رسالة البطريرك صباح الأخيرة

"قَد اقتَرَبَ وَقتُ رَحِيلِي… وَأَتمَمْتُ شَوطِي وَحَافَظتُ عَلَى الإيمَان"

رسالة البطريرك صباح الأخيرة

القدس، الاثنين 10مارس 2008 عن موقع بطريركية القدس للاتين

ننشر في ما يلي مقتطفات من رسالة صاحب الغبطة البطريرك ميشيل صبّاح  بطريرك القدس للاتين الأخيرة بعنوان

"قَد اقتَرَبَ وَقتُ رَحِيلِي… وَأَتمَمْتُ شَوطِي
وَحَافَظتُ عَلَى الإيمَان"   (2 طيموتاوس 4: 7). مقدمة

إلى الإخوة الأجلاء الأساقفة وإلى الكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة وإلى أبنائنا المؤمنين الأعزاء.

"عَلَيكُمُ النِّعمَةُ وَالسَّلامُ مِن لَدُنِ الله أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ" (2 قورنتس1: 3). أوجِّه إليكم هذه الرسالة الراعويّة الأخيرة، وقد أشرفتُ على الانتهاء من خدمتي البطريركيّة، في هذه الفترة التي نستعدُّ فيها للاحتفال معًا بعيد القيامة المجيدة. زمن الصوم هو مناسبة للرجوع إلى الله وعيدُ الفصح من بعده يدعونا إلى أن نموت مع المسيح لنعود معه إلى حياة جديدة. أتمنّى لكم زمن صوم مبارك مليئًا بالنعم وباعثًا فيكم حياة جديدة، تسيرون فيها أمام الله، لخير كل واحد منكم ولخير جميع الناس الذين تعيشون معهم. أسأل الله لكم عيد فصح يجعل من كلّ واحد وواحدة منكم "الإنسان الجديد" الذي فداه السيد المسيح وصالحه مع الله وجعله قادرًا على أن يتصالح مع إخوته الناس أجمعين.

أوجِّه إليكم هذه الرسالة الراعوية الأخيرة أحمد الله فيها وأعبِّر عن مودّتي وشكري وتقديري لكم جميعًا. وأوَدُّ أن أبيِّن فيها أيضًا، بعض ملامح خدمة المؤمن في هذه الأرض المقدَّسة، في الأبرشيّة وفي المجتمع كلِّه.

في 19 من آذار 2008 أبلغ سن 75 وهي سنُّ التقاعد بحسب التقليد الكنسي. ولهذا أضع مهمَّتي التي عُهِدَ بها إليَّ قبل 20 عامًا بين يدي الأب الأقدس بمشاعر المودّة والتقدير للثقة التي منحتني إيّاها الكنيسة. أحمد الله لكلِّ النعم التي وهبني إيّاها في مدّة خدمتي بطريركًا وكاهنًا. ومع القديس بولس أقول أيضًا: "قَد اقتَرَبَ وَقتُ رَحِيلِي… وَأَتمَمْتُ شَوطِي وَحَافَظتُ عَلَى الإيمَان" (2 طيموتاوس 4: 7). مع أنّ العمر لم ينتهِ النهاية الكاملة بعدُ، وما زال ختامه في يد الله. بالتقاعد أحرِّر نفسي من المسؤوليّات الإداريّة، أمّا صلاتي ومسيرتي في سرِّ الله في هذه الأرض المقدَّسة فسوف تستمرّ، وستستمرّ مرافقتي لآلام الناس وآمالهم، آلام وآمال جميع المؤمنين من جميع الديانات.

أشكر الله لكلِّ إنسان وضعه في طريقي في هذه المدَّة الطويلة، سواء كان من الأرض المقدسة أو من كنائس العالم. لأنّ كنيسة القدس هي الكنيسة الأم، ولأنّها كنيسة صغيرة وعُرضةٌ للصعاب، ولأنّها دائمًا على الصليب، كانت رسائل الكنائس إلينا عديدة، وكان عدد الحجّاج كبيرًا. وفي مقدِّمة الكنائس كنيسة روما وقداسة البابا الذي عبَّر في مناسبات عديدة لا تحصى عن مودَّته وتضامنه ومواقفه الثابتة تجاه هذه الأرض وكنائسها وشعبَيْها. وكانت حِجّة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بمثابة تتويج لحضور الكنائس الكاثوليكية بيننا. نأمل أن تتِمَّ زيارةُ البابا بندكتس السادس عشر القادمة، فتجدِّد الأمل في هذه الأرض، وتقدِّم للكنائس والمؤمنين من كلِّ الديانات، وللقيادات السياسيّة في هذه الأرض رؤية جديدة فيها مغفرة وعدل ومصالحة وسلام. – وكانت عديدة أيضًا الوفود ومجموعات الحجّاج المسكونية من مختلف بلدان العالم، وعلى رأسها مجلس الكنائس العالمي. كلُّها جاءت تسأل عنّا وتسمع منا وتثبِّت إيماننا بإيمانها ومحبَّتها. منذ عام 1998 بدأ يُعقَدُ لقاء سنوي في شهر كانون الثاني/ يناير من كل عام لرؤساء المجالس الأسقفية الكاثوليكية أو ممثّليهم، بالتنسيق مع الكرسي الرسولي. أتوا ليصلُّوا ويفكِّروا، في القدس، مع كنيسة القدس، وفي جميع مجالات الحياة في كنيستنا، الرعويّة والسياسيّة والاجتماعيّة. لجميعهم أودُّ أن أعبِّر عن شكري وتقديري.

نظرة إلى خدمتي البطريركية شكر وتقدير

أشكر جميع الذين بذلوا من أنفسهم لخدمة الأبرشية، القُصّاد الرسوليّين والسفراء البابويّين ممثِّلي قداسة الحبر الأعظم، والأسقف المعاون والأساقفة المساعدين النوَّابَ البطريركيِّين العامّين في القدس وفلسطين وإسرائيل والأردن، والنوّاب البطريركيِّين، لدى الجماعة الناطقة باللغة العبريّة، وفي قبرص. أشكر الكهنة وجميع العاملين الذين قدَّموا لي المساعدة في مختلف الدوائر البطريركية. أشكر كهنة الرعايا لإخلاصهم وبذلهم في سبيل رعاياهم. فقد خدمنا معًا في كرمة الرب التي وكلَتها إلينا الكنيسة.

شكري الخاص لمجموعة الكهنة من البطريركية ومن مختلف الرهبنات، الذين ظلّوا أمينين مدّة عشرين سنة لاجتماعات اللجنة اللاهوتيّة، ورافقوا بفكرهم وصلاتهم أحداث الحياة العامّة في هذه الأرض، وساهموا في تحديد موقف الكنيسة منها، ولا سيّما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الذي ما زال أثرُه حاسمًا في حياة الأبرشيّة، في فلسطين وإسرائيل والأردن. مع هذه المجموعة من اللاهوتيِّين والمفكِّرين كتبت رسائلي الراعويّة، فلهم جميعًا الشكر، والله هو المثيب.أحيِّي جميع المؤمنين في كل أقسام الأبرشيّة. أشكر للجميع مودَّتهم وصلاتهم من أجلي في فترة خدمتي. وللجميع أسأل الله أن يغدق عليهم وافر بركاته.

أحيّي الجماعة الناطقة باللغة العبريّة وأرافقها بصلاتي، وأتمنّى لها النمُوَّ في الإيمان الذي يريده الله لها، لتكون شاهدة ليسوع المسيح في مجتمعها، ولتكون مع كنيسة الأرض المقدَّسة كلِّها، في الصراع السياسيّ الذي يمزِّق الأرض، عامل مصالحة مبنيّةِ على المغفرة والعدل والمساواة بين الجميع.

في خدمة الكنيسة الجامعة

أشكر جميع الذين، لكونهم في كنيسة القدس وباسمها، أدَّوا الخدمة اللازمة إلى الكنيسة الجامعة، وهم العاملون في معاهد الدراسات الكتابية، ومراكز التأهيل المستمر والإكليركيات التي أعدَّت، إلى جانب إكليركيّتنا البطريركية في بيت جالا، كهنةً لكنائس العالم وللكنيسة المحلية.
وكذلك كان استقبال الحجَّاج القادمين من الكنائس المختلفة خدمةً جليلة قام بها عدد كبير من الأديار والرهبنات. وهي خدمة أرجو أن تنمو ليكون الحجّ في الوقت نفسه سبيلا إلى تقديس الحاجّ لذاته، باقترابه من السرّ الإلهي الكامن في الأماكن المقدسة، وإلى وعيٍ جديد للوجود البشري في هذه البلاد كلِّها ومن كل ديانة، ولا سيّما لحضور وحياة الجماعة المسيحية التي تحيط الأماكن المقدّسة بإيمانها الحيّ.

حراسة الأرض المقدسة

بين مختلف الرهبنات، حضور حراسة الأرض المقدَّسة للرهبان الفرنسسكان حضور عريق في التاريخ ولهم فضل كبير. بقِيَ الرهبان الفرنسسكان منذ القرن الثالث عشر في هذه الأرض بصلاتهم وشهادتهم واستشهادهم اليوميّ. خدموا الأماكن المقدّسة وظلُّوا يستقبلون الحجّاج مدى الأجيال، وقد وَكَلَ إليهم الكرسي الرسولي هذه المهمّة بتكليف خاصّ في عام 1342. ومنذ البداية خدموا أيضًا الناس المقيمين حول الأماكن المقدّسة، فأنشأوا الرعايا وفتحوا المدارس التي ما زالت تعمل حتى اليوم. فلا يمكننا إلا أن نوجِّه إليهم شكرًا خاصًّا، وأن نعـترف بالخير الذي قدَّموه لأهل هذا البلد من كلّ ديانـة، في مزاراتهم وكنائسهم الرعويّة ومدارسهم وأعمالهم الخيريّة الاجتماعيّة. ولا بدَّ من القول هنا إنّه إلى جانب الخير العميم، هناك حاجة للتجدُّد، لقبولٍ أكبر من قبل الحراسة للأبرشية ولحوار معها ما زال مطلوبًا، و"لتجسُّدٍ" أفضل في كنيسة الله حيث تقوم الحراسة بخدمتها.

الرهبان والراهبات

أشكر الرهبان والراهبات، لأنّ لهم في أبرشيّتنا دورًا كبيرًا. البعض منهم منخرطون مباشرة في الرّعيّة، وفي العمل الرعويّ وفي المدارس أو في المؤسَّسات الاجتماعيّة الخيريّة. والبعض، كما ذكرنا، يخدمون بحكم دعوتهم الكنسية العامّة، في مجال الدراسات الكتابيّة في مدراس القدس ذات الشهرة العالميّة أو في مراكز التعليم المستمرّ، أو في مجال استقبال ومرافقة الحجّاج القادمين من مختلف الكنائس. إلا أنّ هذه المؤسّسات ذاتَ الطابع العالميّ لها أيضًا وجهٌ محلِّيّ وتَفيض نعمتُها على كلِّ الأبرشيّات في كنيسة القدس. وهناك الأديار التأمُّلية للرجال والنساء المتفرِّغةُ للصلاة، وهي بركة للأبرشيّات وللبلد كلِّه. هي مراكز للصلاة، ويجب أن تصبح أكثر فأكثر، مراكزَ تُعَلِّمُ المؤمنين كيف يصلّون وكيف يزدادون فهمًا لإيمانهم وأمانة وخدمة لمجتمعهم.

أخوية فرسان القبر المقدس

أشكر أخويّة فرسان القبر المقدس، رؤساءها والمسؤولين فيها في روما وفي أنحاء العالم، الذين عرفتُهم في العشرين سنة الماضية. أشكرهم لمحبّتهم وسندِهم للبطريركيّة، لإكليروسها ومؤسَّساتها ومؤمنيها. لقد أراد البابا بيوس التاسع، عام 1848، أن يبعث روحًا جديدة في هذه الأخويّة، مع إعادة البطريركية اللاتينية إلى القدس. فعهد إلى البطريرك الأوَّل العائد، يوسف فاليرجا، بإعادة تنظيمها. وأراد أن تكون هذه الأخويّةُ سندًا روحيًّا وماديًّا للأبرشيّة الناشئة. وفي الواقع، أدَّت رسالتها جيلا بعد جيل، وما زالت تؤدّيها حتى اليوم. أشكر كلَّ عضوٍ وكلَّ مسؤول فيها، وللجميع اسأل الله نعمه وبركته الوافرة.

 الحياة الرعوية

يتميَّز العمل الرعوي في أبرشيتنا بأنّه يَتِمُّ في جوار الأماكن المقدّسة، حيث أُوحي بالإنجيل المقدّس وحيث كُتِب. ومن ثم فإنّ تعليمنا المسيحي وعملنا الرعوي هو في الواقع استمرار لتفهُّم الإنجيل والتعمُّق في معانيه يومًا بعد يوم. لقد منحنا الله النعمة أن نعيش حول الأماكن المقدّسة وأن نكون فيها حُجَّاحًا دائمين. ومن ثم فإنَّ مهمّة كهنة الرعايا والرهبان والراهبات في هذه الأرض المقدسة هي مساعدة المؤمنين لكي يزدادوا معرفة للإنجيل في كل يوم، وليعرفوا تعاليم سيدنا يسوع المسيح ويطبِّقوها على حياتهم. نعم، في بلادنا وفي رعايانا، الجميع مؤمنون. وكلُّ المسيحيّين يعرفون يسوع المسيح. ولكنَّ الجميع لا يعرفون بما فيه الكفاية إنجيله المقدس، ولذلك هم بحاجة إلى من يرشدهم إلى معرفته والتأمُّل فيه وتطبيقه على حياتهم. وهذا هو واجب الرعاة والرهبان والراهبات أن يرشدوا المؤمنين في هذه السبيل ليحوِّلوا حياتهم اليومية إلى إنجيل حيّ.

تركَّز العمل الرعويّ في الأبرشيّة في هذه الفترة في سينودس الكنائس الكاثوليكيّة في الأرض المقدّسة الذي بدأ في 1993 وانتهى عام 2000 مع زيارة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني. كان محاولة لبداية جديدة في الكنيسة، وقد عُهِدَ إلى الأب رفيق خوري بالإشراف على هذه المبادرة فأنعشها برؤيته وإيمانه، وكان مسؤولا وما زال عن العمل الرعوي والتعليم المسيحي في الأبرشية. ولم يكن السينودس جهدًا منعزلا، بل كان مشاركة مع الكنائس الكاثوليكيّة في الأرض المقدّسة. لم يأتِ السينودس، ولأسباب عِدّة، بكلِّ الثمار المرجوَّة، ولكنَّ أمرًا ما جديدًا بدأ. ونجم عنه خِطَّة راعويّة مشتركة، وهيئة كاثوليكيّة مشتركة بين الكنائس، "الهيئة الراعويّة الكاثولكيّة العامّة"، تكوّنت من 72 شخصًا بين كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيِّين من البلدان الثلاثة ومن جميع الأبرشيّات، اللاتينيّة والملكيّة والمارونيّة والسريانيّة والأرمنيّة والكلدانيّة. ومهمَّة هذه الهيئة هي النظر في متابعة العمل الرعويّ المشترَك في كلِّ أبرشيَّاتنا. يمكن القول إنّه نجم عن السينودس أيضًا أمران هامّان وهما، أولا، ظهور فئة من العلمانيّين ملتزمة وقادرة على تحمُّل مسؤوليّاتها في الكنيسة إلى جانب الإكليرس، وثانيًا، روحُ مشاركةٍ جديدة بين الكنائس ورغبةٌ في متابعة العمل الرعويِّ معًا.ولهذا بالإضافة إلى المخطَّط الرعويِّ المشترك واللجنة الرعويّة الكاثوليكيّة، أنشئ مجلس كهنة مشترك. ولهذا أيضا بدأ انعقاد رياضة روحيّة سنويّة مشترَكة للكهنـة من جميع أبرشـيّاتنا في أوّل أسـبوع من شهر تموز/يوليو من كلِّ سنة. وفي هذه الأثناء، وإلى جانب السينودس، نشأ أيضًا مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدَّسة الذي عزَّز روح المشاركة والتعاون.

ومن الأمور التي بعثَتْ روحًا جديدة في الأبرشيّة، لجان التعليم المسيحي التي نشأت أو عملت بفعاليّة جديدة في القدس وفي الأردن. كما وضعت لجنة الليتورجيّة كتبًا جديدة للقدّاس اليومي وللفرض الإلهي في ترجمته العربية. في الأردن يجب أن يُذكَر بصورة خاصّة مركز سيّدة السلام، الذي أنشأه المطران سليم الصائغ وهو مركز لذوي الاحتياجات الخاصّة وعنه نشأ في مختلف المدن حوار إسلاميّ مسيحيّ حول هذه الخدمة الإنسانيّة، وهو في الوقت نفسه مركز للشبيبة والرياضات الروحيّة أو الدورات المختلفة. وفي الأردنّ أيضًا مشروع جامعة بلغ مراحله الأخيرة من حيث التنفيذ. وهناك طبعًا مبادرات وجهود رعويّة كثيرة باركها الله وسيباركها قام بها الأساقفة وكهنة الرعايا.وعلى مستوى المنطقة استمرَّ حضور الأبرشيّة في مجلس الأساقفة اللاتين في البلدان العربيّة الذي نشأ عقب انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965. ثم بدأ من بعده عمل رعوي جديد مع مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك الذي تمكَّن منذ عام 1991 من عقد اجتماع سنويّ، وقد وجَّه منذ تلك الفترة وحتى اليوم تسع رسائل رعوية إلى المؤمنين تناولت أهمَّ القضايا في الحياة المسيحيّة، في ذاتها وفي علاقاتها مع الديانات ومع الدول.

الحياة المسكونية

صلَّى يسوع من أجل الوحدة في كنيسته قائلا: "يَا أَبَتِ القُدُّوس، احفَظهُم بِاسمِكَ الَّذِي وَهَبْتَهُ لِي لِيَكُوتُوا وَاحِدًا كَمَا نَحنُ وَاحِد" (يوحنا 17: 11). لأنه استبق ورأى صعوبة الرسالة التي وكلها إليها. وهي صلاة ترافقنا دائمًا بل هي أمر موجَّه إلى الكنائس، إلى الأساقفة والمؤمنين "ليكونوا واحدا". هذه هي صلاته وهذه هي مشيئته، أن نكون واحدًا كما أنَّه هو والآب واحد. فهي واجب نلتـزمه وأمر نأتمر به. ولهذا فإن كانت صلاحياتنا وكياناتنا القانونية تمنعنا حتى اليوم من أن نكون واحدًا، فإنَّ محبَّتنا بعضِنا لبعض تبقى ممكنة، وهي التي ستستحقُّ لنا نعمة الشركة في الحقيقة، لنكون حقًّا علامة وينبوعًا لوحدة الشعوب في الأرض المقدّسة.

نحن في القدس 13 كنيسة متنوِّعة ومنفصلة بعضُها عن بعض. وقد انعقدت لقاءات شبه منتظمة للبطاركة ورؤساء الكنائس في القـدس، الكاثوليكيـة والأرثوذكسـية والبروتسـتانتية. فأنمت الأخُـوّة والتعاون بين جماعاتنا المؤمنة. وفي عام 2000 تمكّنّا من أن نعيش معًا لحظات فريدة من الوحدة يوم احتفلنا ببداية الألفية الثالثة في ساحة المهد في بيت لحم، ووجّهنا في هذه المناسبة رسالة رعوية مشتركة وقَّعنا جميعنا عليها. وبين الوثائق العديدة التي وقَّع عليها الرؤساء الثلاثة عشر، وبالإضافة إلى رسائل الميلاد والفصح الموجّهة في كلّ عام إلى مؤمنينا وإلى العالم، يجب أن نذكر الوثيقتين حول مفهوم المدينة المقدّسة ومصيرها، نشرت الأولى في تشرين الثاني 1993 والثانية في أيلول 2006. كان الهدف من لقاءاتنا وتصريحاتنا هو الصالح العامّ لجميع المسيحيّين من كلّ كنيسة وطقس، ولا سيّما في مجال السلام والعدل في الظروف الصعبة المفروضة علينا. أوَدُّ أن أعبِّر هنا عن مودّتي وتقديري لجميع إخوتي البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس، لصداقتهم وتعاونهم مدّة هذه الفترة التي قضيناها معًا منذ بدية خدمتي البطريركية. وعلى صعيد الكنائس المسيحيّة، أصبحت الكنائس الكاثوليكيّة في المنطقة منذ عام 1990 عضوًا فاعلا في مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي ما زال مكان لقاء وتعاون وإخاء بين جميع رؤساء الكنائس في الشرق الأوسط، وبواسطتهم بين ال15 مليون عربيّ مسيحيّ في المنطقة.

ومع مجلس الكنائس العالميّ، كان لكنائس القدس الثلاث عشرة مجتمعةً علاقة خاصّة وتعاون مثمر، وفي مجال العدل والسلام أيضًا، في الأرض المقدَّسة وفي المنطقة. وأدَّى هذا التعاون إلى مبادرتين: الأولى تأسيس "برنامج المرافقة" على يد متطوِّعين قادمين من كنائس العالم، نسّقوا خدمتهم مع الإسرائيليين والفلسطينيّين، وقاموا بصورة خاصّة بمرافقة الفلسطينيّين في بعض مواقع المواجهة وتحديد الحرّية. والثانية إنشاء مكتب دائم في القدس لتطوير العلاقات المسكونية بين المجلس وبين كنائس القدس.

الرسالة الشمولية للأرض المقدّسة

للأرض المقدَّسة رسالة شموليّة عالميّة. هكذا أرادها الله أن تكون بما أنه أراد أن يظهر فيها لا لشعب واحد بل للبشريّة بأسرها. اليوم أيضًا، هذه الأرض مِلكٌ لكلِّ أهلها، ولكنَّها في الوقت نفسه للبشرية كلِّها. هذا صحيح على الصعيد السياسي، فهي اليوم ملك لشعبَيْها الفلسطيني والإسرائيلي ولكلِّ المؤمنين من اليهود والمسيحيّين والمسلمين والدروز. وهذا أيضًا صحيح في العمل الرعويّ في كلِّ أبرشيّة وفي البطريركيّة اللاتينيّة التي خدمتها في هذه السنوات الماضية. ومن ثمَّ فإنّ العمل الرعويَّ وصلاة كاهن الرعيّة والراهب والراهبة والعلمانيّ لا يتوقَّفان عند حدود الرعيّة، بل على المؤمن أن يرى دومًا الأبرشيّة كلَّها والبلد بكلِّ ساكنيه، والعالم كلَّه الذي أراد الله أن يخلِّصه في أرضنا.

رسالة الأرض المقدسة

العدد القليل

المسيحيّون في الأرض المقدّسة وفي كنيسة القدس عدد قليل. وليس ذلك نتيجة لأسباب تاريخيّة أو اجتماعيّة وحسب، إنما يرتبط هذا الأمر ارتباطًا وثيقًا بسرِّ يسوع المسيح في أرضنا. جاء يسوع المسيح إلى هذه الأرض قبل ألفي سنة، وبقي فيها، هو أيضا، عددًا قليلا، مع رسله وتلاميذه و مَن آمن به. واليوم بعد 2000 سنة، ما زال الوضع على ما هو، فما زال يسوع في أرضه غيرَ مُعترَفٍ به. والقدس التي أرادها الله أن تكون مدينة الفداء وينبوع سلام للعالم، ما زالت مدينة لم تقبل الفداءَ لنفسها، ولم تجد بعدُ سلامَها. والمسيحيّون فيها وحولها باقون عددًا قليلا من الشهود ليسوع في أرضه.

أن يكون المسيحي عددًا قليلا في هذه الأرض يعني بكلِّ بساطة أنّه يعيش اليوم كما عاش يسوع هنا بالأمس. فلا يعني العددُ القليل حياةً منقوصة، أو مهمّشة، أو حياة خوف وحَيْرة. نحن نعلم لماذا نحن عدد قليل، ونعرف ما هو مكاننا ودورنا في مجتمعنا وفي العالم. نحن جزء من سر يسوع المسيح في هذه الأرض، ونحن باقون إلى جواره على الجلجلة، أقوياء به، يسندنا رجاء القيامة وفرحها، الذي يجب أن نعيشه ونتقاسمه مع الجميع. قال يسوع إن حبّة الخردل هي أصغر البقول. ولكنّها تنمو وتصبح شجرة يستظلّ الطيور في أغصانها (راجع متى 13: 31-32). وكذلك الأمر في مثل الخميرة التي تخمِّر العجينة كلَّها (راجع متى 13: 33). أن يكون المؤمن صغيرًا من حيث العدد، وأن تكون القدس مدينة فداء وسلام للعالم لا لنفسها، هذا ما يحدِّد دعوة المسيحيّ في هذه الأرض المقدّسة: إنّه مدعوٌّ إلى أن يكون شاهدًا. وهي دعوة إلى حياة صعبة، اليوم بسبب الصراع السياسيّ، وغدا سوف تبقى حياته جهادا روحيًّا مستمرًّا ليكون مِلحًا صالحًا وخميرةً نافعة ونورًا مضيئًا في مجتمعه، وفداءً يسير نحو اكتماله، يومًا بعد يوم، في سر الله وبحسب مشيئته تعالى.

كلُّ مجتمع يعتمد على عدد مواطنيه وجنوده وعلى كمّيّة سلاحه. نحن المسيحيين، بعدد أو بغير عدد، نعتمد أوّلا على إيمان كلِّ واحد منّا. يسوع قال: "إنْ كَانَ لَكُم مِنَ الإيمَانِ قَدرُ حَبَّةِ خَردَل، قُلْتُم لِهَذَا الجَبَل: انتَقِلْ مِن هُنَا إلَى هُنَاك، فَيَنتَقِل، وَمَا أعجَزَكَم شَيء" (متى 17: 20-21). والدولة تقول إنّها بقوة التكنولوجيا وبكمّيّة الأسلحة وبعدد الرجال تقدر أن تُخضِع الأرض، وتشُقَّ الطرق وتجعلَ الجبال سهولا. ومع ذلك فإنّها ما زالت عاجزة عن صنع سلامها. فنحن نتأمَّل في كلمة يسوع المسيح: "إنْ كَانَ لَكُم مِنَ الإيمَانِ قَدرُ حَبَّةِ خَردَل….". ومن ثَمَََّ نأخذ بكلَّ الوسائل البشريَّة المتاحة، ولكنَّنا نريد أوّلا أن نزداد إيمانًا ومعرفة لمن آمنَّا به. عدد المسيحيّين القليل يجب أن يُعوَّض أوّلا بالإيمان، وثانيًا بالتأهيل الذي يجعل كلَّ مؤمن ضروريًّا لبناء أو إعادة بناء بلده، وأخيرًا بالوعي والنضوج، فيدرك كلُّ مسيحيٍّ مسؤوليته في مجتمعه وضرورة مساهمته في التضحيات اللازمة لبنائه أو لإعادة بنائه. وتأهيل المسيحي مسؤوليّة مشتركة تتحمَّلها الجماعة كلُّها، وليس فقط من هم الرؤساء في الكنيسة. في جماعة مؤمنة، كلُّ واحد وكلُّ واحدة يحمل همَّ كلِّ واحد وكلِّ واحدة.

بالإضافة إلى المؤسَّسات الكنسيَّة الرسميَّة، للدراسة العامّة أو للتربية الدينيّة، ومختلف الحركات الرسوليّة لتأهيل المؤمنين، والمنظَّمات الاجتماعيّة العلمانيّة العديدة، يجب أن نقول إنّ بعض المؤمنين من الإكليروس أو العلمانيِّين بدأوا يُولُون اهتمامًا خاصًّا هذا التأهيل الذي يجعل المسيحي، بالرغم من عدده القليل، قادرًا على أن يقوم بمسؤولياته في مجتمعه. وهنا لا بدَّ من أن نذكر في هذا المجال عمل جامعة بيت لحم بصورة عامّة وفي قسم الدراسات الدينيّة بصورة خاصّة. ويجب أن نذكر أيضًا مختلف المراكز والتجمّعات، منها: مركز اللقاء للحوار بين الأديان، ومركز السبيل الذي يهتمُّ بإضفاء نور الإيمان على الأوضاع السياسيّة وتكوين رؤية مسيحيّة فيها، والجمعية المسيحية الوطنية، ولجنة العلمانيّين التي تدعو العلمانيّين إلى اتّخاذ مكانهم والقيام بمسؤوليّاتهم في الحياة العامّة، ومجموعة "وصول" وهي مجموعة لضمان التواصل بالطريق الإلكتروني بين المسيحيّين العرب في مهاجرهم المختلفة، ومجموعة التعليم المسيحي العلمانيَّة في مدرسة الأحد في الأردن، والمؤسّسة المسيحيّة المسكونيّة للأرض المقدّسة التي تأسّست أصلا بهدف تجميع المؤمنين الذين هاجروا لإبقائهم حاضرين بفكرهم وعملهم ومالهم في الأرض المقدَّسة فيبقَوْن فيها، بالرغم من المسافات، شهودًا وبناة لوطنهم.

المسيحيون في المجتمع

على المسيحي أن يقبل نفسه مسيحيًّا. ما معنى ذلك؟ يعني أنَّه يقبل إنجيل يسوع المسيح، كلمةِ الله الأزلي، الذي تجسَّد وصار إنسانًا، وأن يعيش حياته اليوميّة بسهلها وصعبها بوحيٍ هذا السرّ الذي يرفضه المجتمع الذي نحن جزء منه ويعتبره أمرًا مستحيلا.

كيف يكون المسيحيّ مسيحيًّا؟ بكل بساطة، بأن يعرف إيمانه، وأن يعرف كتابه المقدّس، وتقاليده وتعليم الكنيسة. بأن يعرف بمن وبماذا يؤمن. هو أن يعرف الأخلاق المسيحيّة ويعيشها. وهو أن يصلّي ويعيش حياة الأسرار المقدّسة ولا سيما الإفخارستيا، وأن يتنبَّه حتى لا تكون هذه الصلوات والممارسات الدينية شكليّاتٍ ومظاهرَ خارجيّة أو حتى لحظاتِ صلاةٍ عازلةٍ عن الناس، بل يجب أن تكون الصلواتُ نفسُها مصدر طاقة روحيّة متجدِّدة فيه، تملأه "وترسلُه" ليخدم مجتمعه بكلَّ من فيه، على أيِّ دينٍ كانوا. يكون المسيحيُّ مسيحيًّا إذا عرف مع هذا كلِّه أن يكوِّن لنفسه رؤية إيمانيّة للأحداث كلِّها، فيرى فيها عناية الله، ورعايته، ويتذكَّرُ كلمة يسوع المسيح: "لَن تُفقَدَ شَعرَةٌ مِن رُؤُوسِكُم، من دون إذن أبيكم الذي في السماوات" (راجع لوقا 21: 18). وبهذه الرؤية الجامعة بين الله والناس، يحدِّد مواقفه، مواقف خدمة ومحبّة ومطالبة بالحقِّ في الوقت نفسه. وبهذه الرؤية أيضًا يمتلئ حكمة وقوّة أمام الصعاب ومظالم الناس، فلا ينال منه اليأس، بل يستمرّ في مقاومة الظلم والعنف على أيَّ وجهٍ كان، ويقوم بعمله في كلِّ مجال دعاه الله إليه. يكون المسيحيُّ مسيحيًّا إذا عاش وصيَّة المحبّة في وسط الجماعة المؤمنة التي ينتمي إليها ومع جميع الناس. والمحبَّة هي أوّلا رؤية وجه الله في كلِّ إنسان. لأنّ كلَّ إنسان، على أيِّ دين كان وعلى أيّة قوميّة كان وفي أيِّ وضع كان من الصلاح أو الطلاح، هو خليقة الله الواحد الأحد. هو ابن الله. ويحمل في ذاته مجد الله. وكرامتُه من كرامة الله سبحانه. ومن ثم المحبّة تحوِّل التعامل مع الناس، كلِّ الناس، أيًّا كانوا، إلى تعاملٍ مع الله خالق الناس.
ولهذا قال يسوع المسيح: أحبّوا الجميع ولا تستثنوا أحدًا حتى ولا العدوّ. وبهذا لم يقل لنا: أحبّوا صداقةَ الصديق، بل في هذا قال: "إنْ أَحبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم فَأَيُّ أَجرٍ لَكُم؟" (متى 5: 46). ولم يقل لنا: أحبِّوا عداوةَ العدوّ أو الظلم الذي يفرضه عليكم. بل قال: أحبّوا الربّ إلهكم في كلِّ إنسان لأنه خليقة لله. فهو الله الذي نحبُّه في الصديق وفي العدوّ. والمحبّة التي هي اقتداء بمحبّة الله مُحِبِّ البشر أجمعين، تُقوِّي أمانتنا في محبَةَ المُحِبّ، وتزيدنا قوَّةً لمواجهة اعتداء المعتدي ولوضع حدٍّ لاعتدائه. وهذه المحبّة أقوى من كلِّ عنفٍ أو قوّة مادية يلجأ إليها المعتدَى عليه ليصدَّ الاعتداء وليضع حدًّا للظلم الواقع عليه.

وبناء على هذا، فالمحبّة هي مغفرة. والمغفرة هي تنقية القلب من الكراهية والشتيمة ونار الانتقام، وهي، في الوقت نفسه، لا تُسقِط المطالبةَ بالحقوق، ولا سيّما إذا كانت حقوقًا عامَّة للجماعة كلِّها، مثل حقِّ الحرّيّة والأرض والسيادة. فهذه أمور لا يجوز للفرد أن يتصرَّف بها، لأنها أوّلا هبة من الله، ولا يحوز التفريط بما وهبنا إيّاه الله. وثانيًا لأنها مِلك الجماعة، والمؤمن لا يخون الجماعة المطالِبة بحقوقها المشروعة، بل يعمل معها ليساندها في المحافظة عليها أو في السعي لاستردادها.

والمحبّة أخيرا شركة حياة ومشاركة في الخيرات. عرفنا حتى الآن في جماعاتنا المؤمنة المحبّة التي هي صدقة تُعطَى لفقير أو محتاج، وعرفنا أيضًا التبرّعات السخية لعمل الخير. هذه مرحلة جيّدة، ولكن يجب أن نتجاوزها إلى مرحلة الشركة والشراكة، حيث يحمل كلُّ واحد همَّ الآخر مثلَ همِّ نفسه، وحيث تسعى الجماعة لتضمن لكلِّ فردٍ وعضوٍ فيها حياة تحرِّره من الحاجة وتوفِّر له حياة مادّيّة وروحيّة كريمة، وذلك على مثال حياة المسيحيِّين الأوَّلين في كنيسة القدس الأولى، كما ورد في سفر أعمال الرسل (راجع: أعمال 2: 42-46 و4: 32-34).
ليبقى المسيحيّون ويعيشوا حياتهم وينموا ويعملوا، في هذه الأرض المقدَّسة كما في كل بلدان الشرق الأوسط، يجب أن يقبلوا أنفسهم مسيحيِّين مؤمنين، ولا يكونوا فقط طائفة مختلفة عن غيرهم أو فئة اجتماعية على حدة لأنهم يدينون بديانة مختلفة عن ديانة غيرهم. وليست مهمّة المسيحيّ طبعا الدخول في صراع مع مجتمعه، ولا يُطلَب منه من جهة أخرى الخنوع أمام المظالم وأنواع الاعتداءات. ولكن لا يحوز للمسيحيّ أيضًا أن يضع نفسه على هامش مجتمعه، فيقول: "إنّ الأرض ليست لي، غيري يهتمّ بها ويتحمّل مسوؤليّاتها". المسيحيُّ الحقيقي يعرف أنه جزء من مجتمعه، وأنّه عليه أن يشارك مع الجميع في مواجهة التحدِّيات وتحمُّل المسؤوليّات.
وكذلك، لا يجوز للمسيحيِّ المشارك في الحياة العامّة أن يترك إيمانه جانبًا، فيزاول العمل السياسيَّ أو الاقتصاديَّ أو الاجتماعيَّ وقد أفرغ نفسه من الطاقات الروحيّة التي وهبه إيّاها الله، مدّعيًا بذلك القيام بواجباته في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحرّية أكبر. وهذا ما ظهر في مراحل التاريخ العربيّ حيث قام المسيحيّون بخدمات جُلَّى، وحيث تخلَّى البعض عن القيم المسيحية بل عن الإيمان المسيحيّ كلِّه. وما زال هذا التخلِّي الجزئيّ أو الكلّي، بحجّة عدم التعصُّب وعدم إثارة الحساسيّات، يظهر حتى اليوم لدى البعض. لا يُدعَى المسيحيُّ إلى أن يحوِّل إيمانه إلى مواقف تعصّبية ولا إلى إثارة الحساسيّات الطائفيّة، إنما هو مدعوٌّ إلى إغناء مجتمعه بما وهبه الله من قِيَم وطاقات روحيّة. بل يطالبه مجتمعُه بذلك. وإلا، فلماذا يبقى مختلفًا، إن لم يكن اختلافه في إيمانه عاملََ إغناءٍ جديد لمجتمعه ؟

بلد الستاتو كوو

نعيش في بلد أصبح يُعرَف ببلد "الستاتو كوو" أي أنّ "كلّ شيء يبقى اليوم وغدًا كما كان بالأمس". بدأ العمل بهذا النظام بموجب فرمان عثماني صدر عام 1852، ثم غداة حرب القرم، حيث أُقِرَّ النظام في مؤتمرين دوليّين عام 1855 و1878، وذلك لإدارة أوضاعٍ مختلَفٍ عليها في بعض الأماكن المقدّسة المسيحيّة. فتقرّر بموجب هذا النظام أنْ يبقى كلُّ واحد، في هذه الأماكن المقدّسة المختلَفِ عليها، في الجزء الذي كان فيه يومَ تمَّ التوقيع على الاتفاقيّة الدوليّة. وكان هذا النظام أداةً مفيدة، منذ أن وُضِع، مع بقائه مصدرًا للخصومات. والأسوأ أنّ هذا القانون الذي وُضِع ليطبَّق على "المكان" انتقل إلى الأذهان والأشخاص، ومع الزمن طبع فيها نوعًا من الجمود أصبح معه كلُّ تجدُّد أمرًا صعبًا. ومن ثمَّ هناك نزاعات جديدة في العلاقات بين الأشخاص والجماعات بسبب التجمُّد الذهنيّ الذي نجم لدى البعض عن نظام "الستاتو كوو".
وقد نشعر أحيانا وكأنّنا نعيش في الأرض المقدَّسة، نصفُنا مشلول ومطمورٌ في الماضي، والنصف الآخر فقط طافٍ على السطح ويعيش في الحاضر. وهذا ما يصيب الرؤية والعمل في الكنيسة والجماعة المؤمنة بالشلل ويولِّد فيها التشادّ والمخاصمة. الماضي هو الجذور. والجذور المدفونة تحت الأرض يجب أن تعطيَ زهورًا وثمارًا جديدة. هناك عمل وتجديد لازمان على صعيد العقليّات والحوار والعلاقات بين الأبرشيّات المختلفة والكنائس بمؤسّساتها المتعدّدة. نرجو أن يأتي يوم يهتدي فيه الجميع برؤية القديس يوحنا وبكلمته: "هَاءَنَذَا أَجعَلُ كُلَّ شَيءٍ جَدِيدًا" (رؤيا 21 : 5).

الطائفية
المسيحيون في الأرض المقدّسة عدد قليل ونحن منقسمون، ليس فقط من حيث العقائد بل من حيث الطائفيّة. وُلِدت الجماعات المسيحيّة المتنوّعة أصلا إذ طوّرت كلّ واحدة منها تقليدًا أي طريقة خاصًّة بها للتعبير عن إيمانها بالرسالة الإنجيليّة والتأمّل فيها والاحتفال بها، وذلك وَفقًا للبيئة التاريخيّة والثقافيّة التي كانت تعيش فيها. وهذا التنوّع في التقاليد الليتورجيّة والروحيّة هو من حيث المبدأ وفي الواقع غنى للكنيسة، لأن التقاليد المتنوِّعة تكمِّل بعضُها بعضًا، وتوفِّر تعبيرًا متكاملا وأشمل للسرِّ الذي لا يُستقصَى، والذي أوحَى به الله في يسوع المسيح ابنه.
إلا أنّ الظروف التاريخيّة المعقَّدة التي عشناها عبر التاريخ جعلت هذه الجماعات الليتورجيّة تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى جماعات طائفيّة وإثنيّة، إلى حدِّ أن الرؤساء الدينيّين لهذه الطوائف أصبحوا مسؤولين عن ولاء مؤمنيهم أمام السلطات المدنيّة، وأصبحوا حلقة الوصل بينها وبينهم. فكان المؤمنون يتّصلون بالشأن القوميّ من خلال طائفتهم، ولا يتّصلون بها اتّصالا مباشرًا كمواطنين. كانت هذه الجماعات المسيحيّة في البدء جماعات إيمانيّة وليتورجيّة، ثم أصبحت أداة لتقديم الخدمات للطائفة وللمحافظة على مصالحها. وأصبحت عنصرا أساسيًّا في هوّية الفرد، ليس فقط من الناحية الدينيّة بل من الناحية الاجتماعيّة والوطنيّة أيضا. وبدلا من أن تنفتح هذه الجماعات المؤمنة بعضُها على بعض، وبدلا من أن تساند بعضُها بعضًا، أخذت بالانغلاق على نفسها لتحافظ كلّ واحدة منها على مصالحها الخاصّة. وما زالت الطائفة في بعضِ الأماكن ولدى بعض الفئات من العلمانيّين أو الإكليروس عازلا وحاجزًا بين المؤمنين. بل قد تصبح أحيانًا مصدرًا للمنافسة والمخاصمة. فكلُّ واحد يريد أن ينمو، وأن يصبح أكبر وأقوى من غيره، وكلُ جماعة تريد أن تكون أكبر وأقوى من غيرها، وتريد أن تكون كنيستها أجمل ومدرستها أكبر… والآخر المسيحيّ والمؤمن في "الطائفة" الأخرى لم يعد له كلّ مكانه كأخ وأخت وكمسيحيّ في صلاتنا وانتباهنا وعملنا. بل أصبح غريبًا بالنسبة إلينا.
وفي واقعنا اليوم، لكوننا عددًا قليلا، ولأنّنا نواجه تحدِّيات هائلة وكثيرة، لا خلاص لنا إلا في التضامن والتعاون. وقد يكون بعض العلمانيّين أحيانًا أكثر وعيًا لهذه الحاجة إلى الوحدة، فيلحّون على رؤسائهم ليسعَوا نحو وحدة أوثق في ما بينهم. إنّنا في الواقع نكبر أو نصغر معًا، ولا أحدَ يكبر من دون غيره أو على حساب غيره. ومن ثمَّ فإنّ تعاملنا بين مختلف الكنائس والطقوس المتعدِّدة يجب أن يسير على المبدأ التالي: "من جهة، الأمانة للذات وللطقس وللكنيسة التي منحنا الله فيها نعمة المعموديّة، ومن جهة أخرى، محبَّة شاملة لكلِّ الإخوة والأخوات الذين هم خارج جماعتنا الكنسية وعلى طقس مختلف، ولكنَّهم جزء من عائلة الله الكبرى". موقف المسيحيّ، على أيِّ طقس كان، هو أن يحبّ بمثل الحبِّ الكبير الذي به يحبُّنا الله. "فَلَيسَ هُنَاكَ يَهُودِيٌّ وَلا يُونَانِيٌّ، وَلا عَبدٌ وَلا حُرّ، وَلَيسَ هُنَاكَ ذَكَرٌ وَأُنثَى، لأنَّكُم جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي المَسِيحِ يَسُوع"(غلاطية 3: 27-28).

لقد ساعدَنا سينودس الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدّسة على خلق جوٍّ أفضل من التعاون والتضامن بين كنائسنا، ولكن، ما زال هذا الجهد بحاجة إلى متابعة واستمراريّة. علينا أن ننشئ المسيحيّين في هذه الأرض ونُفهِمهم دعوتهم تجاه الجميع، الذين من كنيستهم ومن غير كنيستهم. وأن يفهموا أن الكنيسة قبل الطائفة، وأنّ كنيسة الله مُشرَعةٌ أبوابُها تستقبل صلاة المؤمنين ثم ترسلهم إلى خارج الكنيسة إلى كامل مجتمعهم، في أيّة كنيسة كانوا وعلى أيّ دين كانوا.
أما الشِّيَع أو الحركات المسيحية الجديدة فهي جزء من حياتنا المسيحيّة والسياسيّة. من الناحية المسيحيّة، فإنها تبُثُّ الشكوك في إيمان المؤمنين وتستغلُّ فقرهم الماديّ أو الروحيّ، وتزيدنا انقسامًا على انقسام. ومن الناحية السياسيّة، في إسرائيل أو في البلدان العربيّة، لها رؤية سياسيّة تؤيِّد، على أسس توراتيّة ودينيّة خاصّة بها، ليس فقط الواقع السياسيَّ لدولة إسرائيل، بل وتبرِّر الظلمَ الواقع على الشعبِ الفلسطينيّ. إنّ واقع الشيع هو تذكير موجَّه إلى المسيحيين ليدركوا بصورة أعمق ما في إيمانهم من غنى ومتطلَّبات، كما هو تنبيه للرعاة ليستجيبوا بصورة أفضل للعطش الروحي لدى مؤمنيهم، وذلك بحضور أكبر في ما بينهم، وبتربيتهم على معرفة الكتاب المقدّس والعيش بموجبه.

المسيحيون في الصراع

في أرضنا صراع مسلَّح. هو احتلال إسرائيل للأرض الفلسطينيّة، وهو مطالبة إسرائيل باحترام أمنها وبالاعتراف بوجودها. مثل جميع سكّان هذه الأرض، فلسطينيّين وإسرائيليّين، المسيحيّون الفلسطينيّون والإسرائيليّون، جزء من هذا الصراع. ولهذا لا يمكن لأيِّ سبب من الأسباب أن يكونوا فيه متفرِّجين، بينما يقبل غيرهم تحمُّلَ التضحيات ودفع ثمن الحرّية التي يجب استعادتها. أن يبقى المرء متفرِّجًا يعني أن يضع نفسه على الهامش وأن يصبح غريبًا بين أهله وشعبه، وهذه ليست دعوةَ المسيحيّين. مثل كلِّ الفلسطينيّين، نحن ضحيّة للاحتلال. ومثل كلِّ الفلسطينيِّين علينا أن ندفع الثمن لاسترجاع حرِّيّتنا السياسيّة والاقتصاديّة والدينيّة أيضًا في ما يختصّ بالوصول إلى الأماكن المقدَّسة وإلى القدس نفسها. استعادة الحرّيّة أمر واجب ودفع الثمن واجب، وكذلك المقاومة أيضًا. ولكنَّنا نؤمن في الوقت نفسه بوصيّة المحبّة، ومن ثَمَّ نتكلَّم على مقاومة تَدخُل في منطق المحبّة. هي مقاومة غير عنيفة ولكنَّ لها قوّتها حتى تمكِّن الشعبَيْن من التوصُّل إلى مرحلة ينعمان فيها بصورة متساوية كلُّ واحد بحرّيّته وبسيادته وبأمنه.
يبدو الصراع في بلدنا وكأنّه عَصِيٌّ على كلِّ حلّ ولا نهاية له. الرؤية المسيحيّة فيه، بالإضافة إلى ما تقدّم، هي التالية: هذه أرضنا، وهي أرض لشعبَيْن، وهي أوّلا وقبل كلِّ شيء أرض الله. التاريخ الذي يصنعه البشر، بالدماء أو الكراهية أو بالبناء والتعاون، فإنهم يصنعونه، واعين أو غير واعين، تحت عين الله الساهرة، سيَِّدِ التاريخ وواهبِ هذه الأرض قداسةً خاصّة. هنا، الجميع يتعاملون مع سرِّ الله. وأماكننا المقدَّسة تشير إلى ذلك، فهي، بسبب قداستها، أي بسبب علاقتنا بالله فيها، أحد أكبر أسباب الصراع. في أماكننا المقدسة نصلِّي. ولكنَّها تبقى في الوقت نفسه سببًا للصراع والموت والكراهية… وهذا أمرٌ ينقض طبيعة الأرض المقدّسة ودعوتها. ففي أرض لله، طرق الله هي الوحيدة التي يمكن أن تؤدِّي إلى نهاية الصراع. العنف من الناس، سواء كان عنفَ القويّ أو عنفَ الضعيف، ليس الطريق الطبيعية ولا الناجعة للتوصّل إلى السلام. السلام في أرض الله سيكون هبة من الله. والناس، من الشعبَيْن ومن الديانات الثلاث، يجب عليهم بقبولهم الصادق لإيمانهم بالله وبتطابق مواقفهم مع إيمانهم بالله الخالق ومحبِّ جميع خلائقه، يجب عليهم أن يعملوا على تقريب الساعة التي يقيم الله فيها السلام في هذه الأرض.
يجب أن يعيش الجميع معًا إخوةً وأخوات، أبناءً للأرض الواحدة، بل أبناء وخلائق للإله الواحد. ولكن من أجل أن يَتِمَّ هذا يجب أن يعتبر كلُّ واحد كلَّ واحد متساويًا في الحقوق والواجبات. لا أحد يعلو على أحد ولا أحد يخضع لأحد. الرؤية حتى الآن ليست هذه: ومع ذلك فإنّ أقوياء هذه الأرض، والمقاومين لهم الذين يؤمنون بالقوّة المادّيّة، يجب أن يصلوا إلى هذه الرؤية. لتحقيق العدالة ولصنع السلام، يجب ألا تسمح الضحيّة لنفسِها أو لغيرها بأن تحُوَّلَ إلى ظالم وإلى إرهابيّ.

الهجرة
المسيحيّون اليوم يهاجرون من الأرض المقدّسة ومن الشرق الأوسط كلِّه. وليسوا وحدهم المهاجرين. فالمسلمون واليهود أيضًا يهاجرون. والسبب واحد، وهو الصراع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين المُحدِثُ اضطرابًا وعدمَ استقرار سياسيٍّ واقتصاديٍّ واجتماعيٍّ في كل بلدان المنطقة، بل قد أحدث في بعضها، في لبنان والعراق، مآسيَ تتجاوز بآلامهما ومعاناتها آلامَ الأرض المقدَّسة نفسها ومعاناتها. يهاجر الناس طلبًا للطمأنينة ولمستقبل آمِنٍ لهم ولأبنائهم. ونحن ندعو أبناءنا إلى أن يقبلوا دعوتهم وهي أن يكونوا مسيحيّين في الأرض المقدّسة لا في أيِّ بلد آخر في العالم، ولا نوهِّمُهم فنعدهم بحياة سهلة، بل هي دعوة إلى حياةٍ صعبةٍ اليوم وغدًا. ولقد بدأ البعض، ولو كان عددًا قليلا، يعي هذه الدعوة ويقبلُها ويقبل البقاء، مضحِّيًا بالمنافع التي قد يجدها في المهجر. وفي كلِّ حال، مهما كانت الهجرة، ومهما قلَّ عددُنا، سوف يبقى منّا من يشهد ليسوع المسيح في أرضه، عبر جميع تطوّرات التاريخ. ولكن ما يجب أن نتنبَّه له أيضا هو أنَّ المسيحيّين في هذه الأرض وفي هذه المنطقة، هم أوَّلُ ضحيّة لمخطَّطات السياسة العالميّة فيها، التي تتجاهل أو تجهل المسيحيّين، لأنَّ عددَهم لا أهميّة له، ولأنّ عددَهم القليل لم يُعوَّض بعد بأي بمصدر طاقة جديدة مادّيّة أو روحيّة تضطرّ أقوياء هذا العالم أن يحسبوا لها حسابا. وإذا ذُكِرَ المسيحيّون في بعض الصحافة العالميّة، فلكي يقال إنهم فئة صغيرة محاصَرة بين فئتَيْن كبيرتَيْن، اليهود والمسلمين، وأنهم واقعون تحت اضطهاد المسلمين. ويوجِّهون إلينا نظرة عطف وشفقة، متناسين الظلم الحقيقيّ الواقع علينا بحكم السياسات المفروضة على هذه المنطقة. أما نحن فنرى أنّ وَقف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو أمر ممكن وليس بمستحيل كما يريد البعض أن يراه، هو الإجراء الذي يمكّننا من العيش بسلام وطمأنينة في هذه الأرض. والقول نفسه يصحّ في الوضع في لبنان وفي العراق وفي المنطقة كلِّها.

مسيحيّون ومسلمون

كلُّ مسيحي، في العالم كلِّه، ينتسب بصورة طبيعيّة إلى شعبه وبلده. وكذلك المسيحيّون في البلدان العربيّة وفي فلسطين وإسرائيل. هم أيضًا ينتسبون إلى شعوبهم وأوطانهم. أمّا المسيحيّون العرب في إسرائيل فقد سبق وحدَّدْنا معالم هوّيّتهم وقلنا إنهم عرب ومسيحيّون وفي دولة إسرائيل. وفي ضمن هذه الرؤية الثلاثية عليهم أن يحدِّدوا مواقفهم في حياتهم اليومية.
المسيحيّون، مثل غيرهم، مواطنون كاملوا المواطنة. لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها. والدساتير في بلدان الشرق الأوسط تعترف بذلك. والعلاقات مع السلطات المدنيّة والدينيّة جيّدة. وكذلك العلاقات على مستوى الشعب، فهناك عيش معًا وجوار حسن منذ قرون، وتعاون في مختلف المجالات، في الدراسات، والثقافة، والأعمال، والسياسة الخ… إنَّما هناك مجالان مغلقان، وهما العقيدة والأسرة، لا تداخل بينهما، وإن حصل تدخُّلٌ فيهما حصلَ انفجار في المجتمع وتأزُّم في العلاقات، يليه إجراءات ووساطات لإعادة الأمور إلى مجاريها. وهناك حوار بين المؤمنين، لا يتناول العقيدة، بل مجالات الحياة المشتركة لضمان عيش مشترك وتعاون أفضل. وهناك أيضًا بعض الأحداث أو الصدامات تَحدُث طبعًا بين الأفراد، وقد تتحوّل أحيانًا إلى صدام بين الجماعتَيْن، بين المسلمين والمسيحيين. وفي هذه الحال أيضًا، الحكومات ساهرة والجاهات والوسطاء يعملون على المصالحة ووضع حدٍّ للأزمة الطارئة. ويجب القول إنَّ هذه العلاقات، على كلِّ حال، بين المسيحيّين والمسلمين في المجتمع الواحد، لم تبلغ بعد كمالها، فهي مسيرة طويلة وبطيئة يجب العمل على بلوغ الكمال فيها يومًا بعد يوم.
مع ظهور تيّارات دينيّة متطرّفة، بدت الحاجة إلى وحدة جديدة بين المسلمين والمسيحيّين للوقوف صفًّا واحدًا في وجه التغيُّرات ذات الطابع الديني والمتطرِّف والتي تهدِّد المجتمع بكلِّ من فيه. الحركات الإسلاميّة الدينيّة ترى أن الحلَّ لكلِّ الأزمات يَكمُن في التطبيق الحرفيِّ للشريعة الإسلاميّة على المجتمع في مجالَيْ السياسة والحياة الاجتماعية بكلِّ من فيه، مسلمين أم غير مسلمين. في هذه الحال، الموقف المسيحي هو التالي: أوّلا، الوحدة الوطنيّة بين المسيحيّين والمسلمين للوقوف صفًّا واحدًا في وجه التطرّف الذي يهدِّدهم مسلمين ومسيحيين معًا. وثانيًا، إن وصلت هذه التيّارات الدينيّة يومًا إلى فرضِ سيطرتها على المجتمع، يبقى كذلك مجال كبير للحوار. وإن لم ينجح الحوار، يبقى للمسيحيّ أمر واحد يقوم به: ألا يستسلم للخوف، بل يثبِّت حقَّه في المواطنة ويَثبُت على إيمانه، ويستعدُّ في الوقت نفسه إما للشهادة في سبيل إيمانه بتحمُّل المضايقات اليوميّة في الحياة، وإمَّا للاستشهاد ببذل الحياة نفسِها. وإذا ما انفتح أمام المسيحيّين مرّةً ثانية عصرُ الاستشهاد، كما حصل في القرون الأولى للمسيحيّة مع الإمبراطوريّة الرومانيّة، سيكون ذلك لمنفعة المجتمع كلِّه ولتنقيته، ولتقوية المسيحيّين في إيمانهم ولخلق وجه جديد للمجتمع كلِّه. ولكن يجب أن نتساءل أيضًا لماذا تنشأ وتنمو هذه الحركات الدينيّة المتطرِّفة. أوّلا، يمكن أن نرى فيها حاجة لدى الناس إلى حياة دينيّة صادقة. وثانيًا، نجد فيها رفضًا لأوضاع بشريّة داخليّة مبنيّة على عدم المساواة والفقر والمظالم في داخل المجتمعات العربية المسلمة، وثالثًا هي رفضٌ لغزو "غربيٍّ" للمجتمعات العربيَّة عبر وسائل الإعلام المتنوِّعة على صعيد القيم والأخلاق. كما هي رفضٌ للتدخُّل "الغربيِّ" على الصعيد السياسيِّ أيضًا. وفيها أخيرا ردَّة فعل على الخلل القائم في العلاقات بين الشعوب. هذا، بالإضافة إلى الصراعات المحتدمة في إسرائيل وفلسطين والعراق.

هذه التيّارات الدينيّة، بكلِّ تعقيداتها وتهديداتها للمسلم وغير المسلم على السواء وللعالم كلِّه، قد تُحكِم يومًا قبضتَها على المجتمع، ما لم تعمل السياسات الداخليّة في البلدان العربية على خلق مجتمعات عادلة وآمنة، وما لم يتجدَّد الإسلام من الداخل فيستجيب لحاجة المؤمنين إلى حياة دينيّة صادقة، ويحُول دون مساعي المتطرِّفين لتحويل الدين إلى أداة للتعصُّب والعنف، وما لم تتوصَّل السياسة العالميّة إلى وضع حدٍّ لمختلف صور الاستعمار الحديث للشعوب.

اليهود والمسيحيون في الأرض المقدسة

بالرغم من الصراع المحتدم كلَّ يوم، وبالرغم من الموت والكراهية في كلِّ يوم، هناك أيضًا واقع أكثر إنسانيّة، وهو واقع حوار وتواصل بين الناس على مختلف المستويات السياسيّة والدينيّة. وهناك مثلا مبادرات عديدة للقاءات بين الشبيبة الفلسطينيّة، المسيحيّة والإسلاميّة، والإسرائيلية اليهوديّة في إطار المدارس، على الصعيد المحلّي والعالميّ. وهناك أيضًا في البلد جمعيّات عديدة للحوار بين اليهود والمسيحيّين. وفي أبرشيّتنا البطريركيّة لجنة للحوار مع الديانة اليهوديّة فتحت أبوابًا من المعرفة والاتصالات. والهدف منها هو الإصغاء وفهم اليهوديّة واليهود من خلال شهادات لشخصيّات يهوديّة من مختلف قطاعات المجتمع الإسرائيلي. وتركِّز اللجنة تفكيرها أيضًا على العيش معًا، ومن ثَمَّ على المواقف الواجب اتخاذها في وجه الواقع الأساسيّ في البلد أي الصراع والاحتلال وانعدام الأمن. وتناقش اللجنة أيضًا وجهات النظر اللاهوتيّة بخصوص الصراع. والهدف هو إقامة حوار محليّ بين أشخاص محليّين فلسطينيّين مسيحيّين وإسرائيليّين يهود، للتفكير وتبادل الآراء كمؤمنين في الوقائع التي يعيشها على الأرض نفسها الفلسطينيّون والإسرائيليّون. ويشارك بعض الفلسطينيين المسيحيين أيضًا في الحوار الرسميّ بين الكنيسة الكاثوليكيّة في المجلس البابويّ لوحدة المسيحيّين وللحوار مع اليهوديّة.

متطلبات الحوار

الحوار المحلّي بين الأديان الذي بدأ باتصالات متعدِّدة بين المسلمين واليهود والمسيحيّين، أدَّى إلى إنشاء مجلس للمؤسسّات الدينية في الأرض المقدّسة، يساهم فيه ممثّلو الديانات الثلاث على أعلى المستويات. وهو حوار استرعى انتباه القيادات السياسيّة، وخلق واقعَا جديدًا في الأرض المقدّسة: لأوّل مرة في التاريخ، تجتمع القيادات الدينيّة للديانات الثلاث وتفكّر معًا في كيفيّة التوصّل إلى السلام. وقد أردنا أن نرَكّز في هذا الحوار على البعد الإيماني والعلاقة بالله. فنحن المؤمنين بالله، ماثلين أمام الحضرة الإلهية، أمام الإله الواحد، نريد أن نفكِّر معا، فننظر في واقعنا الإنساني المشترك، وفي التنوّع بيننا وفي مقدرتنا على المصالحة، ونريد أن ننظر أيضا في القيم الدينية مثل التسامي فوق الذات وقبول الآخر واحترامه، لأننا كلَّنا خليقة الله ومتساوون أمامه، ومعًا علينا أن نجتهد لإقامة العدل والسلام.

إلا أنّه ما زال هناك عدم نضوج دينيّ في مجتمعاتنا ذاتِ الطابع الدينيّ، في ما يختصّ بقبول الآخر واحترامه. حتى الآن كلُّ المسيحيّين وكلُّ المسلمين وكلُّ اليهود لم يتعلَّموا أن يعيشوا معًا وأن يجعلوا العيش معًا مقبولا وآمِنًا للجميع. هناك عناصر متطرِّفة أو جاهلة ما زالت تحمل تناقضات الماضي وما زالت مصدرًا لعدم الثقة والتّهم والخوف، ومن ثم للاعتداء على مواطنيهم المختلفين عنهم في دينهم.

ثم إنّ الحوار القائم اليوم إنما يجري بين القيادات أو على صعيد النخبة. وهو حوار مفيد، ومسيرة طويلة لا بدَّ من الاستمرار فيها. ولكننا نحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى تربية جديدة للأجيال الصاعدة. إنْ أردنا تهدئة المجتمع وإزالة النـزاعات الجزئيّة أو العامّة، فإنَّ نظام التربية يجب أن يتبدّل، وفي جميع أماكن التربية، في البيت والمدرسة ودور العبادة ووسائل الإعلام. يجب أن تنطلق دعوة صريحة واضحة للاعتراف بالآخر والتعاون معه. يجب أن تسمع الأجيال الجديدة في كلِّ الديانات نداء يقول: الآخر المختلف في ديانته ليس عدوًّا ولا غريبًا. بل هو أخ ويجب محبَّته والتعاون معه، ومعه يُبنَى المجتمع. حتى التطرُّف الذي يتغذَّى من جهة من جهل الماضي ومن جهة أخرى من مظالم الحاضر ومخاوفه، قد يجد في نظام التربية الجديدة هذه جزءا من العلاج المنشود.

نحو المستقبل

إلى كهنتي

أشكر لكم أيها الكهنة الأعزاء محبَّتكم وصلواتكم. الله يكافئ غَيْرتكم الكبيرة. ولْيرافقْنا الله بنعمته في إكليركيّتنا في بيت جالا التي ما زالت تحمل رسالتها بأمانة منذ تأسيسها عام 1848 وحتى اليوم. نحمده تعالى أنّه ما زال ينعم علينا بما يكفي من الدعوات الكهنوتيّة من الأردن أوّلا ثم من فلسطين وأخيرًا من إسرائيل. أشكر مجموعات الكهنة الذين ضحَّوا وقبلوا مرافقة طالبي الكهنوت والعيش معهم في الإكليركيّة.

لكهنتنا أقول حافظوا على غَيْرتكم التي أنتم عليها اليوم. اليوم يمكن القول في كلِّ واحد منكم: "إنه يعرف خرافه وإن خرافه تعرفه" (راجع يوحنا 10). وهذه نعمة كبيرة لكم وللأبرشيّة. إلا أن أوضاع المجتمع والمؤمنين والكهنة تمرّ اليوم بتطورات خطيرة، وبدأت تظهر بعض الغربة بين الرعاة والرعايا. ولهذا، من أجل البقاء في المستوى الحالي من المعرفة والخدمة، وقبل أن يتدنّى، ظلوا متأمَّلين مدرِكين لما هو جوهر الرسالة الكهنوتيّة: هو معرفة يسوع المسيح والتعريف به. وكاهن البطريركيّة هو أوّلا كاهن رعيّة. وكاهن الرعيّة هو أوّلا معلِّمٌ للتعليم المسيحي، في المدرسة، وفي العظة، وفي زيارات العائلات، وفي النشاطات الرسوليّة وفي كلِّ ظرف آخر. حافظوا على حرّيَتكم وجاهزيَّتكم لمعرفة يسوع المسيح وللتعريف به، في كلِّ رعيّة، صغيرة أو كبيرة، ولا تتردَّدوا في قبول المكان الصعب أو حتى في انتقائه، ونعمة الله إذذاك تكون أوفر. حافظوا على حرّيّتكم من حيث الأماكن والأشخاص. لا شيء، لا مكان ولا أحد ولا مال ولا صداقة ولا مشاريع بناء حتى ولا المشاريع الرعويّة نفسُها يجب أن تصبح قيدًا لكم، يحدٌّ من حرّيّتكم ويمنعكم من القيام برسالتكم في أيّ مكان تُرسَلون إليه. لأنَّ العمل الموكول إليكم ليس لكم. بل هو عمل الله. قال يسوع المسيح: "إنَّ أبِي مَا زَالَ يَعمَلُ وَأَنَا أَعمَلُ أَيضًا" (يوحنا 5: 17)، ونحن جزء من عمل الله هذا في الأبرشية. اعملوا وقولوا مع الإنجيل: " إنَّمَا نَحنُ خَدَمٌ لا فَضلَ لَنَا، وَمَا كَانَ يَجِبُ أَن نَفعَلَهُ فَعَلْنَاهُ." (لوقا: 17: 10). حيث تُرسَلون فأنتم أداة الله، وحيث يُطلَب منكم التوقُّف عن عمل بدأتموه ولم تكمّلوه بعد، اتركوه حيث هو وعلى حاله: الله يعرف كيف يتمِّمُ العمل الذي بدأَه هو بكم. وعكس ذلك، حيث تُصِرُّون على البقاء، بإرادتكم، قد تنقطع رسالتُكم، ولن يكون الله هو المرسِلَ لكم، ولن تعملوا إذذاك عمل الله بل نشاطًا لكم. الخطر الكبير الذي يهدِّد المكرَّسين المرسَلين إلى حقل الربّ هو تحويل عمل الله إلى مسعًى لهم شخصيّ. إذذاك تبدأ الصعاب والمخاصمات والعصيان، وإذذاك تُحجَبُ نعمة الله.
الأبنية الحجريّة، أي المراكز الرعويّة، والمدارس والكنائس والقاعات الرعويّة، كل هذا نحن بحاجة إليه. ولكنَّ هذا أيضًا يجب ألا يصبح عقبةً تَحُول دون رؤية الهدف الذي من أجله نبني. الشرط الأساسيّ المطلوب للبناء ليس فقط المال الضروريّ لذلك، بل الشرط الأساسيّ لكلِّ مشروع نقوم به، هو مقدرتنا على الاستمرار في توفير لحظاتِ صمتٍ لنا أمام الله، والإبقاء في حياتنا على لحظات الشفاعة أمامه تعالى من أجل المؤمنين، وعلى أوقاتٍ للتعليم المسيحي. مثل موسى النبيّ الذي رفع يديه للشفاعة من أجل شعبه على جبل نبو المرتفع بين رعايانا صلُّوا أنتم أيضا وتشفَّعوا.

بنينا حجرًا كثيرًا. والمؤمنون الذين يميِّزون من جهة بين الكاهن الذي يصلِّي والكاهن الذي لا يصلِّي، إلا أنهم، من جهة أخرى، يخدعون الكاهن أحيانًا فيمتدحونه فقط لأنّه بنى حجرًا كثيرًا.
الكاهن هو للشعب وليس العكس. ليس الناس لخدمتنا. بل نحن أُرسِلنا لخدمتهم. قال يسوع المسيح: "أنَا بَينَكُم كَالَّذِي يَخدُمُ" (لوقا 22: 27). ومن ثمَّ واجب قبول المؤمنين في كل المستويات والطبقات. كلُّهم، مهما كان وضعهم في الحياة الاجتماعيّة في ما يملكون أو يعرفون، ومهما كان حضورهم أو غيابهم في حياة الرعيّة، مهما كانت حاجاتهم الماديّة أو الروحيّة، كلُّهم ولو صدر عن بعضهم أحيانًا ثِقَلٌ وإزعاج، كلُّهم موضوع رسالتنا ومحبّتنا، والفقير فيهم من حيث كلُّ نوعٍ من أنواع الحاجات الماديّة أو الروحيّة هو صاحب الأولويّة في خدمتنا ومحبَّتنا. نحن مرسَلون إلى الجميع لنساعدهم على رؤية الله.

قد يبدو العمل أحيانًا مع بعض الأشخاص أو مع بعض الأوضاع أمرًا لا طائل منه، وأنَّ كلَّ تبديل في العقليّات أو في الأشخاص هو أمر مستحيل. لدى لله لا شيء مستحيل. وكذلك للمؤمن. يجب البدء، ونعمة الله هي المتمِّمة. الله يكمِّل المسعى، وصلاحُ الناسِ أنفسِهم الذي وضعه الله فيهم قد يُدهِشُنا أحيانًا ويفوت توقّعاتنا البشريّة. نـزرع نحن اليوم وغدا غيرنا يحصد. أمَّا إن لم نزرع اليوم فلن يكون حصاد أبدًا: "أنَا غَرَستُ وَأَبُلُّس سَقَى، وَلَكِنَّ الله هُوَ الَّذِي أَنمَى" (1 قورنتس 3: 6).

ظهرت، في فترة ما، نزعات إقليميّة بين الكهنة. أرجو أن تكون هذه الروح قد ولَّت إلى غير رجعة. يجب ألا يفرِّق شيء بين الكهنة الذين يعملون في حقلٍ واحد للربّ والذين يقدِّمون كلَّ صباح الصلاة نفسَها والذبيحة الواحدة. أرجو ألا تَقوى بعض المواقفِ البشـرية على إفساد رسـالة الله، حتى تبقى الكنيسـة حيّةً بكهنتها، وحتى تقدر أن تنموَ بإيمانهم وصلاتهم وتعليمهم: "أُنَاشِدُكُم، أَيُّهَا الإخوَة، بِاسمِ رَبِّنا يَسُوعَ المَسِيحِ، أن تَقُولُوا جَمِيعًا قَولا وَاحِدًا وَألا يَكُونَ بَينَكُمُ اختِلافَات، بَل كُونُوا عَلَى وِئَامٍ تَامٍّ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ وَفِكرٍ وَاحِد" (1 قورنتس 1: 10).
اقبلوا دعوتكم بجدِّية. في كلِّ يوم جدِّدوا قبولَكم الذي أعربتم عنه يومًا ما. جدِّدوا في كلِّ يوم قبولكم للخيار الصعب الذي هو بذل الحياة في كلِّ يوم، والتي يمكن أن تصير بمَللِها ورتابتها موتًا يوميٌّا. لحظاتُ الصمت أمام الله، هذا هو هدفها: أن تجدِّد القوّة وتؤيِّد القبول الصعب. ومن ثَمَّ ضرورة تكريس ما يلزم من الوقت لحضور الله في حياتنا، لتجديد قوانا وللتمكُّن من قراءةِ مشيئته في كلِّ أحداث حياتنا الخاصّة والعامّة. لأنّ عناية الله ساهرة، وكلُّ ما يسمح الله بحدوثه فهو كلمةٌ منه لنا. ويجب أن ندرك أخيرًا أنَّ حياة الكثيرين أو موت الكثيرين من الناس، رجالا أو نساء، متوقِّف على قبولنا أو رفضنا لدعوتنا أو على الطريقة التي بها نعيشها. يسوع قال: "أَتَيتُ لِتَكُونَ الحَيَاةُ لِلنّاسِ وَتَفِيضَ فَيهِم" (يوحنا 10: 10). والكهنة مُرسَلون ليمنحوا الحياة.

المستقبل
مستقبل الكهنة متوقِّف على مدى الإبقاء في نفوسهم على رهبة المقدَّسات التي يتعاطَوْنها كلَّ يوم. ومستقبل المسيحيّين متوقِّف على ما يقدِّمه لهم كهنة رعيَّتهم. عمِلْنا ضمن البطريركيّة، منذ أكثر من قرن ونصف. نعم، الثمار اليوم وافرة بنعمة الله. ولكن ما زال هناك حاجة إلى جهد أكبر لمنح حياة أوفر. يجب تكوين عائلات تعيش على مثال كنيسة القدس الأولى (أعمال الرسل 2: 43- 47)، يجمع بينها الصلاة والمواظبة على تعليم الرسل والإفخارستيا والمشاركة في الخيرات. ويجب العثور على طرق لعيش وصيّة المحبّة بكل مجالاتها في الحياة الخاصّة والعامّة: من حيث المغفرة، ومن حيث قبولُ كلِّ آخر مختلف عنّا، علي أيِّ دين وأية قوميَّة كان، ومن حيث المشاركةُ في الخيرات التي تتجاوز الحسنة والصدقة كما سبق وقلنا، لتصبح شركة حياة مبنيّةً على أسس إيمانيّة واقتصاديّة في الوقت نفسه.

يجب "إرسال" المؤمن إلى مجتمعه لا مجرَّدًا من إيمانه كما حصل حتى اليوم بل قويًّا ومستنيرًا به.كانت تربيتنا أحيانا تربيةً روحية أبقت المؤمن داخل الكنيسة أو في إطار الرعيّة، ولم نرسله بما فيه الكفاية إلى مجتمعه. الصلاة في الكنيسة والرعية والإفخارستيا والقدّاس والمسبحة ودرب الصليب والتطوافات وكلُّ أشكال العبادة يجب أن تبقى، ولكن يجب أن تصبح كلُّها "إرسالا" إلى خارج مكان العبادة، إلى المجتمع كلّه، إلى حيث الناس يبحثون عن الله، ليكون كلُّ مؤمن في مجتمعه خميرة وملحًا ونورًا.

في مجتمعنا صراع فيه شعبان وثلاث ديانات، وكلّ بلداننا تعاني من عدم الاستقرار السياسي. من واجب المؤمن وكلِّ إنسان ذي نية صالحة، وكهنة الرعايا والرهبان والراهبات في مقدّمتهم، أن يعمل لوضع حدٍّ لهذا الصراع وأن يجعله موضوع صلاته وتعليمه.

الحوار بين الديانات أمر يقرِّب بين الناس، ولكن لا بدَّّ من الحرص على عدم تحويله إلى مجاملات أو تنازلات أو خوف من تثبيت الهوّيّة الذاتيّة أو من مواجهة الواقع، أيًّا كان، سهلا أم صعبًا. أمانة المؤمن الصحيحة لإيمانه تقول له أن يحبّ كلَّ مجتمعه، الشعبَيْن والمؤمنِين فيهما من الديانات كلِّها، بل وغيرَ المؤمنين إن وُجدوا. هذا توجُّهٌ يجب أن يكون واضحًا وصريحًا في التربية الدينيّة التي نُنشِئُ عليها مؤمنينا. الآخر ليس عدوًّا ولا غريبًا. هو خليقة الله بل هو ابن لله. وأمام الله لا أحد عدُوٌّ ولا أحد غريب. ومن الطبيعيّ أن نطلب الرؤية نفسها حين نتوجَّه بكلامنا وحوارنا مع المسلمين واليهود. ولكن، ولو لم نجد الردَّ علينا بالمثل، نبقى مؤمنين بيسوع المسيح ونتصرَّف كمؤمنين به، نرى في كلِّ واحد ابنًا لله وموضوعَ محبّةٍ لله ولنا.

خاتمة
أنهي رسالتي بطريركًا مسؤولا عن الأبرشيّة البطريركيّة اللاتينيّة الأورشليميّة. وسأسلِّم المهمّة عن قريب إلى خليفتي سيادة المطران فؤاد الطوال. أسأل الله له كلَّ بركة وتوفيق ونعمة لحمل رسالته في هذه البطريركيّة الجليلة. مجدَّدًا أشكر الله وأشكر كلَّ مَن وضعهم على طريقي لأخدمهم أو لأنال منه عن يدهم نعمة. سوف أستمرُّ في العيش في القدس، وتستمرُّ مستلزمات معيشتي اليومية في إطار البطريركيَّة اللاتينيّة. شخصيًّا دخلت البطريركيّة ولا مالَ لي. وأنهي مهمتي فيها ولا مالَ لي. لا حساب لي في البنوك. ولا دينَ لي على أحد، ولا دينَ لأحد عليَّ. أمّا البطريركيّة كمؤسسة فقد ظلّت تسير في عجز ماليٍّ متواصل. ولكنَّ الله بارك العجز الماليّ والفقر، وسيرافق ببركته مسيرة البطريركيّة وحاجاتها الماديّة الساندة لرسالتها الروحيّة. لكلِّ هذا اشكر الله. رافقوني بصلواتكم. أَكِلُ نفسي إلى شفاعة سيّدتنا مريم العذراء الكلّيّة الطوبى والطهارة. وأسأل الله العليّ القدير، أن يبارككم جميعًا، الآبُ والابنُ والروحُ القدس، الإلهُ الواحد. آمين.

البطريرك ميشيل صبّاح