لماذا ألغت الفاشية الفاتيكان

قامت الفاشية في ايطاليا اوائل القرن الماضي على قاعدة تعبئة الشباب وردم العقول وتفظيظ المشاعر والافئدة. ورفعت شعار "صدق. أطع. لا تناقش". واعتمدت، في غياب اي منحى فكري او ايديولوجي، تأليه الرجل. ومن اجل تأليهه كان لا بد اولا من إلغاء الكنيسة ومحاربة المعتقد وتدمير الاكليروس وتسخيف الفاتيكان كمرجع روحي او زمني. ولذلك كان اول ما فعله "الدوتشي" رفع الفاتيكان عن روما، وابعاده عن العمل الوطني والاجتماعي. وبكل علانية ارادت الفاشية ان تكون هي "الليتورجيا" الجديدة، او العقيدة البديلة، الساعية الى طرد كل التعاليم السابقة من عقول الايطاليين. وازاحت العلم الوطني واعلام الاقاليم ورفعت علمها. وعلقت النشيد الوطني وفرضت نشيدها وتحيتها والوانها. واستدارت نحو الاحزاب الانسانية الروح، كالاشتراكية، وراحت تنقض عليها بالتهم. ومضت تقاتل الليبراليين ودعاة الحرية والتعدد والتسامح. وفي النهاية قررت طرد الله واستبداله بالسوبرمان الفائق القدرات والطاقات، المختصر في ذاته العلية ما كان وما سوف يكون. وهكذا احلت العبادة لـ"الدوتشي" الذي حلق شعر رأسه علامة السطوة والتفرد. فهو لا يشيب ولا يصلع. انه بوذا ولكن بالدعوة الدائمة الى العنف والى الغاء كل شيء وكل احد آخر. يقول الاستاذ المحاضر .ب. بوسوورث ان "الدولة الفاشية تقوم على شيء واحد هو البروباغندا"، حيث ما تراه ليس مهما ولا اهمية لاي حقيقة. فالحقيقة الوحيدة هي الالفاظ. والتعليم الوحيد هو الاستاذ ميكيافيللي. الاخلاقية الوحيدة هي الافتراء مشروحا ومبررا. حتى الصور الدامغة لا تعود دليلا. النفي وحده هو الاثبات، وهو الدليل. والخيار الوحيد امامك هو ان تصدق. يقول بوسوورث: "اكثر الصور إلفة في تاريخ الفاشية هي صورة الديكتاتور يخطب في مناسبة او اخرى، خداه يرتجفان، وعيناه تدوران، وحركاته تشتعل غضبا، وكلمات تمتلئ كرها. كلها تبدو الآن صورا تهريجية من الماضي؟ لم يكن موسوليني، بشعره الحليق وفحولته، يريد ان يدب الرعب والاعجاب في الايطاليين، بل اراد ايضا ان يكون متميزا عن حليفه الفوهرر الذي حاول ان يميز نفسه بخصلة من الشعر ترخى على جبينه وشاربين مثل فرشاة الاسنان. وكاد الشاربان يصبحان موضة المرحلة لو لم يحولهما شارلي شابلن مسخرة في افلامه الصامتة الضاحكة من البورجوازية الاميركية وحداثة النعمة. وفي غضون ذلك كان نصف شباب ايطاليا قد هاجر الى الجانب الآخر من الاطلسي هربا من رعونة الفاشية التي تحولت بعد الوصول الى الحكم اول طغيان عام. وهنا وللمرة الاولى تستخدم كلمة "التوتاليتارية" لوصف حالة من العصاب العام والديكتاتورية الجماعية التي خيل اليها انها اصبحت شريعة الارض والسماء، وانها نجحت في الغاء الكنيسة. كل شيء اصبح الدوتشي، كما اصبح كل شيء الفوهرر في المانيا. وتنافس المنافقون المألوفون في كل مكان. وبما ان الدوتشي كان صحافيا فاشلا ومغمورا قبل ان يصبح إله روما، فقد اصطف اترابه في جوقة واحدة. وكتب اوتافيو دينالي: "الثورة هو. وهو الثورة. روما حيث يكون الدوتشي، هي فيه ومعه، في روحه المقدسة، في نضالاته، في عذاباته، في آرائه، في ابداعاته الكثيرة". وكتب مهرج فاشل آخر: "انه العبقرية. انه العبقرية التي تحمل حسن الطالع الى الشعب الايطالي"! في المانيا كان مهرجان التأليه اشد فقاعة. فقال وزير العدل هانس فرانك ان "هتلر وحيد. هكذا هو الله. هتلر مثل الله". وقال الحزبي يوليوس شترايكر: "فقط في نقطة او نقطتين يلتقي هتلر والمسيح، لان هتلر اعظم بكثير من ان يقارن بمثل ذلك الصغير". وكانت تتلى في مدارس الاطفال الصلاة الآتية: "ايها الفوهرر الحبيب. نحبك مثل آبائنا وامهاتنا. وكما ننتمي اليهم ننتمي اليك. تقبّل في لدنك حبنا وايماننا إيها الفوهرر الحبيب". واما جوزف غوبلز سيد الاكاذيب ومبشّر العبودية فقد قال، بكل بساطة: "من هو هذا الرجل؟ نصف بشري نصف إله؟ المسيح حقا ام يوحنا المعمدان؟". علّم الحزب النازي اتباعه ان هتلر والمسيح صنوان، كلاهما حمل رسالة إلهية لانقاذ العالم. ويجب الا يغفل عنا ان هذا لم يكن رأي الحزب وحده. لقد اجتاح هتلر الانتخابات الالمانية. وفي الحالتين، ايطاليا والمانيا، كان المخدّر هو الزعيم وليس الحزب. فلم تكن هناك ايديولوجيا قابلة حتى للدرس، وخصوصا في مواجهة الاشتراكية او الماركسية التي قامت النازية لتدمرها. لقد انصاع شعبان من ارقى شعوب العالم، لسحر خطابي فارغ، وانصرفا الى الحروب والقتال على انهما شعبا الله: واحد يدمّر في ليبيا واثيوبيا ويحاول الغاء الاسلام، وآخر يبدأ حروبه في تشيكوسلوفاكيا بسبب عقدة تاريخية تقول ان والده كان لقيطا بدماء تشيكوسلوفاكية. كان هتلر يكره، اكثر من اي شيء آخر، الكهنة والمحامين. موسوليني كان يكره الكهنة. لقد كانوا يناقشون الوهيته وعصمته. او ربما كانوا يعرفون اكثر من سواهم في كراسي الاعتراف. وفيما رفع هتلر شعار الحياة للاقوى، دعا موسوليني اتباعه الى التسلح "الكتاب والبندقية إلها الفاشي العظيم" و"موسوليني دائما على حق"، و"العالم لنا". لم تكن مقدرة هتلر الخطابية او مقدرة موسوليني على التأله وحدهما السبب في انهيار مخيلة الايطاليين والالمان ومنطقهم. فقد كان تدهور الاوضاع في المانيا وايطاليا كل ما يريده الحزب الذي يطرح نفسه على انه "المنقذ". وكلما ضعفت البلاد، اشتدت الحاجة الى "رجل قوي". وسرعان ما بدأ الرجل القوي يتعالى على كل من وما حوله. فقد خاطب القضاة قائلا: "ايها السادة، لستم انتم من يصدر الاحكام علينا بل التاريخ. ان الالهة (بالمفرد) التي ترئس محكمة التاريخ الابدية سوف تمزق حكم هذه المحكمة وتبرئنا". طبعا كان يكذب. فقد كان يعرف سلفا طبيعة الحكم، وان جميع اعضاء المحكمة من الحزب، وسوف يكونون ليّنين. كل هذا الخواء كان ينتظر روائيا فاشلا يدعى جوزف غوبلز. دخل التاريخ على انه اكبر الهوائيين. يقول الدوس هاكسلي ان "البروباغندي هو الرجل الذي يحفر نهرا جاريا. اما حيث لا مياه فهو يحفر عبثا". لذلك مضى هتلر يقول: "ان الانسان لا يعيش بالمبادئ الانسانية ولكن فقط عبر اكثر اشكال الصراع وحشية". فقد كان من الاسباب ايضا انتعاش الفظاظة والانحطاط وسقوط الطبقة الوسطى في الدولتين وانهيار احزاب العقل وانتشار الازمات الاقتصادية. وقد وصل ثمن اصبع من النقانق في المانيا اوائل العشرينات الى اربعة مليارات مارك. وعندما اندفع الشباب الايطالي والالماني يغني خلف "القائدين" لم يكن احد يدرك ان احدهما سوف ينتهي معلقا من ساقيه هو وعشيقته، والثاني سوف يطلب من عشيقته ان تطلق النار على صدغها قبل ان يطلق النار على صدغه. كلاهما ترك بلدا ممزقا مليئا بالانين والكوارث والهزيمة. وبسبب ذكريات الفاشية نمت الشيوعية في ايطاليا حتى اصبحت اكبر حزب في الغرب. وفي المانيا انتحر رجال هتلر او فروا بثياب النواطير بعدما كانوا قد عزموا على تغيير العالم. وتبين في النهاية ان "محكمة التاريخ" لا تعرف كيف تكذب. فقد حذف تاريخ المانيا وايطاليا الاسمين من ذاكرة شعبيهما. ولم يبق بيت في ايطاليا او المانيا لم يثكله الفاشيون او يضربوه بمصيبة. ولم تبق كرامة على جبين. فقد خرجت نساء المانيا وايطاليا الجائعات الى استقبال وحوش الاحتلال والنصر، الجائعين الى الثأر والتنكيل. ومزق المحتلون بقايا المانيا وهيكلها العظمي. وتمزقت ايطاليا من تلقاء نفسها، ولكن ضمن وحدة غاريبالدي، فلم يتقاسمها الاحتلال ولم يقرر معاقبتها كما فعل ببلاد الراين. كان اول ما فعله الايطاليون والالمان، استعادة الله، من الشجرة التي علق عليها موسوليني والقبو المصفح الذي انتحر فيه هتلر. وعادوا يتضرعون الى السماء. وخرجوا يعيدون بناء ما دمّر. وكان المعماريون رجالا بسطاء مجهولين، لم يكن احد ليعرف بهم لو لم يضعوا تواقيعهم على ترميم النفوس والابنية على ضفاف الراين والتيبر.
النهار\\سمير عطالله\\17\\10\\07

"مختارات" الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع، بل هي آراء كتّابها فقط