عظة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر بمناسبة عيد لغطاس المجيد

الفاتيكان، 7 يناير 2007 (ZENIT.org).

 ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها الأب الأقدس بندكتس السادس عشر بمناسبة عيد الدنح المجيد في البازيليك الفاتيكانية.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

 نحتفل اليوم بالمسيح نور العالم، وبظهوره للأمم. في يوم الميلاد كان لسان حال الليتورجية  يقول: " Hodie descendit lux magna super terram" "اليوم حل النور العظيم في الأرض" (كتاب القداس الروماني). لقد ظهر هذا النور في بيت لحم، لخلية صغيرة من الأشخاص، لبقية صغيرة من إسرائيل: العذراء مريم، وزوجها يوسف وبعض الرعاة. إنه نور متواضع، بحسب أسلوب الإله الحق؛ شعلة مضاءة في الليل: وليد ضعيف، يبكي في صمت الليل… ولكن ذلك الميلاد الخفي والمجهول يرافقه نشيد تسبيح الأجواق السماوية، التي تغني المجد والسلام (راجع لو 2، 13 – 14).

 وبهذا الشكل، كان ذلك النور، رغم ظهوره الوضيع على الأرض، ينعكس بقوة في السماوات: لقد تم الإعلان عن مولد ملك اليهود عبر ظهور نجم مرئي في الأصقاع البعيدة. كانت هذه شهادة "بعض المجوس"، الذين بلغوا من الشرق إلى أورشليم بعد مولد يسوع بقليل، في زمن هيرودس الملك (راجع متى 2، 1 – 2).

 مرة أخرى تتبادل الأرض والسماء، الكون والتاريخ النداء والجواب. تجد النبؤات القديمة صدى في لغة النجوم. كان الرائي الوثني بلعام قد أعلن أنه "يَخرُجُ كَوكَبٌ مِن يَعْقوب ويَقومُ صَولَجانٌ مِن إِسْرائيل " (عدد 24، 17)؛ وكان قد دعي إلى إلقاء اللعنة على إسرائيل، ولكنه بالمقابل بارك إسرائيل لأن الله كشف له "هذا الشعب المبارك" (عدد 22، 12).

 في تعليقه على إنجيل متى، يربط كروماسيوس من أكويليا بين بلعام والمجوس فيكتب: "لقد تنبأ ذلك أن المسيح سيأتي، وتعرف عليه أولئك بعيون الإيمان". ويضيف تعليقًا هامًا: "كان النجم مرئيًا للجميع، ولكن لم يفهم الجميع معناه. وكذلك الأمر بالنسبة للرب الذي ولد لأجل الجميع، ولكن لم يقبله الجميع" (4، 1 – 2). يظهر هنا، في بعده التاريخي، معنى رمز النور الذي يتم تطبيقه على مولد المسيح: فهو يعبر عن بركة الله الخاصة لنسل إبراهيم، التي يجب أن تمتد لتصل إلى كل شعوب الأرض.

 إن الحدث الإنجيلي الذي نذكره في عيد الظهور – زيارة المجوس للطفل يسوع في بيت لحم – يقودنا إلى بدء تاريخ شعب الله، أي إلى دعوة ابراهيم. نحن أمام الفصل 12 من كتاب التكوين. الفصول الـ 11 الأولى هي عبارة عن تصاوير كبيرة تجيب على أسئلة البشرية الأساسية: ما هو أصل الكون والجنس البشري؟ من أين يأتي الشر؟ لماذا هناك الكثير من اللغات والحضارات؟ في إطار القصص الأولى في الكتاب المقدس، يبرز "عهد" أول، أقامه الله مع نوح بعد الطوفان. إنه عهد كوني يتعلق بالبشرية بأسرها: العهد الجديد مع عائلة نوح هو في الوقت عينه عهد مع "كل جسد".

 ومن ثم، قبل دعوة ابراهيم، نجد لوحة كبيرة أخرى بالغة الأهمية تساعدنا على فهم معنى الدنح: أي برج بابل. يقول النص المقدس أنه في الأصل "كانَتِ الأَرضُ كُلُّها لُغَةً واحِدة وكَلامًا واحدًا" (تك 11، 1). ثم قال البشر: "تَعالَوا نَبْنِ لَنا مَدينةً وبُرْجًا رَأسُه في السَّماء، ونُقِمْ لنا آسْمًا كَي لا نَتَفَرَّقَ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها" (تك 11، 4). نتيجة خطيئة الكبرياء هذه المشابهة لخطيئة آدم وحواء، كانت بلبلة الألسنة وتشتيت البشرية على وجه كل الأرض (راجع تك 11، 7 – 8). وهذا هو معنى "بابل"، وقد كان مصير لعنة مشابه للطرد من الفردوس.

 وهنا يبدأ تاريخ البركة مع دعوة أبرام: يبدأ مشروع الله العظيم لكي يجعل من البشرية عائلة، من خلال العهد مع شعب جديد اختاره الله لكي يكون بركة في وسط الشعوب (راجع تك 12، 1 – 3). وهذا المشروع الإلهي ما زال ساريًا وقد بلغ ملئه في سر المسيح. منذ ذلك الحين بدأت "الأزمنة الأخيرة"، بمعنى أنه قد تم الكشف بالكلية عن المشروع وتحقيقه بالكلية في المسيح، ولكنه يتطلب أن يتم قبوله من قِبل التاريخ البشري الذي يبقى دومًا تاريخ أمانة من قبل الله، وللأسف عدم أمانة أيضًا من قبلنا نحن البشر. الكنيسة عينها، المؤتمنة على البركة، هي قديسة ومؤلفة من خطأة، يميزها التوتر بين ما قد تم وما لم يتم بعد. في ملء الأزمنة، جاء المسيح لكي يكمل العهد: المسيح نفسه، الإله الحق والإنسان الحق، هو سر أمانة الله لمشروعه الخلاصي لأجل البشرية بأسرها، لأجلنا جميعًا.

 إن مجيء المجوس من المشرق إلى بيت لحم للسجود للمسيح المولود، هو علامة لظهور الملك الشامل لكل الشعوب ولكل البشر الذين يبحثون عن الحقيقة. هو بدء مسيرة معاكسة لمسيرة بابل: من البلبلة إلى الفهم، من التشتت إلى المصالحة. نجد هنا رباطًا بين الدنح والعنصرة: إذا كان ميلاد المسيح، الذي هو الرأس، هو أيضًا ميلاد الكنيسة، جسده، نرى في المجوس الشعوب التي تنضم إلى بقية إسرائيل معلنة بشكل مسبق عن "الكنيسة المتعددة الألسنة" التي سيحققها الروح القدس بعد 50 يومًا على الفصح. إنه حب الله الأمين والقدير الذي لا يتخلى عن عهده من جيل إلى جيل. إنه "السر" الذي يتحدث عنه القديس بولس في رسائله، وفي مقطع الرسالة إلى أهل أفسس الذي تمت تلاوته منذ برهة: يقول القديس بولس أن هذا السر كشف له بتدبير إلهي (أف 3، 2)، وأنه موكل لكي يعرّف به.

 يشكل "سر" أمانة الله هذا رجاءَ التاريخ. بالطبع تتعرض لهذا السر الانقسامات ومحاولات القمع التي تمزق البشرية بسبب الخطيئة وصراع الأنانية. الكنيسة هي في التاريخ في خدمة "سر" البركة للبشرية بأسرها. في سر أمانة الله هذا، تقوم الكنيسة بدورها فقط عندما تعكس في ذاتها نور المسيح الرب، وتكون هكذا عونًا لشعوب الأرض في سبيل السلام والتقدم الأصيل. بالواقع، تبقى دومًا آنية كلمة الله الموحاة بواسطة النبي آشعيا: "…ها إِنَّ الظُّلْمَةَ تُغَطِّي الأَرض والغَمامَ المُظلِمَ يَشمُلُ الشُّعوب ولكِن عليكِ يُشرِقُ الرَّبّ وعلَيكِ يَتَراءَى مَجدُه" (آش 60، 2). يكتمل ما يتنبى به النبي على أورشليم في كنيسة المسيح: "تَسيرُ الأُمَمُ في نورِكِ والمُلوكُ في ضِياءِ إِشْراقِكِ" (آش 60، 3).

 مع يسوع تمتد بركة إبراهيم لتبلغ كل الشعوب، لتبلغ الكنيسة الجامعة كإسرائيل الجديد الذي يتقبل في وسطه البشرية برمتها. ومع ذلك، اليوم أيضًا، يبقى صحيحًا ما قاله النبي: "الغمام المظلم يشمل الشعوب" وتاريخنا. بالواقع، لا يمكننا أن نقول أن العولمة هي مرادف للنظام الكوني، بل على العكس! إن الصراعات من أجل التفوق الاقتصادي ومن أجل السيطرة على موارد الطاقة، والموارد المائية والمواد الأولية تعرقل جهود العديد من الأشخاص الساعين إلى بناء عالم أكثر عدلاً وتضامنا. تحتاج البشرية إلى رجاء أكبر يمكنها من تفضيل الخير المشترك العام على رفاهية البعض وبؤس الكثيرين. "هذا الرجاء الكبير يمكن أن يكون الله وحده… لا أي إله كان، بل ذلك الإله ذو الوجه الإنساني" (عدد 31): الإله الذي تجلى في طفل بيت لحم وفي المصلوب-القائم.

إذا كان هناك رجاء كبير عندها يستطيع البشر أن يثبتوا في الاعتدال. أما إذا غاب الرجاء الحقيقي، فسيبحث البشر عن السعادة في النشوة، في الأمور الزائدة، في الخبرات المتطرفة، مدمرين بذلك ذواتهم والعالم المحيط بهم. وعليه، فالاعتدال ليس مبدأً تقشفيًا وحسب، بل هو أيضًا سبيل خلاص للبشرية. لقد بات واضحًا الآن أن فقط من خلال اعتناق أسلوب عيش معتدل، مرفق بالتزام جدي في سبيل توزيع عادل للثروات سيكون ممكنًا وضع أسس نمو عادل وممكن. لذا من الضروري أن ينمي البشر رجاءً كبيرًا وأن يتحلوا لذلك بشجاعة عظيمة. هي شجاعة المجوس الذين قاموا برحلة طويلة في إثر النجم، وعرفوا أن يركعوا أمام طفل وأن يقدموا له عطاياهم الثمينة. نحتاج كلنا إلى هذه الشجاعة المبنية على أسس رجاء وطيد. فلتنله لنا مريم، ولترافقنا حمايتها الأمومية في حجنا الأرضي. آمين!

 (ترجمة روبير شعيب)