الوكيل الذكي بقلم: الأب بشير بدر

إنجيل القدّيس لوقا 13/1-16 : وقالَ أَيضاً لِتَلاميذِه: «كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ وكانَ لَه وَكيلٌ فشُكِيَ إِلَيه بِأَنَّه يُبَذِّرُ أَموالَه . فدَعاهُ وقالَ له: ما هذا الَّذي أَسمَعُ عَنكَ ؟ أَدِّ حِسابَ وَكالَتِكَ، فلا يُمكِنُكَ بَعدَ اليَومِ أَنْ تَكونَ لي وَكيلاً. فقالَ الوكيلُ في نَفْسِه: ماذا أَعمَل ؟ فَإِنَّ سيِّدي يَستَرِدُّ الوَكالَةَ مِنّي، وأَنا لا أَقوى على الفِلاحة، وأَخجَلُ بِالاستِعطاء. قد عرَفتُ ماذا أَعمَلُ حتَّى إِذا نُزِعتُ عنِ الوَكالَة، يَكونُ هُناكَ مَن يَقبَلونَني في بُيوتِهم. فدَعا مَديني سَيِّدِه واحِداً بَعدَ الآخَر وقالَ لِلأَوَّل: كم عَلَيكَ لِسَيِّدي ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ زَيتاً: فقالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فاجلِسْ واكتُبْ على عَجَلٍ: خَمسين. ثُمَّ قالَ لآخَر: وأَنتَ كم عَليكَ ؟ قال: مِائةُ كَيْلٍ قَمحاً. قالَ له: إِلَيكَ صَكَّكَ، فَاكتُبْ: ثَمانين. فأَثْنى السَّيِّدُ على الوَكيلِ الخائِن، لِأَنَّه كانَ فَطِناً في تَصَرُّفِه. وذلِك أَنَّ أَبناءَ هذهِ الدُّنيا أَكثرُ فِطنَةً مع أَشباهِهِم مِن أَبْناءِ النُّور. «وأَنا أَقولُ لَكم: اِتَّخِذوا لكم أَصدِقاءَ بِالمالِ الحَرام، حتَّى إِذا فُقِدَ قَبِلوكُم في المَساكِنِ الأَبَدِيَّة. مَن كانَ أَميناً على القَليل، كانَ أَميناً على الكثيرِ أَيضاً. ومَن كانَ خائِناً في القَليل كانَ خائِناً في الكَثيرِ أَيضاً. فَإِذا لم تَكونوا أُمَناء على المالِ الحَرام،فعَلى الخَيرِ الحَقِّ مَن يَأَتَمِنُكم ؟ وإِذا لم تكونوا أُمَناءَ على ما لَيسَ لَكم، فمَن يُعطيكُم ما لَكم؟ «ما مِن خادِمٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لِأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلَزمَ أَحَدَهما ويَزدَرِيَ الآخَر. فأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِله ولِلمال.

 
نتأمّل في هذا النص مَثَل "الوكيل الخائن" الذي يُقال عنه بأنه "المثل الأكثر تعقيداً بين أمثال يسوع". لا شك بأنه مَثَل محرج ومشكّك ويثير عِدّة تساؤلات حول صيغته ومعانيه. ولكننا إذا تأملناه متجاوزين حدود النص الأدبي، فإننا سنجد فيه معاني إنجيلية قوية وغير متوقّعَة. فهذا أحد أمثال الخلاص الذي يروي قصة رب عمل يكتشف أن وكيل أعماله يسيء الإدارة ويخونه فيرسل في طلبه. وحين يقف الوكيل أمام سيّده ليؤدي حسابه، يسمع من سيّده كلمات صارمة: "ما هذا الذي أسمع عنك؟ أدِّ حساب وكالتك، فلا يُمكنك بعد اليوم أن تكون لي وكيلاً". لم يحاول الوكيلُ أن يدافع عن نفسه، فالغش واضح وطرده من وظيفته أمر محتّم.
وعندما أدرك الوكيل جدّيّة الأمر وصعوبة الموقف، أظهر حكمة توافق هذا الوضع الدقيق والحرِج الذي وجد نفسه فيه. لم يسيطر على تفكيره سوى تأمين مستقبله، لأنه يعرف كم هو عاجز أمام الحالة الصعبة الجديدة التي ستُفرض عليه. فقال الوكيل في نفسه:" ماذا أعمل؟ فإنّ سيدي يسترد الوكالة مني، وأنا لا أقوى على الفلاحة، واستحيي من الاستعطاء". حـكّ رأسَه وجاء بفكرة مُبدِعة لحماية مستقبله. واكتشف أن الطريقة الوحيدة هي اكتساب الأصدقاء. فكّر جيداً وانطلق إلى العمل. فدعا مديني سيّده وخصم من ديونهم كمّياتٍ ملحوظةً تساوي آلاف الدنانير، وبذلك جعل مديني سيدِّه مدينينَ له. أي أنه أصلح الغش بغش آخر، وبدل أن يُعدّل الحسابات زادها تعقيداً. ولكن الأدهى من كل ذلك أن رب العمل، بدل أن يحكم على هذا الوكيل الذي جاوزت إمكانية الضرر به كل معقول، امتدح فعلته وأثنى عليه. كيف نفهم هذا الثناء وهذا الإعجاب ؟ تعالوا نفسّر ذلك ونفهم المقصود بهدوء…
المثل هو فن خطابي يحاول أن يصدم السامع. فالراوي (يسوع) يضخّم الأمور حتى اللامعقول لكي يلفت أبناء الظلمة أشد حكمة من أبناء النور الانتباه. ولا يظنَّن أحد أن يسوع يمتدح خيانة الوكيل نفسها. فيسوع لا يمتدح عمل الشر بحد ذاته، بل يمتدح الشطارة أي الذكاء والفطنة في التملّص من المأزق: شطارة الوكيل في الاعتناء بنفسه من خلال خصم ديون الآخرين الذين سيعتنون به بدورهم عندما يكون بحاجة إليهم. وربما نتساءل لماذا استعمل يسوع هذه الطريقة "المعوجّة" لكي يعلّمنا فكرة مستقيمة؟ علينا أن نعلم أن الاعوجاج يعلّم الصّح. وأن يسوع غالبا ما صوّر الآب السماوي في أمثاله بصور ليست مثالية ليقول لنا ما يلي:" إذا كان هذا الإنسان السيئ يعمل هذا (الخير)، فما أحرى وأولى بأبيكم السماوي أن يفعله لكم".
لنعد إلى الوكيل الخائن ولنكتشف بدقّة ما الذي أُعجب يسوع فيه. لم يتركنا يسوع كثيرا في حيرتنا. فليس لهذا المثل علاقة بخيانة الوكيل وإنما بؤرة المثل في ما توصّل إليه يسوع نفسه بقوله:" إنّ أبناء هذه الدنيا، أكثرُ فطنة مع أشباههم من أبناء النور". أي أن الأشرار أشطر في عمل الشر من الصالحين في عمل الخير وكأن يسوع يقول لنا : " كونوا أذكياء في عمل الخير كما أن الأشرار أذكياء في عمل الشر". أي كونوا أذكياء في البحث عن ملكوت الله وخدمته من أجل خلاصكم. لذلك فدعوة يسوع هنا هي أن نقلّد الوكيل في فطنته وليس في خيانته.
درس هذا النص هو: المقدرة على الخروج من الوضع السيئ بذكاء. فيسوع يحب الأذكياء الذين يستعملون عقولهم ويستنبطون طُرقاً تنفع لنجاتهم. لقد وجد الوكيل الخائن هنا مخرجا ساعده في حل مشكلة المستقبل. هذا الحل كان اكتشافه للآخرين. فحتى تلك اللحظة، كان دائما يفكّر بنفسه وبمصالحه، ولكن عندما أصبح مستقبله على كف عفريت نسي نفسه وفكّر بالآخرين الذين سيكونون له خشبة النجاة. اكتشف أهمية وحقيقة الصداقة. فتحرّك بسرعة نحو الآخرين، لأنه اكتشف أن خلاصه يمر من خلال انفتاحه عليهم.
في تلك الحقيقة درس لكل واحد منا. فلا أحد فينا حساباته مزبوطة! ولا يوجد إنسان على الأرض يستطيع أن يكون ضميره مرتاحا في مسألة المحاسبة أمام الله. وإذا ألقى الله نظرة على حساباتنا اليوم، أفلا ترتعد فرائصنا؟ لذلك فهذا المثل يعلّمنا كيف نجد مخرجا. كيف نغش في الحسابات بطريقة إيجابية ومقبولة من الله. فالله يحب "كل التجاوزات" التي نرتكبها في سبيل محبّة القريب ومصلحة خلاصنا. فليس المطلوب منا أن ننتظر إلى آخر لحظة – مثل ذلك الوكيل الخائن – لكي نُظهر ذكاءنا لترتيب حساباتنا أو مخاوفنا الأبدية. فالوقت لكي نكون أذكياء هو الآن. لقد استعمل الوكيل الخائن/الذكي ما ليس له وما لا يستطيع الاحتفاظ به، لكي يحصل على ما يحتاجه لاحقاً. لقد صنع صداقات واشترى شراكات مستقبلية بمال لا يخصّه. لذلك فلنستثمر الآن كُلَّ مصادرنا الروحية والدنيوية التي ليست لنا لأنها مؤقتة وزائلة على نفس النمط لكَي نكسب الشيءِ الوحيدِ والدائم الذي يَهـمُّ ويبقى في النهاية: ملكوت الله.
تعال، امسك دفترك. كم لك على ذلك القريب المزعج المديون لك بالكثير؟ اجلس واخصم 50% من غضبك وعتبك عليه. تعالي أنتِ وافتحي دفتركِ. كم لك على تلك الجارة أو تلك الصديقة؟ وكم تتصوّرين أنها نمّامة وشريرة ؟ اجلسي واخصمي 30% من غضبك عليها ومن طعنك بها. هذا هو المقصود النهائي من هذا المثل: أن نغفر ونخصم للآخرين من الديون المترتبة لنا عليهم. أن نقلّل من هفواتهم في نظرنا وأن نقلّص من مساوئهم وأن نمحي زلاتهم من عقولنا وألا نفكّر بحقوقنا عليهم بقدر ما نفكّر بالمحبة المطلوبة منا نحوهم. بهذا فقط سنصلح الحسابات السيئة بيننا وبين الله الذي سيُثني علينا إذا " بعزقنا المحبة " على الجميع. يوماً ما سنسمع نحن أيضاً كلمات السيّد: " أدّ حساب وكالتك". فلنجتهد لكي نسمع منه أيضاً كلمات الثناء: " أحسنت أيها الوكيل الصالح، كنت أميناً في القليل، فسأُقيمك على الكثير. أدخل نعيم سيدك".
نقلاً عن الموقع الصديق "أبونا"