قراءة تاريخية للحركات الصليبية (1096-1270) الأب/ أنطون فؤاد

قراءة تاريخية للحركات الصليبية

(1096-1270)

الأب/ أنطون فؤاد

مقدمة

لا شك أن الحركات الصليبية (الحملات الصليبية) كانت ولا زالت من أكثر نقاط العلاقة بين الغرب والشرق سخونة، ولأن استخدام الكلمة حالياً –سواء من جماعات العنف السياسي أو من حكومات الشرق الرافضة للتغيير- أصبح مرادفاً فقط للحركات الاستعمارية.

ولأن مناهج التاريخ في مدارسنا مسيسة مديِّنة (أي ذات صبغة سياسية و دينية) تصاغ بما يخدم مصالح السلطة دائماً، فلا شك ستظل هذه الحركات غامضة مغلفة بإطار من السلبية. وستظل أجيالنا تتوارث أن كلمة حروب صليبية لا تعني سوى رغبة الغرب في استعمار الشرق.

لذلك فكرت في كتابة هذا المقال بشكل تاريخي، أأمل فيه الحيادية لإظهار دوافع وتفاصيل ونتائج هذه الحملات، دون إغفال النقاط المظلمة فيها، لكن دون تجني فلى ما فيها من نقاط مضيئة.

 لماذا حركات وليست حملات

أستخدم كلمة "حركة صليبية" لأنها نتيجة لعدة حركات روحية في الغرب، فبعد عصور من الدمج بين الكنيسة والدولة سواء مع الإمبراطورية الكارولنجية[1]، أو مع الإمبراطورية الجرمانية[2]، وبكل ما فيه من تكبيل لحرية الكنيسة أحياناً، وعدم وضوح الفصل بين الأمور الروحية والزمنية.

لذا بدأت في الكنيسة عدة إصلاحات هدفت إلى

1. تحرير الكنيسة من قيود الثراء المادي الذي طغى احياناً على روح المسيح الفقير.

2. الفصل بين الأمور الزمنية والروحية بمعنى الفصل بين سلطات الإمبراطور الزمنية وسلطة تدبير شئون الكنيسة الروحية.

3. العودة إلى الوحدة المسيحية، أي الأهتمام بوحدة جسد المسيح (الكنيسة) بعد أن نتج عن الصراعات الزمنية إنشقاقات روحية .

4. إصلاح حياة الإكليروس على كل المستويات لتكون شهادة لحياة المسيح المثل والنموذج.

5. الاهتمام بتوصيل كلمة البشارة لكل الخليقة، أولاً للمسيحيين الذين فتر أيمانهم، ثم للخليقة أجمع.

أول هذه الحركات الإصلاحية هي حركة الإصلاح الرهباني المسماة بالكلونية[3]، ثم حركة إصلاح البابا غريغوريوس(المسماة بالإصلاح الغريغوري)[4].

كنتيجة لهذه الإصلاحات الروحية والإدارية للكنيسة برزت حياة يسوع المسيح الأرضية كمثال ونموذج لحياة المسيحي، وبالتالي أصبح للإرض التي عاش عليها بسوع حياته ورسالته مكانة هامة في قلوب المؤمنين، فسعوا للحج إليها. كذلك طرح سؤال مهم: أمن التقوى أن يصمت العالم المسيحي حيال كون أرض المسيح وقبره في أيدي غير المسيحيين (غير المؤمنين حسب الخطاب الكنسي وقتئذاً)

وقد لا يعرف البعض أن التفكير في تحرير قبر المسيح كان قد بدأ مع الإمبراطور هنري الثالث[5]، وأيضا كان أحد النقاط الهامة في أجندة البابا غريغوريوس السابع، قبل أن يوجه البابا أوربانوس الثاني دعوته في 1095 (سنتعرض لها بالتفصيل فيما بعد).

ولعله قد وضح لك عزيزي القارئ لماذا استخدام كلمة حركة وليست حملة: فهي حركة روحية قادت إلى تنظيم حملات عسكرية.

ولننتبه أن فتح ملف الحملات الصليبية يستدعي أن يبذل القارئ شيئاً من الجهد، ليتفهم أفكار ذلك الزمان ويدرك أن كنيسة العصر الوسيط استطاعت أن تلبي ما كان العالم يقتضيه في تلك الأيام. أذاً يمكننا القول أن الحركات الصليبية هي أولاً وقبل كل شئ حركة كنسية، أتخذ الكرسي الروماني مبادرتها ، ولكن لو لم توافق دعوة البابا حاجات العالم المسيحي في ذلك الوقت لما لاقت مثل ذاك الصدى.

 

البابا أوربانوس الثاني والدعوة إلى تحرير مدينة المسيح

 

\"\"

(البابا أوربانوس الثاني يوجه ندائه لتحرير قبر المسيح)

 

تظهر الحركة الصليبية التي دعا إليها البابا أوربانوس الثاني[6]،بمظهر"الحرب العادلة" التي تشن على غير المؤمنين لإغاثة مسيحي الشرق، وتستكمل بزيارة إلى الاماكن المقدسة.

ذلك أن سقوط أورشليم في أيدي السلاجقة عام 1087، وما ترتب عليه من مضايقات ونهب وسبي للحجاج المسيحيين إليها- فاق ما كان يتعرضون له سابقاً-، جعل العالم المسيحي ينتبه لتقصيره بترك المدينة في أيدي غير المسيحيين، وجعل إمبراطور القسطنطينية الكسيس الأول (1088-1099)يشعر بخطر هؤلاء السلاجقة القادمون نحو القسطنطينية، فتوجه لبابا روما طالباً نجدة مسيحي الشرق[7].

في سينودسي بياتشنتسا وكلرمونت (بفرنسا) عام 1095 قام البابا أوربانوس الثاني بتوجيه ندائه" اسلكوا طريق القبر المقدس، أنتزعوا هذا البلد من أيدي تلك الشعوب البغيضة (السلاجقة) وأخضعوه لقوتكم… ومن كانت له الإرادة للإقدام على هذا الحج، فليرسم صليب الرب على جبهته أو صدره…"نادى كل الأمراء والفرسان الأوربيين بالحج المسلح نحو الشرق لإنقاذ إخوتهم المسيحيين، واتفق أباء مجمع كلرمونت على إقرار إعفاء جميع اللذين سيذهبون إلى أورشليم من عقوباتهم الزمنية، وحث البابا الإكليريكيين والعلمانيين على السواء على "حمل الصليب"

الحملات الصليبية

ثمان حملات عسكرية خرجت من أوربا متوجهة نحو المشرق، بدأت زحفها في 1096 وكفت عنه في 1270. أطلق عليها الغرب "الحملات الصليبية" أو "جنود المسيح" أو "جيش القديس بطرس" أو "الحجاج المسلحين" و أطلق عليها المسلمون "حملات الفرنجة"[8]. باركت الكنيسة بعضها، وطوبت بعض أبطالها، ووقفت معترضة على البعض الآخر وحرمت القائمين عليها.

ثمان حملات رسمية تخللتها حملات غير رسمية، كان منها ما هو أجدي نفعاً من الجيوش الجرارة، وأنتهى بعضها بمآسي تدمي القلوب.

 وفيما يلي عزيزي القارئ سنقوم بجولة تاريخية لقراءة هذه الحملات كل على حدة، سنقف أمام بعضها كثيراً وسنمر مروراً سريعاً على البعض الآخر.

الحملة الأولى (1096-1099)

أ. الحملة الشعبية

كان المطلوب في نظر البابا أوربانوس الثاني، يقتصر على حملة صغيرة من الفرسان المسلحين، يعدهم بفوائد روحية ومادية. لكن سرعان ما وجد نداء البابا أصداء في قلوب عدد كبير من الأشراف والفرسان الذين التفوا حول بعض الأمراء في فرنسا وإيطاليا.

 قبل تحرك الحملة الرسمية سبقتهم حملة شعبية بقيادة بطرس الناسك، فسلكت طريق أورشليم بدءًِ من أبريل 1096، تهجمت هذه الحملة على اليهود أثناء مرورهم بالأصقاع اليهودية بحجة أن أجدادهم مسؤولون عن موت المسيح، كما مات عدد كبير من أفراد هذه الحملة أثناء مرورهم بالمجر وبالاراضي البيزنطية، وصل بقية هؤلاء الفقراء (الغوغاء) إلى القسطنطينية ومعهم نسائهم وأولادهم. كانت هذه الحملة تقريباً بلا سلاح يذكر، لذا كان من السهل أن يوقع السلاجقة بهم على طريق نيقية في 21 نوفمبر 1096، ولم يبق منهم سوى بعض الأحياء الذين انتشلتهم بعض المراكب البيزنطية واعادتهم إلى القسطنطينية.

 ب. الحملة الرسمية

تحركت هذه الحملة بقيادة أمراء وفرسان من فرنسا والمانيا وايطاليا وأيضاً بعض الأمراء النرمانديين، نحو القسطنطينية وعقد معهم الإمبراطور ألكسيس الأول أتفاقاً يقضي أنه في حال الاستيلاء على بعض الأراضي، تعود التي كانت بيزنطية إلى الإمبراطورية، ويشرف أمراء الغرب على سائر الأراضي المستولى عليها بصفتها إقطاعاً من قبل الإمبراطور؛ على أن يتعهد الإمبراطور بتموين الحملة ، واقسم الجميع على ذلك قسم ولاء.

باشرت الحملة حصار نيقية إلى أن استسلمت للبيزنطيين في 19 يونيو 1096، ثم هزمت الحملة جيوش السلاجقة في دوربلة. وصلت الحملة أمام أنطاكية في أكتوبر 1097، وفي ذلك الوقت أنشأ بودوان في الرها الدولة الصليبية الأولى. أستمر حصار أنطاكية من نوفمبر 1097 حتى يونيو 1098 إلى أن دخلوها بخدعة، وأسس بوهمند (النورمندي) حول أنطاكية الدولة الصليبية الثانية (إمارة أنطاكية).

من هنا تبدأ الخلافات بين أمراء الحملة والإمبراطور البيزنطي الذي رأى تعاظم أطماع الأمراء الغربيين في تأسيس إمارات متناسين معاهدتهم معه.

بعد الإستيلاء على أنطاكية أظهر الأمراء نوع من الفتور في استكمال مسيرتهم لتحرير القبر المقدس، لكن حماسة الفرسان والجنود – الذين يضعون تحرير قبر المسيح كهدف ديني أمام أعينهم- دفعهم إلى تجديد الزحف نحو أورشليم في يونيو 1099.

كانت أورشليم قبل ذلك بعدة أشهر قد أنتقلت من أيدي السلاجقة إلى سلطة الفاطميين، وكانت المدينة محصنة تحصيناً جيداً، وكان عدد الصليبيين لا يتجاوز 12000 جندي، أقتحموا المدينة عنوة في 15 يوليو 1099، وأهلكوا اليهود مع المسلمين على السواء ونهبوا المدينة قبل الذهاب للسجود أمام قبر المسيح.

تم تأسيس أمارة أورشليم ولقب أميرها غودفرا دي بويون بحامي القبر المقدس (بناء على طلبه) بعد أن رفض لقب أمير لأن أمير المدينة الوحيد هو السيد المسيح، كما رفض وضع تاج على رأسه.

حدث بعد ذلك أن كثيراً من المحاربين بعد دخول المدينة وزيارة القبر المقدس، شعروا أن مهمتهم قد أنتهت فعادوا إلى بلادهم تاركين في المدينة حامية قليلة ، ومع مرور الوقت تحولت أورشليم ألى مملكة.

يتضح لنا من قرائتنا لهذه الحملة الفرق بين الجنود والفرسان الذين مازالت أصداء نداء البابا أوربانوس الثاني في قلوبهم، وبين الأمراء الذين أغرتهم فتوحاتهم إلى تكوين إمارات غربية في الشرق.

 \"\"

 (خريطة توضح الحملتين الأولى والثانية)

 

الحملة الثانية (1147-1149)

سقطت مدينة الرها عاصمة الإمارة الصليبية الأولى في يد نور الدين زنكي ، أتابك الموصل، في 24 ديسمبر 1141، كما خضع أمير أنطاكية ريمون دي بواتييه إلى سلطة الإمبراطور البيزنطي نتيجة الضغط الذي مورس عليه من قبله. لذا في نهاية 1145 استنجد بعض الرهبان الأرمن بالبابا أوجنيوس الثالث[9]، الذي نادي بحملة صليبية، فتحرك لها لويس السابع (ملك فرنسا) وكنراد الثالث(إمبراطور جرمانية)، وكان لوعظ القديس برنردس أكبر الأثر في خروج هذه الحملة.

أما عن سير هذه الحملة، فقد رفض الإمبراطور البيزنطي مانويل الأول كومنينس التعاون مع الحملة _ واضعاً خبرة جده ألكسيس الأول أمام عينيه_ فتعاون مع سلطان إيقونيوم ضدهم مما جعل عبور أسيا الصغرى للصليبيين كنزول القبور بأرجلهم.

سحق الأتراك الجبش الجرماني في دوريلة، فلم تنج سوى ربع قوته، وابحر لويس السابع إلى أنطاكيا، ثم غادر إلى أورشليم لاحقاً بكنراد الثالث وانطلقا سوياً في حملة صوب دمشق فهزمتهما قوات نور الدين، فعاد الإمبراطور الجرماني إلى الغرب في سبتمبر 1148، أما لويس السابع فبقى بأورشليم حتى عيد الفصح 1149ثم عاد إلى فرنسا، وهكذا فشلت الحملة الثانية ولعل السبب كما رآه بعض المعاصرين لها هو فشلها في ضم الفقراء ذوي الإيمان الحار إليها.

الحملة الثالثة (1189-1192)

الفترة ما بين 1148-1187 عرفت القوات الغربية في الشرق كثيراً من الهزائم على يد قوات نور الدين أمير الموصل وحلب، الذي لجأ إلى الخطاب الديني لتعبئة الجماهير، فاعتبرها حرباً ضد الكفار ونوعاً من الجهاد المقدس لنصرة الإسلام[10].

لما مات نور الدين في 1174، قام صلاح الدين بجمع القوات المسلمة جمعاء لمحاربة الإفرنج (الصليبيين)، وهزمهم في موقعة حطين ،واستولى على أورشليم في اكتوبر1187 وهدم كنيسة القيامة، مما دفع البابا كليمنس الثالث[11] إلى دعوة الأمراء لإنقاذ أورشليم من أيدي المسلمين من جديد. أنضم للحملة عام 1188 أعظم ملوك وأباطرة الغرب وهم : فريدريك بربروس (إمبراطور جرمانيا)، ريتشارد قلب الأسد (ملك إنجلترا)، فليب الثاني أوغست (ملك فرنسا).

هزم فريدريك الأتراك في إيقونيوم، ولكن عند وصوله إلى أبواب سورية غرق في أحد أنهار قليقية في 10 يونيو 1190، ولم يصل من جيوشه إلى أورشليم سوى عدد قليل. بينما أبحر فيليب أوغست على الأسطول الجنوي، ووصل إلى أبواب عكا فحاصرها ، ثم أنضم إليه ريتشارد قلب الأسد –الذي كان قد استولى على جزيرة قبرص أثناء ابحاره إلى عكا_ فاستوليا كلاهما عليها. عاد ملك فرنسا إلى بلاده _ نتيجة بعض المشاكل الداخلية في فرنسا_ تاركاً ملك انجلترا في مواجهة صلاح الدين، الذي هزمت قواته على يد الصليبيين في أرصوف ويافا، وتغلغل ريتشارد عدة كيلومترات داخل أورشليم، لكنه لم يستطع استرجاع المدينة بسبب نقص قواته، فعقد معاهدة مع صلاح الدين في 2 سبتمبر 1192 ، قبل بها المسلمون أن تظل صور ويافا (إمارة عكا) في يد الصليبيين وأن يسمح للمسيحيين بالحج لأورشليم بحرية كاملة دون تعرض لهم ، ولكن بشرط أن يدخلوها بدون سلاح.

لا شك أن بقاء أورشليم في أيدي المسلميين لم يكن هو ما هدفت إليه هذه الحملة، ولكن لابد أن نذكر أن هذه الهدنة قد حفظت سلامة المنشآت المسيحية من التدمير سواء على يد صلاح الدين أو خلفائه.

الحملة الرابعة (1202-1204)

ستظل هذه الحملة أكثر النقاط المظلمة في تاريخ الحركات الصليبية، ذلك لأن السيف الذي جرد للدفاع عن مسيحي الشرق عاد لينغرس في صدورهم، والجيوش التي زحفت نحو القسطنطينية لحمايتها عادت فهدمت أسوارها ودكت حصونها، وبدلاً من أن تكون هذه الحملات حجر الزاوية لوحدة المسيحيين خلفت هذه الحملة من الضغائن والأحقاد ما يصعب على الزمن محوه.

حينما تم إنتخاب البابا إينوقنطيوس الثالث[12] وضع على قائمة إهتماماته تنظيم حملة جديدة لإسترداد أورشليم، والتعاون مع مسيحي الشرق بغية عودة أتحاد الكنيسة. كلف البابا الراهب بطرس الكبوي بالدعوة لها والأشراف على تنظيمها، فبدأ الكهنة يطفون البلدان مذكرين المسيحيين بقيمة أرض المسيح وأهمية عدم ترك مدينة الرب في أيدي غير المؤمنين.

اقتنع بعض الفرسان الشمبانيين والفلمنكيين بالخروج في الحملة، وانتخبوا بينهم تيبو دي شمبيان رئيساً لهم، وبعد وفاته تم انتخاب بونيفاقيوس دي مونفرات. ذهب وفد من قادة الحملة في 1201 للتفاوض مع تجار البندقية على نقل الجيوش إلى مصر [13]، ونصت المعاهدة معهم على نقل الجيوش وتموينها لمدة سنة كاملة مقابل دفع 85000 مارك لهم، وتعهدت البندقية بتسليح خمسين سفينة والمشاركة في الحملة شريطة المشاركة في الغنائم.

أثناء عسكرة الحملة قرب البندقية، طلب أمير البندقية من قادة الحملة معاونته في استرجاع مدينة زارة من ملك المجر، ووضع هذا كشرط للتعاون معهم، بعد تردد قبل القادة والجنود هذه المشاركة، وتحركت هذه الحملة أول أكتوبر 1202 نحو زارة واسترجعتها بعد شهرين. ولما علم البابا بهذه الحملة، حرم الصليبيين والبندقيين على السواء، وجدد البابا التذكير بهدف هذه الحملات.

وصل إلى زارة في نفس الوقت، الأمير البيزنطي ألكسيس آنج يستنجد بأمراء الغرب لإستعادة حقه في عرش القسطنطينية، والذي أغتصبه عمه ألكسيس الثالث، وتضمن عرضه تقديم 200000 مارك للحملة، وتموينها لمدة سنة كاملة، وإتمام الاتحاد بين القسطنطينية وروما، ودعم الحملة بعشرة آلاف فارس يبقى منهم بشكل دائم خمسمائة كحامية دائمة في أورشليم.

عارض المفوض البابوي هذا الاتفاق، إلا أن الأمراء لم يبالوا باعتراضه، وانحرفت الحملة نحو القسطنطينية. وقبل أن يصل أعتراض البابا، كان الصليبيون قد استولوا على كورفو، وحاصروا القسطنطينية في 24 يونيو1203. دخل الصليبيون المدينة وهرب ألكسيس الثالث، وأعيد العرش إلى الإمبراطور إسحق الثاني وأبنه ألكسيس آنج، لكن الشعب كره أن يعود الإمبراطور بمعاونة جيوش غريبة، فانقلبوا عليه وخلعوه هو وأبنه وولوا بدلاً منه الإمبراطور ألكسيس الخامس، الذي رفض التعاون مع الحملة، مما دفع أمرائها لمهاجمة المدينة حتى يمكنهم الوفاء بتعهداتهم لتجار البندقية.

دخل الصليبيون المدينة وهاجوا قوات ألكسيس الخامس الذي هرب، وأنتشروا في المدينة وخربوها ودمروها ونهبوا ذخائرها. ثم أقاموا بطريركاً لاتينياً عليها، وحولوها إلى مملكة لاتينية أستمرت حتى 1261.

ولا شك أن أطماع الأمراء المادية، ورغبة تجار البندقية في الاستيلاء على كل المواني الشرقية لتيسير تجارتهم، كانت السبب الأساسي لهذا التحول المخزي لسير هذه الحملة، والذي ترتب عليه جرح غائر في العلاقة بين الكنيستين الغربية والشرقية، لذا كان على الحملات التالية محاولة العدول عن هذا الإنحراف والعودة إلى روح الحملة الأولى.

 

 حملة الصبيِّة (1212)

احدى الحملات غير الرسمية، بل وغير المنطقية أيضاً، لكنها أكثر الحملات تعبيراً عن الروح الحقيقية للحركات الصليبية. ذلك أن آلافاً من الصبية والصبايا، تحركوا من فرنسا تحت قيادة "راعي الغنم" إسطفانوس، ومن ألمانيا تحت قيادة "ابن العاشرة" نيقولا دي كولونيا، صوب الأراضي المقدسة لتحريرها والحج إلى قبر المسيح، واضعين أمامهم صورة خيالية لأورشليم مستوحاة من صورة أورشليم السمائبة كما ترد في سفر الرؤيا.

تحركت الحملة في يونيو 1212، متوجهة نحو البحر لعبوره نحو المشرق، لم يستطع الأهل أو الإكليروس الوقوف لمنع مثل هذه الحملة، والتي كان يحركها إيمان قوي وثقة في تدخل الرب لتحقيق أهدافها. وصل الفريقان عند البحر، اسطفانوس عند شواطئ مرسليا، ونيقولا عند شواطئ جنوى. مات عدد كبير من أولئك الصبية سواء من الجوع أو مهاجمة الوحوش وأيضاً اللصوص، أو عودة البعض إلى ذويهم وخم يتجرعون مرارة الفشل.

وجد نيقولا صداً من أهالي جنوى، ولم يعاونه أحد للإبحار للشرق، فعاد إلى روما ليستنجد بالبابا الذي نصحهم بالرجوع لذويهم. أما اسطفانوس فوجد عرضاً من بعض التجار لتوفير السفن _من هنا تبدأ المأساة_ فبدأ رحلته مع رفاقه، لكن تحطمت بعض هذه السفن بالقرب من شواطئ سردينيا وما تبقى منها قاده التجار نحو شواطئ أنطاكيا والإسكندرية حيث باعوا بقية الصبية كعبيد[14].

بالرغم من عدم منطقية هذه الحملة إلا أنها تظهر لنا بوضوح أن الحملات الصليبية لم تكن في الأساس حركة استعمارية، لكنها حركة دينية تقوية تهدف إلى تحرير قبر المخلص.

 

الحملة الخامسة (1217-1221)

رأى البابا إينوقنطيوس الثالث في قيام السلطان العادل ببناء قلعة على جبل ثابور في 1215 نوعاً من تحرش المسلمين بالممالك الصليبية، فدعا إلى تسيير حملة جديدة، وأدرج هذه الحملة على رأس جدول أعمال المجمع اللتراني الرابع[15]، لتنظيمها، ولضمان عدم إنحرافها عن هدفها نتيجة الحاجة للتمويل، أمر البابا أن يخصص عشرون بالمائة من دخول الكنائس والأديرة لتمويل الحملة.

 بعد نياحة البابا إينوقنطيوس الثالث في 1216، خلفه البابا أونوريوس الثالث [16]، الذي أمر بتسيير الحملة كما رأى سلفه. فتحركت الحملة المكونة من جيوش مجرية وجرمانية نحو عكا، تحت قيادة ملك المجر أندراوس الثاني، ودوق النمسا ليبولد السادس. فشلت الحملة في الاستيلاء على جبل ثابور، لذا عاد المجريون إلى بلادهم، ولكن وصول مدد للجيوش الجرمانية أنعش أمالها فتوجهت إلى دمياط- قلب الدولة الأيوبية- على أمل الاستيلاء على مصر ثم على أورشليم (كما كان مخطط للحملة الرابعة).

 لما رأى السلطان الكامل عدم قدرته على هزيمة هذه الجيوش، عرض عليهم أن يرد لهم أورشليم كاملة مقابل إنصرافهم من مصر، لكن المندوب البابوي رفض هذا الإتفاق. استطاع الصليبيون دخول دمياط والاستقرار بها في 1220، وفي مايو 1221 قرر الصليبيون التوجه للقاهرة، فتقدموا حتى المنصورة، لكن تحطم سدود النيل حال بينهم وبين الوصول للقاهرة، وأجبروا على الإنسحاب وقبول هدنة مع السلطان شريطة إخلاء مصر نهائياً

 وهكذا وبسبب قصر نظر المندوب البابوي_ والذي كان دوره الاساسي المحدد من قبل البابا هو الرعاية الروحية، دون التدخل في الأمور الحربية أو الإدارية_ وخوفه من خداع المسلمين، أضاع فرصة أسترجاع أورشليم بشكل كامل.

 

 حملة الفقير (زيارة القديس فرنسيس الأسيزي) (1219)

حقق القديس فرنسيس الأسيزي[17] ما كان قد انتواه ولم يتمه في 1214، وهو الخروج كمرسل نحو غير المؤمنين لتوصيل كلمة الحياة لهم، فخرج مع الحملة الصليبية الخامسة، ووصل معها إلى مصر ليس بهدف المشاركة كمقاتل ولكن بهدف مقابلة السلطان الكامل لهدايته لكلمة الحياة، سمح السلطان بمقابلة هذا الفقير ذو الأثمال البالية، وسمع منه_ ولكن دون تحقق أمنية فرنسيس_ وسمح له ولجماعته بالتجول (بين المسيحيين) في أورشليم ومصر.

وهكذا حققت هذه الزيارة، التي قام بها هذا الفقير، لوحدة الكنيسة أكثر من جميع الحملات المسلحة، حيث أن وجود مرسلين من الأباء الفرنسيسكان في الشرق ساعد على إتحاد جماعات من مسيحيي الشرق مجدداً مع الكرسي البابوي، مكونة الكنائس الكاثوليكية الشرقية من جديد أو محيية البقية الباقية أمينة للإتحاد بروما في الشرق.

 

الحملة السادسة (1228-1229)

 جدد البابا أونوريوس الثالث الدعوة لخروج حملة جديدة لتحرير أورشليم، واستجاب الإمبراطور الجرماني فريدريك الثاني للدعوة، وخطط أن يتوجه نحو مقر السلطان _ المشغول بحروب كثيرة مع جيرانه، والذي تقتضيه الأمور بعدم التورط في حرب جديدة_ وكله أمل أن يحسم بالتفاوض ما لم تحققه الحرب. أطال الإمبراطور الاستعداد ولم يخرج في الموعد المحدد وهو أغسطس 1227، خاصة وأن وباء الطاعون حصد عدداً ليس بقليل من جيشه.

 حينما أنتخب البابا غريغوريوس التاسع[18]، خلفاً للبابا أونوريوس، جدد الدعوة له بالخروج بالحملة، ولكن لما شعر بعدم رغبته أو تباطئه قام بحرمه. بعدئذا أنطلق الإمبراطور في يونيو 1228 ومعه اربعون سفينة حربية نحو الأراضي المقدسة، وتحقق له ما أراد فتفاوض السلطان معه حتى وصلا لمعاهدة أبراماها في فبراير 1229، تقضى بأن يرد السلطان لمملكة أورشليم اللاتينية بيت لحم والناصرة وصور وصيدا وبعض القرى في طريق أورشليم، على أن يسمح للمسيحيين والمسلمين على السواء بحرية الخروج من أو الدخول إلى المدينة، وكذلك يكون للجميع الحق في بناء دور العبادة سواء المسيحية أو الإسلامية. ولا شك أن الشرط الآخير هذا هو ما دفع بطريرك أورشليم ورهبانيات الفرسان (سيرد عنها الحديث لاحقاً) إلى الاعتراض على هذه المعاهدة،

 توج فريدريك نفسه ملكاً للمدينة _دون موافقة البطريرك_ . ثم عاد إلى أوربا في يونيو هن نفس العام، وقبل البابا أن يرفع عنه الحرم الكنسي. وهكذا نجحت هذه الحملة في أسترجاع أورشليم بالتفاوض ودون إراقة دماء، وكان يمكن أن تكون بداية صفحة جديدة للعلاقات بين المسيحية والإسلام.

 

الحملة السابعة (1249-1254)

 لم تستمر الهدنة التي عقدها فريدريك مع السلطان الكامل طويلا، ففي 1244 تحالف السلطان الصالح أيوب مع القوات الخوارزمية، واستولى على أورشليم وعسقلان ومناطق الجليل، ولا شك أن الصراعات التي

كانت قد نشبت بين الحاميات اللاتنية، الموجودة بهذه الاماكن، قد عجلت بهذا السقوط في أيدي المسلمين.

 أطلق البابا أينوقنطيوس الرابع[19] في مجمع ليون عام 1245 الدعوة لحملة جديدة، وحدد نظم تمويلها وتنظيمها كالحملة السابقة .لبى لويس التاسع ملك فرنسا نداء البابا، فخرج بحملة في 1249. وصلت حملته إلى دمياط، واحتلها بلا مقاومة في 6 يونيو 1249، وبدلاً من مهاجمة الإسكندرية، أو قبول عرض السلطان بمبادلة أورشليم بدمياط، قرر الملك مهاجمة القاهرة، ونشبت معركة عند المنصورة لم تأت بنتيجة سوى أعطاء فرصة للمسلمين لقطع سبل رجوع الصليبيين إلى دمياط أو للتقدم نحو القاهرة. فاستسلم الصليبيون في أبريل 1250، ودفع لويس التاسع فدية كبيرة لتحرير جنوده.

توجه لويس التاسع إلى الأراضي المقدسة وأقام بها حتى عيد الفصح 1254، ثم عاد إلى بلده دون مكاسب حربية أو تفاوضية. ولا شك أن فشل هذه الحملة كان له أكبر الآثر في إنطفاء روح الحركات الصليبية في نفوس ملوك وأمراء الغرب، ذلك أن لويس التاسع كان آنذاك أعظم ملوك أوربا وأقواهم، وفشله يعني استحالة نجاح غيره.

 

الحملة الثامنة (1270)

 بعد أن هزم بيبرس –سلطان المماليك- المغول، بدأ في مهاجمة القلاع المسيحية الواحدة تلو الآخرى، فسقطت قيصرية في يده في 1265، ويافا وانطاكية 1268، لذا قرر لويس التاسع مجدداً الخروج بحملة لاسترجاع هذه القلاع، لكن أخاه تمكن من أقناعه بمهاجمة تونس أولاً. توجهت الحملة ونزلت بتونس في يوليو 1270، وهناك مات لويس التاسع ، فأبرم أخوه معاهدة مع حكام تونس، وعادت الجيوش إلى أوربا، بأستثناء مجموعة صغيرة توجهت تحت قيادة الإنجليزي إدوارد إلى الأراضي المقدسة، لكنها لم تنجح سوى في عقد هدنة مع السلطان الظاهر بيبرس.

 وهكذا بموت لويس التاسع (القديس) فقدت الكنيسة أخر الملوك المتحمسين لمثل هذه الحركة الهادفة لتحرير قبر المسيح. وقد حاول البابا غريغوريوس العاشر[20] في 1274 تسيير حملة جديدة، لكن أحد من أمراء أوربا لم يستجب له. وهكذا أنتهت هذه الحركات ولم تعد سوى ذكرى وتاريخ تتوارثهم الأجيال المتلاحقة.

 

رهبانيات الفرسان

 رهبانيات الفرسان هي إحدى النتائج المترتبة على الحركة الدينية والروحية المنتجة للحملات العسكرية، تكريس من نوع جديد، يجمع بين روح الفروسية (فخر العصور الوسطى) والتقوى الدنية الراغبة في التكريس الكامل لله.

 ثلاث حركات رهبانية ، متقاربة زمنياً من حيث النشأة، جمعها هدف واحد هو تحرير قبر المسيح، مشتركة جميعها في حفظ النذور الرهبانية الثلاثة (الفقر- العفة- الطاعة)، إلى جانب وضع أنفسهم في خدمة الحجاج القادمين للأراضي المقدسة، أو الجرحى والمرضى من الفرسان المحاربين في الحملات العسكرية.

 وفيما يلي سأقوم بأستعراض سريع لكل من هذه الرهبانيات على حدة:

 أولاً: الرهبنة اليوحناوية

 رهبانية نسائية، أسست عام 1099 بهدف الخدمة في مستشفى القديس يوحنا بأورشليم. أصبحت مؤسسة رهبانية ذات نظام محدد في 1120، متخذين زياً خاصاً لهم (رداء أسود مزين بصليب أبيض)، نالوا أعتراف الكرسي الرسولي في نفس العام.

 انتقلوا عام 1291_حسب أمر الكرسي الرسولي_ إلى قبرص، وفي عام 1530 انتقلوا إلى مالطا ويعرفوا اليوم باسم رهبانية مالطا.

ثانياً: رهبانية الهيكليين

 تأسست عام 1118 على أيدي ثمان فرسان فرنسيين، طلبوا من الأسقف السماح لهم بالإقامة في بقايا هيكل سليمان أو قريباً منه (من هنا أتت تسميتهم)، والتزموا بزي تكريسي عبارة عن رداء أبيض مزين بصليب أحمر. تم الأعتراف بهذه الأخوية في 1127، والتزمت بقوانين القديس أوغسطينوس. في عام 1139 أصدر البابا أينوقنطيوس الثاني[21] براءة بابوية (كل عطية صالحة) منح بموجبها الهيكليين إمتيازات كثيرة.

 إنتشرت الأخوية بشكل سريع، وصلت في منتصف القرن الثالث عشر إلى أربعة عشر إقليماً (أربعة بالأراضي المقدسة وعشرة بأوربا). استولى الأتراك في 1291 على إمبراطورية الشرق، ففقد الهيكليين علة وجودهم بها، فعادوا إلى أوربان فخشي الملك الفرنسي فليب الجميل من سطوتهم وغناهم، فأكال لهم التهم، وصادر أموالهم، ونصب لهم المحارق العلنية، واستطاع في أبريل 1312 إستصدار براءة من البابا كليمنس الخامس[22] بعنوان "صوت صارخ" بحل الرهبانية نهائياً.

ولا شك أن هذا العنف في مواجهة الرهبانية والقرار السريع بحلها هما المصدر الأساسي لكل هذه الأساطير التي تنسج حول الهيكليين حتى اليوم.

ثالثاً: رهبانية التيوتونيين[23]

 تأسست على يد مجموعة من التيوتونيين ما بين عامي 1189-1190، كإحدى الأخويات التمريضية بمستشفيات المعسكرات الصليبية. تم الاعتراف بهم عام 1198، والتزمت الرهبانية بقوانين خاصة تحافظ على الفضائل الثلاثة،متميزين بالداء الأبيض مع الصليب الأسود.

عام 1525 انضم الرئيس العام للرهبنة ألبرتو دي براندبرجو لإحدى الحركات البروتستانتية، ولا يعرف بعد هذا التاريخ أي شئ عن هذه الرهبانية.

 

الصليبيون في كتابات المؤرخين المسلمين

 \"\"

 (صورة توضيحية للجنود الصليبيين توضح الملابس والتسليح)

 

 كما سبق أن وذكرت لم يستخدم المؤرخون المسلمون كلمة "حروب صليبية" وإنما استخدموا دائماً كلمة "حروب الفرنجة" أو "حملات الفرنجة". ولن أتناول في هذا الجزء من مقالي سرداً جديداً لسير الحملات لانه سبق لنا الحديث عنه، ولكني سأتناول وصف هؤلاء المؤرخين لفرسان الفرنجة، لاستخلاص بعض الحقائق منه، وسيكون اعتمادي على بحث قام به الدكتور قاسم عبده قاسم استاذ التاريخ بجامعة المنوفية عن "صورة المقاتل الصليبي في المصادر العربية"[24]. ونبدأ هذا الوصف بكلمات "العماد الكاتب الأصفهاني"[25]، الذي عاصر معظم حروب صلاح الدين الأيوبي ضد الفرنجة فيقول "والكفار قد خشنت عرائكهم واتسعت ممالكهم وقاتلوا جنداً ورعية، واستباحوا الأنفس… وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون… فظاظ غلاظ، جهنميون كلامهم شرر… خلق الله الخلق من طين وخلقهم من حجارة". ولا شك أن أول ما يسترعي الأنتباه في هذا الوصف هو النعت بالكفر، والذي يظهر رؤية كل فريق من المتحاربين للآخر، أما الإسهاب في توضيح قسوة الصلبين فلا شك أنه أمر طبيعي في وصف العدو.

 أما الصورة الثانية فيرسمها لنا كل من ابن شداد[26]، والعماد الأصفهاني، وتصور لنا ما لقبر المسيح من مكانة في قلوب جنود الفرنجة تبرر بسالتهم في الدفاع عن المدينة المقدسة، ويسرد لنا بن شداد الصورة التي تناقلها الجنود الفرنج عما فعله المسلمون بالقبر المقدس فيقول "تصورا القبر المقدس وعليه فارساً مسلماً قد وطئ قبر المسيح، وقد بال الفرس على القبر". ولعل هذا الوصف يظهر لنا جلياً الدافع الديني القوي الذي يحرك هؤلاء الجنود للدفاع عن المقدسات المسيحية.

 ويركز المؤرخ أسامة بن منقذ[27] على شجاعة وبسالة الفرنج فيقول "سبحان الخالق الباري إذا خبر الإنسان أمور الفرنجسبح الله تعالى وقدسه، ورأى فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لاغير…"، ويصف أحد فرسانهم كمدح لشجاعته فيقول "احد شياطينهم". ومن الغريب أن نرى عدواً يمتدح شجاعة خصمه، إلا أن تكون هذه الشجاعة تفوق كل سبل إنكارها.

 لن أطيل الاستشهاد بكلمات المؤرخين العرب، لانها في مجملها متشابهة، ولكن يهمني الوقوف على حقيقتين من خلالها:

أولها: جهل كل من الفريقين بالآخر ونعته بالكفر _على ما في هذا للمسلمين من مخالفة لقول القرآن بالنسبة لأهل الكتاب_.

الثانية: وضوح قوة الدافع الديني المحرك للجنود الصليبيين حتى بالنسبة لمؤرخي الاعداء.

 

الخاتمة

 في ختام استعراضنا للحركات الصليبية، وما نتج عنها من حملات عسكرية، علينا الآن استخلاص نتائجها في النقاط التالية:

1.    العلاقة بين المسيحية والإسلام

 لا يمكن القول إن العلاقة بين المسيحية والإسلام تشوهت كنتيجة لهذه الحملات، فالعلاقة مشوهة منذ ان بدأت جيوش المسلمين تخرج من الجزيرة العربية لتقتحم البلاد المسيحية الواحدة تلة الآخرى، حتى وصلت إلى قلب أوربا (اسبانيا- جنوب إيطاليا –حدود فرنسا)، وليس من المنطق أن نطالب أوربا بمعاملة ودية لمن يأتي إليها في ثوب الحرب. إذاً يمكنا القول أن الحملات الصليبية لم تشوه العلاقة بين المسيحية والإسلام لكن زادتها تشويهاً فقط.

2.    العلاقة بين الكنيسة الغربية والكنائس الشرقية

 أيضاً لا يمكنا الإدعاء بعلاقات ودية سابقة للحملات، ألم تنفصل كنيسة الإسكندرية عام451؟ ألم ينفصل جزء كبير من مسيحي سوريا عن روما في 451 أيضاً؟ ألم ينفصل بطريرك القسطنطينية معلناً عدم الشركة مع روما في 1054؟ إذاً لم تكن العلاقة ودية من قبل، ولكن لا شك أن هذه الحملات _ وخاصة الرابعة منها_ جعلت الهوة أكثر إتساعاً، وتركت وصمة على جبين الكنيسة ذاك أن السيف يوماً رفع لقتل الأخ لا لنجدته.

3.    العلاقات الداخلية

أ‌.      الكنيسة والدولة : لا شك أن وجود مشروع مشترك، يجمع الكل، يخلق نوع من الحمية التي ينتج عنها تقارب، لأن كل فريق يظل محتاجاً للآخر، فالملوك يحتاجون إلى بركة البابا لتسيير جيوشهم، وإلهاب حمية الجنود، وإضفاء صفة الشرعية على حملاتهم. والبابا يحتاج الملوك والأمراء، لانهم يملكون الجيوش التي تحقق أهدافة المقدسة (تحرير قبر المسيح).

ب‌.  أنتجت هذه الحركات للكنيسة أنواع من التكريس الرهباني _كما سبق وبينا_ ، كذلك خلقت نوع من التجديد الروحي لدى المؤمنين.

ج‌.   قضت هذه الحملات تقريباً على الصراعات داخل أوربا، إذ أتحد الجميع لتحقيق هدف واحد.

 بقى عزيزي القارئ أن نرى هذه الحملات بعيون عصرها وليس حسب رؤانا اليوم، فلك أن تتخيل أنك فارس، تتباه دائماً بشجاعتك في الحروب، وفجأة تجد أخاك واقفاً على بابك مسخناً بالجراح يطلب نجدتك، ماذا ستفعل؟ أو أنك أب لكل المسيحيين ورأيت كل المقدسات المسيحية تنتهك، وأبنائك يقتلون، ماذا ستفعل؟

 وللأخوة جميعاً أقول ما أسهل أن نحرف التاريخ وأن نفتري عليه، فإذا جردنا الحركات الصليبية من كل قيمة روحية، وصورناها فقط كمشروع إستعماري، فبماذا سننعت الجيوش الخارجة من الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن السابع لتدمر وتبيد وتقضي على الناس، لا لشئ سوى أنهم يعتنقون عقيدة مخالفة لعقيدتها.

 

 المراجع

 August Franzen, Breve Storia della chiesa, Brecia, 2004.

 Jean Richard, La Grande Storia delle crociate, Newton,Roma,1999.

 Klaus Schatz, Storia dei Concili,Bologna, 1999.

عدد من المؤلفين،تاريخ الكنيسة المفصل ج 2، صبحي حموي اليسوعي (ترجمة)، دار المشرق، بيروت، 2002.

ميشيل يتيم-أغناطيوس ديك، تاريخ الكنيسة الشرقية،المكتبة البولسية، بيروت، 1991.

جان كمبي (الأب)، دليل إلى قراءة تاريخ الكنيسة، دار المشرق، بيروت، 1994.

الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، المجلة التاريخية المصرية، المجلد السابع والعشرين، القاهرة، 1981.

 

 

 




1 نسبة إلى شارلمان مؤسس الإمبراطورية الفرنكية (786-814)

2 أسسها أتون الكبير (936-973) واستمرت حتى 1803

3. نسبة إلى دير كلوني، الذي انشأ ما بين عامي (908-910) وقاد مدبيريه حركة الإصلاح هذه حتى عام (1156)

4. البابا غريغوريوس السابع (1073-1085)، قام بإصلاح عام في الكنيسة سعى يه للقضاء على السيمونية، وتنظيم حياة الكهنة وتكوينهم، وتحرير الأساقفة والهنة من سلطة الأمراء، إلى جانب الإصلاح الليتورجي أيضاً.

5. تم طرح فكرة تحرير قبر المسيح من الإمبراطور هنري الثالث عام 1046 خلال أحد المجامع المحلية (مجمع سوتري)

6. البابا أوربانوس الثاني (1088-1099)

 بين القسطنطينية وروما عام 1054 والمعروف بالإنقسام الكبير.

8. سنعود فيما بعد للحديث عنها حسب كتابات بعض المؤرخين المسلميين

9. البابا أوجنيوس الثالث (1145-1153)

10. نلاحظ أنه نفس الخطاب الديني لدى كل من طرفي النزاع

11. البابا كليمنس الثالث (1187-1191)

12. البابا إينوقنطيوس الثالث(1198-1116)

13. كانت خطة الحملة تهدف إلى مهاجمة مصر للقضاء على السلطان أولاً ثم الزحف للإستيلاء على أورشليم.

14. ظل بعض هؤلاء الصبية في مصر حتى حضرت حملة لويس التاسع الذي قام بشراء من وجده منهم وردهم معه إلى أوربا.

15. المجمع اللتراني الرابع(بدأ هذا المجمع في أول نوفمبر 1215، واستمر لمدة ثلاثة أسابيع)

16. البابا أونوريوس الثالث (1216-1227)

17. القديس فرنسيس الأسيزي(1181-1226) مؤسس رهبانية الأخوة الأصاغر (الفرنسيسكان)، المعروفة كإحدي رهبانيات الصدقة في العصور الوسطى.

18. البابا غريغوريوس التاسع (1227-1241)

19. البابا أينوقنطيوس الرابع (1243-1254)

20. البابا غريغوريوس العاشر (1272-1276)

21. البابا أينوقنطيوس الثاني (1130-1143)

22. البابا كليمنس الخامس (1305-1314)

23. التيوتوني هو أحد الأجناس الجرمانية ولان المجموعة الأولي لهذه الجماعة كانت من نفس الجنس فقد أخذوا هذا الاسم

24. قاسم عبده قاسم(دكتور)،صورة المقاتل الصليبي في المصادر العربية،بحث منشور في المجلة التاريخيثة المصرية، 27 لسنة 1981.

25. العماد الكاتب الأصفهاني،الفتح القسي في الفتح القدسي،نقلاً عن المرجع السابق.

26. أبن شداد،النوادر السلطانية،نقلاً عن قاسم عبده قاسم، المرجع السابق.

27. أسامة بن منقذ،كتاب الاعتبار،نقلاً عن المرجع السابق.