الـمـزمور الــتاسع: الرب ملجأ للمساكين والمقهورين

تقديم

مزمور لداود بمناسبة موت ابنه، لإمام الــغناء على ذوات الأوتار، في الأصل كان المزموران التاسع والعاشر مزمور واحد كما هو الحال في النسخة اليونانية وفي الترجمة اللاتينية الشائعة (الفولجاتا)، ثم تم تقسيمهما إلى اثنين وهو مزمور أبجدي كما نلاحظ في الهوامش. وكلاهما يترنمان بالله الملك العظيم والمخلص الجبار. هو في القسم الأول ( المزمور التاسع) مزمور شكر ينشده المرتّل لله من أجل أحكام الله التي تحفظ حقّ البائس والمسكين.

ينطلق المرتّل من خبرة حياتية حصلت له ولجماعة الرب المؤمنة، فقد أعطاهم الربّ النصر على الأعداء، ولكنّ هذا النصر لم يكن كاملاً، فالأمم المعادية ما تزال موجودة بل وتهدّد سلام شعب الله وتضطهده وكثيراً ما نجحت بعباداتها الوثنية وطقوسها الغريبة في أن تزيغ عيون وقلوب الكثير من الشعب، لاسيما في وقت الأزمات كما هو الحال اليوم وكما سبق ورأينا في سياق المزمور الرابع، زمن القحط.

وبما أن المؤمنين يعتقدون أن الرب هو السيّد والمخلّص، وأن سلطانه ممتد على التاريخ والكون والأحداث، وهو سيّد البشر أجمعين، سيّد الأمم ويدين البشر كلَّهم أفرادًا وجماعات، فقد كانوا كثيراً ما يتشكّكون وتتبلبل أفكارهم عندما يقاسون العذابات ويرون آلامهم وضيقات أحبّاء الله الذين يتقونه ويحفظون وصاياه بينما يمرح الآخرون في نعيم من الخير والراحة. فإيمانهم من جهة يعلّمهم أن الله قدير وعادل يجازي كل إنسان كأعماله وينظر بالرحمة والعطف إلى أحبّائه، ومن جهة ثانية يرون ويختبرون نجاح الأشرار وسعادتهم، مع أن المنطق يقول بغير ذلك، من هنا كانت طلبتهم الدؤوب أن يتدخل الرب ويخلّص شعبه من بطش المفترين وجورهم خصوصًا على البائسين والمساكين الذين لا ملجأ لهم سوى الرب.

كان الوثنيّون في الخارج يهدّدون إسرائيل، والأشرار في الداخل يشكّلون خطراً أكبر لأنهم متغلغلون بين الشعب وبيدهم السلطة والحكم. ولهذا يطلب المرنم من الله أن يتولى أمر أعداء الخارج الداخل، ويحاسبهم كأعمالهم الشريرة أفراداً وجماعات .

ويتوقّف المرتّل كثيراً أمام شخصية الإنسان المنافق الكافر الذي يُنكر الله وعملَه في العالم، ويعتبره إلهًا ضعيفًا لا يصد ولا يرد، كثيراً ما يحجب وجهه فلا يهتمّ بالبائس وينسى صراخ المساكين! ويستغرب المرنم من نجاح المنافق وينتظر من الله تفسيراً، لكن جواب الله وإن تأجل فكما عودنا لا ينسى ولا يهمل…وسوف يتناول المزمور ال 37 الرد على هذا التساؤل الحي الحاضر والمعاصر بما يؤكّد على عدالة الله ويشدّد على أن نجاح الأشرار لا يدوم طويلاً.

يمكن تقسيم المزمور كالتالي

1- مقدّمة: أحكام الله عادلة في كل الأرض.

2- صلاة الشكر يعبّر فيها المرتّل عن فرحه بسبب الخلاص الذي حصل عليه. (2- 3)

3-  موضوع هذا الشكر: حكمُ الله على الأمم الوثنية علامة انتصاره على الشرّ. (4- 7)

4 حقائق معروفة للناس: حكمُ الله يجري على جميع الأمم، الله ملجأ البائسين. (8- 12)

5- يحسّ المرتّل بالضيق، فيتوسّل إلى الله، ويبتهج بالخلاص الآتي منه. (13- 17)

6- خاتمة: طلب معونة ضد الأمم: ألق عليهم الرعب، وليعلموا أنهم بشر.(18- 21)

 

2- أحمدك يارب بكل قلبي أحدث بجميع معجزاتك:

حمد الله واجب كل مؤمن، في كل حال وعلى كل حال ومن أجل كل حال، هكذا تعلمنا الكنيسة في الصلاة، فليس الشكر والحمد لله في حالات النجاح والسرور والفرح والراحة فحسب، فهذه كلها تصنعها الأمم لكن إيمان المؤمن الحقيقي يختبر ويظهر معدنه الحقيقي في وقت الشدة والضيق ( قصة أيوب).

 أحدث بجميع معجزاتك:

عملية الحمد والشكر والتمجيد تدفع المؤمن المصلي إلى الإعلان والحديث عن أمجاد ومآثر الله في حياته الشخصية والعائلية وتاريخ شعب العهد، وليس الشكر فقط.

3- أفرح وابتهج بك أرنم لاسمك أيها العلى:

القلب الشاكر الحامد الممجد يبشر ويحدث عن عمل الله في حياته، فيصير الله هو محور فرحه ومصدر بهجته، ولا تعود الأمور المادية والمالية والأرضية مصدراً للفرح، ككثرة الحنطة والخمر والزيت مثلاً، كما رأينا في المزمور الرابع ،بل يصير الله نفسه هو المصدر الأساسي والوحيد للفرح والابتهاج.

 أرنم لاسمك أيها العلى:

داوود في معاناته فرح لدرجة الترنم " بمراحم الرب أغني"، يقول القديس بولس في رسالته إلى اهل فيليبي " من كان فرحاً فليرنم" هل نرنم هل نحن فرحين أم نحن في صلاتنا شاكون باكون دوماً وكثيرو الطلبات.

4- عند ارتداد أعدائي إلى الوراء يسقطون ويهلكون من أمام وجهك:

نــرى المرنم يـــورد سبب فرحه وترنمه وسعادته، فبعد غدر الناس وهجر الأحباب ومطاردة الأعداء له، وتخلي الله عنه واهماله لصراخـــة واسـتغاثتـة… ها هو يرى نصر الله قريب فقد أشرق عليه بنور وجهه فارتد الأعداء إلى الخلف مذعورين من الهول مهزومين مرعوبين.

 يسقطون ويهلكون:

ليس مجرد ارتداد آمن بل مصحوب بسقوط وتعثر من كثرة الخوف وشدة الرعب والهلع، إنه سقوط نهائي فيه هلاك وإبادة إنها سقطة الموت.

 من أمام وجهك:

يا للغرابة أشرق الله بوجهه على المرنم فابتهج وسر وترنم وأنشد وفرح وأشرق بنفس الوجه على الأشرار فارتعبوا وسقطوا وبادوا

5- لأنك أمضيت قضائي ودعواي واستويت على العرش ديانا عادلاً:

رأينا في المزمور السابق المرنم يبتهل ويتضرع إلى إلهه: عـــد…وهو يـطلب عـودة الله إلى مـــوقعه فـي إداره دفــــــه حــياتـه لأنه اكتشف أنه بـدونـه لا شـيء، وأن نـفــسه وحياته ومستقبله مـــعرضـون للـــدمـار والـــهلاك. فــــهو يصـرخ الــى اللة طـــالبا مـــنة الـــنجاة والـــــخلاص لـــــيس عــن استــــحقـــاق بـــل انــــطلاقاً مــــــــــن ثقتة فــــــــى وجـــــود اللة ورحـــــمـتـة. وها هو الرب يشرق بوجهه وينظر القضية العروضة أمامه فهو القاضي العادل. لقد قبل العوي ونطق بالحكم وأصدر حكمه القاضي بهلاك الأعداء المفترين وإبادتهم – حكم بالإعدام- على المفتري ونصركامل ونهائي لعبده داوود البريء المظلوم.

 واستويت على العرش ديانا عادلاً:

لـــيست الاســتــجابة فـي الـــسمع فـــقـط بـــــل إن قــــبول الـــــدعوى يعني أنه قد تم اتــــخاذ الأجــــرات اللازمــــة من قبل الديان العادل الجالس على عرشه مكللاً، لا كقاض مكلف بل كديان المهيب جالس على عرشه في قوة واقتدار.

6- زجرت الأمم وأهلكت المنافق، محوت إسمهم إلى الدهر والأبد:

تتجلى قدرة الله ليس فقط علــى ان يـــصدر أحكاما، بل إنه قادر على أن يضعها موضع التنفيذ، فأحكامه مبرمة غير قابلة للإستئناف أو التأجيل ولا هروب من قضائه. لهذا فمحصلة قبول الدعوى هي: زجر من يجب أن يذجر، ونهر من يجب أن ينتهر، وأهلاك المنافق الذي سعى لهلاك البار. والأمم هنا هي كل الشعوب، فالرب وإن كان إله إسرائيل وهم شعبه، فهو في الوقت نفسه رب الكون والمسيطر على مصير الشعوب والأمم كلها.

 محوت إسمهم إلى الدهر والأبد:

لقد كان الحكم النهائي في دعوى البار هو هلاك شامل ومحو نهائي لهؤلاء الأشرار.

7- تم خراب الأعداء إلى الأبد وقد دمرت مدنهم حتى ذكرهم اضمحل:

تم في الماضي وكأن الله قد استجاب ولبى وحقق للمرنم وشعبه ما طلبوه منه وليس الحكم هنا زمني فقط بل يمتد إلى الأبدية أيضاً. هلاك وعفاب زمني وعقاب أبدي. عقاب يشمل الدنيا والآخرة.

 دمرت مدناهم حتى ذكرهم اضمحل:

الدمار لم يشمل شخص العدو فقط بل امتد ليمحو حتى مدنه نفسها ومكان تواجده.(قانون الإبسال اليهودي). وهلاك العدو شامل: فهو جسدي وروحي وتاريخي، فحتى ذكرهم سضمحل ويبيد نهائياً وسيمحى اسمهم من سفر الحياة

8- أما الرب فللأبد يجلس وقد هيأ عرشه للقضاء:

أما هنا ليست للمقارنة لكن للتأكيد على النتيجة الحتمية للقضاء العادل القادر المقتدر من قبل الرب لأتقياءه… فهو سيتمم كل وعوده: حقاً اين هم جبابرة الأرض؟ اين نيرون ودقلديانوس وهولاكو وهنيبال وجنكيزخان؟ أين نابليون، بل أين لينين وستالين وماركس وهتلر وموسوليني؟ أين دعاة عصر الأنوار وعتاة الوجودية ومنظرو الشيوعية وفلاسفة الإلحاد…ذهبوا وولوا وبقي اسمهم عبرة لمن يعتبر أما الرب فثابت على عرشه تمجده الشعوب وتترنم بعدله وجبروته الذي لا يعرف غروباً.

9- فهو يحاكم المسكونة بالعدل وبالاستقامة يدين الشعوب:

إنه لا يجلس على عرشه ترفا أو هباء، بل لكي يجري العدل بين الناس من جميع الأمم والأجناس على اتساع المسكونة كلها. والدليل القاطع على ذلك هو أنه قبل قضية المرنم المظلوم المطارد والمسحوق من قبل أعداءه حين لجأ إليه في بؤسه، وأصدرحكمه العادل وأنصفه وعاقب أعداءه بالأبادة التامة.

 وبالاستقامة يدين الشعوب:

وهو في دار قضاءه العالي يدين بالعدل والحق والاستقامة، لأنه لا يحابي الوجوه ولا يهاب الأقوياء.فهو سيد شعبه كما أنه سيد الأمم ورب الشعوب ويحكم بينهم بالعدل.

10- ويكون الرب ملجأً للملهوف ملجاً في آونة الضيق:

الملجأ هو المكان الذي او الشخص الذي نتوجه إليه في اللحظات الحرجة من الحياة ونجد عنده العزاء والمعونة والنصرة.هكذا الله بالنسبة لخائفيه اللاجئين إليه، وهكذا كان لداوود المنسحق والملهوف والمطارد ملجأً حصيناً وحكماً عادلاً، أصدر حكمه العادل لا من أجل عيون داوود الجميلة أو لكرهه في باقي شعوب الأرض ورفضه لهم كأشخاص أو شعوب بل لأجل حبه للمساكين والبؤساء والمظلومين.

 ملجاً في آونة الضيق:

وبالنسبة لداوود في المزمور السابق حيث قام عليه ابنه الحبيب وشق مملكته وطارده وشرده وتمردت عليه جيوشه وقواته وتخلى عنه أعوانه ومشيريه ونقض حلفاءه العهود المبرمة والموثقة وعيره أبناء شعبه ورفضوا مده حتى بالطعام والشراب بعد كانوا امامه عبيدخاضعين وهو سيدهم ومولاهم… فالتفت حوله ولم يجد ملجأ ومعيناً سوى الرب فصرخ إليه صرخة المظلوم في ضيقه.

11-  فيتوكل عليك العارفون باسمك لأنك لم تخذل ملتمسيك أيها الرب:

النتيجة الحتمية لكل هذه الخبرات المتراكمة في حياة داوود هي انه " ملعون من يتكل على ذراع بشر" ويصير الأمر واضحاً لمن يعرف بوجود الرب وجوده، بقدرته العظيمة وعدله المبين، أن يتوكل عليه فقط ويلجأ إليه وحده.

لأنك لم تخذل ملتمسيك أيها الرب:

لقد ثبت بالفعل والحرف والبرهان الجلي المجسم والمتجسد حاضراً في حياته الشخصية وخبراته العميقة، أن الرب الإله قد يسمح بالضيق والألم في حياة أحباءه وأصفياءه، لكنه أبداً لا يتخلى عنهم ولا يسلمهم ليد العدو ولا يخذلهم على الإطلاق حين يتوكلون عليه ويلجأون إليه.

12- أشيدوا للرب ساكن صهيون واعلنوا في الشعوب باعماله :

انشدوا ورتلوا واهتفوا ورنموا ومجدوا وسبحوا وهللوا لهذا الإله الجبار العادل الشفوق الرحيم. يا لفرحي به وهيامي بمعرفتي إياه… وفرحي يتعاظم ويتضاعف إذ أعرف أنه ساكن في نفس المدينة التي أعيش فيها فهو قريب وحاضر موجود ومصغي لصرخة المساكين والبؤساء والمظلومين، إنه هنا معنا يسكن في صهيون.

 واعلنوا في الشعوب باعماله:

أيها البؤساء والمظلومين الذين نجاهم الرب وانصفهم لا تكتفوا بالشكر والحمد والإشادة والتسبيح، بل هلم فليتطور دوركم قوموا بشروا باسمه وأخبروا بقدرته وبتأثيره في حياتكم وحياة شعبكم، إعلنوه وعرفوا جميع الناس والأمم والشعوب بإلهكم القوي، ملجأكم في كل حين.

13- فإنه مطالب بالدماء ذكرهم ولم ينس صراخ البائسين :

لأنه عادل وســـيتم اتــــخاذ الأجــــراءات اللازمــــة ولن ينسى أن يطالب بحقوق البريء والمسكين ولن يترك دمه يسفك هدراً " ملعونة هي الأرض التي شربت دم أخيك" لن يتسامح أبداً مع سافكي الدماء والقتلة والسفاحين.

 ذكرهم ولم ينس صراخ البائسين:

لا يقتصر اهتمامه فقط بالدم المسفوك بل إنه لا ينسى بل يذكر ويتذكر ويأتي ويتفقد أبناءه البائسين ويسمع صراخهم " نظرت مذلة شعبي وسمعت صراخهم من قبل مسخريهم فنزلت لأخلصهم" إنه ينظر ويرى يسمع ولا يكتفي بالسماع بل يتحرك وينزل من عرشه ليخلص أتقياءه المساكين، الذين يعرفهم، كل واحد باسمه.

14- لأجل مبغضي إرحمني وانظر إلى بؤسي من مبغضيّ يارافعي من أبواب الموت :

يعود للحديث عن نفسه وعن آلامه وجراحه في صلاة شخصية يطلب من الرب رحمة ورأفة لكنه يبررذلك بحفظ هيبة الرب وتعريف قدراته أمام من يكرهه ويطلب نفسه البريئة. فإن لم ترحمني لأجل نزاهتي فارحمني لأجل صورتك أمام المتكبرين.

 وانظر إلى بؤسي من مبغضيّ:

يعود ليصف مدى التعاسة والبؤس اللذين يعانيهما من مضطهديه الذين يكرهونه ظلماًويحولون حياته لجحيم بقدرتهم على الأذي، وهم موجودون في حياة داود، في تاريخ بني اسرائيل وفي التاريخ البشري إلى يوم القيامة.

 يارافعي من أبواب الموت:

نداء جميل رهيب يعبر عن ثقة كاملة في قدرة الرب على إنقاذه وتنجيته حتى لو تجاوز أذى الأعداء مرحلة المضايقة والتهديد ووصل أن يضع حياة المرنم على عتبات الموت، فإن إلهه موجود وقادر أن يمد يده وينجيه ويرفعه من أبواب الموت التي تكاد تنغلق عليه. ـعتبر هذا النص أيضاً نبوءة مسيانية عن قيامة المسيح وانتصاره على الموت لذلك نرنم في ليلة القيامة " إنفتحي أيتها الأبواب الدهرية" فحتى لو انتصر الأعداء في معركة ووصلوا بالبار إلى أبواب الموت وفتحت الهاوية فاها لتبتلعه، فالقاضي العادل هناك يرى ويسمع ويرفع اتقياءه من الهاوية.

15-  لكي أسبحك في أبواب ابنة صهيون وأخبر مبتهجاً بخلاصك :

بعملك الخلاصي الرهيب تحول المرنم من رجل يشكو ويبكٍي إلى مبشر يحكي ويخبر بعظائمك وقدرتك المجيدة "أبشر باسمك إخوتي وفي وسط الجماعة أرتل لك" بالذات في صهيون، في داخل شوارعها وميادينها وساحتها في مدينتي حيث اعيش وحيث اخترتها انت لتسكن فيها قريباً مني.

 وأخبر مبتهجاً بخلاصك:

السرور والفرح والبهجة نتيجة منطقية وبديهية لتدخل الله في الحياة لاسيما التدخل الخلاصي عنما ينزل وينجي ويخلص.

16- قد تورط الأمم في الهوة التي عملوها :

لـــيس الـــسرور فـــقـط بخلاص الله الذي تم بعد أن قــــبلت دعوى المرنم وسمعت شكواه لكنه يمتد إلى نوع من الشماتة بالأعداء الذين يراهم يسقطون في الحفرة التي حفروها ليقع فيها الصديق.وهذه الشماتة ليست غريبة على روح العهد القديم فهي متبادلة بين المعسكرين، فالبار يصرخ " لا تشمت بي أعدائي" وهو هنا يتشفى شامتاً حين يراهم متورطين في شر أعمالهم…أما نحن أبناء العهد الجديد فقد تجاوزنا هذه المرحلة وتعلمنا من المخلص كيبف نغفر ونصفح عن الأعداء لا سيما لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون.

 وفي الشبكة التي أخفوها نشبت أرجلهم:

نفس المعنى وهو هنا يصور مطارديه في شراسة الصيادين الذين يطاردون الفرائس ويدفعونها بكل الوسائل الجهنمية لتسقط في شباكهم التي يخفونها ليفتكوا بها.

17- قد عرف الرب وأمضى القضاء :

" عرف" وكأن معرفة الله وحدها كافية، فقد قــــبلت الدعوى وأنزل العقاب وتم الخلاص بمجرد المعرفة. أخيراً وصلت شكواي وسمع الرب الإله صوت صراخي واستغاثتي وأنقذني.

 وفي عمل يديه اصطيد المنافق:

حركة الرب بركة لخائفيه ولعنة لمخالفيه، ويديه كوجهه فاذا امتدت نحو البار فهي للخلاص والنعمة والبركة وإذا امتدت نحو المنافق فهي للعقاب والقصاص والانتقام.

18-  ليرجع المنافقون إلى الجحيم :

أمنية تحققت أم يراد لها التحقيق؟ سؤال ملح لماذا يخرج الشر والأشرار ليضايقوا الصديقين ويحاربونهم ويضههدونه ويؤلمونهم؟. لماذا لا يرجعون إلى مثواهم ومنبعهم ومصدرهم؟. تأكيد لفكرة قديمة تقسم العالم إلى قسمين قسم الأبرار بنو الله والملكوت والنور وقسم الأشرار بنو الظمة وإبليس والجحيم.

 وكل الأمم الذين نسوا الله:

تسلسل طبيعي للأفكار أو الأماني الروحية أن نرى العالم خالياً من الشر والفساد من الذين لا يعرفون الله ولا يضعون مخافته أمام عيونهم وأيضا من الذين يعرفونه وينسونه أو يتناسونه وينكرون معرفته.

19-  فإن المسكين لا ينسى على الدوام ورجاء البائسين لا ينقطع إلى الأبد:

الأمم تنسى لكن الله لا ينسى لا عبيده المساكين ولا الذين يثقلون عليهم ويضطهدونهم، وحتى لو سمح فلن يتسامح.

 ورجاء البائسين لا ينقطع إلى الأبد:

للبائسين والمسحوقين والمساكين مكانة خاصة في قلب الله وهو لا يخيب لهم أبدا رجاءً مهما طال الزمن فالله أبدا لا ينسى صراخهم ولا يهمل شكواهم.

20-  قم يارب ولا يتجبر الإنسان :

يواصل المرنم أمنياته بعد إن إطمأن قلبه إلى وجود الله في حياته وبجواره يسنده ويخلصه. يتمنى ان يظل هذا الجبار واقفا يجري عدله على الجميع ويعاقب الإنسان المتجبر الذي يريد أن ينصب نفسه قاضياً وحاكما متحكما في مصائر الناس ظالما ومستبدا.

 ولتدن الأمم قدامك:

لن يكون العقاب فقط على المستوى الفردي بل الجماعي لأمم بكاملها ولشعوب بمجملها

21- يا رب الق عليهم الرعب :

أرعبهم وأخفهم حتى يعرفون حجمهم الحقيقي قدام جلالك وجبروتك ومجدك.

 وليعلم الأمم أنهم بشر:

هذه معلومة جيدة يجب على كل انسان أن يعرفها نحن بشر وانت الخالق نحن ضعفاء وانت القوي نحن عاجزون وانت المقتدر نحن بشر وانت الإله.

كيف عاش الرب يسوع المسيح هذا المزمور؟

يفسّر آباء الكنيسة هذا المزمور بطريقة مسيحانيّة فكلماته تطابق حياة المسيح :

امتلأ الطوباوي داود من روح النبوءة وتكلّم في هذا المزمور مسبقًا عن الربّ يسوع وما سيلقاه على أيدي اليهود. فكل ما قاله عن المسيح تحقّق، وهكذا شهدت الوقائع بالتفصيل الدقيق للنبوءة وللربّ المتنبَّأ عنه. فقد اضطهدوه وهو البار وطاردوه وأمسكوا به وحاكموه وشهدوا عليه زوراً ونصره الله وأنقذه ونجاه من أبواب الجحيم ورفعه من عالم الموت.

أحمدك يارب بكل قلبي أحدث بجميع معجزاتك: كانت حياة الرب يسوع بكاملها عبارة عن مزمور حمد يومي يرفعه يسوع إلى الآب بكل قلبه "أحمدك أيها الإله رب السماوات والأرص لأنك اخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وكشفتها للأطفال الصغار، نعم ايها الآب هكذا كانت المسرة امامك، كل شيء دفع إليّ من أبي" ( يو 2: 23) وكذلك " أمام قبر لعازر " أحمدك ايها الاب لأنك استجبت لي"

أحدث بجميع معجزاتك: جال الرب يسوع يصنع خيراً ويشفي كل سقم مخبراً بمجد الله وأعماله في حياته " كل شيء دفع لي من ابي والمعجزات التي أصنعها هي ما أعطاني الآب ان اعمله والمعجزات عينها هي إعلان عملي عن قدرة الله وعمله في مختاريه " نحن نعلم أن الله لا يستجيب للخطأة ولكن إن كان إنسان يعمل مشيئته فهو يستجيب" لم نسمع قط ان احداً فتح عيني مولود أعمى"…

لأنك أمضيت قضائي ودعواي واستويت على العرش ديانا عادلاً: هكذا شعر يسوع حتى في أحلك لحظات حياته على الأرض وهو معلق على الصليب نراه يخاطب أباه وهو يعرف أنه حاضر يسمع ويرى ويتدخل لذا نسمعه يقول للص اليمين "الحق اقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس" ( لو 23: 42) فبرغم مأساوية النهاية ظاهرياً إلا انه يرى ما لا يرى، فهو وحده يرى النصر قادماً بلا شك ويشعر بالقيامة حاضرة وبابواب الفردوس مفتوحة على مصراعيها. بالرغم أنه مازال معلقاً على خشبة الصليب يتذوق مرارة الخل وسخرية الشامتين " ووقف الشعب هناك ينظرون، ورؤسائهم يقولون متهكمين:خلص غيره فليخلص نفسه هو ملك اسرائيل…توكل على الله وقال: أنا ابن الله، فلينقذه الله" (مر 15 :42 ) (لو 23 : 44-49)( يو 19:28-30).

فيتوكل عليك العارفون باسمك لأنك لم تخذل ملتمسيك أيها الرب: صلّى يسوع هذا المزمور باسمه وباسم شعبه في العهد الجديد. فما عملَه الله في العهد القديم، لا يزال يعمله من أجل ابنه يسوع فقد إستجابه في كل المواقف والمعجزات، واستجابه خصوصًا عندما أقامه من بين الأموات فأعطاه النصر النهائيّ على الخطيئة والموت وقوّات الجحيم.

أشيدوا للرب ساكن صهيون واعلنوا في الشعوب باعماله: رفض يسوع أن ينسب كلامه وتعليمه وأعماله ومعجزاته لنفسه " الحق الحق اقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل شيئاً من عنده فما يفعله الآب يعمل الابن مثله" ( يو 5: 19)، كما رفض أن يتوج ملكاً ورفض كل مجد أرضي، كان كل عمله هو أن يخبر عن الآب علانية.

فهو يحاكم المسكونة بالعدل وبالاستقامة يدين الشعوب: يتكلم داود عن الله لكن المسيح يعلن أن الاب قد دفع الحكم كله للابن فهو الذي يدين المسكونة بالعدل ويحكم بين الشعوب وعرشه إلى الأبد وإلى أبد الأبد. " والآب لايدين بنفسه أحداً لأنه جعل الدينونة كلها للابن".( يو 5: 22) "وأعطاه أن يدين ايضاً لأنه ابن الإنسان" ( يو 5 : 27).

ملجاً في آونة الضيق: يلجأ يسوع مباشرة إلى الله أبيه في أونة الضيق ويناجيه في تسليم كامل لإرادته" لتكن مشيئتك لا مشيئتي" ( مت 26: 39 ، 42) وكأن لسان حاله يقول لتكن مشيئتك. "إلهي إلهي لماذا تركتني"( مر 15: 34) القي يسوع على الرب همه ولم يلجأ إلى أي شخص أو وسيلة أخرى فقد:

* رفض الهرب من مصيره وهو يعرفه جيدا ما ينتظره و" وجه وجهه إلى اورشليم"

*ورفض سيف بطرس"من يأخذ بالسيف بالسيف يؤخذ أيضاً" (مت 26: 52)

*ورفض الرضوخ أمام السنهدريم ( مر 14:53-65، لو 22: 54-55،يو: 18: 13-14)

*ورفض حتى أن ينقذه بيلاطس حين قال له " ألا تجيبني بشيء؟ ألا تعلم أن لي سلطان أن إطلقك وسلطان أن أصلبك، فقال له يسوع لا سلطان لك على ما لم يعط لك من الله ( يو 18: 10-11).

وقدطبّق يسوع هذا المزمور على ذاته بصورة خاصة في العهد الجديد عندما قال لتلميذي عماوس" أيها الثقيلي الفهم القليلي الإيمان بما قاله الأنبياء (داود)أما كان ينبغي للمسيح أن يعاني هذه الآلام حتى يدخل إلى مجده؟" (لو24: 26).

كيف نعيش هذا المزمور في حياتنا كمسيحيين:

يهدف الملك داود في هذا المزمور أن يعلّمنا ويدربنا من أجل ممارسة الحكمة الحقيقيّة. وهكذا لا يختلف إثنان على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي في حياته اليومية من اضطهاد كثيراً ما يصل إلى العنف والاستشهاد من قبل مضطهديه:

عندما ينشد المسيحي هذا المزمور يشارك الرب يسوع في الآمه ويقرأ اعمال الله لا في الكتاب المقدس وحياة الرب يسوع فقط بل في حياته نفسها في كل ما يتعرض له من ضيقات وآلام وشدائد واضطهاد ويعيش طوبى جديدة من نوع نادر " طوبى لكم إذا اضطهدوكم وعيروكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء من اجلى كاذبين".

لأنك أمضيت قضائي ودعواي واستويت على العرش ديانا عادلاً: عندما ينشد المؤمنون هذا المزمور يتذكرون أيضاً وعد المسيح" سيكون لكم ضيق في العالم ويتمتعون بوعده لهم "لكن ثقوا فإني قد غلبت العالم".فهو يعرف أنه إن بقي أميناً فسينال اكليل المجد.

فيتوكل عليك العارفون باسمك لأنك لم تخذل ملتمسيك أيها الرب: يشدّد المزمور على ضرورة أن يتوكل المؤمن على الرب العظيم الذي يخلص الانسان القريب منه فيقول انا معكم إلى انقضاء الدهر" فهو أمين لا يخذل خائفيه.

أشيدوا للرب ساكن صهيون واعلنوا في الشعوب باعماله: يشيد المسيحي باعمال الله في حياته ويعلن ذلك ويبشر به وبعظائمه التي لا تنتهي.

كذلك يتذكر المسيحيون وحدتهم بالمسيح، أخوهم البكر (روم 8: 29)، ويعرفون أنهم إن تالموا معه فسيتمجدون أيضاً معه.

أحمدك يا رب بكل قلبي وأشيد لك في حياتي وسط إخوتي البشر لا في أوقات الفرح والسعادة التي تغمرني بها بل أيضاً في أوقات شدتي والضيقات. آمــــــــــين

الأب

بولس جرس