، بشكلٍ مستقلٍ عن الإستراتيجياتِ والبرامجِ الحزبيّة. إنَّ برنامج المسيحيّ — برنامج السامري الصالح، برنامج يسوع — هو "قلبٌ ذو بصيرةٍ" هذا القلبُ يرى الحاجةَ للمحبةِ ويتصرَّفُ وفقاً لذلك. طبعاً عندما يكونُ النشاطُ الخيريُّ مُنَفَّذاً مِن قِبلِ الكنيسةِ كمبادرةٍ جماعيةٍ، يجب على عفويّةِ الأفرادِ أنْ تَندَمِجَ مع التخطيطِ والبصيرةِ والتعاونِ مع المؤسساتِ الأخرى المماثلة.

   ج) علاوة على ذلك، لا يُمْكن أنْ تُستَعملَ أعمالُ المحبَّةِ كوسائلٍ لتحقيق ما يُدعى اليوم بـ "النزعة الدخيليّة". الحبُّ مجّانيٌ؛ ولا يمكنُ أن يُزاوَلَ كوسيلةٍ لإنْجازِ أهدافٍ أخرى [30]. لكن هذا لا يَعْني بأنّ على النشاطِ الخيريِ أَنْ يَتْركَ الله والمسيح بطريقةٍ ما جانباً. لأنهُ نشاطٌ يهتمّ بالإنسان بكاملِهِ. في أغلبِ الأحيان يكونُ سبب معاناةِ الإنسانِ الأعمق هو غيابُ الله. مَن يصنعُ خيراً باسمِ الكنيسةِ يجب عليهِ ألا يفرضَ إيمانَ الكنيسةِ على الآخرين. فهو يُدركُ بأنّ الحبَّ في صفائه ومجّانيته، هو أفضلُ شهادةٍ لله الذي نؤمن بهِ والذي منهُ ننال القوة لنحبَّ. المسيحيُّ يَعْرفُ متى يجبُ الكَلامُ عن الله ومتى يكون من الأفضلِ الصمت وتَرْك الكلامِ للحبِّ وحدِه. هو يَعْرفُ بأنّ الله محبّة (راجع 1 يو 4 / 8) وهو حاضرٌ خاصةً عندما لا يمكن عملَ شيءٍ سوى المحبة. هو يَعْرفُ — كي نعود للأسئلةِ التي طُرِحَتْ في وقتٍ سابقٍ — أنَّ الذي يَزدري المحبّة يزدري الله والإنسان على حدّ سواء، وأنه بذلك يحاولُ التخلّي عن الله. ولذلك، فإن أفضلَ طريقةٍ للدفاعِ عن الله والإنسان هي المحبّة. تبقى مسؤوليةُ منظماتِ الكنيسةَ الخيريةَ أن تُعزِّز هذا الوعي بين أعضائها، كيما يكونوا بنشاطِهم — بالإضافة إلى كلامهم، صمتهم ومثالهم — شهوداً صادقين للمسيح.

 

المسؤولون عن نشاطِ الكنيسةِ الخيري

   32. أخيراً، يَجِبُ أَنْ نُحوّلَ إنتباهَنا مرةً أخرى إلى أولئك المسؤولينَ عن تَنفيذ نشاطِ الكنيسةِ الخيريّ. لقد أوضحنا جليّاً من خلال تأملاتنا السَابِقة، أنَّ مَن يقفُ وراءَ عملِ المنظماتِ الكاثوليكيةِ المُخْتَلِفةِ التي تمارس خدمة المحبة هي في الحقيقة الكنيسة نفسها — على كل الأصعدة، مِنْ الأبرشياتِ، مروراً بالكنائسِ المحليةِ، إلى الكنيسةِ العالميةِ. لهذا السبب كَانَ من المناسب جداً ما فعلهُ سلفَي الموقّرَ بولس السادس بتأسيسه المجلسَ البابويَ "قلبٌ واحد" (Cor Unum) كوكيلٍ عن الكرسي الرسولي مسؤولٍ عن تَوجيهِ وتَنسيقِ المنظماتِ والنشاطاتِ الخيريةِ في الكنيسةِ الكاثوليكيةِ. بالإنسجام مع التركيبِ الأسقفي للكنيسةِ، على الأساقفة، كخلفاء للرسل، أن يكونوا أوَّل المسؤوليين عن تَنفيذ البرنامج المحدد في أعمال الرُسلِ (راجع أع 2 / 42 ـ 44) في الكنائس المحليّة، اليوم كما في الماضي: الكنيسةُ كعائلةِ اللهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ اليومَ كما كانت دائماً، مكاناً تعمُّ فيه المساعدة المتبادلة، وفيهِ الأشخاصُ مُستعدّونَ أيضاً لخِدْمَة المحتاجين خارجَ حدودِها. في طقسِ الرسامةِ الأسقفية، قبل فعلِ التكريسِ، تُطرَح على المرشّح عِدّة أسئلة تظهر فيها العناصر الجوهرية لمهمتهِ، وبها يَتذكّرُ واجباتَ خدمتهِ المستقبليةِ. في هذا السِياق يَعِدُ المرشّحُ بشكلٍ واضحٍ أن يَكُونَ، بإسمِ الربِّ مضيافاً ورحيماً تجاهَ الفقراءِ وتجاهَ كلِّ مَن هو بحاجةِ للتعزيةِ والمساعدةِ [31]. لا يَذْكرُ الحق القانوني الكنسي، في الشرائعِ الخاصة بالأسقفِ، بشكلٍ واضحٍ أعمالَ المحبة كسمةٍ مُميزةٍ لنشاطِ الأسقف، لكنه يَتكلّمُ عُموماً عن مسؤوليةِ الأسقفِ كمُنسِّقٍ للأعمالِ الرسوليةِ المختلفةِ، مع إعتبارِه لخصوصيةِ كلّ واحدةٍ منها [32]. على أية حال، قد قام "المُرشِد لخدمة الأساقفة الرعويةِ" مؤخراً بالتعمُّق بشكلٍ أكثر واقعيةٍ في أعمالِ المحبةِ كمهمةٍ متعلّقةٍ بطبيعةِ الكنيسةِ نفسِها وبالأسقفِ في أبرشيتِه [33] وقد أَكّدَ بأنّ ممارسةَ أعمالِ المحبةِ هي عملٌ يخصُّ الكنيسةَ في جوهرِها وهو يُشكّل كخدمةِ الكلمةِ والأسرارِ، جزءاً من جوهرِ رسالةِ الكنيسةِ الأصليّة [34].

 

33. فيما يتعلَّقُ بمَن يُساعد عملياً على تنفيذِ نشاطِ الكنيسةِ الخيري، قد سَبَقَ وقلنا ما هو جوهري: أولئكَ عليهم ألا يستلهموا الإيدولوجيات التي تهدف لتحسين العالمِ، بل يَجِبُ أَنْ يكونوا بالأحرى مُقادين بالإيمانِ العاملِ بالمحبِّة (راجع غل 5 / 6). ولذلك، عليهم أن يَكُونوا أشخاصاً يحرِّكهم حبُّ المسيح، أشخاصاً قد أَسَرَ المسيحُ قلوبهم بحبِّهِ، وأوقظَ فيهم حبَّ القريب. المعيارُ الذي يجب أن يُلهمَ نشاطَهم هو ما جاء في رسالة القدّيسِ بولس الثانيةِ إلى أهل كورنثوس: "حبُّ المسيح يَحثُّنا" (2 كو 5 / 14). إنَّ الوعيَ بأن الله قد أعطانا في المسيحِ نفسَهُ، حتى الموتِ، يَجِبُ أَنْ يُلهمَنا ألا نعَيْشَ بعُدُ لأنفسنا بل لأجلهِ، ومَعه، لأجلِ الآخرين. مَنْ يَحبُّ المسيح يَحبُّ الكنيسة، ويَرْغبُ في أن تكونَ دائماً على نحو متزايدٍ تعبيراً وأداةً للحبِّ المتدفّقِ مِنَ المسيح. إنَّ كلَّ من يتعاونُ مع منظمةٍ خيريةٍ كاثوليكيةٍ، يُريدُ أن يعَمَل في الكنيسةِ ولذا يريدُ أن يعملَ مَع الأسقفِ، كيما ينتشرَ حبُّ الله في كافةِ أنحاءِ العالم. بإشتراكه في ممارسةِ أعمالِ المحبةِ الكنسيّة، يرغبُ أن يَكُون شاهداً لله وللمسيحِ، ولهذا بالذات يرغبُ في أن يعملَ الخير للناسِ بمجانية.

 

34. لا يستطيعُ الإنفتاحُ الداخليُّ على البُعدِ الشموليّ للكنيسةِ إلا أن يجعلَ ممَّن يتعاون مع المنظمات الخيريةِ جاهزاً للتوافق مع المنظماتِ الأخرى في خِدْمَة الإحتياجات المختلفة؛ هذا بطريقةٍ تحترمُ طابعَ الخدمةِ الخاصّ التي يطلبها المسيحُ من تلاميذهِ. يُعلّمنا القدّيس بولس، في نشيدِ المحبة (راجع 1 كو 13)، بأنّ المحبةَ هي أكثرُ مِنْ مجرَّد نشاط: "ولو فرَّقتُ جميعَ أموالي وسلَّمتُ جسدي لكي يُحرَقَ، ولا محبةَ عندي، فما ينفعني شيءٌ" (آية 3). يَجِبُ أَنْ يكُونَ هذا النشيدُ الميثاقَ الأعظمَ لكُلِّ خدمةِ الكنيسة؛ فهو يُلخّصُ جميعَ التأملاتِ التي عُرضت في هذه الرسالة العامة، حولَ المحبِّة. فالنشاطُ العمليُّ يبقى غيرَ كافٍ، ما لم يُظهرُ بوضوحٍ المحبّة للإنسان، تلك المحبة التي تتغَذّى من خلالِ اللقاءِ مَع المسيح. إن إشتراكيَ الشخصيَّ العميقَ في حاجاتِ وآلامِ الآخرين يصبحُ اشتراكاً معهم في ذاتي: كي لا يتحول عطائي إلى مصدرٍ لإذلالِ الآخر، يَجِبُ ألا أَعطيَ الآخرين ما أملك، بل ذاتي؛ في عطائي يَجِبُ أَنْ أكُونَ أنا نفسي حاضراً.

 

35. إنَّ طريقةَ الخدمةِ الصحيحةِ هذه تجعلُ مَن يَخدُمُ متواضعاً. فهو لا يعتبرُ نفسَه أرفعُ من الآخرِ، أيّاً كانت حالته البائسة. لقد أَخذَ المسيحُ المكانَ الأخيرَ في هذا العالم -الصليب – وبهذا التواضع الجذري قد فدانا وما زالَ يُساعدنا. أولئك القادرون على مساعدةِ الآخرينَ سَيُدركونَ أنّه بقيامهم بذلك هم أنفسهم يقبلونَ المساعدة؛ أنْ يَكُونَ الإنسانُ قادراً على مُسَاعَدَةِ الآخرين لا يُعتَبَرُ إستحقاقاً لهُ أَو إنجازاً يفتخرُ بهِ. هذا الواجبِ هو نعمة. كلّما بذل الإنسانُ ذاتهُ لأجلِ الآخرين، يُدركُ أنّ كلمات المسيح تخصّه: "نحن خدمٌ لا خيرَ فيهم" (لو 17 / 10). ويعترفُ بأنّهُ لا يتصرّفُ وفقَ أيّةِ قاعدةِ تفوقٍ أَو كفاءة شخصيّة، بل لأن الربَّ قد أعطاه النعمةَ ليعملَ ذلك. في بعض الأحيانِ، عندما تكونُ الحاجةُ بالغةٌ وقدراتُ الشخصِ محدودةٌ، يُمكن أن تثبط عزيمته. لكن هنا بالضبط سيساعدُهُ وعيُهُ بأنه، في النهاية، ليس إلا مجرَّد أداةٍ في يدِ الرب؛ هذا الوعيُ يُحرّره مِنْ الفرضيةِ القائلة بأنّه هو وحده شخصياً مسؤولٌ عن بناءِ عالمٍ أفضل. عندها سيَعمل ما بوسعه بكلِّ تواضعٍ، وسيسلِّمُ الباقي للرب بكُلّ تواضعٍ أيضاً. لسنا نحن من نحكم العالم بل الله. نحن نَعْرضُ له خدمتَنا فقط بقدر ما نستطيع، وطالما هو يَمْنحُنا القوّةَ. عَمَلُ ما في الإمكان بحسب القوّة التي يملكها الشخصُ، هي المهمّةُ التي تُبقي خادمَ المسيح الأمين في نشاطٍ دائمٍ: "حبّ المسيح يَحْثُّنا" (2 كو 5 / 14).

 

36. عندما نَعتبرُ ضخامةَ حاجاتِ الآخرين، يُمكننا، من ناحيةٍ، أن نُقادَ نحو إيديولوجيةٍ تَستهدفُ القيامَ بما لا يبدو القيامَ به حكمُ الله في العالم: حلُّ جميعَ مشاكلِ العالم. من ناحيةٍ أخرى يُمْكنُنا أَنْ نسْتِسلم لقصورِنا الذاتي، إذ يَبْدو لنا إنجاز أي شيءٍ مستحيل. في مثل هذه الأوقاتِ، تُشكِّلُ العلاقةُ الحيّةُ مَع المسيحِ العونَ الحاسمَ لنا كيما نبقى على الطريقِ الصحيحِ: دون السُقُوطِ في كبرياءٍ يحتقر الإنسانَ، ويُدمِّرُ بدلاً من أن يبني، ودون الإستسلامِ لليأسِ الذي يمْنعُنا من أَنْ نُقادَ بالمحبِّة لأجلِ خدمةِ الآخرين. تغدو هنا الصلاةُ، كوسيلةٍ بها نأخُذُ مِنَ المسيح قوّةً متجددةً، حاجةً أكيدةً وواقعية. مَن يُصلّي لا يَهدرُ وقتَه، حتى عندما تبدو الأوضاعُ طارئةً وتدفعُنا للإهتمامِ بشكلٍ أولي بالعمل. التقوى لا تُضعِف الكفاحَ ضدّ تعاسةِ الآخر مهما كانت بالغةً. الطوباوية تيريزا مِنْ كلكتا هي خيرُ مثالٍ يُثبت كيف أنّ الوقتَ المكرّسَ لله في الصلاةِ لا يُنقِصْ مِنْ فعاليةِ خدمةِ محبّةِ القريبِ وحسب، لكنها في الحقيقةِ مصدرٌ لها لا ينضب. في رسالتِها لصومِ عام 1996 الكبير، كَتبتْ الطوباوية تيريزا للعلمانيين العاملين معها: "نحنُ نَحتاجُ لتلك العلاقةِ العميقةِ مَع الله في حياتِنا اليوميةِ. كَيْفَ نَحْصلُ عليها؟ بالصلاةِ".

 

37. لقد حانَ الوقتُ لإعادةِ تأكيدِ أهميّةِ الصلاةِ تجاه النشاطِ والعَلمانية المُتزايدةَ التي اتسم بها العديدُ مِنْ المسيحيين المنهمكين في العملِ الخيريِ. بالطبع، إنَّ المسيحي الذي يَصلّي لا يَدّعي أنهُ قادرٌ على تَغييرِ خططِ الله أَو تصحيحِ ما أنبأَ به. هو يودُّ بالأحرى، أن يلتقي أبَ يسوعَ المسيحِ، ويسألَه أن يَكُونَ حاضراً بتعزيةِ روحِهِ فيه وفي ما يعمل. إنَّ العلاقةَ الحميمةَ مَع الله كإلهٍ شخصيٍّ والإستسلامُ لإرادتهِ يَحميانِ الإنسانَ من الذلِّ ويُنقذانه مِنْ فريسةِ التعصّبِ والإرهابِ. إنَّ موقفاً دينياً أصيلاً يَمْنعُ الإنسان من أن يَدينَ الله موجهاً له أصابعَ الإتهامِ بأنه يسمحُ بالمعاناةِ ولا يشعرُ بالشفقةِ على مخلوقاتِه. ذاكَ الذي يقومُ ضدَّ الله دفاعاً عن الإنسان، على مَنْ بإمكانهِ أَنْ يَعتمدَ عندما يُثبِتُ النشاطُ البشريُ ضعفَهُ؟

 

38. طبعاً يُمْكِنُ لأيوبَ أَنْ يَشتكيَ أمامَ الله بسببِ المعاناةِ غير المفهومةِ وعلى ما يبدو غير المبرّرةِ، المتواجدةِ في العالمِ. في ألمِه يصرخُ: "ليتني أعرفُ أينَ أجدُهُ أو كيفَ أصِلُ إلى مسكِنِهِ! … وأعرف ماذا يجاوبني وأفهمُ ما يقولُهُ لي. أبِعَظَمةِ جبروتِهِ يُحاكمني، أم عليهِ أن يُصغيَ إليَّ؟ … لذلكَ يشتدُّ فزعي أمامه، وكُلَّما تأمَّلتهُ تضاعفَ خوفي. الله هو الذي أوهَنَ قلبي، والقديرُ هو الذي يُخيفُني" (أي 23 / 3، 5 ـ 6، 15 ـ 16). نحن لا نَستطيعُ في أغلب الأحيانِ أن نَفْهمُ لِماذا يَمتنعُ الله عن التَدَخُّل. رغمَ ذلكَ هو لا يَمْنعُنا من أن نصرخَ، مثل يسوع على الصليبِ: "إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني؟" (مت 27 / 46). علينا أَنْ نَستمرَّ بطرحِ هذا السؤال في حوارِ صلاةٍ أمامَ وجهِه: "إلى متى أيُّها السيّد القدوس الحقّ؟" (رؤ 6 / 10). هنا يعطي القدّيس أغسطينوس آلامَنا جوابَ الإيمانِ: "إذا كنتَ تَفْهمُه، فهو لَيسَ بإلهٍ" [35]. إنَّ إحتجاجنا لا يقصدُ تَحدّي الله، أَو اتهامه بالخطأِ أو الضعف أَو اللامبالاةِ . لا يمكن للمؤمنِ، أن يفكر بأن الله غير قديرٍ أَو أنه "نائمٌ" (راجع 1 مل 18 / 27). نحنُ بالأحرى نعتبر بأنَّ صُراخنا، كصراخِ يسوع على الصليبِ، هو الطريقةُ الأكثرُ عمقاً وجذريةً لتَأكيدِ إيمانِنا بقدرتهِ المُطلَقة. بالرغم من حيرتِهم وفشلِهم في فَهْم العالمِ من حولهم، يبقى المسيحيون مؤمنين بـ "صلاح الله" وبـ "محبته للبشر" (تي 3 / 4). هم كالآخرين، منغمسينَ في تعقيدِ الأحداثِ التاريخيةِ الدراميّة، لكنهم يظلّونَ مُتَأَكِّدين بأنَّ الله هو أبٌ لنا ويُحبُّنا، حتى عندما يَبْقى صمتهُ غامضاً بالنسبةِ لنا.

 

39. الإيمانُ والرجاء والمحبة هي أمورٌ مرتبطةٌ ببعضها. يَظهرُ الرجاءُ من خلالِ فضيلةِ الصبرِ، الذي يُواصلُ فِعْلَ الخيرِ حتى أمامَ الفشلِ الظاهرِ، ومن خلال فضيلةِ التواضعِ، الذي يَقْبلُ سرَّ الله ويثق بهِ حتى في ظلمةِ الحياة. يُظهر لنا الإيمان بالله الذي منح لنا إبنه وبذلك أكَّدَ لنا الحقيقةَ المنتصِرةَ: الله محبة! حقيقةٌ تُحوّلُ قلّة صبرِنا وشكوكَنا إلى الرجاءِ الأكيدِ أن الله يحملُ العالمَ في يديه، وهو المنتصرُ رغمَ كلّ الظلام، كما في النهاية تظهَرُ لنا صورته الساطعة في سفر الرؤيا. الإيمانُ الواعي حبَّ الله الذي كَشفَ عن نفسه في جنب يسوع المطعون على الصليبِ، يُولِّدُ بدوره الحبِّ. الحبّ هو النور — في الحقيقة، النور  الوحيد — الذي يُمْكِنُ أَنْ يُنيرَ دائماً العالمَ المظلمَ ويعطينا الشجاعةَ للعَيْش والعَمَل. الحبُّ ليس مستحيلاً، ونحن قادرونَ على عيشهِ لأننا مَخْلُوقون على صورةِ الله. أن نحيا الحبَّ ونُدخِل هكذا نورَ الله في العالم — هذه هي دعوتي في هذه الرسالة العامة.

الخاتمة

   40. أخيراً، دعونا ننظُرُ إلى القديسين، الذين مارسوا أعمال المحبة عَلى نَحوٍ نموذجي. نذكرُ خصوصاً مرتينوس دي تور († 397)، الجندي الذي أصبحَ راهباً وفيما بعد أسقفاً: هو بمثابةِ أيقونةٍ، تُصوّرُ القيمةَ الفريدةَ لشهادةِ أعمالِ المحبةِ الفرديّة. على أبواب آميين (Amiens)، قد أعطىَ مرتينوس نِصْف عباءتِه لرجلٍ فقير: يسوع نفسه، ظَهرَ له تلك الليلة في الحلم لابساً تلك العباءةِ، مُؤكّداً حقيقةَ كلمته الدائمة: "كنتُ عرياناً فكسوتموني … كلَّ مرةٍ عَملتُم هذا لواحدٍ من إخوتي هؤلاءِ الصِّغار، فلي عمِلتموهُ!" (مت 25 / 36، 40). [36] لكن كم من شهاداتٍ أخرى للمحبةِ في تاريخِ الكنيسةِ يُمْكِنُ ذِكرها! كلُّ حركةِ المتوحدين، بشكلٍ خاص، مِنْذُ بداياتها مع القدّيسِ أنطونيوس الكبير († 356)، أظهرت خدمةَ محبةٍ هائلةٍ نحو القريب. في لقائِه "وجهاً لوجه" مَع الله الذي هو محبّة، يحسُّ الراهبُ بالإندفاعِ لتَحويلِ حياتِه كاملةً لخدمةِ القريبِ، بالإضافة لخدمةِ الله. هذا يُفسِّرُ وجودَ البُنى الكبيرة المهتمة بالضيافةِ وإيواءِ وعنايةِ الضعفاءِ التي ظهرتْ على مقربةٍ من الأديرة. يُفسِّرُ أيضاً المبادراتَ الهائلةَ المهتمة بتطويرِ الإنسانيةِ والتنشئةِ المسيحيةِ، الموجَّهة قبل كلِّ شيء لأكثرِ الناس فقراً، أولئكَ الذين صاروا أولاً محطَّ اهتمام الرهبانيات المتوحدة والمتسولةِ، ولاحقاً مُخْتَلِفِ الجمعيات الرهبانية للذكور والإناث، عبرَ تاريخِ الكنيسةِ. أسماءُ قديسين مثل فرنسيس الأسيزي، أغناطيوس دي لويولا، يوحنا لله، كميل ليلليس، منصور دي بول، لويزا دي ماريلاك، يوسف كوتولينيو، يوحنا بوسكو، لويس أوريونيه، تيريزا مِنْ كلكتا — وهي غيضٌ من فيض — تَبرزُ كنماذج دائمة لأعمالِ المحبةِ الإجتماعيةِ لكُلِّ ذوي الإرادة الصالحةِ. إنَّ القديسينَ هم الحاملينَ الحقيقيينَ للنور في التاريخ، لأنهم رجالُ ونِساءُ الإيمانِ والرجاءِ والمحبّة.

 

41. بين القديسين تتألَّقُ مريم، أمُّ الربِّ ومرآةُ كُلِّ قداسة. نجدُها في إنجيلِ لوقا مَشْغُولةً في خدمةِ المحبةِ لنسيبتها أليصابات، وقد بَقيتْ عندها "نحوَ ثلاثةِ شهور" (لو 1 / 56)، لِكي تُساعدَها في المرحلةِ النهائيةِ مِنْ حملِها. لقد أنشدَتْ بمناسبةِ هذه الزيارةِ نشيد "تعظِّمُ نفسيَ الرب" (لو 1 / 46). نشيداً تُظهِرُ كلماتُه برنامجَ حياتها الكامل: فهي لا تضعُ نفسها في المركزِ، بل تتركه لله، الذي تلتقيه في الصلاةِ وفي خدمةِ القريب — هكذا فقط يصبحُ العالمُ صالحاً. عظمةُ مريمَ الحقيقيةِ تكمنُ في أنها تريدُ تعظيم الله، لا نفسها. هي متواضعةٌ: رغبتها الوحيدة أن تصْبِحَ أمةَ الرب (راجع لو 1 / 38، 48). هي تُدركُ بأنّها سَتُساهمُ في خلاص العالمِ لا بتنفيذِ مشاريعِها الخاصةِ، بل بوضعِ ذاتها بالكامل لتحقيقِ مبادراتِ الله. مريم إمرأةُ الرجاءِ: فقط لأنها تُؤمنُ بوعودِ الله وتَنتظرَ خلاصَ إسرائيل، يُمْكِنُ للملاك أن يأتيها ويَدْعوَها إلى خدمةِ هذه الوعودِ الحاسمة. مريم إمرأةُ الإيمان: "هنيئاً لكِ يا مَن آمنتِ" تقُولُ لها إليصابات (راجع لو 1 / 45). إنَّ تسبحةَ العذراءِ — صورةُ روحِها — منسوجةٌ كليَّاً بخيوطِ الكتاب المقدسِ، بخيوطِ كلمةِ الله. هنا نَرى كَيفَ أن كلمةَ الله قد غَدَتْ بالنسبةِ لها بيتاً تَدخل وتخرجُ فيه بكلِّ عفويّّة. هي تَتكلّمُ وتفكّرُ بكلمةِ الله؛ كلمةُ الله قد أصبحت كلمتها، وكلمتَها تصدر عنْ كلمةِ الله. هنا نَرى كَيفَ أنَّ أفكارَها تَتوافقُ مع أفكار الله، وإرادتها هي واحدة مع إرادة اللهِ. وبما أنّها مملوءة بشكلٍ كامل من كلمةِ الله، هي قادرة أَنْ تُصبحَ أمَّ الكلمةِ المتجسّد. أخيراً، مريم هي إمرأةٌ تُحبُّ. وكَيْفَ لا تكُونُ كذلك؟ بما أنّها مؤمنة وهي بالإيمانِ تفكِّرُ أفكار الله وتريدُ ما يريدُ الله، هي لا تَستطيعُ إلا أَنْ تكُونَ إمرأةً تُحبُّ. هذا ما نستشفّه من خلالِ تصرّفاتها الهادئةِ، كما تخبرنا أناجيلُ الطفولة. نَراه في رقّتها التي تَعْرفُ بها حاجةَ الأزواجِ في قانا وتُعلنُها ليسوع. نَراه في التواضعِ الذي به تقبلُ أن تتوارى أثناء حياةِ يسوع العلنيّة، مدركة بأنّه على الإبن أَنْ يُؤسّسَ عائلةً جديدةً وأنَّ ساعةَ الأمِّ ستأتي فقط في لحظة الصليبِ، التي سَتَكُونُ ساعةَ يسوع الحقيقية (راجع يو 2 / 4؛ 13 / 1). عندما سيهْربُ التلاميذ، وسَتَبْقى مريم تحت الصليبَ (راجع يو 19 / 25 ـ 27)؛ لاحقاً، في العنصرة، سَيَكُونون هم أنفسهم مجتمعينَ حولها بإنتظارِ الروح القدس (راجع أع 1 / 14).

42. إنَّ حياةَ القديسين ليست محدودةً في سيرتِهم الدنيويةِ لكنها تتضمّنُ وجودَهم وعَمَلهم في الله بعد الموتِ أيضاً. في القديسين يُصبحُ واضحاً: أن من يَقتربُ من الله لا يبتعدُ عن البشرِ، بل يُصبحُ حقاً قريباً منهم. هذ لا يَظهرُ جلياً في أحدٍ كما في مريم. إنَّ كلمةَ الربِّ المَصْلُوبِ  لتلميذه — ليوحنا ومن خلالِه لكلِّ تلاميذِ يسوع: "هذه أمّكَ!" (يو 19 / 27) — تتجدَّدُ دائماً عبرَ التاريخ. لقد أصبحَت مريمْ أمّ جميعِ المؤمنين حقاً. إلى حنانها الأموميّ ونقاوتِها وجمالها العذراويين، يلتجأُ البشرُ من كلِّ أنحاءِ العالمِ وفي كلِّ الأوقاتِ، في حاجاتِهم وتطلّعاتِهم، أفراحهم وآلامهم، في لحظاتِ وحدتهم وفي مساعيهم المشتركةِ. فيختبرون دائماً عطيّةَ طيبتِها والحبِّ اللامتناهي الذي ينبعُ من أعماقِ قلبِها. إن شهادات الإمتنانِ، التي تعود إليها مِنْ كُلّ قارةٍ وثقافة، هي اعترافٌ بذلكَ الحبِّ الصافيِ الذي لا يسعى وراء ذاتِه بل وراءَ خيرِ الجميع. تُظهِرُ تقوى المؤمنينَ أيضاً الحَدْسَ الذي لا يُخطأ بأنَّ مثل هذا الحبّ ليس مستحيلاً: هو كذلك بفضلِ الإتحادِ الحميم مَع الله، الذي به يُصبح الله حاضراً بشكلٍ كاملٍ في الإنسان — هو شرطٌ يُمكِّنُ كلَّ مَن شَربَ مِنْ ينبوعِ حبِّ الله أَنْ يُصبحَ بدورِه ينبوعاً منه "تتدفّقُ أنهار الماءِ الحيِّ" (يو 7 / 38). تُظْهِرُ مريمُ العذراءُ والأمُّ، لنا ماهيَّةَ الحبِّ ومِن أين يَستمدُّ أصولَهُ وقوَّتَه المتجدّدةَ على الدوام. بين يديها نستودعُُ الكنيسةَ ورسالتَها في خدمةِ المحبة:

أيتها القديسة مريم، أمّ الله،

أنتِ أعطيتِ العالمَ نورَهُ الحقيقيِ،

يسوعُ، إبنك ـ إبن الله.

لقد سلَّمتِ نفسَك بالكاملِ لدعوةِ الله

فأصبحتِ ينبوعاً للخيرِ المتدفّق منه.

أظهري لنا يسوعَ. قودينا إليه.

علّمينا أن نعْرِفه ونحبّه،

كيما يُمْكِنُنا نحن أيضاً أَنْ نُصبحَ

قادرين على الحبِّ الحقيقيِ

ونكونَ ينابيعَ ماءٍ حيٍّ

في وسطِ عالمٍ متعطّش.

 

 أعطيت في روما، بقرب القدّيسِ بطرس، في 25 كانون الأولِ، في احتفال ميلادِ الرب، سَنَةِ 2005، الأولى لحبريتنا.

البابا بندكتس السادس عشر

الترجمة العربية نقلاً عن: موقع الموسوعة العربيّة المسيحيّة: نؤمن بإله واحد (أطلب الموقع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] راجع: Jenseits von Gut und Böse, IV, 168.

[2] X, 69.

 [3] R. Descartes, Œuvres, ed. V. Cousin, vol. 12, Paris 1824, pp. 95ff

[4] II, 5: SCh 381, 196

[5] نفس المرجع، 198.

 [6] راجع Metaphysics, XII, 7.

[7] راجع ديونيجي الآريوباغي المنحولة، في الأسماء الإلهية IV, 12-14: PG 3, 709-713 حيث يدعو الله في نفس الوقت eros & agape.

 [8] Plato, Symposium, XIV-XV, 189c-192d

 [9] Sallust, De coniuratione Catilinae, XX, 4
[10] راجع III, 6, 11: CCL 27, 32. إعترافات القديس أغسطينوس.

 [11] VIII, 8, 12: CCL 50, 287. في الثالوث

 [12] راجع I Apologia, 67: PG 6, 429.
[13] راجع
Apologeticum, 39, 7: PL 1, 468.
[14]
Ep. ad Rom., Inscr: PG 5, 801.

 [15] راجع De officiis ministrorum, II, 28, 140: PL 16, 141. القديس أمبروسيوس.

 [16] راجع Ep. 83: J. Bidez,L\’EmpereurJulien. Œuvres complètes, Paris 19602, v. I, 2a, p. 145.

  [17] راجعCongregation for Bishops, Directory for the Pastoral Ministry of Bishops Apostolorum Successores (22 February 2004), 194, Vatican City 2004, p. 213.

. [18]مدينة الله IV, 4: CCL 47, 102

 [19] راجع دستور رعائي فيالكنيسة في عالم اليوم "فرح ورجاء"، 36.
[20] Congregation for Bishops, Directory for the Pastoral Ministry of Bishops Apostolorum Successores (22 February 2004), 197, Vatican City 2004, p. 217.

[21] يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي، المؤمنون العلمانيون (30 ك1، 1988)، 42: AAS 81 (1989), 472.
[22] راجع
Doctrinal Note onSome Questions Regarding the Participation of Catholics in Political Life (24 November 2002), 1: L\’Osservatore Romano, English edition, 22 January 2003, p. 5. مجلس العقيدة والإيمان.
[23] تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 1939.

 [24] المجمع الفاتيكاني الثاني، رسالة العلمانيين، 8.
[25] نفس المرجع، 14.
[26] راجع
Congregation for Bishops, Directory forthe Pastoral Ministry of BishopsApostolorum Successores (22 February 2004), 195, Vatican City 2004, pp. 214-216.
[27] يوحنا بولس الثاني، المؤمنون العلمانيون، (30 ك1، 1988)، 41:
AAS 81 (1989), 470-472.
[28] راجع رقم 32:
AAS 80 (1988), 556.
[29] راجع رقم 43:
AAS 87 (1995), 946.

 [31] راجع Congregation for Bishops, Directory forthe Pastoral Ministry of BishopsApostolorum Successores (22 February 2004), 196, Vatican City 2004, p. 216.

 [31] راجع Pontificale Romanum, De ordinationeepiscopi, 43.
[32] راجع قانون 394 مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، قانون 203.
[33] راجع الأرقام: 193 ـ 198، 204 ـ 210.
[34] راجع نفس المرجع، 194، 205 ـ 206.

 [35] Sermo52, 16: PL 38, 360

 [36] Sulpicius Severus,Vita SanctiMartini, 3, 1-3: SCh 133, 256-258.