رسالة البطريرك صباح بمناسبة الميلاد

القدس، 24 ديسمبر 2007 (zenit.org)

 ننشر في ما يلي رسالة بطريرك القدس للاتين ميشيل صباح لمناسبة عيد الميلاد

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء
كـل عـام وأنتــم بخيــر

1       "ظَهَرَ لُطفُ الله مُخَلِّصِنَا وَمَحَبَّتُهُ لِلبَشَر" (طيطس3: 4).
نحتفل بعيد الميلاد في الفرح المؤسَّس على رجائنا في أنَّنا سنرى في أرضنا هذه المقدّسة أيامًا أفضل، وذلك بقوة نعمة الله، وبقوّة مشاركتنا في صنع السلام وفي التضحيات التي يتطلَّبها. ولهذا، فإنّنا، في عيد الميلاد، نجدِّد إيماننا بمن آمنَّا به، أي بكلمة الله الذي صار إنسانًا، يسوعَ المولودِ في بيت لحم، أميرِ السلام ومخلِّص العالمين. صار إنسانًا ليعيدنا إلى الله خالقنا، لنعلم أنَّنا لسنا وحدنا وأنَّ الله لا يخذلنا ولا يتركنا وحدنا في مواجهة التحدِّيات المتعدِّدة في هذه الأرض المقدَّسة. إنّ الله معنا، ولهذا يبقى رجاؤنا حيًّا في وسط صعاب حياتنا اليومية تحت الاحتلال، وفي انعدام الأمن وفي الحرمانات الكثيرة الناجمة عنهما. ألله معنا، ليذكِّرنا بأنَّ وصيّة المحبّة التي تركها لنا يسوع المولود في بيت لحم ما زالت قائمة وما زالت تصلح لأيّامنا الصعبة: محبّتنا بعضنا لبعض ولجميع الناس. محبّة تقوم برؤية وجه الله في كلِّ إنسان من كلِّ ديانة وقوميّة. محبّة فيها القوّة والمقدرة على المغفرة، وهي في الوقت نفسه قوّة ومقدرة على المطالبة بكلّ الحقوق ، ولا سيّما تلك التي منحنا إيّاها الله، للأفراد وللجماعة معًا، مثل هبة الحياة والكرامة والحرّية والأرض. محبّة تقوم بأن يحمل بعضنا هموم بعض. محبّة هي عطاء ومشاركة مع جميع المحرومين والفقراء، حتى يعيشَ الجميع مِلءَ الحياة التي منحهم إياها الله، وتكونَ لجميعنا "الحياة الوافرة" التي جاء يسوع المسيح ليمنحنا إيّاها.

2       نحتفل بعيد الميلاد في هذا العام أيضا وما زلنا ننشد سلاما يبدو مستحيلا. إنّنا نؤمن أنَّ صنع السلام أمر ممكن. الفلسطينيون والإسرائيليون قادرون على أن يعيشوا معا بسلام، كلٌّ في أرضه، وكلٌّ ناعم بأمنه وكرامته وجميع حقوقه. ولكن، ليتحقَّق هذا، على المسؤولين أن يؤمنوا أيضُا بأنَّ الإسرائيليين والفلسطينيين متساوون في كلّ شيء، في الحقوق والواجبات. وأنّ طرق الله ليست طرق العنف لا من قبل الدولة ولا من قبل التطرُّف.   

المنطقة كلُّها مضطربة بالصراعات. في لبنان وفي العراق وهنا، يبدو أن قوى الشرِّ انفلتت وأنّها مصمِّمة على متابعة السير في طرق الموت والاستثناء والسيطرة على الآخر. وبالرغم من كل ذلك، إنَّنا نؤمن أنّ الله لم يخذلنا أمام تلك القوى، وأنّ كلَّ ما يحصل هو دعوة لكلِّ إنسان ذي نيَّة صالحة للدخول في طرق الله، حتى يقيم ملكوت الخير والصلاح، وحتى يؤكِّد على كرامة كلِّ إنسان واحترامه. ذلك أنَّنا نؤمن بأنّ الله صالح، وهو خالقنا وفادينا، ونؤمن بأنّه وضع صلاحه في قلب جميع خلائقه. فالكلّ قادرون على تثبيت الخير والصلاح في الأرض.

هناك جهد جديد للسلام في المنطقة بدأ قبل أسابيع. ولكنّ نجاحَه متوقِّف على توفُّر الإرادة الصادقة لصنع السلام. حتى الآن لم يكن سلام لأنه لم تكن هناك إرادة صادقة لصنعه، وكما قال إرميا النبي: "يَقُولُونَ سَلامٌ سَلام، وَلا سَلام" (إرميا 6: 14). القويُّ، الذي بيده كلُّ شيء، أي الفارض الاحتلال، هو الملزَم برؤية ما هو عدل وبامتلاك الشجاعة  لاتِّباع طرق العدل. إذذاك فقط يمكن أن نصل إلى السلام. "  اللهم هَبْ حكمك للملك، وهب عدلك لحكّامنا فيقضوا بالعدالة لشعبك   " (راجع مزمور 71: 1- 2).

3       سُمِع كلام في هذه الأيام عن إقامة دول دينية في هذه الأرض. في أرضنا هذه، وهي مقدَّسة للديانات الثلاث والشعبين القائمَيْن فيها، لا مجال لإقامة دول دينية، لأنَّ الدولة الدينية تنفي أو تضع في موضع أدنى المؤمنين أتباع الديانات الأخرى. أيّة دولة تستثني وتفرِّق وتسيطر لا تصلح للأرض التي جعلها الله مقدَّسة للبشرية كلِّها.

على القادة الدينيّين والسياسييّن أن يبدأوا هم فيتفهَّموا الطبيعة الشمولية لهذه الأرض. هو الله سبحانه الذي أراد أن يجمعنا فيها عبر التاريخ. وقداسة هذه الأرض لا تقوم باستثناء دين أو آخر، بل بمقدرة كلِّ ديانة، مع كل الاختلافات بين الديانات، على تقبُّل واحترام ومحبّة كلِّ سكّانها.

وتقتضي قداسة هذه الأرض ورسالتها الشمولية واجب استقبال حجّاج العالم، وكذلك القادمين إليها للإقامة فيها للصلاة أو الدراسة أو الخدمة الدينية لكل مؤمن من كل ديانة. منذ فترة طويلة، ونحن نعاني من قضية لم تجد حلا بعد، وهي الحصول على تأشيرات الدخول للكهنة وللرهبان والراهبات. وعلى جميعهم، بحكم إيمانهم،  التزامات في هذه الأرض وحقوق. حقٌّ للمسيحيين أن يوجدوا في هذه الأرض وأن يبقوا وأن يقوموا بالتزاماتهم الدينية فيها. وأيّة دولة تنشأ هنا يجب أن تعلم أنها ليست كمثل سائر الدول، بل عليها واجبات خاصة نابعة من قداسة هذه الأرض وطابعها الشمولي. كلُّ دولة هنا يجب أن تفهم أن هذه الأرض عهدة بين يديها، لتحترم وتؤيِّد رسالتها الشمولية، فتكون هي، كدولة، قادرة على الاستقبال المناسب لجميع المؤمنين من جميع الديانات.

4       أسأل الله أن تضيء نعمة الميلاد، أي كلمة الله الذي صار إنسانا، أذهان وقلوب حكّام هذه الأرض. ولمؤمنينا في كل أنحاء أبرشيتنا اسأل الله أن تساعدهم نعمة الميلاد على تجديد إيمانهم، فيعيشونه بصورة أفضل ويقومون بصورة أفضل بجمع التزاماتهم تجاه مجتمعاتهم.

كل عام وأنتم بخير.

+ البطريرك ميشيل صباح
القدس، 19/12/2007