بكركي،الاثنين 31 مارس 2008 (Zenit.org).
ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أثناء القداس الاحتفالي الذي ترأسه في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي نهار الأحد 30 مارس 2008.
* * *
"طوبى لمن لم يروا وآمنوا"
( يو20: 29).
هذا الأحد يسمّى أحد تجديد البيعة، أي الكنيسة. وذلك تدليلا على ما يقول القديس بولس في رسالته الثانية الى أهل كورنتس: "ان كان أحد في المسيح، فهو خلق جديد: لقد زال القديم ، وصار كل شيء جديدا" . أجل ان المسيح جدّد بموته وقيامته كل ما في الدنيا، أو بتعبير آخر جعل اتباعه يوجّهون الى كل شيء في الدنيا نظرة جديدة. ان ما بعد المسيح هو غيره ما قبل المسيح. وهذا هو الواقع.
قبل المسيح كان الناس يعيشون ويموتون بغير رجاء القيامة. بعد المسيح أصبحوا يموتون على رجاء القيامة السعيدة معه، على ما يقول بولس الرسول: "ونحن نعلم أن ذلك الذي أقام الرب يسوع، سيقيمنا نحن أيضا مع يسوع، ويجعلنا واياكم في حضرته". ولكن الذين سيقومون مع المسيح لحياة جديدة أبدية، هم الذين يؤمنون به ويتّبعون طريقته في الحياة. أي اولئك الذين يتّبعون النهج الذي رسمه لهم، على ما يقول: " ليس كل من يقول لي في ذلك اليوم: يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات"، ويتابع قائلا:" كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب ، يا رب! أما باسمك تنبّأنا، وباسمك أخرجنا الشياطين، وباسمك عملنا كثيرا من الأعمال القديرة ؟ فحينئذ أعلن عليهم: ما عرفتكم البتة، ابتعدوا عنيّ يا فاعلي الأثم" .
الايمان ، يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكي، هو نعمة أو هبة من الله. عندما اعترف بطرس بأن يسوع المسيح هو ابن الله الحي، قال له يسوع: "ليس ما تقول قد أتاك من لحم ودم، بل من أبي السماوي الذي هو من كشف لك ذلك" . لا يؤمن من يريد، بل من يعطيه الله نعمة الايمان، ويقبلها باقرار جميل. ذلك أن الايمان هو فضيلة فائقة الطبيعة يهبها الله من يشأ، ويمنعها عمّن يشاء. ولكي يجاهر المؤمن بايمانه، فهو في حاجة الى نعمة خاصة من الله، والى مساعدات الروح القدس الذي يمسّ القلب، ويوجّهه الى الله، ويفتح لديه أعين الروح، ويهب الجميع عذوبة قبول الحقيقة والايمان بها " .
والايمان هو الايقان بالأمور المرجوّة كأنها قد تمّت بالفعل، يقول بولس الرسول. وبالايمان " يكل المؤمن أمره الى الله ، لذلك انه يسعى الى معرفة اراداته تعالى والعمل بها. فهو يحيا من الايمان، على ما يقول بولس الرسول : "والايمان الحيّ يعمل بواسطة المحبة". والايمان الحق لا يرتكز على الحواس، بل على اليقين الباطني، على ما يقول الرب عينه:" طوبى لمن لم يروا وآمنوا". وإنّا نؤمن بالاستناد الى كلام الله، وليس بالاستناد الى قوانا الطبيعية.
والايمان ليس بالكلام، بل بالأعمال، وهو ان لم يقترن بالأعمال، يكون ميتا" على ما يقول القديس يعقوب . وعلى " كل أن يمتحن عمله، وحينئذ يكون افتخاره في نفسه فقط، لا في غيره" .
واذا أردنا أن نرى الواقع الذي نتخبّط فيه اليوم، فعلينا أن نضع موضع العمل تعليم السيد المسيح ، وما مارسه الآباء القديسون، وتركوه لنا مثلا طيّبا نتأثّره. لا أريد أن أفحص ضمير أحد من الناس، ولا سبيل الى ذلك، لكني أريد أن أفحص ضميري، وأحاول قدر المستطاع أن أرى جليّا ما أنا فيه. لكني أريد أن أدعو كلا من المؤمنين أن يفحص ضميره أمام الله. فهل يعمل كل منا بوحي ضميره المستقيم ؟ الجواب الأمر متروك لكل منّا.
غير ان المشهد الذي نراه في الساحة الوطنية لا يبدو مشجّعا. نحن، أتباع المسيح، يعرف كل منا ما عابه بولس الرسول على بني قومه، عندما قال لهم:" ان كل واحد منكم يقول: "أنا لبولس! وأنا لأبولّس ! وأنا لكيفا! وأنا للمسيح. فهل تجزّأ المسيح ؟ ألعلّ بولس قد صُلب من أجلكم ؟ أم باسم بولس تعمّدتم ؟ " .
إن هذا الانقسام الذي نشهده على الساحة اللبنانية، لم نشهده من ذي قبل، وهو يصيب منا مقتلا. والمسيح يقول لنا:" ليكونوا واحدا كما أنا وأنت ، أيها الآب واحد" . وهذه الوحدة يجب أن تنبع من المحبة. وبدون محبة لا شيء ينفع، على ما يؤكّد بولس الرسول:" وصيّة جديدة أعطيكم، أن تحبّوا بعضكم بعض، كما أنا أحببتكم" . أجل أن تحبّوا بعضكم بعضا، كما أنا أحببتكم. ومحبة المسيح ايّانا كلّفته حياته ودمه الذي سفكه على الصليب، وما رافق ذلك من آلام النفس والجسد. وهذه الوصية ستبقى أبدا جديدة، لأن الناس غالبا ما يتناسونها. والبرهان هو ما يجري حولنا وأمامنا من حروب ونزاعات، ومجازر، وضحايا. وكل هذا بعيد كل البعد عن المحبة.
ان الوضع الخطير الذي نعيشه اليوم يقتضي منا أن نرصّ صفوفنا، ونجمع قوانا، ونعير وطننا انتباهنا لننهض به من كبوته. وهذا لن يكون بالهرب من الواقع وبتجاهله، بل بمعالجته بالحكمة ،والروية، وبما يقتضيه من دقّة، وبالعودة الى تعاليمنا الدينية.
ان السيد المسيح يقول:" اذا خطئ اليك أخوك سبع مرّات في اليوم، ورجع اليك سبع مرّات قائلا:" أنا تائب، فاغفر له". وليس من بيننا من يجهل أن الظرف العصيب الذي نعيش فيه يقتضي منا أن نضع موضع العمل ما يقوله الرب يسوع بلسان بولس الرسول: " علينا نحن الأقوياء أن نحمل ضعف الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا، بل ليرضٍ كل واحد قريبه، في سبيل الخير من أجل البنيان، لأن المسيح لم يرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب: تعييرات معيّريك وقعت عليّ".
وانّا ،اذ نهنئّكم بهذا العيد، عيد الفصح المجيد، نأمل من جميع الذين انضووا الى الرابطة المارنية، أن يجعلوا منهاالخميرة في العجين، والملح في الطعام، وأن يكونوا هم جميعهم رسل وفاق، وتفاهم، ومحبة، "وطوبى لمن لم يروا وآمنوا". أمين.