عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 24/2/08

بكركي، 24 فبراير 2008 (Zenit.org).

 ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي والتي تابع فيها حديثه عن "عماد يسوع" في كتاب قداسة البابا بندكتس السادس عشر: "يسوع الناصري".

* * *

نتابع الحديث عما جاء عن عماد يسوع في كتاب قداسة البابا بندكتس السادس عشر هذا الشرح لحادث عماد المسيح وتبنيه الكنسي، هل أبعدانا كثيرا عن التوراة؟ في هذا الاطار، جدير بنا أن نعير الانتباه الانجيل الرابع الذي فيه، عندما رأى يوحنا المعمدان يسوع، قال هذه الكلمات: "هوذا حمل الله الحامل خطايا العالم". هذه الكلمات التي نقولها قبل المناولة في الطقس اللاتيني الروماني، كانت مدار تأويلات كثيرة. ما معنى "حمل الله"؟ وكيف تأتى أن يدعى يسوع "حملا"، وان يحمل هذا "الحمل" خطايا العالم، ويعلو عليها ليجعل منها شيئا لا جوهر له ولا واقع؟.
يواكيم أرميا قدم الأدوات التي لا بد منها لتفهم هذه الكلمة، ولاعتبارها كلمة حقيقية من كلمات يوحنا المعمدان، بما فيه على الصعيد التاريخي. وفيها تلميحان الى العهد القديم. ان نشيد خادم الله في كتاب آشعيا يشبه الخادم المتألم بحمل يقاد الى المسلخ: "كحمل صامت أمام الذين يجزونه، لم يفتح فاه". وهناك ما هو أهم من ذلك، وهو أن يسوع سيصلب في عيد فصح اليهود، بحيث انه كان من الواجب أن يظهر أنه حمل الفصح الحقيقي، الذي يتمم المعنى الذي كان يحمله الحمل الفصحي لدى الخروج من مصر: تحرير مصر، "بيت العبودية"، وفتح المجال هكذا للخروج، والرحيل للاستمتاع بحرية الوعد. ورمزية الحمل، انطلاقا من الفصح، أصبحت أساسية لتفهم يسوع. ونجد هذه الرمزية لدى بولس، ويوحنا، في رسالة بطرس الأولى، وفي سفر الرؤيا مثلا.
علاوة على ذلك، ان أرميا يشدد على أن معنى لفظة تلجا العبرانية هو في وقت معا، "حمل" و"ولد" و"خادم". وقد تكون الكلمة التي استعملها المعمدان قد عنت خادم الله، الذي: "يحمل" خطايا العالم ليكفر عن جميع الناس. ولكن في الوقت عينه، أما تعني هذه الكلمة الحمل الفصحي الحقيقي الذي يمحو خطايا العالم، بتكفيره عنها؟ وبطاعة حمل الذبيحة، ذهب المخلص المائت على الصليب، الى الموت بدلا من جميع الناس، وبما لموته البريء، من قوة تكفيرية، محا خطيئة العالم أجمع. وكما أن دم الحمل الفصحي قام بدور حاسم لتحرير اسرائيل من نير المصريين، هكذا ان ابن الله الذي صار خادما – الراعي الذي أصبح حملا – لا يمثل فقط اسرائيل، بل أيضا صار كفيل تحرير"العالم "، والبشرية جمعاء.
وهذا ما يدخلنا في موضوع شمولية رسالة يسوع الكبرى. ان اسرائيل لا تمثل نفسها فقط، ذلك أن اختيارها هو الطريق الذي اختاره الله ليأتي الى جميع الناس: هذا الموضوع، موضوع شمولية يسوع لا نزال نلقاه دائما، لأنه مركز رسالته. – وعبارة حمل الله الحامل خطايا العالم قد ظهرت في الانجيل الرابع منذ بدء يسوع بالظهور.
ويبدو أن عبارة "حمل الله" تشرح – اذا جاز لنا التعبير بهذه الطريقة – عماد يسوع، ونزوله الى أعماق الموت، في حدود تعبير لاهوت الصليب. ان الأناجيل الأربعة تخبر، بطرق مختلفة، أن يسوع عندما خرج من الماء، "تمزق" ستار السماء ( على ما يقول مرقس)، و"انفتح" (على ما يقول متى ولوقا)، وان الروح نزل عليه "كحمامة"، وأن صوتا آتيا من السماء أرعد، متجها الى يسوع، وفق مرقس ولوقا "أنت" يقول عنه متى، هذا هو ابني الحبيب، الذي به رضيت". وتذكر صورة الحمامة، دونما شك، بهبوب الروح الذي يرف فوق الماء، الذي تكلمت عنه قصة الخلق. وظهرت بواسطة الكلمة الصغيرة "مثل" أي (مثل حمامة) بوصفها "تشبيها يعني أن ما يقال في الحقيقة لا يوصف". ونلاقي الصوت عينه الآتي من السماء في مشهد تجلي يسوع، وهذه المرة، مضافا اليه هذه الكلمة بلهجة الأمر: "اسمعوا له"، وعلينا أن ننكب على معنى هذه الكلمات.
ويكفي الآن أن نشدد في اختصارعلى ثلاثة وجوه: أولا صورة السماء الممزقة. انفتحت السماء فوق يسوع. ان شراكة ارادته مع الآب، و"البر" الذي أتمه، "بكامله"، فتح السماء التي في جوهرها تعني أن تتم ارادة الله بكاملها. ويضاف الى ذلك مناداة الله، الآب، برسالة يسوع التي لا تعني عملا بل كيانا: انه ابن الله المحبوب، الذي وضع الله أبوه مسرته فيه. وأريد أن أضيف قبل النهاية أنه مع الابن، انما نحن نتعامل مع الآب والروح القدس: ونرى هنا سر الآب المثلث الأقانيم يرتسم، ولكن طريق يسوع في مجمله هو الذي يكشف عنه في كل ما فيه من عمق. والى هذا يضاف ان هناك رابطا يذهب منذ بداية طريق يسوع حتى كلماته التي استعملها بعد القيامة، ليرسل تلاميذه الى العالم: "اذهبوا اذن! فتلمذوا كل الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". ان العماد الذي يمنحه تلامذة يسوع، منذ ذلك الحين، انما هو دخول في عماد يسوع – في الواقع الذي استبقه، لدى قيامه بهذا. وهكذا يصبح الانسان مسيحيا.
ان هناك قوما يبحثون بحثا حرا يفسرون عماد يسوع على أنه اختبار دعوة. وهو الذي عاش حتى الآن عيشة عادية في منطقة الجليل، يبدو أنه قام بتجربة رائعة. هناك وعي أنه يقوم بعلاقة خاصة مع الله، و برسالته الدينية، وهذا الوعي نضج على أساس انتظار اسرائيل السائد، والذي أعرب عنه يوحنا، بفضل انقلاب شخصي أحدثه فيه واقع العماد. وكل هذا لا نجد منه شيئا في النصوص. وأيا يكن الفقه الذي ترتديه هذه الفكرة، فهي تنتمي الى رواية تحاك حول يسوع، أكثر مما تنتمي الى شرح واقعي للنصوص. وهذه النصوص لا تسمح لنا بالدخول الى عالم يسوع الداخلي، ويسوع هو أرفع وأسمى من علومنا النفسية. ولكنها تفسح لنا في المجال لكي نقبض على الرباط الذي يشد يسوع الى "موسى والأنبياء"، ووحدة سيره الداخلية، واللحظة الأولى لوجوده حتى الصليب والقيامة. يسوع لا يبدو كأنه رجل عبقري بمشاعره، واخفاقه، ونجاحه، هذه كلها التي تجعل منه شخصا من عصر مضى، وتفصلنا عنه بالنهاية مسافة يستحيل قطعها. فهو أمامنا "كابن الله المحبوب"، الذي هو من ناحية شخص آخر، ولكنه لهذا السبب في امكانه أن يكون معاصرا لنا، وكما يقول القديس أغوسطينوس لكل منا: "فهو في باطننا أكثر مما نحن في باطننا".

الحديث عن يسوع، وهو ابن الله، ليس بالأمر الميسور. وكما يقول القديس أغوسطينوس: ان عقلنا لأعجز من أن يكتنه الله، ويدرك ماهيته. ولا نعرف تماما ما هو، انما نعرف ما ليس هو. ولذلك يقال: ان أقوى الايمان أبسطه.
وعلينا في هذه الأيام السيئة أن نعتصم بحبال الله، ونسأله بايمان حار أن يجنبنا في لبنان ما بتنا نخشاه من وقوع كوارث يجب عمل المستحيل لتجنبها. وان ما نسمعه ونراه لا يبشر بالخير. ويبدو أن الألسنة قد تحررت من عقالها، فلم يبق لها ضوابط، وكل يهدد من جهته، بعظائم الأمور، وينادي بالويل والثبور، وهذا ليس بمؤشر مريح، لكيلا نقول مربك ومخيف. لنصل، لكيلا تسوء الأمور أكثر مما هي سيئة، ولنعد الى بعضنا بالتعاطف والتضامن والمحبة. وهذه الثلاث هي السبيل الوحيد لاتقاء ما نخشاه.