الفضائل الأدبية

رابعاً: مقومات الفطنة المسيحية

أولاً وقبل كل شيء، واعتماداً على أهمية الأمر وتعقيده، على الإنسان أن يفكر في الوسائل المختلفة لبلوغ غايته أو الطرق المختلفة للقيام بعمل. وفي هذه النقطة يحتاج الإنسان معرفة مبادئ ومعايير العمل وفي نفس الوقت المقدرة على ربط هذه المبادئ إلى القضية قيد البحث، بكل ظروفها الواقعية. وعندما يتروى في الأمر يصدر الحكم على طريقة العمل اللائقة في هذه القضية بالذات. وأخيراً تعطي الإرادة الأمر لتنفيذ القرار. لذا تقوم الفِطنة على:

1) التفكير الرصين أو التروي:

أي النظر إلى الأمور كما هي وتفهم ظروفها على ضوء المبادئ الأدبية. الإنسان المسيحي الفطن يفكر برصانة تفكيراً جدياً في أموره وطرقه وكيفية تطبيق تعاليم المسيح في حياته. فيستفيد أولاً من خبرة الأجيال السالفة ثم من خبرته الذاتية. فيحذر السقوط في أخطاء وأغلاط من سبقوه، ويتنبّه إلى ما استسلم هو أيضاً إليه من الشطط والزلل باندفاعه وتهوره. ثم ينظر بعين ثاقبة إلى المستقبل فيزن قوته ومؤهلاته بميزان التواضع والثقة بالله، ويأخذ الحيطة لنفسه من أهوائه الذائبة وأمياله المنحرفة، وإذا تمّ له ذلك يقرر خطته في أعماله وأشغاله ومختلف أطوار حياته. ويساعد على التفكير الرصين:

       الحيطة والحذر في ظروف المكان والزمان والإنسان.

       استشارة الرؤساء والمعلمين والأصدقاء والأهل ورجال الخير والصلاح.

   أما خير الوسائط الفعّالة التي تعيننا في حُسن تفكيرنا، قبل أن نقدم عل عمل من أعمالنا فهي الصلاة والابتهال إلى الروح القدس، روح المعرفة والفهم، روح الحكمة والتعزية. ثم النظر إلى يسوع وأمه الطاهرة…

2) التقرير القويم أو التحكيم

أي البحث عن الوسائل المناسبة لتحقيق قصدنا، والنظر ما الأنسب منها وما خطة العمل. يجب الاعتماد على رأي صائب لاتخاذ قرار فيما ينبغي أن نعمله. لكي ننجو من الغلط علينا أن نحذر الاستسلام إلى أهوائنا وعواطفنا ومطامعنا، بل النظر إلى المسيح وتذكر عواقبنا الأخيرة. علينا أن نسأل أنفسنا دائماً: إلى أين يقودنا هذا العمل أو ذاك، أإلى الله أم إلى خدمة ذواتنا وشهواتنا. وعلى هذا الأساس نقرر. فإذا فعلنا هذا لا نصل. وإن ضللنا لا نؤاخذ، لأننا نكون قد اعتمدنا في تفكيرنا وفي تقريرنا على أفضل الوسائط الإلهية والبشرية معاً. فلا لوم علينا أمام الله ولا أمام الناس ولا أمام أنفسنا.

3) التنفيذ الحازم أو البت

أي القرار بعمل ما يجب والجزم بتنفيذه بلا تردد فهو ثمرة التفكير والتقرير. فبعد التفكير الرصين والمشبّع بروح الإيمان، وبعد الاعتماد على خطة العمل، يلزم ألا نتردد في التنفيذ. ولكن برزانة وحكمة، بلا تهور ولا عنف. ولا تصلب ولا عناد. لأنه لابد من المرونة في تسيير الأمور البشرية، التي غالباً ما تكون عُرضة للمفاجآت غير المنتظرة، وللمصاعب غير المعهودة. ولكن حتى في مثل هذه الظروف الاستثنائية الحرجة، يبقى طريق النجاة من التهوّر مفتوحاً أمامنا، وذلك بوساطة الصلاة والاستشارة والصبر والثبات.

ونلخص كل ما سبق بما يلي: أن كل عمل فطن يفترض التروّي والتشاور ثم الحكم على الوضع الذي نحن فيه وأخيراً على القرار المناسب والتنفيذ. ولا يكون الفعل فطناً إلا إذا كان التشاور وبالأخص الحكم مصيباً. والحكم يكون مصيباً بقدر ما نوجّه تفكيرنا إلى الله والقيم الأدبية ونحوّلها إلى الخيرات الأرضية، وعما يدغدغ حواسنا وكبريائنا وأنانيتنا.

خامساً: اكتساب الفِطنة وممارستها

1) وسائل اكتساب الفطنة

أ- المعرفة والاختبار: أول أمر يتطلّبه اكتساب الفِطنة هو معرفة المبادئ الأخلاقية الضرورية (مثل تعليم المسيح وغيرها من المعلومات الأخلاقية والنظرية) فبالمعرفة والاختبار الشخصي نضمن إصابة الحُكم ودقته. لأن على كل منا أن يكون فطناً في الأمور المعرض إليها بنوع أخص والتي يعاني منها. ومع المعرفة والاختبار أن نجمع المشورة، فخبرة الآخرين مفيدة جداً وتضيف إلى عقلنا أنوار الآخرين.

ب- الضمير الحيّ: ولا ننسى أن الفِطنة تستند إلى ضمير حي ومستقيم. إن فضيلة الفِطنة تنبت وتنمو في ضمير نيّر، وفي شخصية منسجمة مع ذاتها ومع الله في حب مخلص وصافٍ، عندما يملأ حب الله الإنسان يسيطر على انحراف الأهواء الذي يعكّر حكم الفِطنة.

ج- الروح القدس: ويبقى استلهام الروح القدس من أنجح الوسائل لتقوية الفِطنة: "إن كل من سمع من الآب وقبل تعليمه يأتي إليّ" يقول السيد المسيح. فالمسيحي الذي ينقاد لاسيما للروح القدس معلمه الداخلي يكشف إرادة الله. المحبة، التي تقدّره في محافظة على الشريعة بوجه عام وفي كل ظرف وفي تلبية دعوة النعمة للقيام بواجب ما.

إن الروح القدس كثيراً ما يتكلم في داخل المؤمنين الذين تعوّدوا أن ينصتوا إلى كلامه وإلهاماته. ويهديهم إلى ما يجب أن يقولوه أو يفعلوه أو يحكموا فيه من مختلف مواقف حياتهم ووظائفهم، لاسيما إذا ما تعقدت الأمور واستعصى على الناس حلّها. وما أبدع ما جاء في سفر الحكمة في هذا المعنى: "حينئذ تمنيت فأوتيت الفِطنة ودعوت فحلّ عليّ روح الحكمة، ففضّلتها على الصوالجة والعروش، ولم أحسب الغِنى شيئاً بالقياس إليها، ولم أعدل بها الحجر الكريم…".

د- الصلاة: ازدياد المحبة الإلهية بوساطة الأسرار والأعمال الصالحة هي من الوسائل الأساسية. كما أن الصلاة هي وسيلة كبرى من شأنها أن تزيد فضيلة الفِطنة نمواً وكمالاً. وبها تتغذى الفضائل كلها وتزهو تزدهر. لأن كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة تنحدر من لدن أبي الأنوار.

ومن الوسائل الأخرى التي تتقدّم الفِطنة وترتقيي هي حرصنا على ألا نقصد إلا وجه الله في كل من أعمالنا، وأن يكون حكمنا في هذه الأعمال، في حسنها وسوئها، وخيرها وشرها، على ضوء هذا النور الكبير، نور طلبنا وجه الله في مختلف أمور حياتنا.

هـ- المشورة الصالحة: ثم أنه يمكن ممارسة فضيلة الفِطنة بفعل "موهبة المشورة الصالحة" التي يمنحها الروح القدس، والتي تجعلنا فيما ينبغي لنا عمله أو تركه من الأمور، لاسيما الصعبة والخطرة، وذلك بنوع سريع وبصيرة نيّرة صادقة، كان الإلهام يوحي إلينا طريقة عملنا ويقودنا بيدنا.

هذا بخصوص الوسائل لاكتساب الفِطنة الفائقة الطبيعة. أما الوسائل لاكتساب الفِطنة الطبيعية، بالإضافة إلى ما سبق هي:

       محبة الغاية المقصودة، لأن المحبة تدفع الإنسان إلى اتخاذ الوسائل المناسبة مهما كلفته.

       تحكيم العقل في الأعمال لا العاطفة.

       توسع دائرة المعرفة بمطالعة الكتب القيمة والاحتكاك بالمجتمع المثقف والاستماع إلى مشورة الخبراء.

       ضبط الشهوات ولاسيما شهوة الجسد والأنانية.

2) ممارسة الفطنة

تتراوح ممارسة أية فضيلة بموجب حالة الكمال للفرد المسيحي. وهذا واضح فيما يخصّ فضيلة الفطنة، وهي فضيلة النضوج، ومن هنا فهي في العادة ناقصة في الشبّان، بسبب افتقارهم للخبرة وميلهم إلى أن تحفزهم العواطف أو المشاعر بدل أن يحكمهم العقل. إلا أن هناك، على كل حال، ممارسات أساسية معينة، يمكن استغلالها للحصول على الفطنة.

أ- الناشئون في الحياة الروحية: الذين يحرصون كل الحرص على البقاء في حالة النعمة وينمون في الفضيلة، هم في حاجة إلى تعزيز الخصائص الخاصة التي ذكرناها الآن، مركزين بشكل خاص على قوة المنطق وسهولة الانقياد، وتذكّر الماضي، والبصيرة، والحذر والحيطة. فيجب عليهم التفكير قبل العمل، بدون إرجاء القرارات إلى آخر دقيقة، أو أن يتأثروا بشكل غير لائق بالعاطفة والأنانية. ويجب أن ينظروا إلى المستقبل لكي يتنبأوا بالنتائج الممكنة لأعمالهم. ويجب أن يتفحصوا بدقة نتائج أعمالهم الممكنة الحدوث. ويجب أن يدققوا في الحالات جميعها التي تحيط بقرار أو عمل. ويجب أن يظلوا ثابتين في قراراتهم، متممين واجب تلك اللحظة بإخلاص. ويجب أن يتجنبوا جميع أنواع الخداع والمكر، وألا يتأثروا من إغراءات استعمال الأعذار أو التبرير، لكي يغدروا أنفسهم عن واجباتهم أو عن الخطيئة. ومما يساعد الصغار كثيراً أن يكون لهم مثل أعلى ولو كان مثالاً للمسيحيين الذين يعيشون عيشة صالحة. وأخيراً، فإنه من المفيد تقييم الأفعال جميعها للفرد بشروط الخلاص: ما الذي يفيدني هذا بخصوص الحياة الأبدية؟

ب- أما النفوس المتقدّمة فيجب أن تحرص على إكمال فضيلة الفطنة عن طريق المحبة، مجتهدة أن تقوم بالأفعال جميعها لمجد الله. ويجب أن ينسجموا أكثر وأكثر مع النموذج ألا وهو السيد المسيح، متسائلين عما كان سيفعله المسيح في موقف معين. وبما أنهم أكثر حرصاً في الحال في الاجتهاد لاستكمال المحبة، توجب عليهم الانسجام مع المعيار الأعلى للحياة المسيحية، التي تقول أنه ليست الأفعال جميعها قانونية وصالحة ولائقة للمسيحي المكرّس. وبالتالي، فيجب عليهم أن يكونوا أكثر حرصاً لتجنّب الخطيئة العرضية ومناسبات الخطيئة، ويجب أن يكونوا أكثر اهتماماً وانقياداً لحركات النعمة وحوافز الروح القدس. ويجب أن يدخلوا إلى أنفسهم المزيد من معايير الحياة المسيحية لكي يكون لديهم قلب المسيح ليرشدهم في كل ما يفعلونه.

ج- النفوس الأكثر اكتمالاً في المحبة يجب عليها أن تميل نفسها لممارسة فضيلة الفطنة بحافز من "موهبة المشورة".

سادساً: الخطايا ضد الفِطنة

1) حكمة العالم

يخطئ ضد الفِطنة مَن يفكر ويحكم ويعمل لا على ضوء الإيمان "وحكمة الله" بل حسب "حكمة العالم" (1كو14:2). إن العالم ينظر إلى الأمور والأحداث والقيم خلاف نظرة الله لها. ويحبّذ العالم الغِنى والعظمة والترف… والوقتي والبرّاق… ويفضلها على الفقر والتواضع الأبدي والفضيلة… (لو 8:16) فعلى الإنسان أن يقاوم فِطنة الجسد هذه التي تسمى "شهوة الجسد وشهوة العين وشهوة الحياة" ولا يتم ذلك إلا باستعمال المبادئ المسيحية الأوليّة، والرجوع إلى الإنجيل، وتعليم الكنيسة.

2) الإفراط بالتروّي

ويُخطئ ضد الفِطنة من يُفرط بالتروّي ويترك للوقت تدبير الأمور ويتهرّب من المسؤولية وأخذ القرار. إن الظروف المؤاتية لن تعود.

3) التهوّر

كما يُخطئ أيضاً المتهوّر، ولا يتوقف بكفاية عند درس الوسائط الكفيلة للبلوغ إلى الغاية المنشودة، وكثيراً ما يكون سبب التهوّر الجهل والإهمال والطيش وعدم التفكير. فعلى المسيحي أن يتحاشى الخفة والتسرّع والتهوّر في أقواله وأفعاله، وأن يتعوّد التأمل والتفكير قبل العمل، وأن يزن أسباب عمله ونتائجه بميزان الإيمان. فلا يقدم على أمر خطير إلا بعد أن يتثبّت من صلاحيته، ومن موافقته لمبادئ الإنجيل وللغاية القصوى السامية التي لأجلها خلقه الله تعالى. وإذا ما أشكل عليه الأمر فليسترشد برأي مرشد حكيم فطِن.وهكذا يعتاد أن يسلك دائماً بحسب المبادئ السماوية.

4) الاهتمام بالزمنيات

يُخطئ ضد الفطنة من يهتم اهتماماً بالزمنيات والماديات، ويستعمل للحصول عليها الطرق الملتوية من مهارة وكذب وخداع وغش ومكر ودهاء، وأحياناً من دسائس. إن هذه الأساليب تدل عن تحوّل في الغاية الحقيقية، وعلى تفكير بشري خاطئ، ينتج عنه حتماً إهمال حب الله والسعي إلى اكتساب السعادة في ملكوت الله (روم 6:8-15). إذاً على المسيحي أن يحاذر الطرق الملتوية، والميل والخداعة، والسياسة الكاذبة التي يظن الكثيرون في طيشهم أنها خير ما يعتمدون عليه للنجاح في مقاصدهم. فينسون أن الكذب ممقوت عند الله والناس. وأن عاقبته الدمار، وأن الغاية لا يمكن أن تشفع بالوساطة وتبررها، وأن مَن يُحسن سريرته يُحسن الله علانيته. ألا يقول لنا الإنجيل: "كونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام" فعلى المسيحي الحقيقي أن يكون شهماً في أقواله وأفعاله، وأن يكون سليم الطوية في معاملاته مع قريبه.

5) الاستسلام للأوهام

والفطنة تقتضي بأن لا نستسلم لأوهامنا وأهوائنا. فالأوهام هي عداء الفطنة، ومن الموانع الكبرى التي تحول دون تقدمنا في الكمال المسيحي، لأنها تتسلّط على عقولنا، وتضيّق الخناق على إرادتنا، فنفقد حرية التفكير ومعها حرية العمل. لذلك فالأهواء، فهي أمراض نفسية تُظلم العقل، وتبعث فينا روح الكبرياء والعجب، فتبعدنا عن محبة الصواب، وتجعلنا نتيه في الضلال، ونندفع وراء الملذات الأرضية والمطامع البشرية، فننسى غايتنا وننبذ وصية الرب "اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره" (لو 13:12).