احب الله ابناءه البشر واشفق عليهم بعد خطيئة آدم وحواء التي وضعت حاجزاًَ بين الله والبشر فقرر اقنوم الكلمة الازلي ان يصير واحدا من الناس يحيا حياتهم ويحمل عنهم آلامهم ويحتمل نيابة عنهم وزر الخطيئة، وعقابها الموت، وبموته هو يحييهم ويصالحهم مع الآب، بل ويرتب لهم الاسرار المقدسة، لفيض فيهم حياته الإلهية، لقد جاء يسوع إلى الناس ( لتكون لهم الحياة والحياة الافضل ) يو10:10 ، وجاء ايضاً ( ليخلص كل انسان في العالم ) يو3: 17 لقد جاء يسوع نوراً للعالم يو1: 9-10.
لذا فإننا إذ نحتفل بعيد الميلاد – ميلاد مخلصنا يسوع المسيح. فإننا نحتفل ونقرّ بتدبير الله الحكيم وعنايته بالبشرية، هو الذي يريد ان ’’ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون ( 1تيمو 2: 4 ) فالله هو الذي يحفظ ويرعي المسيرة البشرية، ونور روحه القدوس يضيئ للانسان الدرب، فالعالم كله يظلّ متعطشاً للحياة الآمنة وللسلام المستقرّ ولكنه لن يجد السلام الحقيقي إلاّ عند خالقه…. كما عبّر عن ذلك القديس اغسطينوس- بعد خبرة طويلة ومريرة بعيداً عن الله- إذ قال ( لقد خلقتنا يا الله ولن يرتاح قلبنا إلاّ فيك ).
لذا ينبغي ان يكون احتفالنا بعيد الميلاد المجيد – إقراراً بافضال الله علينا، وتجاوباً مع محبته الفائقة لنا – واستثماراً للوزنات التي سلمنا إياها بتجديد محبتنا له ( من كل القلب وكل الفكر وكل الذهن ) مت 19: 19 . وبتفعيل محبتنا للقريب كمحبتنا لنفسنا كما فعل السامري الصالح.
على المسيحي إذن ان تكون حياته على مثال حياة السيد المسيح- محبة وتولضعاً وتسامحاً ومغفرة. عليه ان يحيا بضمير يقظ امين. لنتامل بالاخص في هذه النقطة:
ميلاد المسيح دعوة لإيقاظ ضمير الانسان:
ولد المسيح في بيت لحم، في فلسطين، جاء مولده نوراً ايقظ ضمير إنسان عصره ( فترك متى كل شئ وتبعه ) لو5: 28 وجاد زكا العشار بنصف امواله للفقراء وعوّض كل من ظلمه اربعة اضعاف لو 19: 8 وجدد مولده الجاء في نفوس البسطاء والمؤمنين المتواضعين ( الرعاة ).. كما حرّك ضمير اصحاب السلطان والحكماء ( المجوس ).
ونحن في عيد الميلاد نردد مع يوحنا الحبيب في سفر الرؤيا ( تعال ايها الرب يسوع ). رؤ22: 20 ليجدد كل منا حياة ضميره المستقيم.
آمنت امنا مريم العذراء بان الله قد حقق وعده للإنبياء وتجسد الكلمة الالهي، وادركت ان المسيح ابنها هو النور الالهيّ الذي يضيئ في كل ضمير نوراً وسلاماً…
آمن يوسف النجار وهو يرى السرّ الالهي بين يديه امانة ووديعة، وادراك كيف يحقق الله وعده بطرق بعيدة عن الفهم والمنطق البشري…. الله صار انسانا، ليعيد بناء ضمير الانسان الذي مزقته الخطيئة وافسدته الانانية.
آمن الرعاة البسطاء وقد سمعوا الحان الملائكة ترتل ( المجد لله في الاعالي وعلى الارض السلام وفي الناس المسرة ) لو 2: 14 .
لقد ثبت لهم ان السماء لم تنسَ البشر، وان الله يهتم بكل انسان وبنوع خاص بالمؤمنين البسطاء الطيبين ( طوبى للانقياء القلوب فانهم يعاينون الله ) مت 5: 8 .
آمن المجوس، اهل البحث والعلم، ان الله الخالق بعث برسالة حية وبرسول للسلام فساروا في موكب للسجود لملك الملوك…
ولد المسيح في مجتمع ظالم قاسي، مزقة التعصب والتطرف، وسحقه الخوف والقنوط، لولا قلة من المؤمنين الذين كانوا ينتظرون مجئ المخلص وتحقيق الخلاص، الذين ثبتوا في رجائهم رغم الظروف العكسية، لان الرجاء الحقيقي هو في محبة الله ورحمته وافتقاده لشعبه….
احتقر الرومان شعوب الارض واستنزفوا ارزاقهم وعرقهم، فزالت دولتهم وزالت حضارتهم، لان كل حضارة لا تحترم ضمير الانسان ولا تعترف بالقيم الروحية تنهار وتزول لا محالة…
ولد المسيح في بيت لحم، لم يولد في هيكل اورشليم لانه جاء ليبني هيكل ضمير الانسان، ولم يةلد في قصر، ليكون منتمياً للطبقات الكادحة المخلصة المؤمنة، ولم يولد وسط العلماء لكي يعلم الانسانية ان العلم الحقيقي هو خبرة الانسان في ايمانه ومحبته ورجائه… ولد متجرداً من كل مظاهر الغني والرفاهية ليعلمنا ان سعادة الانسان تقوم في سلام الضمير وطاعة الله.
ميلاد المسيح دعوة ليقظة ضمير كل انسان!
فهل يستيقظ ضميرنا لنِدرك عظمة الرسالة التي دعانا المسيح ان نقوم بها، وسمو دعوة الحياة التي وهبها لنا الخالق، واحترام الانسان الآخر وكرامته وسمعته؟ وهل يستيقظ ضميرنا حتى لا ننجرف وراء الافكار والعادات الاستهلاكية ورغبة الثراء، فننظر الى اخينا الانسان في بلاد يطحنها الجوع، ويدمّرها التعصب الاعمى والحقد والانانية؟
هل يستيقظ ضميرنا فنبحث عن { قريبنا } الانسان الذي دعانا السيد المسيح الى { محبته كنفسنا }… والى اغاثته وافتقاده جائعاً مريضاً او محبوسا او مضطهداً او غريباً…
هل يستيقظ ضميرنا فنسارع الى مصالحة اخينا قبل ان تغرب علينا شمس النهار… وقبل ان نذهب الى الكنيسة لنقدّم القربان لله..
هل يستيقظ ضميرنا فنجتهد في ستر عيوب {اخوتنا} او في تقديم النصح بمحبة { اذا اخطا الينا نعاتبه معاتبة الاخ لاخيه المحبوب، فاذا لم يسمع الينا نصحب معنا شاهدين حكمين محبين له، والّ نلجا الى رجال الكنيسة…. ونقبل الحكم بخضوع ايماني وبتواضع امام الله..
ايها الاخ الحبيب، والاخت الفاضلة والانباء الاعزاء، لقد ولد المسيح المخلص، ضمير الانسانية، وروح المحبة ونور الحق، وميلاده هو دعوة لكي يستيقظ ضميرنا، فنحيا حياة ابناء الله فنصير اخوة الرب يسوع وهياكل مقدسة للروح القدس…. فنستحق ان نرث مجد ملكوت السموات.
كل عيد ميلاد وانتم جميعا في ملء النعمة والميلاد الجديد.. وكل عام ميلادي جديد وانتم في ملء الرضى والسعادة والسلام!!!
مطران مدن القناة وشرق الدلتا
الانبا / مكاريوس توفيق