راهب يكتشف قوانين الوراثة

                                                         اللواء/ سمير قلادة

وُلد "جورج مندل أبوت" في تشيكوسلوفاكيا عام 1865 من أبوين فقيرين وعندما بدأ يتفتح للحياة أحس برغبة شديدة في الاشتغال بالتدريس ومع نموه إشتدت رغبته في هذه المهنة، فلما فاتح والديه في الأمر، اهتمت والدته بما قاله، وبدافع الأمومة قررت معاونته على تحقيق رغبته رغماً عن ظروف الأسرة واحتياجاتها، فعملت وضحت، تحملت وثابرت. لكن إعتلال صحة الابن أعجزه عن إتمام دراسته، فأدرك أن الطريق أصبح مغلقاً أمام تحقيق رغبته.

رغماً عن ذلك، ظلت رغبته قائمة، لم يستطع تجاهلها أو نسيانها شأنه في ذلك شأن أي إنسان موهوب، سبقت السماء فأعدت له دوراً معيناً ليقوم به من أجل الخير، إذ وجدت الفكر مهتماً بذلك الدو، راغباً في القيام به، مهتماً بدراسته، وظل مصراً على رغبته.

وأمام العزيمة والإصرار، كان لابد للأقدار أن تفتح باباً آخر، فقد إقترح أحد أساتذته على والديه إلحاقه بأحد الأديرة في مدينة "برونو" حيث يمكن له أن يعمل ويدرس. يعمل في تدريس الصغار ويدرس من أجل الحصول على درجة علمية تؤهله للتدريس في مستويات أعلى، ووافق الجميع على ذلك بل وسعدوا، والتحق بالدير عام 1843 راهباً تحت الاختبار فأخذ يُعلّم ويدرس ويتأهب للامتحانات.

لكن السماء التي رأت أمانته وإخلاصه نحو العمل الذي أرادته له عاونته على التفرغ له، فقد فشل في الحصول على الدرجة العلمية التي تجعله مؤهلاً للتدريس في المستويات الأعلى، وعرف بعد ذلك أن هذا الفشل كان السبب المباشر لكي يتفرغ لأبحاثه العلمية.

ولو كان قد نجح ما كان وجد وقتاً لذلك. وفي نفس الوقت أُعجب به المختصون بأمور الدير لتقواه ووداعته وإيمانه واعتبروه قد اجتاز مرحلة الاختبار، فقرروا قبوله في سلك الرهبنة.

كانت حديقة الدير هي أفضل الأماكن التي يحب البقاء فيها، كانت تطيب له المراقبة والتمعن في طريقة نمو الأزهار والنباتات، ووجد في أعماقه أيضاً الصفات التي تمكنه من القيام بأبحاثه، وأهمها دقة الملاحظة، التعمق في دراسة الأسباب والنتائج وحب التنظيم والترتيب. وكان نبات البسلة أكثر النباتات التي تسترعي اهتمامه حيث لاحظ أنواعاً منه تختلف في الطول ولون الأزهار وحجم الثمار. ثم اتجه لدراسة بعض الأبحاث العلمية التي قام بها علماء من قبل، واستعان بها في بحوثه، وعرف من الناحية النظرية مكونات الخلية النباتية، أراد إثبات أن في الخلية النباتية جزئيات صغيرة خاصة تحمل صفات الطول واللون والحجم للنبات، قام بتجارب خلط فيها بعضاً من هذه الأنواع، وحصل في النهاية على أنواع جديدة من هذا النبات تحمل صفات جديدة. وتشجع بهذا النجاح، أجرى تجارب أخرى على نباتات مختلفة، وتبين له أن القوانين التي توصل إليها في نبات البسلة تنطبق على جميع النباتات الأخرى.

استغرقت أبحاثه ثلاث سنوات، توصل فيها إلى كشف الصفات الموروثة والمكتسبة في النبات، وأسرار تطور النباتات الأخرى. وقدم نتائج بحوثه إلى إحدى الجمعيات العلمية المعروفة في ذلك الوقت فسجلت في سجلات الجمعية عام 1866، ثم نقلت صوراً منها إلى المكتبات الكبيرة في أنحاء العالم.

كان جورج مندل يتوقع تقديراً من المحافل العلمية لكن أبحاثه أُهملت، فتأثرت نفسيته وتُوفيّ عام 1884.

بحسب المقياس المادي للأمور يمكن القول أنه مات مظلوماً، لكن في ضوء تعاليم الكتاب المقدس يمكن القول أن عدالة السماء إختارت له النصيب الأكبر، والمكافأة الأعظم من مكافأة الأرض.

كان قد أعطى بغير حدود، فكان لابد أن ينال أيضاً بغير حدود، مكافأة سماوية غير محدودة، تنتظر كل من كان أميناً على رسالته، من الأم المضحية، إلى الأب المجاهد، إلى العالم الذي أفنى حياته في البحث، فالظلم الحقيقي لمن أعطى بغير حدود هو أن يأخذ مكافأة أرضية محدودة تنتهي بنهاية حياته.

بعد وفاته بنحو ستة عشرة سنة، كان ثلاثة من العلماء يقومون بأبحاث عن الوراثة، بطريق المصادفة اطلعوا على تقارير "مندل" التي أُهملت زمناً طويلاً، فأدهشهم أنهم رأوا فيها شروحاً تفصيلية لقوانين الوراثة أقيمت على تجارب علمية دقيقة، واعتبرت الهيئات العلمية أنه أول من وضع أسس علم الوراثة (التناسليات) الحديث… ورجعوا إلى مكتبة الدير، فوجدوا فيها دراسات دقيقة عن عالم الحيوان أيضاً… وهكذا حفظت له السماء جهوده بعد وفاته… لينال مكافأته منها….

عن مجلة صديق الكاهن