مخطوطات قمران:إيمان وتعليم جماعة قمران (10)

أصل الجماعة وحياتها

يعود أصل جماعة قمران إلى الأوساط الكهنوتية بأورشليم، التي كانت قد أخذت على عاتقها المحافظة الشديدة على أدق تفاصيل الشريعة. ويحتل الكهنة المكانة الأولى بين أفراد الجماعة حتى أن المسيح الذي كانت الجماعة تنتظره، هو مسيح كاهن إلى جوار المسيح الملك. ويرد كثيراً ذكر معلم العدل في التفاسير الكتابية. وهذا المعلم هو مؤسس الجماعة في نظرهم. ويجتمع حوله عدد من الكهنة واللاويين والمؤمنين الأتقياء المحافظين على الشريعة والذين يحاولون ضمان نقاء العبادة والمحافظة على التقويم الوحيد الصحيح في نظرهم.

اتبع كهنة أورشليم تقويماً قمرياً بينما اتبعت جماعة قمران تقويماً شمسياً يتكون من 12 شهراً، يتكون كل منها من 30 يوماً، يضاف يوم بعد كل ثلاثة شهور. هكذا كان العام يبدأ دائماً بنفس اليوم: يوم الأربعاء، وهو يوم عيد رأس السنة، وكانت الأعياد تقع في ذات أيام الأسبوع كل سنة، ولا يقع أي عيد يوم سبت. ولكن الجماعة لم تتمكن من فرض هذا التقويم، الذي يساعد كثيراً على الحفاظ على قدسية يوم السبت.

الكاهن الشرير

وكان من الطبيعي أن تصطدم جماعة قمران مع رؤساء الكهنة الذين اتهمتهم بالإهمال في المحافظة على تنظيمات الشريعة. وقد أدى هذا التصادم مع رئيس الكهنة ، الذي  أطلقوا عليه الكاهن الشرير، إلى طرد معلم العدل وجماعته من أورشليم وانسحابهم إلى الصحراء على ضفاف البحر الميت.

وتتهم  الجماعة الكاهن الشرير بأنه لا يحافظ على وصايا الله في ممارسة مهام وظيفته. "دعاه إلى هذه الوظيفة صوت الحق ولكنه "بعد أن حصل على حكم إسرائيل تكبر قلبه وترك الله وخالف دساتيره بسبب الغنى، ونهب وكنز أموال الأشرار الذين تمردوا على الله. أخذ غنى الشعوب مثقلاً نفسه بالذنوب وسلك طريق الأشرار القذرة. وظلم معلم العدل وعامله بعنف في مكان منفاه وفي أيام عيد الراحة، يوم التكفير، ظهر لكي يبتلع معلم العدل وأتباعه ولكي يقضي عليهم في يوم الصوم، يوم السبت يوم الراحة. ولكن الله عاقبه نتيجة ظلمه واضطهاده لمعلم العدل فأسلمه إلى أيدي أعدائه لكي يذلوه بضربات مميتة". وتتفق هذه الإشارات إلى الكاهن الشرير مع الأحداث التي جرت أيام يوناثان المكابي، لقد خلف يوناثان أخاه يهوذا المكابي في قيادة الثورة وتزعم الحرب ضد سوريا فاغتصب لنفسه، وهو أول من فعل ذلك من الحشمنايين، كرامة الكاهن الأعظم حتى وإن لم يكن من نسل صادوق. ولم تكن ظروف حياته وحروبه تتفق ومتطلبات خدمة الكاهن الأعظم من استعداد وطهارة شرعية، ومات على أيدي أعدائه.

معلم العدل

أما شخص معلم العدل فإنه يظل مجهولاً ولا يرد ذكره في أي مكان آخر. إنه هو الذي قاد الجماعة إلى الصحراء مستوحياً هذا الاتجاه من أش 40:3 "في البرية أعدوا طريق الرب…" ويرد هذا النص في قانون الجماعة وبعده هذا التعليق: "إنها دراسة الشريعة التي أعلنها على يد موسى لكي يتم كل شيء قد أعلن عبر الأزمنة، كما أعلن الأنبياء وبواسطة الروح". تعرف الجماعة أنها مدعوة لإعداد طريق الرب بدراسة الشريعة وطاعتها بأمانة، وتعرف أنها قادرة، بفضل روح الله، على فهم كلام الأنبياء، وبفضله، على تمييز الأزمنة.

وكانت الجماعة الكهنوتية في قمران والمحرومة من الخدمة الطقسية في الهيكل، تنتظر الخلاص الآتي، والذي سينقي العبادة ويعيدها إلى بهائها الأول. إن ابتعاد الجماعة عن الهيكل لا يعني رفضها للعبادة الطقسية في حد ذاتها، بل كان رفضاً للطريقة التي تتم بها العبادة في هيكل أورشليم آنذاك. ظلت الجماعة دائماً على أهبة الاستعداد، تحت قيادة الكهنة، للصراع في الأيام الأخيرة لاستعادة شرعية العبادة. لذلك حافظت الجماعة كلها على الطهارة الشرعية المفروضة على الكهنة، وابتعدت عن كل نوع من النجاسة الشرعية عن طريق الغسولات الشرعية يومياً. ولم يكن الاغتسال وحده يكفي للحصول على الطهارة الشرعية، إنما يجب أن تصاحبه التوبة وطاعة الشريعة. "إنهم أولئك الذين تنجسوا لا يتطهرون إلا بالابتعاد عن الشر، لأن عدم الطهارة قائمة في كل المخالفين لكلمته (الله)". لذلك تقوم التوبة في "الابتعاد عن عالم الشر والكذب، والاتجاه إلى الله، والبحث عنه بكل القلب والنفس، وعمل ما هو مستقيم أمامه، كما أمر بواسطة موسى وكل عبيده الأنبياء، وفي حب ما اختاره هو، وكره كل ما يرفضه، للابتعاد عن كل شر، والاتجاه لكل عمل صالح وممارسة البر والعدل والحق على الأرض".

نظام الجماعة والعقوبات

وخضعت الجماعة لنظام دقيق لكي تستطيع محاربة أبناء الظلام. فعلى رأسها كان أبناء صادوق، الكهنة، يليهم اللاويون، ثم بقية المؤمنين، أبناء العهد وأخيراً المبتدئون. كان على المبتدئين المرور بفترة اختبار، لا يحق لهم أثناءها المشاركة في الوجبات الجماعية. وبعد مرور سنتي الاختبار يخضع المبتدئ لامتحان "بحسب رأي الكثيرين" (الجمعية العمومية)، فإذا كان الحكم في صالحه "يدخل ضمن الجماعة، ويُكتب اسمه في درجته بين اخوته في الشريعة والعدل والطهارة والشركة في الممتلكات". وكان عليه أن يتلو قسماً محنثاً  "أن يلتزم بشريعة موسى كما أمر الله بذلك بكل قلبه وكل نفسه على أساس كل ما كشف لأبناء صادوق، الكهنة الذين يحافظون على العهد ويبحثون عن إرادة الله، الذين أعلنوا استعدادهم لقبول حقيقته والسير بما يرضيه". وعندئذ كان المرشح يضم كل ممتلكاته إلى ممتلكات الجماعة والتي كان يديرها مدبّر تُعيّنه الجماعة، وكان يمكنه ممارسة "طهارة العديدين"، أي الغسولات العامة للجماعة. كانت الطهارة الكهنوتية هي العامل المسيطر على حياة أعضاء الجماعة، كان عليهم أن يظلوا دوماً مستعدين متخليين عن الزواج "لكي لا يتنجسوا مع امرأة".

وكانت الجماعة الكهنوتية تجتمع للوجبات والعبادة ودراسة الكتب المقدسة: "يأكلون ويتلون البركات ويتشاورون جماعة. وفي كل مكان يوجد فيه عشرة رجال من مجلس الجماعة يجب أن يوجد فيه كاهن: يجلسون أمامه كلٌ حسب درجته ويستشيرونه في كل شيء. وعندما يمدون المائدة للأكل ويعدون النبيذ للشرب ليكن الكاهن أول من يمد يده بالبركة على بواكير الخبز والخمر. لا يجب أن يغيب عن مكان به عشرة أفراد من يبحث في الشريعة ليل نهار".

كانت الجماعة تخضع لنظام صارم. كان كل عضو منتمياً إلى درجة معينة وكان يعيش بموجب هذه الدرجة. وكل من يخالف نظام الجماعة ينال عقاباً مناسباً لمخالفته: "إذا أعطى أحدهم معلومات كاذبة عن ممتلكاته، يفصل من طهارة الجماعة لمدة سنة، ويعاقب بحرمانه من ربع حصته في الطعام". حتى المخالفات الصغيرة كان لها عقابها الصارم: "من يتلفظ بكلمة زائدة، يُحرم 3شهور ومن يقاطع حديث غيره 10 أيام، من ينام أثناء الاجتماع 30 يوماً ومن يقهقه يعاقب بـ30 يوماً. أقسى ما في العقاب هو العزل عن الجماعة: فلا يتناول معها الطعام ولا يمكنه الحصول على طعام من الخارج، لأن الخارج على صلة بعالم الكذب، وبالتالي يتنجس فكان عليه أن يبحث في الصحراء عما يقيه شر الموت جوعاً إلى أن تضمه الجماعة ثانية إلى حضنها.

عن مجلة صديق الكاهن