عندما تتلاقى خطى القديسين

يوحنا بولس الثاني يسلم على تريزيا، على ضفة نهر الأردن

 

\"\"

يوحنا بولس الثاني يطل اليوم من نافذة الملكوت، ويصغي لطالبي شفاعته

عودة الى عام 1997، حيث تشرفت في شهر آب بالمشاركة في اللقاء العالمي الثاني عشر للشباب في باريس، حول البابا العزيز يوحنا بولس الثاني. أكثر من مليون شاب وشابة من مختلف أنحاء العالم، حطوا الرحال في مدينة النور، لكي يعيشوا أياما عالمية، أسرة واحدة. تخيلوا أكثر من مليون شخص يقضون ليلة في أحضان الطبيعة… يأوون الى أكياس نومهم، صامتين. بعض أيام جعلت شوارع باريس جميعها تعيش حالة من الفوضى الضرورية، لتذكير العالم المتحضر، بأن الحماس في دنيا الدين والروح ما زال موجودا، وأن شبابا بهذا الحجم والعدد، عندما يأتي من بلدان عدة مسبحا للخالق ومحبا للقريب، هو خير مؤكد على نجاح مشروع "حضارة المحبة" التي أراد لها "كارول فويتيلا" أن تشتعل في العالم، وجنوده أولئك الشباب الشجعان.

كان سكان باريس وقتها، منقسمين، بين مؤيد ومعارض لهذه الفوضى الخلاقة، فمن مؤيد ليبقى في شوارع بلدهم "العلماني" بعض من مظاهر التدين السلم، ومن معارض مبدئي لفعل التعدّي على حقوق الناس بحياة هادئة… فردانية… لا تمس شعورهم "اللاديني" ولا تأتي على تغيير لبرنامج يومهم الروتيني. وكان التساؤل وقتها: ما الذي يحدث، أتراها ثورة شبابية جديدة تعيد الى الأذهان ما حدث عام 1968 أي في ثورة شباب باريس الجامعيين التي قادتها فوضى مدمرة وغير خالية من إراقة الدماء؟ أجل هي كذلك… ثورة جديدة، لكنها غير دموية… ومن الذي يقودها؟  ليس غير يوحنا بولس الثاني كان بوسعه أن يلهب في نفوس الشباب مثل هذه النيران المتأججة.

وفي الرابع والعشرين من آب نفسه، وقف البابا العزيز في القداس الالهي الختامي لتلك الأيام غير المنسية، وبعد أن حث شباب العالم أن "سيروا على خطى العالم، وكونوا فيه كرقباء الصباح للألفية الثالثة "، وبعد أن وعد الشباب بأن يلاقيهم في روما عام 2000، قائلا: "ومن يعش يرَ"، وقف الى جوار صورة كبيرة للقديسة تريزيا الصغيرة، التي انتقلت الى ديار الخلد عام 1897، أي قبل 100 عام من وقفة البابا في بلدها فرنسا، فجاءت آخر كلمات له قبل صلاة الملاك:

\"\"

القديسة تريز الطفل يسوع التي وقف البابا إلى جوارها عام 1997

"أعزائي الشباب، أود في نهاية هذه الأيام الشبابية الرائعة، أن أقدم لكم وجه القديسة تريزيا من ليزييه، التي ولدت في السماء قبل 100 عام من هذا العام.

اقدمها لكم ، لأنها كانت مأسورة بحب الله، وعاشت مقدمة نفسها كلية لهذا الحب. وفي حياة البساطة اليومية، عرفت أيضا كيف تعيش الحب الأخوي. … وعرفت تريزيا أن الحب هو هبة من الله ، قبل أن يكون من البشر".

وأكمل البابا يقول أن تعاليم تريزيا كانت: "عِلما في الحب " Science of love انها تساعد رجال ونساء هذا العصر والغد الآتي ، لكي يكونوا واعين لعطايا الله ، ولنشر ألأنباء السارة لحبه اللامحدود.

ومن ذلك المكان حيث اجتمع البابا والشباب معا، أعلن البابا أنه سيعلن في 19 أكتوبر من ذلك العام نفسه القديسة تريزيا الطفل يسوع معلمة الكنيسة… وقال بأنه يسرّه أن يعلن عن ذلك بين الشباب، لأن رسالة تريزيا، هذه الامرأة الشابة، ما زالت حاضرة لأوقاتنا، وهي رسالة تخص الشباب بشكل لا نظير له:  "ففي مدرسة الانجيل ، تدلكم تريزيا على درب النضوج المسيحي. وتدعوكم إلى السخاء غير المشروط ، وتطلب منكم أن تبقوا في قلب الكنيسة رسلا وشهودا أشدّاء لمحبة المسيح".

واختتم البابا بطلب شفاعة تريزيا لتقود رجال ونساء عصرنا على دروب الحق والحياة.  

 

وفي الثاني من نيسان 2008، تطل الذكرى السنوية الثالثة لرحيل البابا يوحنا بولس الثاني الى "منزل الآب". في الوقت الذي تدور فيه ذخائر القديسة تريزيا الطفل يسوع في أرجاء الأردن ، "لتنثر ورودها على أرض المعمودية". ورودا حية وزاهية، تسقيها من مياه الأردن، وكأنها تردّد أغنية الأردن الشعبية، لازرع لحبي ثلاث وردات، واسقيها من ميّة الأردن". الأردن، الأرض المقدّسة، الإنسان، المستقبل المشرق… المعطّر بخطى القديسين، النهر الذي وقف على ضفته الشرقية يوحنا بولس الثاني عام 2000، قائلا : "سبحانك أيها الأب، إله الآباء، لقد أرسلت خدامك الأنبياء لكي ينطقوا الى العالم بكلمة حبك الأمين ولكي يدعوا شعبك إلى التوبة، وذلك على ضفاف نهر الأردن". وكانت آخر كلمات له في الأردن، ما يشعرنا اليوم بالطمأنينة وبشفاعته الفاعلة: "في صلواتي سأتذكر الشعب الأردني بأسره- مسيحيين ومسلمين- وبشكل خاص المرضى والمسنين"…

وفي الأردن، كانت احتفالات التأبين الرسمية لرحيله.. في ذلك المكان، على ضفة النهر…

والى ذلك المكان، ستذهب ذخائر القديسة تريزيا الطفل يسوع… معلمة الكنيسة، يوم السبت الرابع من نيسان، لسقي "ورداتها" من نهر الأردن، ولتبارك المكان الذي عليه ستقام أول كنيسة منذ عصور… بهمّة الشباب الأردنيين المتحمّسين لعمل الخير ولبناء بيوت الله …

\"\"

جانب من الحشود الشبابية عام 1997

في الأردن اذا، تتلاقى خطى القديسين، وعلى نهر الأردن، تتلاقى خطى يوحنا بولس الثاني، الذي جاب أقطار العالم يشعل فيها نيران "حضارة المحبة"، مع خطى القديسة الشابة التي كانت في قلبها رغبة حارة بأن تحمل الإنجيل وتدور به في "قارات العالم الخمس، وصولا حتى إلى الجزر النائية"…  خطى البابا الحبيب تتلاقى مع خطى تريزيا… يشعلان معا نيران الحب الصافي، ويدلان شباب بلدنا وشرقنا والعالم إلى المعاني السامية والقيم النبيلة والأهداف العالية.

وهكذا، لا يفتأ الرب يبعث إلينا بإشارات وعلامات ورموز غاية في الروعة، تحمل تشجيعا لكل من اختاروا البحث عن الحقيقة والجمال ، قرب الرب ، وليس كما يصوّرهما العالم المتعلمن الذي يريد بناء كل شيء، بشريا، بعيدا عن خالق الأرض والسماء و"الذي في يديه نسمتنا".

هي خطى تتلاقى فوق مشرقنا العزيز والجريح… فلنلتقطن إشارات السماء هذا العام، مع ملتقى القديسين والعظماء الذين بنوا عظمتهم لا على حساب الآخرين، بل خدمة لهم ومحبة بهم، من أجل المحبة الكبيرة… النابعة من قلب الله.

عام 1997، كرّم قدّيس قدّيسة وسلّم سيرتها العطرة أمانة في أعناق شباب العالم…

وفي عام 2008… تتلاقى خطى ساكنَي السماء، يوحنا بولس الثاني وتريزيا الصغيرة… دفعة جديدة لشباب هذا العصر بأن يسيروا على خطى العالم كرقباء للصباح… وهو دوما صباح جديد برفقة الرب القادر بروحه أن يجدّد وجه الأرض.

 

الأب رفعـت بدر

عن موقع ابونا