سلالة نَسَب السيد المسيح

\"\"

الأب د. بيتر حنا مدروس

قال السيد له المجد: "تفحّصوا الكتب: انها تتكلم عنّي". وعندما ندرس الكتابات المقدسة نأمل "أن نجد فيها الحياة" ونحن من ذلك على يقين، شريطة أن نحسن تفسيرها. ومن البديهي ان "العلم والرسوخ" مطلوبان للتأويل الصحيح لكلمة الله المكتوبة- مع الشرح العريق الرسمي الذي تقدّمه  الكنيسة "عمود الحق وركنه" لا التفسير الفردي  خصوصا عند الجاهلين بالألسنة الأصلية للكتاب المقدس من عبرية وآرامية ويونانية قديمة، والذين لا ثبات لهم "يميلون مع كل ريح، حسب أهوائهم ومآربهم (عن بطرس الثانية1: 20، ثم 3: 15 وتابع، وتيموثاوس الاولى 3 : 15).

 

سلالة السيد المسيح  في الإنجيل الطاهر

ألهم الله البشير متّى- وهو "شاهد عيان للكلمة" المتجسد (عن لوقا 1 : 1 وتابع)- شجرة نسب السيد المسيح. تبدأ السلالة بعبارة غنية بالمعاني: "كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود…". والمقصود منها ربط الميلاد السيدي بأبي الخليقة آدم، اذ ان السيد المسيح هو آدم الجديد. وفعلا، يكتب سفر التكوين (5 : 1): "هذا كتاب مواليد آدم".

 

عناصر جديدة انقلابية في  شجرة نسب السيد المسيح

يُفاجأ القاريء النبيه أن الإنجيل المقدّس (متّى1 : 3 وتابع) يورد أسماء نساء في سلالة يسوع، بخلاف الممارسات الشرقية الساميّة التي لا "تذكر" الا "الذكور". وتربط الالسنة أي اللغات الساميّة "الذَّكَر" بفعل "ذكر" اذ عن طريقه تبقى ذكرى الاسرة ولا سيما الآباء والأجداد. ولا غرو ان تلك النظرة التي نشرها الربانيون العبرانيون فتفننوا في اعلاء شأن الذكر على الانثى مخالفة للكتاب المقدس حيث أعلنت العزة الالهية: "ليس حسنا أن يكون الانسان وحده، فلنصنعنّ  له عونا بازائه" أي المرأة وهي شبيهة بالرجُل مساوية له.

ما غفل البشير الملهم الموحى اليه عن تلك التفاصيل وأصرّ ليس فقط على العنصر النسائي (ولعلّ الفيزيزلوجيا تذكّر الانسانية بتساوي الكروموزومات بين الوالد والوالدة للمولود) بل ما توانى أن يورد أسماء نساء منهن الاجنبية راعوث الموآبية، وذلك لتدمير "الاحتكار" اليهودي العبري وأسطورة الشعب المتفوق المختار المستعلي وعدم التساوي في القيمة ولا في الدماء!

من جهة أخرى كان مناسبا  للسيد المسيح أن يجمع في نفسه أكثر من شعب لانه مخلّص الشعوب كلّها ولان "الامم الوثنية" خليقة الله لا الشيطان! 

 

ايراد أسماء خاطئين وخاطئات في سلالة  السيد المسيح

يتمم يسوع نبوات العهد القديم وهو كلمة الله الذي "صار بشرا وضرب خيمته بيننا" (عن يوحنا 1 : 1 و 14)، والذي فيه الروح السيدية التي "تبشّر المساكين وتجبر كسيري القلوب"، انه الحَمل البريء الذي "حمل خطايا البشرية وأخذ أوجاعها" (عن أشعيا 53). وأعلن عن ذاته انه الطبيب الذي ما جاء  للسليم بل للسقيم وانه السيد الذي أتى لا ليدعو الابرار بل الخاطئين الى التوبة.

انطلاقا من هذا الواقع المؤثر- فالانسانية بحاجة الى مخلّص والى مغفرة الخطايا والانتقال من النقمة الى النعمة- ما كان عجيبا أن يورد الانجيلي الملهم أسماء أجداد وجدات خاطئين وخاطئات في سلالة السيد المسيح. خطاياهم لا تعيبه، اذ ان كل انسان مسؤول عن أعماله لا عن أعمال غيره، بما فيهم والديه! وصدق الشاعر العربي:

"لا تقل أصلي وفصلي أبدا            انّما أصل الفتى ما قد حصل".

وتشهد المصادر المسيحية والاسلامية (بعد نبوات العهد القديم عن العذراء الوالدة وعن الطفل المعجزة في أشعيا 7 و 9 و 11) أن السيد المسيح ووالدته منزهان عن الخطيئة، اذ ما نخسهما الشيطان عند مولدهما. أمّا السيد المسيح فهو "نسل المرأة" أي السيدة البتول، وهو الذي "يسحق رأس الافعى" (عن تكوين 3 : 15 ، ثم رؤيا 12 : 1 وتابع).

ولا يفوت أحدا أن العهد القديم الذي يروي بعض الامور السلبية عن شخصيات شهيرة ما أيّد قطّ تجاوزاتها ولا وافق على خطاياها ولا مدحها ولا أمر بالاقتداء بها. وما فعل العهد الجديد شيءا من هذا القبيل. فلا اكرام لخطايا أي من تلك الشخصيات بل هنالك احترام للاباء والاجداد بسبب كرامتهم الانسانية وبسبب توبتهم وخصوصا بسبب نعمة الله ورحمته وصبره ولطفه تعالى الذي غفر لهم وأنعم عليهم بأن يولد السيد المسيح كلي القداسة من نسلهم. أمّا العذراء الشريفة -التي أنجبت السيد المسيح من غير أن يمسّها بشر- فهي البريئة من كل عيب المتألقة بين بنات حواء -على حنانهن ونعومتهن- تألق "السوسن بين الشوك"، وهي "العروس التي لا عروس لها" عروس الروح والجنة المقفلة والبئر المختومة والمتتم فيها الانعام والمباركة في النساء، المطهرة المصطفاة "على نساء العالمين".

 

التوفيق مع سلالة السيد المسيح الواردة في انجيل لوقا

لا تناقض بين السلالتين اذ ان احداهما تنازلية (في متّى البشير) والاخرى تصاعدية (في لوقا الانجيلي). ومعروف عند الاقدمين وصفهم للابن وللحفيد ولحفيد الحفيد بلفظة "ابن": فابن داود تعني حفيد داود، وابن شألتيئيل قد تعني نجله أو حفيده.

ويلحظ المرء انتقاء القديس متّى -بالهام من الله ووحي منه تعالى- للعدد أربعة عشر اذ يورد اربعة عشر جيلا ثلاث مرات. والمرات الثلاث تدل على الكمال، كما ان اربعة عشر هي ضعف سبعة التي تشير أيضا الى الكمال بحيث يعني رقم 14 كمال الكمال الكامل! ورأى بعض المفسّرين ان اربعة عشر هو  المجموع العددي لاسم "داود" في العبرية المكوّن من ثلاثة أحرف: الدال (وعددها  أربعة) والواو (وعددها ستة) والدال (وعددها اربعة) والمجموع اربعة عشر، للتركيز على داود وعلى السيد المسيح "ابن داود"- وهذا هو اللقب الملكي للمخلّص الكريم. والسيد المسيح ابن داود بحسب الجسد عن طريق العذراء "بنت داود" ورسميا وشرعيا عن طريق خطّيبها العفيف القديس يوسف "ابن داود". فيسوع ابن آدم طبعا وابن يوسف شرعا وابن الانسان طوعا.

 

خاتمة

يطول الحديث عندما يحلل المرء السلالتين للسيد المسيح في الإنجيل الطاهر. ولكن هذه السطور كانت بمثابة دعوة للقراءة النزيهة العلمية التقوية التي تزيد الإدراك وتساعد على الإيمان وتخفف من سوء الفهم – الذي هو آفة الإنسان المعاصر "السريع الى الكلام والحكم والغضب" وكأنه يفقه في كل شيء. وما أجمل الدرس الذي يلقّننا اياه العلم والتكنولوجيا في أيامنا : الدقة وحسن الاطلاع والبحث النزيه عن الأمور والتقيد بالواقع لا ملاحقة الأوهام ومسبق الأحكام – هذه الخصال هي العناصر الوحيدة التي تقود إلى الحقّ والعدل والنور وتساهم في التفاهم والتعارف والتعايش والتقارب. 

الأب الدكتور بيتر مدروس

mardiros@bezeqint.net

 عن موقع ابونا