بقلم: الأرشمندريت أغناطيوس ديك
وضع السيد المسيح أسس الكنيسة، وانتشرت على أيدي الرسل انطلاقاً من فلسطين وسورية وعمّت العالم. وفي ما يلي لوحة بانورامية عن حياة الكنيسة، أولاً في العصر القديم حيث تبلورت ملامحها، ثم تطورها في العصور اللاحقة.
حياة الكنيسة الجامعة في العصر القديم
العصر القديم يمتدّ من بدء الكنيسة إلى انتشار الإسلام (30-632) وهو يشتمل على حقبتين يفصل بينهما مرسوم ميلانو عام 313 الذي اعترف بشرعية الكنيسة.
أولاً – من 30 إلى 313
القرون الأولى جزيلة الأهمية:
ففيها توطدت وتأصلت الكنيسة في حوض البحر المتوسط الذي وحّدته الدولة الرومانية، وحددت موقفها من اليهودية والوثنية، وتبلورت أهم معالمها كعقيدة ومؤسسة.
انتشار الكنيسة:
كانت الامبراطورية الرومانية التي حققت الوحدة والاستقرار في حوض البحر المتوسط الإطار الذي نشأت فيه الكنيسة.
بدأت الكنيسة في القدس على يد الرسل الذين شهدوا لقيامة المسيح، وبدأوا يدعون للمعمودية باسم يسوع. وتوسّعت في أنحاء فلسطين وسورية على أثر تشتت الرسل الذي عقب الاضطهاد الذي شنّه رؤساء اليهود، وكانت ضحيته الأولى الشهيد استيفانوس رئيس الشمامسة. وكانت البشرى تتوجّه أولاً لليهود ثم انفتحت على الوثنيين (القديس بطرس وكرنيليوس، القديس بولس رسول الأمم الذي اهتدى للدين المسيحي في دمشق بعد أن كان مضطهداً)، وأصبحت انطاكية المركز الثاني بعد القدس لانتشار المسيحية، وانطلق منها القديس بولس في رحلاته الثلاث إلى آسية الصغرى (أفسس) واليونان (قورنتس). ووصل الإيمان مبكراً إلى العاصمة رومة إذ يكتب القديس بولس رسالة إلى أهل رومة، وفيها استقر نهائياً الرسولان بطرس وبولس وقدما شهادة الدم دعماً لرسالتهما.
ومن المراكز المسيحية الهامة الأخرى في القرون الثلاثة الأولى، مدينة الرها شمال شرق سورية، والاسكندرية (مصر)، وقرطاجة شمال افريقيا، وليون في فرنسا. وانتشر المسيحيون في سائر أنحاء العالم الروماني، وأصبحوا في القرن الثالث يشكّلون نصف السكان في المناطق الشرقية، وظلّوا في الغرب أقلية منحصرة في المدن الكبرى. وقد تمّ انتشار المسيحية بدون تدخّل الدولة التي كانت بعكس ذلك تقاوم الديانة الجديدة وتضطهدها. فتوطدت الكنيسة بفضل:
– كرازة الرسل تؤيدهم قوة الروح.
– صمود الشهداء الذين سفكوا دمهم دفاعاً عن إيمانهم.
– شهادة حياة المؤمنين الأولين الممتازة بالمحبة والاستقامة والطهارة.
وكان المسيحيون أول من نادوا بحرية الضمير، وبأن الشعوب ليست حتماً على دين ملكوها كما كان مصطلحاً عليه في القديم.
الكنيسة واليهودية:
نشأت الكنيسة أولاً في بيئة يهودية في مدينة القدس، ولم يكن المسيحيون الأولون يتميزون خارجياً عن سائر اليهود. فيسوع القائم من الأموات هو المسيح المنتظر الذي حقق كل ما يتوق إليه شعب العهد القديم: "لم آت لأنقض بل لأتمم" كانوا يواظبون على الصلاة في الهيكل ويعملون بشريعة موسى وتميزوا عن سائر اليهود:
– بإيمانهم بيسوع القائم من بين الاموات
– وبالمعمودية باسمه
– وباجتماعاتهم الخاصة لكسر الخبز (الافخارستيا)
وتبين هذا الفارق الاول لما عارض زعماء اليهود الرسل واضطهدوهم لمناداتهم باسم يسوع، ولما انضمّ إلى جماعة المؤمنين أناس من أصل وثني تقرر رسمياً إعفاءهم من الشريعة الموسوية في مجمع القدس (50)، وظل المسيحيون من أصل يهودي يمارسون الشريعة اليهودية ثم تخلّوا عنها رغم معارضة أنصار الختان، ويتجلّى ذلك في رسائل القديس بولس، فالمسيح حررنا من عبودية الناموس. واعطي المؤمنون اسماً خاصاُ بهم ودعوا مسيحيين وكان ذلك في انطاكية. ولم يشترك المسيحيون بثورة اليهود ضد الرومان وانقطعت العلاقات بين المسيحيين واليهود بعد هدم هيكل أورشليم, إنما ظلت الكنيسة متمسكة بأسفار العهد القديم التي تسلمتها من اليهود، فالعهدان متكاملان. وحرمت رأي المغالين مثل مرقيون (أواسط القرن الثاني) الذي رفض كتب العهد القديم واّدعى أن إله العهد القديم شرير وهو غير إله العهد الجديد.
الكنيسة والوثنية:
كان المسيحيون موالين للدولة ويشاركون في الحياة العامة وفي خدمة الجيش والبلاط ويصلون من أجل الحكام، إنما امتنعوا عن التظاهرات المتسمة بالإباحية ورفضوا المشاركة بمراسيم العبادة الوثنية وعبادة الامبراطور. فشنّت عليهم الدولة المرتبطة بالديانة الرسمية اضطهاداً واسعاً ابتدأ مع نيرون عام 64. ولم يتخذ الاضطهاد في كل الحقبات نفس المنحى، وقد قرر بعضهم (تراجان مطلع القرن الثاني) أن لا يلاحق المسيحيون، بل يُعاقبوا فقط إذا وشي بهم، ويسامحوا إن تراجعوا عن دينهم. وحصر غيرهم الحظر في الانتماء إلى الدين الجديد ولاحقوا المنتسبين الجدد فقط (سبتيموس ساويروس مطلع القرن الثالث) ولاحق غيرهم رجال الدين فقط، وأرادوا الاستيلاء على أملاك الكنيسة (فالريانس 257). ونَعِم المسيحيون بفترات من السلم إذ تغاضى عنهم الأباطرة ومنهم خاصة السوريو الأصل. أما أشرس الاضطهادات الشاملة فهي اضطهاد داسيوس (251) وديوكليانويس (303). وذهب ضحية الاضطهاد مئات الألوف من المسيحيين حفظ لنا التاريخ أسماء بعضهم، ووصف حادث الاستشهاد نقلاً عن شهود عيان (الرسولان بطرس وبولس، القديس اغناطيوس الانطاكي، بوليكربوس اسقف أزمير، شهداء ليون (177)، شهداء سيليوم شمال افريقيا (180) والشهيدتين برباتوا وفاليستي، بربارة، سرجيوس وباخوس، جاورجيوس، ديمتريوس…) لم تتمكّن الاضطهادات من قمع انتشار المسيحية بحسب قول ترتليانوس[1] "دم الشهداء زرع للنصارى".
وأخذت الكنيسة موقفاً إيجابياً من الفلسفة اليونانية وبحثها عن الله. ورأى بعض المفكرين المسيحيين (القديس يوستينوس، اكليمنضوس الاسكندري) أن الكلمة (اللوغوس) كان يعمل وينير هؤلاء الفلاسفة. واستعانت الكنيسة بالفلسفة اليونانية لتوضيح معتقدها وللدفاع عن ذاتها ضدّ افتراءات المفكرين الوثنيين.
حياة الكنيسة:
كانت حياة المسيحيين شهادة للحقيقة وشهادة للقداسة
1- كان عصر الرسل متميزاً لأن الرسل كانوا شهود عيان للقيامة ولكرازة الإنجيل ومع موت آخرهم يوحنا انتهى وحي العهد الجديد، ودونت مذكراتهم ورسائلهم في مجموعة تبلورت في القرن الثاني وشكلت لائحة العهد الجديد (قانون موراتوري). ونصّب الرسل من يخلفهم في إدارة الكنيسة ليسلّموا لمن بعدهم ما تسلّموه من الرسل: تعليم الإنجيل والتقليد الكنسي. هؤلاء هم الأساقفة الذين تتابعت سلسلتهم منذ عهد الرسل ومهمتهم الأولى الحفاظ على صحة التعليم المورث من الرسل. وقد اندسّ في صفوف المسيحيين من علّموا آرائهم الخاصة فحاولوا تفريغ السر المسيحي ليساير مفهوم العقل البشري (المغالطات الثالوثية) أو من مزجوا بين المسيحية واليهودية (الأبيونيون) أو بين المسيحية والوثنية والفلسفة الأفلاطونية (أهل العرفان) أو بين المسيحية والزرداشتية ديانة الفرس (المانويون). ومنهم بعض المغالين الذين نادوا بحلول الروح القدس فيهم بشكل خاص وبانتهاء العالم والعدول عن أمور الجسد (المونتانيون). فنبذوا من جسم الكنيسة الجامعة وسمّوا هراطقة. وأشهر من قاومهم القديس ايريناوس أسقف ليون (+203) في كتابه "ضد البدع" فأظهر أن التعليم الصحيح متواجد في الكنائس التي ترتبط سلسلة أساقفتها بالرسل، والكنيسة الأهم بينها كنيسة روما.
وقام خلفاء الرسل المباشرون بكتابة رسائل ومؤلفات تنحو منحى كتابات الرسل، فدعوا الآباء الرسوليين( القديس اكليمنضوس أسقف رومة، القديس اغناطيوس الانطاكي…) وقام بعدهم من دافع عن المسيحية ضد اليهودية والحكام المضطهدين (أشهرهم القديس يوستينوس +165) ولما دخل المسيحية طبقة من المفكرين وهاجمها الفلاسفة بدأ ما دعي باللاهوت العلمي الذي يوضح أسرار المسيحية بشكل علمي ومعمّق. وأشهر هؤلاء ترتليانوس في الغرب (قرطاجة) واكليمنضوس الاسكندري واريجانوس في الشرق (القرن الثالث) وهناك علم خاص يتحرى دراسة التراث الأدبي المسيحي القديم (علم الآباء)، وقد فقدت العديد من المؤلفات بسبب اضطهاد ديوكلسيانوس الذي عمد إلى إحراق المكاتب وطالب تسليمه الكتب المقدسة. وما نعرفه عن القرون الثلاثة الأولى يعود الفضل الأكبر به للمؤرخ أوسابيوس القيصري الذي عاش في مطلع القرن الرابع.
2- تبدأ حياة المسيحي بتقبّل سرّ المعمودية في احتفال يقوم خاصة ليلة عيد الفصح، وتسبقه فترة تحضير تسمى بالموعوظية. ومحور الحياة المسيحية سرّ الافخارستيا الذي يحتفل به بشكل جماعي برئاسة الأسقف ليلة الأحد. وتبلورت في هذه الحقبة أهم معالم الليتورجيا التي لم تأخذ شكلها التام إلا في الحقبة التالية. وكان أهم الأعياد عيد الفصح وسبّب تحديد يومه بعض المشاكل (المشكلة الفصحية). وبدأ الاحتفال بعيدي الظهور والميلاد في القرن الثالث. ويلتزم المسيحي في تقبله سرّ المعمودية بالعيش حياة القداسة بموجب التعاليم الإنجيلية. وبسبب الضعف البشري يحدث أن يرتكب بعضهم "الكبائر" (القتل، الزنى، جحد الإيمان) وكان يفرض على هؤلاء قصاصات صارمة ولا يشتركون بالافخارستيا إلا بعد تتميمها ومصالحتهم رسمياً الخميس العظيم (رتبة التوبة). وقد حدث مشادة بين المتشددين الذين لا يقبلون بالمصالحة إلا مرة واحدة والمتساهلين (مشكلة التوبة). والمسيحي لا يعيش مسيحيته منعزلاً بل ضمن المجموعة المسماة الكنيسة. فمنها يقتبس الإيمان وفيها يعيش الأسرار والأخوّة المسيحية. ويرأس الكنيسة المحلية الأسقف يحيط به مجموعة الكهنة والشمامسة. وبين مختلف الكنائس المحلية شركة ترتكز على وحدة الإيمان والأسرار والخلافة الرسولية، مركزها الأهم كنيسة رومة. ويجتمع أساقفة الإقليم حول رئيس الأساقفة في مجامع أصبحت دورية لتداول الأمور التي تهم جميع الكنائس وحفظ لنا التاريخ ذكر بعض هذه المجامع. وبدت الكنيسة في آخر القرن الثالث قوة روحية ما عاد بالإمكان تجاهلها، فشنّ عليها ديوكلسيانوس وشركاؤه في الحكم اضطهاداً شاملاً سبّب للكنيسة جروحاً عميقة إلا أنها خرجت منه منتصرة.
ثانياً – من 313 إلى 632
الحقبة التالية من العصر القديم من مرسوم ميلانو 313 إلى انتشار الإسلام هي حقبة نضوج الكنيسة الأولى.
نالت الكنيسة الحرية واعترف بها رسمياً الإمبراطور قسطنطين (مرسوم ميلانو 313). ثم اندحرت الوثنية امامها وأصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية (ثاوذوسيوس). وقامت الكنائس الفخمة بهمة الدولة. (كنيسة القيامة في القدس – كنيسة القديس سمعان العمودي قرب حلب – كنيسة آجيا صوفيا في القسطنطينية) وتحددت العقيدة رسمياً في ما يخص سر الثالوث الأقدس والتجسّد في المجامع المسكونية لا سيما الأربعة الأولى. وكان هذا العصر العصر الذهبي للآباء القديسين. وتنظمت الكنيسة وتشكّلت رسمياً البطريركيات والليتورجيات الكبرى، وأخذ المجتمع المدني وجهاً مسيحياً. وبعد انتهاء عصر الشهداء والبطولات قامت الحركة الرهبانية التي انتحلها الساعون إلى الكمال. القسم الثاني من هذه الحقبة أظهر تصدعاً في الوحدة القائمة في العالم الروماني القديم. فالجرمانيون البرابرة الغزاة استولوا على القسم الغربي، وفي القسم الجنوبي الشرقي ظهر تصدّع في الوحدة الكنسية عقب المجمع الخليقدوني 451 وضعف ولاء شعوب هذه المناطق للدولة البيزنطية.
تنصّر الدولة
اعترف قسطنطين مع زميله في الحكم بحرية الشعائر الدينية المسيحية في مرسوم ميلانو عام 313 واعتنق شخصياً الديانة المسيحية وأخذ يهتمّ بشؤون الكنيسة ويعنى بوحدتها وتنظيمها وجعل يوم الأحد عطلة رسمية واستوحى في تشريعه الكثير من المبادئ المسيحية. وبنى عاصمة جديدة دعيت باسمه القسطنطينية دُشنت عام 330 ليبتعد عن جوّ رومة الوثني. وفشلت محاولة الامبراطور جوليانوس (361-363) لإعادة النفوذ الوثني وتراجعت الوثنية شيئاً فشيئاً أمام المسيحية، وفصل غراسيان وثاوذوسيوس الدولة عن الديانة الوثنية، ومنع ثاوذوسيوس العبادات الوثنية في أنحاء المملكة. وكان ثاوذوسيوس آخر من جمع في يديه حكم المملكة الرومانية بكاملها وبعد وفاته عام 395 قسّمت المملكة بين ابنيه، وكان مركز الواحد في رومة والآخر في القسطنطينية. وقضى الغزاة الجرمانيون على الامبراطورية الرومانية في الغرب عام 476 وظلّت الدولة الرومانية في الشرق وعُرِقت بالبيزنطية درعاً للمسيحية حتى سقوطها عام 1453 في يد العثمانيين.
المجامع الأولى:
عُقِد المجمع المسكوني الأول في مدينة نيقية عام 325 بدعوة من الملك قسطنطين لحل الأزمة التي أنشأتها تعاليم آريوس الذي أنكر ألوهية الكلمة ومساواته للآب. فأقر آباء المجمع أن الكلمة من نفس جوهر الآب، كما أخذ عدة تدابير إدارية منها تحديد تاريخ عيد الفصح، والإقرار بالميزات التي تنعم بها المدن الكبرى الثلاث رومة والاسكندرية وانطاكية. ولقي المجمع معارضة من جانب من وجدوا في تعبيره التباساً يوحي بعدم التمييز بين الآب والابن وبعد مناقشات طويلة ودراسات لاهوتية ساهم بها بنوع خاص الآباء الكبادوكيون تم الإجماع حول مفهوم سرّ الثالوث الأقدس بوحدة الطبيعة وتثليث الأقانيم وأقر ذلك في المجمع القسطنطيني الأول عام 381، وفيه ثبت قانون الإيمان المعروف بقانون نيقية القسطنطينية.
ونشبت مجادلات في القسم الأول من القرن الخامس حول سر التجسد أي علاقة اللاهوت والناسوت في المسيح يسوع. وكانت المدرسة اللاهوتية الانطاكية تركّز على التمييز بين اللاهوت والناسوت وعلى حقيقة إنسانية المسيح. وتركّز المدرسة اللاهوتية الاسكنرانية على الوحدة الكيانية في المسيح وألوهيته. ونشبت مشادة بين نسطوريوس الانطاكي المنشأ بطريرك القسطنطينية وكيرلس بطريرك الاسكندرية. وحدد المجمع الأفسسي المسكوني الثالث عام 431 وحدة الأقنوم في المسيح وشرعية تسمية مريم العذراء والدة الإله، ولما قام بعض المغالين ينكرون مساواة المسيح لنا في الإنسانية (أوطيخا) عُقِد مجمع آخر عام 451 في خليقدونية قرب القسطنطينية (المسكوني الرابع) ليضع التوازن في التعليم الرسمي حول المسيح. فأقرّ أن المسيح الأقنوم والابن الواحد هو إله تام وإنسان تام في طبيعتين لا امتزاج بينهما ولا انفصال. وقامت معارضة ضد المجمع الخليقدوني من أنصار المدرسة الاسكندرية إذ تصوّروا أن المجمع قد تخلّى عن تعليم القديس كيرلس، فانشطرت بطريركيتا الاسكندرية وانطاكية إلى فرعين: فرع مؤيّد للمجمع (الملكيون) يقولون أن المسيح أقنوم واحد في طبيعتين، وفرع معارض (الأقباط والسريان) يقولون أن المسيح أقنوم واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين. وانضمّت الكنيسة الأرمنية إلى المعارضين وكانت الكنيسة الفارسية انحازت إلى المذهب النسطوري (اقنومان وطبيعتان في المسيح).
الآباء القديسون:
من أشهر الآباء القديسين في هذه الحقبة القديس أثنانسيوس الكبير رئيس أساقفة الاسكندرية (+373) الذي دافع عن المجمع النيقاوي، وقاسى النفي وألّف عدة كتب لاهوتية. والآباء القبادوقيون باسيليوس الكبير (+379)، وغريغوريوس اللاهوتي (+389)، وغريغوريوس أسقف نيصص شقيق القديس باسيليوس. وكانوا مشبعين بالثقافة الفلسفية اليونانية، ومتعمّقين في الإيمان الرسولي فقدّموا أفضل إيضاح لعقيدة الثالوث سمحت بتخطّي الأزمة الآريوسية. وكان القديس يوحنا الذهبي الفم الانطاكي المنشأ راعياً وخطيباً اشتهر أولاً بكرازته وتفاسيره الكتابية في انطاكية ثم في القسطنطينية التي عيّن رئيس أساقفة عليها. وقام في الغرب القديس امبروسيوس أسقف ميلانو (+397)، والقديس أغسطينوس (+428)، وهو من أغزر وأعمق الآباء القدماء وكتب في مختلف المجالات وكان أسقفاً على مدينة بونة شمال أفريقيا والبابا لاون الكبير (+461) وغريغوريوس الكبير (+604). وفي القرن الخامس لمع القديس كيرلس الاسكندري مدافعاً عن سر التجسّد وعارضه ثاوذوريطوس أسقف قورش وهو أنطاكي المنشأ وترك لنا تآليف لاهوتية وتاريخية هامة.
الرهبان:
نشأت الحياة الرهبانية في مصر ومن أبرز وجوهها القديس أنطونيوس (251 – 356) ( الحياة النسكية المنفردة )، القديس باخوميوس ( 292 – 346 ) (الحياة المشتركة في الأديرة)، وسرعان ما انتقلت إلى فلسطين وسوريا وآسيا الصغرى (القديس سمعان العمودي +459، مار سابا قرب القدس +531). ونظّم القديس باسيليوس الحياة الرهبانية المشتركة وانتشرت في الغرب وأهم منظّم للحياة الرهبانية في الغرب القديس بنادكتوس في القرن السادس. وكان للرهبان تأثير روحي عميق وساهموا في تنصير الريف. وكانوا في أوروبا عاملاً هاماً لتثقيف الغزاة البرابرة وحفظ العلم ونشر الإيمان المسيحي بين الجرمانيين.
يوستينيانوس والتنظيم الكنسي:
كن للإمبراطور يوستينيانوس ( 527 – 565 ) أهمية سياسية وكنسية كبرى فقد استولى على إيطاليا وجنوب أسبانيا وشمال أفريقيا وأعاد لفترة عظمة الإمبراطورية الرومانية الأولى وبقيت روما لفترة قرنين تحت الحكم البيزنطي. وبنى في القسطنطينية كنيسة آجيا صوفيا العظيمة. وحاول إعادة الوحدة مع مقاومي المجمع الخلقيدوني وعقد عام 553 المجمع القسطنطيني الخامس الذي أدان الكتّاب الأنطاكيين المتّهمين بالنسطورية والذين لم يحرمهم المجمع الخلقيدوني. ولم تنجح محاولاته، وقام بتشريع واسع شمل الأمور السياسية والدينية وأقرَّ تقسيم الكنيسة في الإمبراطورية إلى خمس بطريركيات رومة والقسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية وأورشليم، مع الاعتراف بالمكانة الأولى لأسقف رومة.
التوسّع المسيحي:
انتشرت الديانة المسيحية خارج الإمبراطورية الرومانية في أرمينيا ومملكة فارس وأنشئ تنظيم كنسي خاص في كلا البلدين كما امتدّت إلى الحبشة واليمن والهند وتسرَّبت إلى العديد من القبائل العربية في نجد والحجاز. وفي الغرب بلغت إلى ايرلندا واسكوتلاندا. أمّا القبائل الجرمانية التي اجتاحت الإمبراطورية الرومانية الغربية فتمَّ شيئاً فشيئاً تنصيرها أو إعادة من كان منها أريوسياً إلى الكنيسة الجامعة. وأهم المراحل التاريخية تنصّر كلوفيس ملك الفرنجة عام 496 واعتناق ملك القوط في أسبانيا ريكاردو الدين الكاثوليكي عام 589 ( وكان على المذهب الأريوسي ). وأرسل البابا غريغوريوس الكبير إلى الأنكلوساكسون في إنكلترا عام 597 الراهب أغسطينوس الشرقي المنشأ الذي هدى الملك وأصبح أول أسقف لكانتربري. ويتّضح أنَّ الكنيسة الكاثوليكية تغلبت منذ أواخر القرن السادس في جميع أنحاء العالم الروماني وأنشأت مدنية جديدة عُرفت بالمدنية المسيحية.
ثالثاً – انهيار العالم القديم
في العصور القديمة كانت الإمبراطورية الرومانية تجمع في نظام واحد الشرق والغرب. إلا أن انقسام المملكة في عهد ديوكلسيانوس وخصوصاً ثاوذوسيوس الكبير 395 مهّد السبيل لانقسامات القرون الوسطى. فأخذت القسطنطينية والجزء الشرقي من المملكة تتسم بطابع اليونانية ورومة مع القسم الغربي بطابع اللاتينية. بيد أن الحكم في كلا العاصمتين ما زال في يد الأسرة المالكة الواحدة والوحدة الرومانية مستتبة قائمة. ولكن هذه الوحدة ما عتمت أن تحطمت تحت ضربات الجرمانيين والعرب وقام على أنقاضها عالم القرون الوسطى. لم تكن الغزوات والفتوحات العامل الأوحد في تفكيك العالم القديم. ففي الشرق المسيحي قرناً قبل الإسلام تم انفصام سورية ومصر عن المذهب الرسمي فتبين بذلك ضعف ولاء هذه الشعوب لحكامها. وأما في الغرب فظلّ البرابرة الجرمانيون يعتبرون أنفسهم عملاء الإمبراطورية الرومانية وكان كلوفيس ملك الفرنجة يفتخر بلقب البطريق الروماني الذي أغدقه عليه أنسطاس امبراطور القسطنطينية. واستعاد يوستينيانوس رومة مع جزء من الغرب في القرن السادس، ولم يكتمل انفصام الوحدة الرومانية في العالم المسيحي إلا عندما انتقلت رومة من حماية القسطنطينية إلى حماية الفرنجة وخصوصاً عندما توّج البابا شارلمان ملك الفرنجة امبراطوراً على الرومان، فعندئذ أصبح العالم الروماني القديم مقسوماً إلى ثلاث كتل متنافسة:
1- دولة الخلافة العربية وكانت تشمل الساحل الجنوبي للبحر المتوسط: شرقي آسية الصغرى وبلاد الشام ومصر وافريقيا الشمالية والأندلس علاوة على الجزيرة العربية وممتلكات دولة فارس القديمة. وسادت فيها سطوة الإسلام السياسية وانتشرت فيها العربية لغة الحكم والثقافة.
2- الدولة الرومانية الشرقية أو المملكة البيزنطية وسماها العرب بلاد الروم وانحصرت بعد الفتوحات العربية في آسية الصغرى والبلقان وكانت معرضة دوماً لضربات العرب في آسية الصغرى ولغزوات الصرب والبلغار في البلقان ولم تكن هذه الدولة رومانية إلا بالاسم وقد بطل بعد يوستينيانوس استعمال اللاتينية في الدوائر وأصبحت الدولة فعلاً مملكة يونانية خصوصاً بعد أن انسلخت من رقعتها بلاد الشام ومصر حيث لم تكن اليونانية معروفة إلا في المدن. وامتد نفوذها إلى روسيا وبلاد الصقالبة الشرقيين من صرب وبلغار. وكان المذهب الخلقيدوني والليتورجيا البيزنطية القاسم المشترك بين هذه الشعوب على اختلافها.
3- العالم المسيحي الغربي وكان يشتمل على مقاطعات الإمبراطورية الرومانية الغربية ما عدا افريقيا الشمالية والأندلس التي استولى عليها العرب. وامتد إلى شمالي اوروبا كلها شاملاً جميع المناطق الجرمانية والمقاطعات السلافية الغربية وانتقل مركز الثقل في العالم الغربي من البلاد المتاخمة للبحر المتوسط والمرتبط تاريخها بالشرق إلى قلب المناطق الجرمانية ومرد ذلك إلى اثنين: النفوذ العربي في البحر المتوسط، والتفوّق العسكري الذي أحرزه الجرمانيون قاهرو الإمبراطورية. وكان لهذا العالم الغربي رأسان الإمبراطور والبابا. ولهذا دُعي منذ القرن العاشر " الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة ".
انقسام العالم القديم إلى هذه الكتل المتنافسة بات له أثران فادحان على الوحدة المسيحية:
1- الأثر الأول هو ترسيخ الانقسامات الدينية التي حدثت في القرن السادس. فطالما كانت سورية ومصر مرتبطتين بالدولة البيزنطية كانت تبذل محاولات ومساع لرأب الصدع وإعادة الوحدة وإزالة خلافات كانت تعتبر حتى ذاك منازعات عابرة بين إخوة. فعندما حلّ العرب في تلك البلاد أقرّوا الوضع القائم ورأوا من مصلحتهم أن يبقى الخلاف مستحكماً بين رعاياهم المسيحيين والكنيسة الرسمية في الإمبراطورية الرومانية المعادية.
2- والأثر الثاني هو إقامة هوّة جديدة بين الشرق الأرثوذكسي والغرب.
حتى من بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية حافظت رومة على علاقاتها مع الشرق. فالشعوب اللاتينية لم تنسَ حياتها الطويلة المشتركة مع الشرق، ولم تكن التقاليد الشرقية غريبة عنها كثيراً. أما الجرمانيون الذين سيطروا على العالم الغربي، فكانوا حديثي عهد في الإيمان المسيحي، ولم تقم لهم أي علاقة سابقة مع الشرق، ولم يعيروا الاعتبار اللازم للتقاليد القديمة المشتركة.
والبيزنطيون من جهتهم بعد أن انحصروا في المناطق التي تتكلم اليونانية دون سواها أمسوا يجهلون اللاتينية، وكانوا يعتبرون أنفسهم الخلفاء الوحيدين للامبراطورية الرومانية وللحضارة القديمة ويستخفّون بالغرب الواقع في حكم البرابرة. ومن يوم ارتبطت الباباوية بالدولة الجرمانية لم يعد الكرسي الرسولي في نظر الشرق السلطة الروحية العليا الشاملة، بل أصبح عنصراً من النظام الغربي وأمسى الخضوع للباباوية والحالة هذه لوناً من ألوان الارتباط السياسي بالعالم الغربي، مما عرّض دوام الشركة الكنسية للانهيار.
تطور الكنيسة في العصور اللاحقة
إن انهيار العالم الروماني القديم أدى إلى قيام ثلاث مجموعات كبرى ندرس أوضاع الكنيسة في كل منها على حدة.
أولاً – الكنيسة في العالم العربي
الأوضاع العامة :
أقرّ النظام الاسلامي للمسيحيين حرية العبادة بوجه عام مع قيود تحدها من حيث بناء الكنائس الجديدة والتزوّج بالمسلمات ونشر الدين المسيحي. وأُخضِع المسيحيون لنظام خاص ودُعوا أهل الذمّة، فترتب عليهم دفع ضريبة خاصة تسمّى الجزية، وحظر عليهم دخول الجيش أو الوظائف القيادية. ولما كان الشرع الإسلامي يهيمن على أمور الدولة، ولم يكن في استطاعة المسيحيين أن يخضعوا لجميع قوانينه وأحكامه اعتُرِف رسمياً بكيان الطوائف المسيحية، ومنحت لوناً من الاستقلال الذاتي في إدارة أحوالها الشخصية بموجب قوانينها الخاصة وتحت سلطة بطاركتها. هذا الوضع ثبّت ورسّخ الانقسامات القائمة، وساعد أحياناً على تهميش المسيحيين في المجتمع العربي.
حتى القرن الحادي عشر في فترة الازدهار العربي كان المسيحيون لا يزالون هم الأكثرية في بلاد الشام ومصر والعراق، وإنْ اندثروا شيئاً فشيئاً في المغرب، وكان لهم رغم أوضاعهم الخاصة شأن في تكوين الحضارة العربية. فمن الناحية الاقتصادية والفنية كانوا الدعامة الأقوى للدولة، ومن الناحية الثقافية عرّفوا العرب بالفكر اليوناني بنقلهم إلى العربية عن اليونانية مباشرة أو عن طريق السريانية أهم معالم التراث اليوناني في الفلسفة والطب والرياضيات والفلك والعلوم الطبيعية، وشغل كثير من المسحيين وظائف هامة في الدولة خصوصاً في المراكز التي تتطلّب الدقة والأمانة في الدواوين والخزانة، وكان لبعضهم مكانة كبرى في عالم الأدب. ونشأ في عهد المأمون (813-833) مناظرات بين اللاهوتيين المسيحيين وعلماء الإسلام، إلاّ أن ردّة فعل المتوكّل (847-861) وضعت حدّاً لهذه العلاقات الطيبة. من الوجهة الكنسية حافظ المسيحيون على أنظمتهم القديمة وبقيت الأديرة متوفرة ومستواها الثقافي عالياً في هذه الحقبة الأولى، إنما تضاءل عدد المسيحيين وضعفت علاقاتهم مع الكنائس الكبرى خارج العالم الإسلامي.
في القرن العاشر استولى البيزنطيون على الرها (944) وكيليكيا وانطاكية (969) ثم على أرمينيا (1054) وبقي قسم كبير من شمالي غربي سورية في حوزة البيزنطيين أكثر من قرن، فتأثّر الملكيون بوجه أبلغ بالطقس البيزنطي وزادت الهّوة بين الأرمن والسريان من جهة والكنيسة البيزنطية من جهة أخرى بسبب الضغوط التي مارستها هذه لحمل الأرمن والسريان على قبول المجمع الخليقدوني.
ثم كان الزحف التركي السلجوقي في أواخر القرن الحادي عشر ومعركة ملازكرت (1071) وقد اندحر فيها البيزنطيون فاستولى الأتراك على أرمينيا وشمال سورية وعلى معظم آسية الصغرى واستوطنوا فيها وقضوا على النفوذ العربي في سائر بلاد الشام، وكانوا أقل تسامحاً من العرب مع المسيحيين، هذه الأوضاع الجديدة والخطر المحدق بالامبراطورية البيزنطية كانت احدى الأسباب لقيام الحملات المسمّاة بالصليبية. وقد سمّمت هذه لمدة طويلة العلاقات القائمة بين المسلمين والنصارى في البلاد العربية، وزادت في توتر العلاقات بين الكنيستين الشرقية والغربية. ولم تكن الحملات مجرد غزوات وحروب، بل تخلّلتها لقاءات إنسانية وحضارية بين الغرب والشرق واستفاد الغرب من اتصاله ثانية بمهد المسيحية وبالتراث الحضاري الذي ورثه العرب عن اليونان، كما أنه أتاح للمسيحيين الشرقيين الاتصال ثانية بكرسي رومة للتعرّف بمسيحيي الغرب بعد فترة انعزال دامت عدة قرون.
وبعد احتلال دام زهاء قرنين اضطر الفرنج إلى مغادرة ما احتلوه من بلاد الشام بعد حروب أنهكت البلد، ثم كان الغزو المغولي الأول (القرن الثالث عشر) فنشر الدمار في العراق وشمالي سورية، ثم الغزو الثاني مع تيمورلنك سنة (1400) فكان أشد هولاً وقساوة. هذه الحروب قد أضعفت كثيراً الكنائس الشرقية فهاجر عدد كبير من المسيحيين وهلك كثيرون ودمّر معظم الأديرة وتدنّى مستوى الثقافة وأمسى المسيحيون في أواخر القرون الوسطى أقلية ضعيفة. سنة 1516 استولى العثمانيون على سورية وفي السنة التالية دخلوا مصر وكانوا قد سيطروا على آسية الصغرى كلها وفتحوا القسطنطينية منذ سنة 1453 وامتدوا إلى البلقان فوحّدوا ثانية الحوض الشرقي للبحر المتوسط بشماله وجنوبه.
ورغم التعسّف والجهل بدأت تلوح بوادر النهضة. فقد فتر العداء المستحكم بين الإسلام والدول المسيحية الغربية من يوم انفصل الدين عن الدولة في الغرب في مطلع القرون الحديثة، وزالت فكرة الحملات الصليبية، وعقدت المعاهدات بين السلطان سليمان القانوني والملك الفرنسي فرانسوا الأول في أواسط القرن السادس عشر، وحصلت فرنسا على حق حماية المسيحيين في الشرق[2]، وأُقيمت القنصليات الأوروبية في أهم الحواضر الشرقية التي استقطبت جاليات من التجار الفرنج وتوافد في إثرها المرسلون الغربيون خصوصاً في مطلع القرن السابع عشر فأُعيدت العلاقات مع الغرب المسيحي، كما مع مسيحيي أوروبا الشرقية. وقد عملت المدارس التي فتحها الباباوات في رومة (المدرسة اليونانية للقديس أثناسيوس سنة 1576 والمدرسة المارونية 1584 والمدرسة الأرمنية ثم مدرسة انتشار الإيمان في مطلع القرن السابع عشر) على تثقيف عدد وافر من الكهنة الشرقيين أصبحوا روّاد التجديد الروحي والثقافي في بلادهم وساهموا في بعث حركة الاستشراق في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
إلا أن نظام الحكم ووضع المسيحيين في البلاد العثمانية لم يتغيّر، ولم توضع قرارات السلطان عبد المجيد الإصلاحية (1839،1856) ووعدها بالمساواة بين جميع رعايا الدولة العثمانية مسلمين ومسيحيين موضع التنفيذ. بيد أن روحاً جديداً أخذ يهبّ فانبعثت في القرن التاسع عشر فكرة القومية العربية، وبعد النهضة الأدبية انطلقت مطالبة العرب بحرياتهم السياسية وكان للمسيحيين شأن هام في المجالين وإن الحرية التي تمتّع بها لبنان منذ عهد فخر الدين (القرن السادس عشر) ومصر منذ عهد محمد علي قد جعلت هذين البلدين في طليعة رواد النهضة. وأقر بالحرية الدينية للكاثوليك عام 1830.
بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد نادى أنصار تركيا الفتاة بالحرية والمساواة ودعي المسيحيون إلى خدمة العلم منذ عام 1910. وإبان الحرب العالمية الأولى ثار العرب على الأتراك وانضموا إلى صفوف الحلفاء وانكسر العثمانيون وانسحبوا من المناطق العربية. إلا أن الدول التي نشأت بعد انسحابهم لم تحصل على استقلالها الكامل فوراً، بل وضعت في حماية دول أجنبية، فساد النفوذ الإنكليزي في مصر وفلسطين وشرقي الأردن والعراق والنفوذ الفرنسي في سورية ولبنان وتحسّنت أوضاع المسيحيين وتمكّنوا من احتلال مراكز مرموقة لضلوعهم باللغات الأجنبية وساهموا مع اخوانهم المسلمين في تحرير البلاد الكامل واستقلالها.
في الدول العربية المعاصرة يقرّ القانون بمبدأ المساواة بين المسلمين والمسيحيين وبقيت الطوائف في لبنان تهيمن على الشؤون العامة والمناصب الرسمية توزّع بين مختلف الطوائف المسيحية والإسلامية بموجب نسبة عددهم. وفي سائر الدول العربية إن لم يكن دين الدولة في جميعها الإسلام فقد بقي الشرع الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع والرابطة الدينية في نظر العوام أقل شأناً من الرابطة القومية. وحافظت الطوائف المسيحية على كيانها القانوني ونظام الأحوال الشخصية الخاصة.
الكنائس المسيحية الشرقية في تطوراتها الخاصة:
بينما المسيحيون في العالم الغربي يشكّلون فيما بينهم وحدة متماسكة وينتمون لطقس واحد هو الطقس اللاتيني ومذهب واحد ومرجع واحد هو رومة والمسحيون في العالم البيزنطي ينتمون إلى طقس واحد هو الطقس البيزنطي وينتمون لمذهب واحد ولمرجع واحد هو القسطنطينية نرى المسيحيين في العالم العربي مقسّمين إلى طوائف ومذاهب مختلفة، ويعود ذلك أولاً لتواجد بطريركتين متميزتين من الأصل الاسكندرية وانطاكية، وكنيستين مستقلتين في دولتي فارس وأرمينيا، ثم لتأصّل الشقاق الناجم عن المجادلات الخريستولوجية (حول كيان المسيح) بينما في العالم البيزنطي والعالم الغربي سادت العقيدة الخلقيدونية. وقد ثبت الحكم العربي التعددية في الكنائس داخل الوطن العربي وإن جاءت اللغة العربية لتوحّدهم ثقافياً. وعلينا أن نستعرض تاريخ كل منها باقتضاب.
الملكيون: الملكيون هم الفئة الوحيدة التي ظلّت في شركة كنسية مع المسيحيين خارج العالم العربي، رومة والقسطنطينية إذ قبلوا المجمع الخلقيدوني والمجامع التالية التي عقدت في الشرق، وكانوا موزعين على ثلاث بطريركات الاسكندرية وانطاكية والقدس، وكانوا أقلية في مصر وأكثر من نصف المسيحيين في البطريركية الانطاكية والأكثرية الساحقة في بطريركية القدس. ولم يتمكّن البطاركة من تسلّم مراكزهم إلا خلال القرن الثامن. وفي دمشق شغل الملكيون في عهد الأمويين مراكز عالية في الدواوين وكان والد يوحنا الدمشقي رئيس ديوان المحاسبة وهو نفسه عمل في بلاط عبد الملك قبل أن يدخل الدير. وحافظوا حتى حملات الفرنجة على مراكز ثقافية دينية هامة لا سيما أديرة منطقة انطاكية (دير القديس سمعان العجائبي) ودير القديس سابا شرقي القدس ودير القديس خاريطون جنوب بيت لحم ودير القديسة كاترينا في جبل سيناء. ونبغ في القرنين الثامن والتاسع عدد غفير من اللاهوتيين والشعراء وضعوا مصنفات لاهوتية وأناشيد دينية لا تزال ترنّم في الطقس البيزنطي. وأشهر الكتاب الملكيين في هذا العصر يوحنا الدمشقي كاتب أول موسوعة لاهوتية وثاودوروس أبو قرة، وقسطا بن لوقا، وابن البطريق، ويحيى بن سعيد، وعبد الله بن الفضل.
في القرن العاشر سقطت انطاكية في يد الروم وبقيت في حوزتهم زهاء قرن وربع، فأصبحت البطريركية الملكية ضمن منطقة نفوذ البطريركية القسطنطينية واتخذ عدد كبير من البطاركة من بين اكليروس العاصمة. وزاد التأثير البيزنطي في الملكيين ابان حملات الفرنجة، إذ اضطر البطاركة الملكيون إلى اللجوء إلى القسطنطينية، وهكذا حلّ شيئاً فشيئاً الطقس البيزنطي بدل الطقس الانطاكي القديم لدى الملكيين. وكان يُقام بالسريانية في الريف وباليونانية والعربية في المدن.
واستولى بيبرس على انطاكية سنة 1268 ودمّرها. وبعد أن أبرم اتفاقاً بين البيزنطيين والمماليك تمكّن البطاركة الملكيون من العودة إلى سورية ونقلوا كرسيهم إلى دمشق. وتضاءل تأثير القسطنطينية إلى حين. ولما استولى العثمانيون على البلاد عظموا شأن بطاركة القسطنطينية اليونان واعتبروهم مسؤولين عن جميع الأرثوذكس البيزنطيين في الدولة العثمانية. واستولى اليونان على كرسيي الاسكندرية وأورشليم إلى اليوم. بينما البطريركية الانطاكية ظلّت في يدي الملكيين العرب حتى عام 1724. وانقسمت الطائفة في هذا التاريخ إلى فئتين فئة أقرّت بسلطة رومة وأعادت الشركة معها على أساس مقررات المجمع الفلورنتيني[3] وفئة ظلت معارضة للاتحاد مع رومة. وتابع الكاثوليك سلسلة البطاركة الوطنيين، وأما الفرع الأرثوذكسي فقد تولى أمره بطاركة يونان من سنة 1724 إلى 1898. وتمكّن الأرثوذكس العرب سنة 1898 من انتخاب بطريرك من أبناء البلاد.
ولم يعترف العثمانيون بسلطة البطاركة الروم الكاثوليك واعتبروهم خارجين على طاعة البطاركة الأرثوذكس المعترف بهم لدى البطريركية المسكونية والدولة العثمانية فهرب البطاركة الكاثوليك من دمشق وأقاموا في لبنان. وتمكّن البطريرك مكسيموس مظلوم من دخول دمشق سنة 1834 وإعادة تنظيم الطائفة واستقلالها تماماً عن الأرثوذكس. وأقرّت له رومة الولاية على الروم الكاثوليك في فلسطين ومصر بينما ظلّ الروم الأرثوذكس موزعين على ثلاث بطريركيات الاسكندرية وانطاكية وأورشليم. وجاهد الروم الكاثوليك ليحافظوا على هويتهم الشرقية مع انتمائهم لكرسي رومة. ولعبوا دوراً هاماً في مجمعي الفاتيكان الأول والثاني.
النساطرة والكلدان أو السريان الشرقيون: لم يتغير وضع الكنيسة النسطورية مع الفتح العربي. فالحكم في مملكة فارس لم يكن مسيحياً ولما انتقل الحكم إلى العباسيين في بغداد أصبح للنساطرة مكانة مرموقة في الدولة ولمعوا في الترجمة والطب. وفقد النساطرة أبرشياتهم التي كانت في الجزيرة العربية على سواحل الخليج بيد أنهم امتدوا إلى الشرق خارج حدود الدولة العربية فقاموا بمجهود تبشيري عظيم في بلاد التتر والمغول والهند والصين وازدهرت الكنيسة النسطورية في هذه المناطق من القرن الثامن حتى الرابع عشر.
ولم يتأثر النساطرة – وسوداهم في العراق وإيران – بالأحداث التي هزّت بلاد الشام من القرن العاشر حتى الثالث عشر. ولما استولى المغول على العراق سنة 1258 تحسّنت أوضاع النساطرة فهولاكو الفاتح كانت أمه نسطورية وعدد كبير من شعبه على المذهب النسطوري. واعتلى السدة البطريركية عدة بطاركة من أصل مغولي. إلا أن معظم المغول الوثنيين انتحلوا الإسلام في القرن الرابع عشر وتألبوا على النساطرة وقضى تيمورلنك على جماعاتهم في إيران والعراق وأما من ثبتوا على إيمانهم ونجوا من المذابح فلاذوا بالجبال في مناطق كردستان وبحيرتي أورميا وفان. وفي أوساط القرن السادس عشر بدأ الاتصال بين النساطرة والكنيسة الكاثوليكية وانقسموا إلى شطرين شطر اتحد برومة محافظاً على طقوسه وقسم بقي على مذهبه القديم. ودعي الكاثوليك كلداناً والنساطرة اشوريين.
وثار الآشوريوّن في معاقلهم الجبلية على العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى بتحريض من الإنكليز والروس ثم تخلّى عنهم الحلفاء فاضطروا إلى الهرب من وجه الأتراك، فنزحوا عن أراضيهم ولجأوا إلى العراق وحلّ بهم في العراق نكسة جديدة عام 1933 فلجأ عدد منهم إلى الجزيرة في سورية واستقرّ بطريركهم في الولايات المتحدة وعاد مؤخراً إلى إيران. وبدأ حوار لاهوتي رسمي مع الكنيسة الكاثوليكية أظهر الاتفاق الأساسي في العقيدة رغم تباين الألفاظ. أما الفرع الكاثوليكي أي الكلدان فهو أكثر ازدهاراً ولا يزال البطريرك مقيماً في بغداد وقد انتشرت الكنيسة الكلدانية خارج العراق منبتها الأصلي في سورية ولبنان ومصر وبلاد الغرب ولا سلطة لبطريرك الكلدان على الملبار جنوب الهنود الذين يمارسون أيضاً الطقس الكلداني.
السريان: أقر الحكم العربي بكيان الكنيسة السريانية الانطاكية المعارضة للمجمع الخلقيدوني بعد أن كان البيزنطيون يلاحقونها لانحرافها عن المذهب الرسمي وعومل السريان بأفضل مما عومل به الملكيون لانقطاع روابطهم بالبيزنطيين وتمكّنوا من التوسّع جهة العراق بعد أن زالت الحدود الفاصلة بين الروم والفرس شرقي الفرات وكان للسريان المسمون يعاقبة من عظيم الشأن ما كان للنساطرة في حركة الترجمة وإنعاش العلوم والفلسفة عند العرب، ونبغ فيهم عدد من أعظم المفكرين: يعقوب الرهاوي، يحيى بن عدي، ميخائيل الكبير، ابن العبري. وبعد الكوارث التي حلّت في أواخر القرون الوسطى لجأ معظمهم إلى جبال طور عبدين ونواحي ماردين.
ولما نشطت الحركة الكاثوليكية في حلب في القرن السابع عشر قام بطريركان كاثوليكيان بالتوالي على رأس الطائفة السريانية إلا أن معارضي الاتحاد برومة استحصلوا على أمر بنفي البطريرك الكاثوليكي، وظلّ الكاثوليك بدون بطريرك حتى عام 1783 حيث أعلن البطريرك ميخائيل جروة إيمانه الكاثوليكي وانشطر السريان إلى فرعين لكل منه بطريرك وأساقفة وتنقل مركز البطاركة مع الأيام ويقيم بطريرك السريان الأرثوذكس منذ بضع سنوات في دمشق والبطريرك الكاثوليكي في دير الشرفة في لبنان. وفي جنوب الهند عدد كبير من الملبار مرتبطون بالكنيسة السريانية الأرثوذكسية.
الأقباط: الكنيسة القبطية (أو المصرية) هي كبرى الكنائس في مصر لأن الملكيين كانوا قلة في القرن السادس ونزح عدد وافر منهم مع الجيوش البيزنطية واعترف العرب بالبطريرك القبطي بعد أن كان البيزنطيون يلاحقونه.
بقيت مصر في مأمن من الغزوات والحروب التي اجتاحت الشرق الأسيوي ومع ذلك فقد ضعفت الكنيسة القبطية قبل سائر الكنائس الشرقية لأن معظم أبناءها كانوا من الفلاحين الأميين وأما الطبقة الراقية المحصورة في الاسكندرية والمتأثرة بالثقافة اليونانية فقد غادرت البلاد. وبلغ الأقباط قدراً من الازدهار الثقافي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر مع الكاتبين أبي البركات وابن العسال إلا أن هذه النهضة لم تدم طويلاً. وتحسّن وضع الأقباط مع محمد علي. وكانت الكنيسة الأثيوبية مرتبطة قبلاً بالأقباط وحصلت مؤخراً على استقلالها عنها. واعتنق الكثلكة عدد ضئيل من الأقباط خلال القرن الثامن عشر. ولم تنشئ لهم رومة بطريركية إلا في أواخر القرن التاسع عشر. ويبقى الأقباط الكاثوليك أكبر طائفة كاثوليكية في مصر، والأقباط عامة أكبر تجمع مسيحي عربي.
الأرمن: تاريخ الشعب الأرمني وتاريخ الكنيسة الأرمنية مرتبطان ارتباطاً وثيقاً. دخلت المسيحية أرمينيا في مطلع القرن الرابع واعتنق ملكها المسيحية التي أصبحت الديانة الرسمية وتأثر الأرمن بقيصرية الكابادوك والرها. ونقلوا إلى لغتهم الكتاب المقدس وكوّنوا لذاتهم طقساً خاصاً قريباً من الطقس البيزنطي.
كانت أرمينيا في العصور القديمة موضوع نزاع بين الرومان والفرس، وبقيت كذلك في القرون الوسطى ما بين البيزنطيين والعرب. كان البيزنطيون يحاولون دوماً حمل الأرمن على قبول المجمع الخلقيدوني ويضغطون عليهم. أما العرب الذين سيطروا على البلاد منذ سنة 653 فقد تركوا للأرمن بعد فترة قصيرة من القمع شيئاً من الحرية السياسية وكامل الحرية الدينية، ثم ولوا عليهم أسرة محلية وهي آل بغراتوني وسنة 1054 استولى البيزنطيون على أرمينيا وحاولوا إلحاق الأرمن بالمذهب الرسمي. إلا أن الأتراك السلاجقة كسروا البيزنطيين عام 1071 ووقعت أرمينيا تحت الحكم التركي فكان بدء هجرة الشعب الأرمني إلى منطقة أورفا شمال سورية وإلى كيليكيا حيث أسسوا مملكة أرمينيا الصغرى وانتقل مركز الكاثوليكوس الرئيس الأعلى للكنيسة الأرمنية من اشميازين (أرمينيا) إلى قلعة الروم قرب أورفا ثم استقر في سيس في كيليكيا.
وكان الأرمن على اتصال ودي مع الفرنجة (الصليبيين) في إمارة انطاكية المجاورة. واستعادت الكنيسة الأرمنية في هذه الحقبة اتحادها برومة وبلغت عصرها الذهبي الثاني. وقضى مماليك مصر عام 1375 على الدولة الأرمنية في كيليكيا. وانقسمت بعد ذاك الكنيسة الأرمنية إلى فئتين فئة استعادت المركز التاريخي لكاثوليكوس الأرمن في اشميازين وأخرى احتفظت بمركز الكاثوليكوس في سيس. ولما سيطر العثمانيون على البلاد أقاموا بطريركاً أرمنياً في القسطنطينية أقروا له بالسلطة المدنية على جميع الأرمن وعلى الأرثوذكس غير البيزنطيين في الدولة العثمانية. وفي القرنين السابع عشر ثم الثامن عشر ضمت أجزاء من أرمينيا إلى إيران وروسيا.
وفي أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تعرض الشعب الأرمني لمذابح ومحاولات إبادة وهاجر من تركيا من نجا من المذابح ولم يبق من الأرمن فيها إلا قلة متمركزة في اسطنبول. وأسس الأرمن الذين أخضعوا للحكم الروسي جمهورية مستقلة سنة 1918 إلا أنها ما عتمت أن وقعت تحت سيطرة السوفيات. واستعادت هذه الجمهورية استقلالها لما انحلّ الاتحاد السوفيتي (1990) ويقيم الكاثوليكوس الأعلى في اشميازين ضمن حدودها. أما كاثوليكوس سيس فاضطر إلى مغادرة تركيا مع من تبقى من شعبه على أثر انسحاب الفرنسيين من كيليكية وأقام في انطلياس (لبنان) 1930.
إن حركة التقارب مع روما لم تندثر بعد عهد الصليبيين وقد أرسل الأرمن مبعوثين إلى مجمع فلورنسا ونشطت حركة الكثلكة بين الأرمن في القرنين السابع عشر والثامن عشر وكان أسقف حلب الأرمني في مطلع القرن الثامن عشر كاثوليكي المعتقد وفي سنة 1740 أعلن كاثوليكوسا على سيس فانشطرت الطائفة الأرمنية في ايالة سيس إلى شطرين أرثوذكسي وكاثوليكي وكانت سلطته تشمل كيليكيا وسوريا ومصر ويقيم في لبنان أما باقي الأرمن الكاثوليك في تركيا فكانوا خاضعين أولاً للنائب الرسولي اللاتيني في اسطنبول ثم عيّن لهم البابا بيوس التاسع رئيس أساقفة متعلقاً رأسا بالكرسي الرسولي. وفي سنة 1867 اندمجت الايالتان وتركزت البطريركية فترة في اسطنبول وبعد الحرب العالمية الأولى انتقلت إلى مركزها الأول في لبنان( بزمّار).
الموارنة: لم يشكل الموارنة فئة كنسية خاصة قبل القرن السابع إذ تفرعوا عن الملكيين ولجأوا إلى جبال لبنان وعاشوا آمنين متمتعين بشيء من الاستقلال الذاتي ولا نعرف عنهم شيئاً يذكر قبل حملات الفرنجة. ويتحدث المؤرخ الفرنجي غليوم أسقف صور عن اتحادهم بالكرسي الرسولي ويقدّر عددهم إذ ذاك بأربعين ألفاً. وعادت العلاقات مع روما في مطلع القرن السادس عشر بعد أن انقطعت في فترة حكم المماليك. وطغى التأثير اللاتيني على الموارنة في طقوسهم وتشريعاتهم. وقد تربى عدد كبير من اكليروسهم في المعهد الماروني في روما وكانوا رواد حركة الاستشراق في أوروبا.
وانفتح لبنان على الغرب في مطلع القرن السابع عشر مع الأمير فخر الدين الثاني وهو درزي. وتعاون الأمير مع الموارنة. ومن هذا التعاون الإسلامي المسيحي نشأ لبنان الحديث. ويقضي الدستور اللبناني الحديث أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً. وينعم البطريرك الماروني بنفوذ سياسي وديني كبير. لئن كان للموارنة أهمية قومية كبرى في لبنان فقد بات لهم أيضاً في العصور الحديثة شأن كبير من الوجهة الكنسية خصوصاً في تاريخ النهضة الفكرية والدينية وفي دعم الحركة الكاثوليكية عند الملكيين والسريان والأرمن في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وهم اليوم الطائفة الشرقية الوحيدة التي ليس لها فرع أرثوذكسي والطائفة الرائدة في لبنان.
ثانياً: الكنيسة في العالم البيزنطي
في التاريخ البيزنطي ليس من فاصل واضح بين العصور القديمة والعصور الوسطى كما هي الحال في الغرب، حيث قامت الدول الجرمانية على أنقاض المملكة الرومانية وفي الشرق العربي حيث ظهر الإسلام وقضى على تسلط الروم والفرس. فالعالم الروماني القديم واصل حياته ووجوده في المملكة البيزنطية حتى آخر القرون الوسطى. إلا أنه انحصر في المقاطعات التي تنطق باليونانية. كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تضم في مطلع القرن السابع البطريركيات الرسولية الخمس فلما سقطت بطريركيات الاسكندرية وانطاكية والقدس في حكم العرب وضمت إلى البطريركية القسطنطينية المقاطعات البلقانية التابعة قبلا لكرسي روما، وخرجت روما عام 754 عن الحكم البيزنطي انحصرت الدولة البيزنطية في حدود البطريركية القسطنطينية. وتقلصت من جراء ذلك فكرة الشمول التي مهرت الإمبراطورية الرومانية من قبل بطابعها وامسى من العسير تفهّم الحضارات الأخرى وتقبلها. فزاد التوتر بين الكنيسة البيزنطية والكنائس الأرمنية والسريانية من جهة وفترت علاقاتها بروما من جهة أخرى واصبح البطريرك القسطنطيني البطريرك الأوحد في الإمبراطورية فاتخذ لقب البطريرك المسكوني واعتبر الإمبراطور نفسه مسؤولاً عن الدين والدنيا يحامي عن الكنيسة وعقيدتها كما يتحكم بها ويسخرها لمآربه السياسية.
واكتملت معالم الكنيسة البيزنطية في القرن التاسع. فقد تبلورت العقيدة في القرن الثامن مع المجمع المسكوني السابع ( 787 ) آخر المجامع المسكونية التي تقرّ بها الكنيسة القسطنطينية وانتصرت الكنيسة الأرثوذكسية سنة 843 بقضائها النهائي على آخر البدع وهي بدعة محاربي الأيقونات. وأنهى الطقس البيزنطي تطوره في القرن التاسع فلم يطرأ عليه من بعد سوى تحسينات ضئيلة في القرن العاشر. واحتفظت الحياة الرهبانية بأساليبها وامتلأ جبل آثوس في القرن العاشر بالأديرة والنساك.
وفي ما سوى امتداد الكنيسة البيزنطية إلى الشعوب السلافية( الصرب، البلغار، مورافيا، روسيا ) ونهضتها الروحية والفنية في القرن الرابع عشر لم تتبدل معالم الكنيسة ولم تتأثر في حياتها الداخلية بتطورات الزمان إنما انتشرت أو تقلّصت بفعل ما طرأ على الإمبراطورية من تقدم أو تقهقر.
ولم يأبه البيزنطيون كثيراً لقطع العلاقات الكنسية مع روما. في القرن التاسع بعد التوتر الذي حصل بين البطريرك القسطنطيني فوطيوس والكرسي الروماني حرص الإمبراطور على إعادة الوحدة والوئام بين روما والقسطنطينية في عام 879-880 آخر مجمع يعقد في الشرق ويتمثل فيه البابا رسمياً وأقرّ فيه حقوق الكرسي الأول (روما) وحقوق سائر البطاركة. وحصلت قطيعة عام 1054 إذ رشق موفدو البابا البطريرك كارولاريوس بالحرم. ولم تنجح محاولات المصالحة نظراً للأحداث السياسية وللتطورات اللاهوتية في الغرب من جانب واحد. وأتت الضربة الكبرى من الحملة الصليبية الرابعة ( 1204 ) التي رسخت الانقسام في قلوب الشعب.
حاول الأباطرة البيزنطيون إعادة الوحدة الدينية مع الغرب ليأمنوا عودة الصليبيين (مجمع ليون 1274) وليحصلوا على معونة القوات الغربية أمام الزحف العثماني (مجمع فلورنسا عام 1439) إلا أن هذه المحاولات الوحدوية لم تلقَ تأييداً شعبياً. وبعد أن سقطت المقاطعات البيزنطية الواحدة تلو الأخرى بيد العثمانيين وقعت القسطنطينية بيد محمد الفاتح عام 1453.
احترم العثمانيون سلطة بطاركة القسطنطينية وفوّضوا إليهم مسؤولية جميع الأرثوذكس في الدولة (مقاطعات البلقان والبلاد العربية) وتسلّط اكليروس القسطنطينية اليوناني على أهم المراكز الكنسية الشرقية. إلا أن السلاطين كانوا يتحكّمون بالبطاركة فينصبونهم ويعزلونهم اعتباطاً.
وبقيت روسيا وحدها خارج الحكم العثماني ومنح رئيس أساقفة موسكو عام 1589 لقب بطريرك واستقلّ تماماً عن القسطنطينية وإن انتفاضة الشعور القومي في مطلع القرن التاسع عشر أسفرت عن إنشاء دول جديدة في البلقان انسلخت عن الإمبراطورية العثمانية وهذا التحرر السياسي عقبه تحرر الكنيسة من سلطة البطريرك المسكوني وقيام كنائس مستقلة. لم يعد للبطريرك المسكوني من سلطة مباشرة إلا على الأرثوذكس المقيمين في الجمهورية التركية وفي بعض الجزر اليونانية وعلى الأرثوذكس المشتتين خارج الأقطار الشرقية. يحافظ البطريرك القسطنطيني على الأولية الشرفية في العالم الأرثوذكسي بيد أنه لا يملك سلطة شاملة ولا يعترف له بحق التكلم باسم الأرثوذكسية كلها. ولكنه ينعم بحق الأخذ بالمبادرة وبحق إعلان البطريركيات الجديدة. وهو يقود الآن تهيئة المجمع الأرثوذكسي العام والحوار مع الكنيسة الكاثوليكية.
ثالثاً- تطور الكنيسة في العالم الغربي
بقيت الباباوية القوة الموحّدة في الغرب بعد أن انهارت الدولة الرومانية وقامت على أنقاضها شعوب مختلفة، وبفضل الباباوية والرهبان المرسلين امتدّت المسيحية إلى سائر أنحاء ألمانيا والمجر وبولونيا وشمال أوروبا. نشأت حضارة عامة جديدة شملت الغرب المسيحي كله كان للكنيسة الفضل الأكبر بتكوينها. وكانت اللاتينية لغة العلم والليتورجيا وساد الطقس الروماني في كل تلك الأصقاع.
خرجت رومة من حكم البيزنطيين في القرن الثامن، ومنح الكارولانجيون الباباوات السيادة على مناطق واسعة في وسط ايطاليا. وتَوِّج البابا شارلمان عام 800 امبراطوراً على الغرب، ثم قامت مع اوتون عام 961 الامبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة. وقام تعاون بين الباباوات والأباطرة لقيادة المجتمع الغربي. وقع الباباوات في القرن العاشر تحت سيطرة الأمراء الإيطاليين والحكام الألمان ثم تحرّروا من النفوذ الزمني في أوساط القرن الحادي عشر إذ حصر انتخاب الباباوات بالكرادلة. وبلغت الباباوية ذروة سلطتها الدينية والزمنية مع البابا غريوريوس السابع 1073 حتى وفاة البابا بونيفاسيوس الثامن 1303. في هذه الفترة عقدت عدة مجامع اصلاحية اعتبرت مسكونية رغم عدم اشتراك الشرق فيها ولا تقرّ بها الكنيسة الأرثوذكسية. وانتعشت الحياة الفكرية بعد جمودها طويلاً بفضل الاتصال مع عرب اسبانيا وصقلية والالتقاء بالحضارة الشرقية إبان الحروب الصليبية وقامت الجامعات والموسوعات اللاهوتية المعروفة بالسكولاستيكية أو المدرسية وأشهرها موسوعة القديس توما الاكويني. وأسست رهبنات جديدة (الفرنسيسكان والدومينيكان) لعبت دوراً رسولياً وفكرياً هاماً. وفي هذه الحقبة بنيت الكاتدرائيات الكبرى في أوروبا وتحمّس الملوك والأمراء للحملات الصليبية.
مع القرن الرابع عشر بدأت تأفل حضارة القرون الوسطى. زالت فكرة المجتمع المسيحي الأوحد بزعامة البابا، وانطوت الشعوب على نفسها متمسّكة بفرديتها، وفتر الإبداع في اللاهوت المدرسي، وبدأ التشكّك في الحقائق الموروثة. أربعة أمور سببت انحطاط السلطة الباباوية:
– منفى أفينيون (1305-1378) إذ أضطر الباباوات إلى مغادرة روما واللجوء إلى فرنسا.
– الانقسام الكبير الغربي، إذ قام سلسلتان من الباباوات متعارضة (1378-1417)
– مبدأ تفوّق المجمع على البابا (مجمعا كونستانس وبال)
– ترف باباوات النهضة واهتمامهم بالسياسة.
بدأ العصر الحديث بتحوّلات فكرية وسياسية ودينية هامة: استقلال العلم عن الفلسفة واللاهوت، استعمال اللغات الأوروبية الحديثة بدلاً من اللاتينية، قيام دول قوية مركزية، إسبانيا التي تحرّرت من الحكم العربي، انكلترا، فرنسا، إمبراطورية ألمانيا؛ التوسّع الأوروبي في العالم الجديد (اميركا) وافريقيا والشرق الأقصى الذي فتح مجالات للرسالات التبشيرية وأخرج الكنيسة الكاثوليكية من محيطها الأوروبي، حركة الإصلاح التي قام بها لوثر ثائراً على بعض الأوضاع المنحرفة والتي أسفرت عن انفصال شعوب برمّتها عن الكنيسة الكاثوليكية.
وقام الباباوات بإصلاح الكنيسة الحقيقي من خلال المجمع التريدنتيني (1545-1562) الذي أوضح العقائد التي نفاها البروتستانت، وأصلح الطقوس وشدد على حسن تربية الاكليروس وتثقيف الشعب الديني ونظم الدوائر الرومانية فتشددت المركزية. وقامت نهضة روحية قوية في اسبانيا في القرن السادس عشر (القديسة تريزيا مصلحة الكرمل، القديس يوحنا الصليبي، القديس اغناطيوس دي لوايولا مؤسس الرهبنة اليسوعية التي لعبت دوراً هاماً في النهضة الكنسية والرسالات). وفي فرنسا في القرن السابع عشر (القديس فرنسيس السالزي، مار منصور دي بول، بوسويه) ونشطت المدارس الاكليركية والجمعيات الإرسالية.
وخبت النهضة الروحية في القرن الثامن عشر حيث قامت فلسفة الأنوار المشككة بالدين (فولتير، روسو) وتراجعت الرسالات وقامت الثورة الفرنسية ضد نظام الحكم المطلق والامتيازات الطبقية وأخذت الحركات التحريرية وجهاً معادياً للدين كما بدأ الفكر الفلسفي والمادي يبعد الكثيرين في الغرب عن الكنيسة.
وكانت حبرية البابا بيوس التاسع (1846-1878) مضطربة فقد فقدت الباباوية حكمها الزمني وأصبحت رومة عاصمة إيطاليا الموحدة. إنما أقر للبابا في معاهدة اللاتران عام 1929 بحقّ السيادة على الفاتيكان واصبح له مكانة دولية، وفي المجمع الفاتيكاني الأول (1869-1870) تم تحديد سلطة البابا الروحية وعصمته وشجب أضاليل الإلحاد المعاصر.
وراح الباباوات من بعده بدءاً من البابا لاون الثالث عشر (1878-1903) يحاورون العالم المعاصر والفكر الحديث ويعالجون القضايا الاجتماعية المستجدّة. وكان المجمع الفاتيكاني الثاني الذي دعا إليه البابا يوحنا الثالث والعشرون وتابعه البابا بولس السادس (1962-1965) تجدداً في الكنيسة بالعودة إلى الجذور والانفتاح على العالم وسائر الكنائس. وركز على دور الأساقفة إلى جانب البابا في إدارة الكنيسة الجامعة. ومن أهم إنجازاته تنظيم مجلس الأساقفة في كل قطر وسينودسات الأساقفة التي تعقد دورياً في رومة. وعقب ذلك نشر التشريع الجديد للكنيسة اللاتينية وتشريع الكنائس الشرقية الكاثوليكية وكتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية.
والبابا يوحنا بولس الثاني في نهاية الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة يركّز في رحلاته الرسولية ورسائله على إعلان الإنجيل لغير المؤمنين والتبشير الجديد في البلدان المسيحية القديمة التي تراجع فيها الإيمان، ويدعو إلى توطيد حضارة المحبة بالقضاء على الحروب والظلم وتطعيم الثقافة المعاصرة بروح الإنجيل، واحترام القيم الأخلاقية الأساسية في شؤون الحب والحياة والرقي الحقيقي لكل إنسان ولكل الإنسان. ويبذل كل المساعي لتحقيق الوحدة المسيحية الشاملة ضمن احترام التقاليد الخاصة كي تقدم الكنيسة مجدداً شهادة واحدة للمسيح، كما يدعو إلى الحوار والتعاون مع كافة المؤمنين بالله لتوطيد العدالة والسلام والكرامة الإنسانية وحقوق الله الخالق والتعايش الأخوي بين جميع عباد الله. وتجلّى ذلك بوضوح إبان زيارته الأخيرة لسورية من 5 إلى 8 أيار 2001.
عن موقع القديسة تريزا
[1] كاتب كنسي من قرطاجة (شمال أفريقيا) كتب باللاتينية في مطلع القرن الثالث
[2] النصوص الرسمية لا تخوّل فرنسا إلا حماية رعاياها. إلا أنه بعد تسرّب الضعف إلى الدولة العثمانية أخذت من باب الموانة تحمي المسيحيين لا سيما الكاثوليك من المظالم.
[3]عقد المجمع الفلورنتيني في فلورنسا (ايطاليا) عام 1439 وحضره الامبراطور البيزنطي وبطريرك القسطنطينية وعدد كبير من الأساقفة البيزنطيين علاوة على البابا والأساقفة اللاتين. وأقرّ المجمع الاتحاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية وقَبِل اليونان رئاسة البابا على أن تصان حقوق وامتيازات البطاركة الشرقيين.