من الزرع إلى التربة (مر13:4-20)
بعد أن حللنا بتأن مثل الزارع، نقرأ شرح المثل (مر13:4-20) وأول ما يبدو لنا هو أننا أمام شيء مختلف عما اعتدناه! لقد تحول المثل إلى رمز حيث يقابل كل شيء معنى وحقيقة أعمق: الزرع هو الكلمة، أنواع التربة الأربعة هي فئات مختلفة من السامعين، طيور السماء ترمز إلى الشيطان والتربة الحجرة هي الإنسان المتقلّب الذي سريعاً ما يتحمس وسريعاً ما يفتر حماسه، والشوك هو الشهوات التي تثقل لا بل تخنق قلب الإنسان. والغريب في تفسير المثل هو التجاهل التام للزارع وبذلك يحتفظ بغموض غني، وهو يرمز إلى الله إلى يسوع وإلى الزارعين الذين يواصلون التبشير بالكلمة.
من الأشياء المؤثرة الانتقال من الزرع إلى أنواع التربة، يكتفي يسوع في الشرح الذي يعطيه بالإشارة إلى وجود تربة جيدة وتربة غير جيدة كما أشار إلى ذلك المثل، إنما يهتم بتحديد أسباب جودة أو سوء التربة. كان المثل رداً على سؤال لاهوتي، أما الشرح فهو ذو طابع خلقي يدعو للالتزام والعمل والجهاد. لا يوجه يسوع الشرح لخدام الكلمة إنما يوجهه إلى المستمعين، الذين بعد سماعهم الكلمة يعرّضونها للضياع. المسألة تقوم في هذا الأمر: إذا كانت الكلمة فعالة، كيف يمكن أن تكون كذلك. فيتحول الاهتمام من الكلمة إلى استقبالها وقبولها، من الله إلى الإنسان يتحول التشجيع إلى تحذير.
نظراً لهذه الاعتبارات، وبسبب وجود بعض المفردات والمصطلحات التي يبدو أنها تعكس طريقة الوعظ بعد قيامة المعلم، يعتقد عدد كبير من الشرّاح أنه يعود، كل من المثل وتفسيره، إلى فترة زمنية مختلفة: يعود المثل في مجمله إلى يسوع، أما تفسيره فإنه يعود إلى جماعة المؤمنين الأولى التي حاولت أن تؤون المثل حسب احتياجاتها الرعوية؛ وبالتالي يكون التفسير عبارة عن عظة حول المثل.
هذا الافتراض قابل للإثبات، مع ملاحظة أن التأوين لا يعني على الإطلاق الإختراع أو التأليف. إننا أمام شرح يسير في نفس اتجاه المثل ويعكس روحه، لا بل إن الشرح محتوى في المثل حتى وإن لم يكن في مركزه.
ولا يجب أن نعتقد أن المثل فقط هو المهم وإنه لا أهمية لشرحه. إذ يلعب شرح المثل داخل الفصل الرابع من إنجيل القديس مرقس دوراً هاماً لا يمكن الاستغناء عنه لحل المسألة التي يتعرض لها: إذا كان البعض يفهم كلمة الله وآخرون لا يفهمونها فإن ذلك لا يرجع إلى مسألة تقديرية إنه يرجع إلى إرادة الله نفسها، ولكن ذلك يعود لاستعداد السامعين أنفسهم.
يصف الشرح فئات سامعي الكلمة بدقة شديدة عن طريق ظروف الزمان والمكان والمفردات المعبرة واستخدام الأزمنة المختلفة. تتكون الخلفية الأساسية التي تتكرر في الفئات الأربعة من ثلاث كلمات: الكلمة- الزرع- السماع. تصل الكلمة إلى الجميع ويسمعها الجميع. ولكن السماع وحده لا يكفي، تتطلب الكلمة لكي تصل إلى الهدف شروط ومراحل محدودة. وهنا تأتي الاختلافات.
ينتمي إلى الفئة الأولى من السامعين الذين تُزرع فيهم الكلمة ولكنها تظل بلا نتيجة، إذ أنه لا يستطيع أن يضرب بجذوره في الأرض. تختفي الكلمة دون أن تترك أي أثر. وتوجد بالفعل هذه الفئة من السامعين ولكن تحديد أسباب هذا العقم ليس سهلاً. ولذا يختزل النص السبب مُرجعاً إياه لإبليس الذي يذهب بالكلمة لا يحاول أن يتناول الموضوع من الناحية النفسية إلا إنه يؤكد ويشدد على أن الخطأ لا يرجع إلى الزارع، الذي يكرر ذكره مرتين: الزارع يزرع، إنما يرجع إلى نوعية التربة.
وينتمي للفئة الثانية جماعة المتحمسين الذين يقبلون الكلمة فرحين ولكنهم سرعان ما يُحبطون. ما يميز هذه الفئة هو عبارة "لوقتهم" في القبول وفي التخلي. لقد سبق الكاتب واستعمل هذه العبارة في وصفه للفئة الأولى "لوقته" (15:4) لكي يشير إلى سطحية المستمعين، ويستعملها الآن في وصف الفئة الثانية لكي يدلل بها على هشاشة هذه الفئة.
ويصف شرح المثل هذه الفئة من المؤمنين وصفاً دقيقاً ويؤكد على صفة "مؤمنين" لأنهم لا يسمعون فقط الكلمة، إنما يقبلونها بفرح. إنهم أشخاص يعون ويتحمسون ولكن تنقصهم الصلابة اللازمة للإستمرارية. فعندما يتعرضون للشدة أو الاضطهاد يعثرون "لوقتهم". ويشير المثل إلى الإيمان وليس فقط إلى المثابرة الأدبية. لذلك يستعمل فعل "عثر" . وتعني الكلمة اليونانية المستعملة للإشارة للشدة من أي نوع من الألم. ولا يترك المثل المعنى مفتوحاً إنما يحدده بالمفعول لأجله "من أجل الكلمة: إنه يشير بالتأكيد إلى الاضطهادات، لذلك يضيف الكلمة فوراً، ويشير أيضاً إلى العناء الذي يقتضيه العيش بموجب تعاليم الإنجيل.
ويحدد تفسير المثل الفئة الثالثة بوضوح. لا يعيب هذه الفئة من المؤمنين لا الهشاشة ولا سرعة الحماس وسرعة الإحباط وإنما يعيبها الإفراط في الهموم والاهتمامات. تختنق الكلمة في نفوسهم وفي حياتهم، لأنه لا مجال لها (الكلمة) في حياتهم. هموم الدنيا وفتنة الغنى وسائر الشهوات تتمكن منهم بشدة فيخنق الكلمة في جذورها. وتشير العبارة "تداخلهم" بشدة إلى أن هذه الشهوات تؤثر على طبيعة الإنسان وليس فقط على أفعاله. يعجز القلب المثقل بالشهوات غير المركز على مصلحته، عن إدراك ما ينفعه. إنه لا يهمل فقط استقبال الكلمة، إنما يفقد تذوقها.
لا تخنق الكلمة شهوات خارقة غير عادية، إنما الشهوات اليومية المعتادة: الاهتمام بمصالح الحياة، بريق المال، الطموح غير المنظم…إلخ. ولكن علينا أن نحذر فهم ذلك بطريقة ثنائية متضادة (رفض الأشياء المادية لأنها وضيعة غير لائقة، ورفض التزامات في الدنيا لأنها التزامات أرضية، ورفض الغنى لأنه باطل)، إنما نرفض هذه الأشياء سعياً وراء الحرية الإنجيلية، حرية أبناء الملكوت. تنمو الكلمة فقط في مساحة الحرية.
إن الإصرار على وصف أسباب عدم إتيان الكلمة بثمار في الفئتين الثانية والثالثة ينم على أن هذه الأسباب هي بالفعل الأسباب التي تعوق الكثيرين وتعجزهم أمام متطلبات الكلمة. إنها صورة معتادة!
وعندما يصل الشرح إلى الفئة الرابعة يكتفي بالقول "الأرض الطيبة" (مر20:4). ولا يعطي الشرح أسباب وصف التربة بأنها جيدة. لا يهتم بإعطاء الأسباب التي تجعل من هذه الفئة الرابعة "تربة جيدة". إنما يتعرض بدلاً من ذلك لما يفعل أصحاب هذه الفئة: "يسمعون، يتقبلون، يثمرون". إنها مسيرة مكتملة تبدأ بالسماع ثم القبول ثم الثمر. ولكن هناك إشارات خفية كامنة في اختبار الكلمات والأفعال واستعمال الأزمنة، يجدر التعرض لها. يرد الفعل "زرع" في كل الصور والفئات، ولكن في الفئات الثلاثة الأولى يرد في المضارع لكي يشير أن الفعل جزئي، أي أنه لم يصل بعد للهدف. أما في الفئة الرابعة فإنه يستعمل الماضي التام Aoriste لكي يدل على أن الحدث اكتمل ووصل إلى هدفه.
كما أن الفعل "سمع" يرد في الصور أو الفئات الأربعة ولكن بصور مختلفة ففي الفئات الثلاثة الأولى يرد في الماضي التام Aoriste للإشارة إلى حدوث السماع والانتهاء. أما السماع المثمر فإنه يرد في الحاضر لأنه سماع مستمر، عمل مفتوح متواصل.
كما أن الاستقبال يرد بطريق مختلفة ففي فئة السطحيين والسريعي الحماس والإحباط يستعمل الكاتب فعلاً عاماً: يقبل، يأخذ، أما الفئة التي تثمر فإنه يختار فعلاً بعناية تامة، فعلاً قوي المعنى: بارا ديخوماي: بمعنى يستضيف بصداقة وترحاب ونفس منفتحة. إنه نفس الفعل الذي يستعمله القديس مرقس للإشارة لاستقبال الملكوت (مر15:10).
عن مجلة صديق الكاهن