آدم الأول وآدم الثاني من مجتمع ممزق إلى مجتمع موحّد

تقديم "وقال الله: لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا" (تك 26:1)[1]

يلاحظ آباء الكنيسة الأولى أن الله خلق الإنسان على صورته كمثاله (تك26:1) بينما يتكلم سفر التكوين عن التمييز بين الذكر والأنثى في آية 27. ويستنتج الآباء أن كلمة الإنسان في العدد 26 تعني الطبيعة البشرية الكلية المتضمنة جميع أفراد الجنس البشري وتتميز هذه الطبيعة بأنها مخلوقة على صورة الله متمتعة بالعقل والإرادة والقدرة. وهي التي يشترك فيها كل البشر وتقرب بينهم وتجعلهم جميعاً أبناء آب واحد وهو الله وبالتالي أخوة فيما بينهم تربطهم وحدة روحية مبنية على الانسجام والمحبة المتبادلة كأن كل شخص يرى نفسه في شخص قريبه إذ يراه في صورة الله المشتركة بيننا جميعاً.

ولكن بحسد إبليس دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت. وبالخطيئة التي هي تمرّد الإنسان على الله تم الانفصال عن الله وتشوهت صورة الله في الإنسان كما تم الانفصال بين البشر بعضهم ببعض وبسبب ذلك نتج تعدّد البشر من حيث المصالح الفردية وكل ما نشاهده في العالم من عداوات وحروب وتحزبات وانشقاقات في داخل العائلة وفي الكنيسة نفسها وبين الشعوب. وصار الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان.

قال أوريجانوس العلامة المصري الشهير "حيث المحبة هناك الوحدة وحيث الخطيئة هناك الفرقة"

ولكن الله لم يستسلم لهذا الفشل في خلقته وفي محبته اللانهائية، أراد أن يُرجع للطبيعة البشرية وحدتها وبهاءها الأول: "وفي ملء الزمن ونحن في الظلمة وظلال الموت" أتى السيد المسيح ليُصلح ما أفسده آدم الأول. فإذا كان آدم الأول سبب التشتت والتمزق في العالم، فآدم الثاني، وهو صورة الله غير المنظور، جاء ليجمع ويصالح البشر مع الله والبشر بعضهم مع بعض "وهو سلامنا وقد جعل الاثنين واحداً ونقض في جسده حائط السياج الحاجز أي العداوة. وأبطل ناموس الوصايا بتعاليمه ليخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً بإجرائه السلام ويصالح كليهما في جسد واحد مع الله بالصلب بقتله العداوة في نفسه" (أفس14:2-16).

ويقول أيضاً القديس بولس في رسالته إلى أهل غلاطيه "لأن جميعكم أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح لأنكم أنتم جملة من اعتمدتم في المسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني. وليس عبد ولا حر. ليس ذكر ولا أنثى. لأنكم جميعكم واحد في المسيح يسوع" (غل26:3-28).

ويقارن القديس بولس بين آدم الأول وآدم الثاني بقوله: "لأنه كما أنه بمعصية واحد جُعل الكثيرون خطأة كذلك بطاعة واحد يجعل الكثيرون أبراراً" (رو12:5-21).

وهدف المسيح الأساسي هو "أن يجمع أبناء الله المتفرقين إلى الواحد" (قارن يو53:11) ولذلك أخذ الطبيعة البشرية وهكذا رفع الطبيعة البشرية كلها موحدة واتحدها بذاته وتم اللقاء بين الله والطبيعة البشرية في شخص المسيح. هذه هي الطبيعة التي يقدمها قرباناً على خشبة الصليب، هي التي تقوم معه في قيامته، وهي التي يخلصها.

فالسيد المسيح الفادي لا يقدم الخلاص للإنسان بمفرده، ولكن هو مخلص الجميع بمقدار انتمائنا شخصياً إلى المسيح وكنيسته بالإيمان يتم لنا الخلاص.

هذه هي الوحدة الكلية للطبيعة البشرية في الخلقة والسقوط والفداء. التي يتأمل فيها آباء الكنيسة ولا سيما آباء كنيسة الإسكندرية امثال اكليمندوس الإسكندري وأوريجانوس وكيرلس الإسكندري. وهذه النظرية وإن اتخذت أسلوباً فلسفياً أفلاطونياً أو رواقياً إلا أنها مستمدة أساساً من الكتاب المقدس ولا سيما من بولس الرسول الذي يُلّح على صورة الجسد قائلاً إن المسيح هو رأس الكنيسة ويؤيد القديس يوحنا هذا التفكير بقوله أن "يسوع هو الكرمة ونحن الأغصان" (يو1:15). ويكمل السيد المسيح في كنيسته رسالته في جمع كل أولاد الله المتفرقين إلى الواحد.

ومن هنا نفهم إلحاحه على الوحدة بين المؤمنين على مثال الوحدة الموجودة بينه وبين الآب ويقول أيضاً في موضوع آخر "ولي خراف ليست من هذه الحظيرة فينبغي أن آتي بها أيضاً وستسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد" (يو16:10).

وهكذا ترجع صورة الله في الإنسان إلى بهائها الأول الذي أراده الله لها في خلقه، فيتحول المجتمع المشتت إلى مجتمع موحد تسود فيه الإخوة والمحبة والعدل والسلام.

 



[1] محاضرة ألقيت في جمعية الشبان المسيحيين بمناسبة أسبوع الصلاة من أجل الوحدة.