مخطوطات قمران: اليهود والرومان (5)

فشل  الولاة  الرومان في إيجاد نوع من التآلف بين عادات اليهود والقوانين الرومانية. بالرغم من الحرص الشديد وحكمة معظم الولاة المتناهية في التعامل مع اليهود، إلاّ أنهم لم ينجحوا في تفادي إيذاء مشاعر اليهود الدينية المرهفة. أما الولاة غير المبالين بمشاعر اليهود فإنهم ساهموا في تفاقم الموقف.

بدأت الثورة بحادث تافه جداً في قيصرية . أدى  إلى اندلاع ثورة عارمة في أورشليم. كان أليعازر زعيم الحزب المعادي لروما والمنادي بالجهاد ضدها، أوقف أليعازر سنة 66 تقديم الذبائح من أجل الإمبراطور فيرون، واندلعت الثورة. استطاع الثوار الاستيلاء على قلعة مصعدة وذبحوا الجنود الرومان. وذاق جنود قلعة أنطونيا القائمة في ساحة الهيكل ذات الكأس. هاجم الثوار القلعة بمساندة الغيورين تحت قيادة مناحم ابن يهوذا الجليلي.

ولكن نيران الثورة امتدت لتطال الثوار أنفسهم؛ إذ سرعان ما وقع صدام دموي عنيف بين ثوار أورشليم بقيادة أليعازر وبين ثوار الريف بقيادة مناحم الذي قتل أبار رئيس الكنة أليعازر. استطاع ثوار أورشليم أن يدحروا أتباع مناحم ويردوهم إلى الخلف. ولقي مناحم مصرعه على أحد تلال المدينة كما يخبرنا فلافيوس (الحرب اليهودية 3:2-10). ولم يكن هذا الأمر قاصراً على أورشليم، إذ حدث نفس الشيء في كل مدينة حيث انتصر الثوار إذا كانوا أغلبية، أو الرومان على الثوار إذا لم يكن عد هؤلاء كبيراً.

كانت كارثة سقوط أورشليم سنة 70، مروعة، كانت مقدمات هذه الكارثة الصراع الدموي بين زعيمي عصابتين من الغيورين هما يوحنا جيسكالا وسمعان بار جيورا.

ويصف يوسيفوس فلافيوس العلامات التي كانت تنذر بالكارثة والتي لم يصبها الثرثارون والذين كانوا يتكلمون زوراً باسم الرب والشعب الذي كان يستمع إليهم (الحروب 288:4-399) وإليكم هذا النص: "بينما كانت المدينة [أورشليم] تنعم بالسلام والرخاء حضر إلى العيد الذي تُقام فيه المظال إكراماً لله واحد اسمه يشوع بن حنانيا وهو قروي فظ. وفجأة صرخ في الهيكل: صوت من الشرق، صوت من الغرب، صوت من الرياح الأربعة! صوت على أورشليم وعلى المعبد! صوت على العرسان والعروسات. صوت على الشعب كله". وواصل صراخ هذا ليل نهار في الهيكل وفي طرقات المدينة.

وحدث تمرد عنيف ضد روما أمام الإمبراطور ترايانوس (117-138) لأنه كما يبدو، كان قد حرم الختان ولأنه كان قد سمح بإقامة معبد للإله جيوبتر مكان هيكل أورشليم ولكن قد يكون سبب هذا التمرد في الواقع حركة ميحانية ناتجة عن أحلام رؤيوية.

وكان قائد هذه البثورة هو سمعان أمبر إسرائيل كما تشد بذلك العملات المعدنية. أما هو فكان يوقع "سمعان بن الكوكب" وأُطلق عليه ربي عفيا لقب "نجم إسرائيل" (عد 17:24) مشيراً إلى أنه المسيا المنتظر، ولكنه لقي هزيمة نكراء، بعد 3 سنوات، وقتل في بيطار بالقرب من أورشليم.

كانت هذه الثورة إيذاناً بالانفصال النهائي بين الكنيسة والمجمع: كان الأمر قاسي الوقع على المسيحيين من أصل يهودي والذين كانوا يؤمنون أن يسوع هو المسيا ومع ذلك كانوا يتابعون مراسيم العبادة في المجمع. لقد أصبح هؤلاء فئة غير مرغوب فيها حيث لفظها بعض الأساقفة ورفضها الربيون. كما كانت هذه الثورة إيذاناً بقيادة علماء الشريعة والكهنة والفريسيين والتنايم والأمورايم وجونيم للجماعة اليهودية، باعتبارهم السلطة الدينية والتعليمية العليا.

هذه هي  أهم الملامح الدينية والاجتماعية والسياسية للفترة التي نشأت فيها مخطوطات قمران، كما تثبت ذلك المعطيات الأركيولوجية الباليوجرافية، تلغي هذه الاكتشافات الأضواء على الأحداث والتاريخ والصراعات الروحية التي كانت أسبابها وتفاصيلها ونتائجها مجهولة من قبل، ومن ناحية أخرى تصبح هذه النصوص أكثر وضوحاً عندما توضع في إطارها.

لقد انسحبت مجموعة من اليهود، غاضبة، إلى صحراء يهوذا (قارن 1مك 53:1، 29:2).

من هم هؤلاء؟

"متوحدون تحت ظلال النخيل"

أثارت اكتشافات مخطوطات قمران التساؤل عن مصدرها وبتوالي الاكتشافات أصبح السؤال أكثر إلحاحاً. إنه أحد الأسئلة التي يثيرها اكتشاف المخطوطات. قد لا يكون أهمها ولكنه أكثرها إثارة للجدل. وقد توصل العلماء إلى الإجابة، وأصبحت مقبولة من غالبية علماء القمرانيات. يؤيد كل نص جديد ينشر هذه الإجابة: الفئة التي ترجع إليها المخطوطات، هي جماعة الأسينيين.

إنهم مجموعة أو جماعة ذات أهداف محدة ولها قانون حياة خاص بها، عاشت في فترة اضطرابات ومصادمات ومتناقضات دينية وسياسية واجتماعية. خفت حدة هذه القلاقل بعد عام 200.

ويرد ذكر الكتبة والفريسيين والصدوقيين والسامريين والهيرودسيين والغيورين وتلاميذ يوحنا المعمدان في العهد الجديد. إلاّ أنه تنقص بعض الحركات الصوفية والروحية والسياسية مثل الأسينيين الذين يذكرهم يوسيفوس فلافيوس وفيلون الإسكندري كما كان هناك جماعات أخرى يرد ذكرها في كتابات أباء الكنيسة الأقدمين.

ظل زيتلين S.Zeitlin– منذ بداية الاكتشافات- مصراً على رأيه أن المخطوطات ليست بالغة القدم وأنكر صحة النتائج الأركيولوجية والبليوجرافية مؤكداً أن المخطوطات ترجع للعصور الوسطى، وبالتحديد فترة احتلال فارس لفلسطين (611-629) و"كيثيم" الذين يرد ذكرهم كثيراً هم جيوش الإمبراطورية البيزنطية. وترجع وثيقة دمشق وباقي مخطوطات قمران إلى جماعة القراثين وبها أرادت الجماعة أن تثبت قدم نشأتها وتأصلها.

لا يمكن أن نتجاهل أن هناك عناصر مشتركة بين القراثين وجماعة قمران مثل طريقة دفن الموتى والصلاة التي كانوا يتلونها : "ليرسل الله لنا معلم العدل.." إلاّ أن هذه العناصر غير كافية لاستخلاص النتيجة التي توصل إليها زيتلين.

K.H. Rengstorf

يرى رينجستوف أن الحاكم هو الذي كان يهتم بالهيكل، حيث أنه معبد الحاكم والأمة، فكان يعهد إليه، بين ما يعهد، بعض الأراضي. بدأ هذا الأمر مع ملوك إسرائيل واستمر بعدهم تحت حكم الفرس والسلوقيين وهيرودس. ويرى رينجستوف أن منطقة قمران كانت إحدى المناطق التي عهد بها لإدارة الهيكل. وهذا يبرر وجود المباني في قمران وفي عين فشخة والمعامل الخاصة بإعداد الرق والنسخ والطابع الخاص لتلك الأماكن. وفي الحقبة الأخيرة التي كانت فيها المنطقة مسكونة تم نقل مكتبة الهيكل إليها.

وتؤيد عدة عوامل هذه النظرية ولكنها تظل نظرية صعبة الإثبات لأنها تقوم على أدلة واهية ولا توجد الأدلة التي تثبت صحتها ولا تساهم هذه النظرية في حل الصعوبات التي تحيط بالمسألة، لا بل أنها تزيدها تعقيداً.

C. Roth

تمسك روث بنظرية أحد العلماء التي تؤكد ان وثيقة دمشق ترجع إلى الغيورين. كون الغيورين حزباً دينياً غيوراً على حفظ الشريعة والمطالبة بالاستقلال القومي لليهود. وكان سمعان أحد تلاميذ المسيح غيورياً (لو 15:6؛ أع 13:1) الملقب بالكنعاني. ومعنى كنعاني في اللغتين العبرية والآرامية هو "غيور" (مت4:10، مر18:3). ويرد ذكر الغيورين في المركز الرابع بين الأحزاب والتيارات الفكرية والفلسفة التي يستعرضها يوسيفوس فلافيوس (بعد الصدوقيين والفريسيين والأسنين). ولذلك يطلق أحياناً على تعاليمهم الفلسفة الرابعة.

تحول الغيوريون إلى العنف وتفرغوا لإثارة القلاقل، ورفضوا أية هدنة مع الرومانيين، وامتنعوا عن دفع الضرائب، واستحلوا قتل أي شخص غير يهودي يتجرأ على تجاوز فناء الأمم في الهيكل للوصول إلى المكان المخصص لعبادات اليهود. ويكتب فلافيوس: "أنشأ يهوذا وصادوق مدرسة فلسفية رابعة. قاد يهوذا الجليلي رابع مدرسة فلسفية وتتفق هذه المدرسة الفلسفية مع مدرسة الفريسيين في كل شيء ماعدا الظمأ الشديد للحرية، التي تميزت به المدرسة الرابعة. كانوا يفرضون أن الله فقط هو قائدهم وسيدهم (العاديات 9:18و23).

تزايد عددهم بدرجة عالية جداً وخاصة في ثورة سنة 66 وفرضوا أنفسهم بالعنف والإرهاب لدرجة أنهم أشعلوا النيران في متاجر أورشليم لكي يجبروا الأغنياء على محاربة الرومان. ولما طردوا من أورشليم بسبب الفوضى التي كانوا يثيرونها، استطاعوا بمساعدة الأدوميين الاستيلاء مرة أخرى على المدينة. وادعى أحد قادتهم- مناحم بن يهوذا- أثناء ثورة سنة 66 أنه المسيا المنتظر وأراد أن تتم مبايعته مسيا في الهيكل. إلا أن جماعة معارضة داخل حزب الغيورين ذاته اغتالته كما سبق التنويه إلى ذلك.

لجأت مجموعة من الغيورين إلى قلعة مصعدة وفضلوا الانتحار على الاستسلام للرومان سنة 73. سمى الجناح المتطرف بذوي الخنجر، أو القتلة، المتعصبين، لأنهم كانوا يخفون خنجراً في طيات ثيابهم ويستعملونه في الوقت المناسب للتخلص من أعدائهم (الرومان) إذا لاقوهم في أماكن منعزلة. أهم ممثلي هذه الجماعة هم مناحم بن يائير، أليعازر بن يائير، وبارجيورا. كان هؤلاء ضمن المجموعة التي انتحرت في قلعة مصعدة.

إنه من الصعب، لا بل من المستحيل التوحيد بين هؤلاء وجماعة قمران المتصوفة التي انقطعت إلى أعمال التوبة واختارت الفقر والوداعة كنمط حياة. إننا لا نغفل أنه كان لدى جماعة قمران قانون الحرب. إلا أن حربهم تختلف تماماً عن الحرب التي نادى بها وعاش بموجبها الغيورين. كما أنه وجدت في مصعدة أجزاء من المخطوطات كانت معروفة لدى جماعة قمران. ولكن هذا لا يثبت بأي حال أي جماعة قمران كانت من الغيورين. فالمخطوطات التي وجدت في قمران كثيرة ومتنوعة ولا يمكن الجزم بأنها كلها تعود إلى الجماعة. ويذكر فلافيوس أن الرومان عذبوا الأسينين ولكنه يذكر أيضاً أسباب ذلك، التي لم يكن منها أصلهم اليهودي وطبيعتهم المسالمة. كذلك يذكر أحد القادة، يوحنا الأسيني الذي مات في القتال. وجدير بالذكر أن يهوذا يادين الذي قاد حملات التنقيب في مصعدة والذي يدافع عن نظرية الأسينيين لم يغير رأيه بعد وجود هذه المخطوطات.

من المحتمل أن يكون قد انضم عدداً من الجماعات الأخرى إلى الثورة ضد الرومان التي قادها الغيورين في مراحلها الأخيرة ولكن لا يمكن الخلط بين جماعة قمران والغيورين، إذ تنقص الأدلة.

ويرى روث أن الأسينيين قد أسوا قمران. ولكنهم غادروا بعد زلزال سنة 31 ولم يعودوا إليها إطلاقاً وفي 4-6م تمركز فيها الغيورون وأقاموا فيها حتى سنة 73م ويعم العدل هو مناحم بن يهوذا (ابن الثائر حزقيا الذي قتله هيرودس الكبير) وهو قائد الغيورين والذي قتل في أورشليم سنة 66. لم يترك الأسينيون أي أثر وراءهم إذ تعود المخطوطات كلها للغيورين. ونمت كتابتها على مدى سبعين عاماً (4/6-73م) وهي مدة إقامتهم في المنطقة.

g. R. Driver

ووصل درايفر،- وهو أحد أكبر علماء "الساميات"- إلى نفي النتائج تقريباً: تمتد الفترة التي كتبت فيها المخطوطات ما بين منتصف القرن الأول وحتى بداية القرن الثاني الميلادي، وترجع إلى الحركة التي بدأت بانقطاع سلسلة رؤساء الكهنة من سلالة صادوق وذلك مع ميتلاوس والقيمس وبهروب أونيا الرابع، ابن أونيا الثالث، إلى مصر وبناء هيكل جديد في مدينة أون: وبذلك بدأ حزب الصدوقيين في مصر. ويفي جزء من المناصرين لسلالة صادوق في فلسطين، وعندما أجبرتهم الظروف على الانفصال عن الفريسيين أثناء حكم يوحنا هرقانوس الأول (135-104ق.م) اعتزلوا في قمران حيث بنوا "الدير" وعاشوا بعيداً عن الاضطهادات: إنهم صدوقيو فلسطين.

وعندما اقتصر الرومان على السلوقيين والحشمنايين سنة 63ق.م أقصى هيرودس الحشمنايين عن رئاسة الكهنوت فعاد بن أشير بن سمعان، وهو من سلالة صادوق وتم اختياره رئيساً للكهنة في أورشليم (24ق.م) وتزوج هيرودس مريم، وهي، على الأرجح، بنت سمعان. في هذه الفترة تكون الحزب المسمى المدرسة الفلسفية الرابعة تحت تأثير يهوذا بن حزقيا وصديق صادوق: وانضم إليه الصادوقيون من مصر وصادقيو فلسطين، الذين كانوا قد انسحبوا إلى قمران. وهذا يشرح عبارة "أبناء صادوق" التي ترد في المخطوطات، فهم صادقيون لثلاثة أسباب:

1-              لأنهم كانوا يدافعون عن حوق سلالة صادوق.

2-              لأنهم تكونوا من مجموعتين الصادوقيين ومصر فلسطين.

3-              لأن أحد المؤسسين اسمه صادوق.

وتزعّم يهوذا ثورتين بعد موت هيرودس الكبير فأسر وقتل وهرب أتباعه إلى منطقة قمران التي كنت مهجورة من سنة 31ق.م. ورمموا المباني واستعدوا للحب ضد الرومان واستلم قيادة الحركة مناحم، ثالث أبناء يهوذا.

وعندما اندلعت الثورة بقيادة مناحم احتلت جماعة قمران قلعة مصعدة واستلوا على أسلحة الجنود الرومانيين وزحفوا إلى أورشليم حيث أراد مناحم أن يستأثر وحده بقيادة الثورة فقتله أليعازر (الكاهن الشرير) ابن رئيس الكهنة. إنه (مناحم) معلم العدل. واستطاع أليعازر بن يائير، وهو حفيد مناحم، أن ينجو بنفسه ولجأ فقاد المقاومة في قلعة مصعدة إلى أن انتحرت المجموعة المحتمية  هناك وذلك سنة 73م.

وبالتالي تعود مخطوطات قمران إلى الغيورين لا بل إلى الجناح الأكثر تشدداً. ونمت كتابتها في نفس فترة تحرير كتب العهد الجديد: قانون الجماعة بعد سنة 46، درج النحاس ما بين 66و68، تفسير حبقوق ما بين 70-73 الأناشيد 73-81 قانون الحرب حوالي 85 وثيقة دمشق حوالي 106-115 وقد أودعت المخطوطات في المغاور، على الأرجح، بعد ثورة اليهود الثانية (132-135م) للأسباب التالية:

       تزايد دفاع الربيين عن الأرثوذكسية.

       تثبيت نص العهد القديم.

       تحريم الكتابات التي تمس قوانين الربيين

       نقص عدد الصادقيون الفلسطين.

ونلاحظ أن درايفر لا يخلط بين هؤلاء الصادوقيين وحزب الصادوقيين الوارد ذكره في العهد الجديد.

تم نشر وثيقة دمشق عام 1910 ولاحظ بعض العلماء ونقاط تشابه بين مضمونه والوثيقة وتعاليم الفريسيين فنسبوا مخطوطات قمران، والتي كانت وثيقة دمشق  إحداها ،  إلى  الفريسيين .  وأول  من  قام  بدراسة  في  هذا  الاتجاه  هو S. liebermann  إلا أنه لم يصل إلى نسبة المخطوطات إلى الفريسيين ، مكتفياً بالنقاط نقاط التشابه ومستخلصاً أن جماعة قمران كانت عبارة عن أخوية تقوية ذات طابع فريسي. ثم تعمق حايم رابين في دراسة نقاط التشابه بين جماعة قمران والفريسيين واعتبر أن الجماعة ذات أصل فريسي.

نشأت إذاً هذه الأخوية في القرن الأول قبل الميلاد وهي تعكس بأمانة عقيدة الفريسيين. ولكن مع مرور الوقت تأثرت بشدة بوجهات نظر الربين. ولكي تكسب أعضاء جدداً خففت كثيراً من شروطها. أدى هذا إلى نوع من الخلاف لا من التباعد بين المتمسكين بطريقة وشروط الحياة الأولى وبين المنادين بالتخفيف. أدى هذا الاختلاف إلى انشقاق تام في صفوف الفريسيين وذلك في القرن الأول الميلادي. وكان كل من الفرعين يدعي الأمانة للتقاليد الأولى. كتب البقاء للمنادين بالتخفيف وسرعان ما اختفى الفرع المتشدد.

وتعكس مخطوطات قمران- في رأي رابين- فترة الانتقال هذه، أي الصراع ما بين التيارين المتشدد والمرن الذي أدى إلى انتشار تعاليم الربيين وتثبيتها.

ولا يهتم حاييم رابين بتحديد الأشخاص والأسماء التي ترد في المخطوطات ويري أن أنسب فترة لهذا الصراع الذي أدى إلى الانشقاق هي القرن الأول الميلادي، وبالتالي تعود المخطوطات إلى هذا القرن.

ويرى حاييم رابين أن هناك عائقين يحولان دون اعتبار جماعة قمران جماعة أسينية: الأول عدم الاتفاق التام بين ما يذكره يوسيفوس فلافيوس بخصوص القسم وما يرد  بهذا  الصدد  في قانون الجماعة ووثيقة دمشق . العائق الثاني متعلق بالملكية الخاصة المقبولة لدى جماعة قمران والمرفوضة تماماً لدى الأسينيين.

حتى وإن لم تقنع  نقاط  التشابع  بين  تعاليم  الفريسيين  وجماعة  قمران علماء القمرانيات. إلا أن هذا أوضح مدى اتساع وشمول نقاط التشابه بين تعاليم الفريسيين وما يرد في المخطوطات. ويعود الفضل في ذلك إلى دراسات حاييم رابين.

يؤخذ على حاييم رابين عدم اهتمامه بدراسة موضوع التقويم: اتبعت جماعة قمران تقويماً شمسياً بينما التقويم الرسمي للفريسيين هو قمري- حاول Ginzberg في دراسته لوثيقة دمشق أن يحل هذه المسألة بتأكيده أن استعمال التقويم الشمسي هو إضافات وتصحيحات لاحقة أدخلت على المخطوطات ولكن اكتشافات مخطوطات قمران يهدم هذا الرأي من أساسه: فلم يكن استعمال التقويم الشمسي في جماعة قمران مجرد عادة حسنة ولكنه كان يدخل في مجموعة الأشياء التي اعتبرت جماعة قمران ذاتها حافظة لها.

هل مخطوطات قمران مسيحية؟

هل كان أصحاب المخطوطات مسيحيين أو بتعبير أدق يهود اهتدوا إلى المسيحية وظلوا محافظين على شريعة موسى؟ إنها نظرية مغرية خاصة في أيامنا الحالية حيث ازداد الاهتمام- من ناحية المسيحيين- بدراسة هذا الموضوع: "كنيسة الختان"، ومن جانب أعداء الكنيسة لكي يثبتوا أن المسيحية هي شيعة منشقة عن اليهودية، ثم تزوير تعاليمها في فترات لاحقة.

طرح مارجوليوث هذه الفكرة سنة 1911-1912، في إطار حديثه عن وثيقة دمشق وتناولها مرة أخرى وساندها بأدلة جديدة تيشر J.L. Teicher في سلسلة مقالات . يؤكد  تيشر  أن  المخطوطات  ترجع بصفة عامة إلى الفترة 70-30م. وخوفاً من اضطهادات دقلديانوس ثم دسها في المغاور سنة 303م. معلم العدل هو يسوع المسيح والكاهن الشرير هو بولس . في بداية الأمر اعتقد تيتشر أنها ترجع إلى هرطقة الأبيونيين ( كلمة "إبيونية العبرية" تعني فقير وهي كلمة ترد في المخطوطات لوصف الجماعة). ولكنه فيما بعد فضل على ذلك عبارة مسيحيي ما بعد فترة الرسل. وأقدم نص في رأيه هو تفسير حبقوق والذي يعود إلى فترة الرسل.

ويرفض تيشر نتائج الحفرات الأركيولوجية حول مباني قمران وعين فشخة، ويرفض كذلك المعطيات والنتائج المترتبة على فحص المغاور وقطع الخزف والمخطوطات.

عن مجلة صديق كاهن