الأمثال (12)

البواب الساهر

دعوة ثلاثية للسهر يبدأ مثل البواب الساهر بعبارة: "إحذروا واسهروا" (33:13) وتتوسطه دعوة أخرى: "فاسهروا إذاً" (35:13) وتختمه دعوة ثالثة: "اسهروا" (37:13) ويستعمل الإنجيل أفعالاً مختلفة. فهو يستعمل مرتين فعل جريجويو ويشير إلى اليقظة والسهر، ومرة يستعمل فعل اجروبنين والذي يوحي بمقاومة شديدة للنوم. ليست هناك فروق أساسية بين معاني الفعلين: ففي معناهما المعتاد لا يشيران إلى عمل، فعل بقدر ما يشيران لطريقة: السهر لا يحدد لحظة الانتقال من النوم إلى اليقظة، ولكن يحدد اللحظة أو الحالة التي تلي ذلك: وهي الصحيان، فتح الأعين. كما أن هناك فعل ثالث وهو بليبن ومعناه النظر بتدقيق، التركيز وتحديق النظر في أو على شيء. وعكس هذا الفعل هو السطحية والتشتت والنظر في اتجاهات مختلفة.

الهدف من اليقظة والسهر هدف واضح محدد يتكرر مرتين: "لا تعلمون متى يحين الوقت" (33:13)؛ "لا تعلمون متى يأتي رب البيت" (35:13). مجيء السيد أو الساعة أمر أكيد، كما أن قرب الصيف أكيد عندما تلين أغصان التينة وتنبت أوراقها (راجع 28:13). ولكن هذا المجيء يتم فجأة وبلا سابق إنذار. لذلك فإن الموقف الذي ينم عن المسؤولية هو أن يكون الإنسان مستعداً دائماً لهذه اللحظة. لذلك فالسهر هو الشيء الذي يجب أن تتصف به حياة المسيحي عادة. إنه لا يقتصر على بعض المختارين: ما أقوله لكم أقوله للناس أجمعين: "اسهروا" (37:13).

صعوبات في النصّ

كان يكفي لتوضيح هذه الوصية مثل السيد الذي خرج، ولأنه لا يعرف ساعة رجوعه أوصى البواب بالسهر. ولكن المثل، كما نقرأه في الإنجيل، متشابك وروايته مضطربة نوعاً ما. وهذا الأمر غريب على إنجيل القديس مرقس. تركيب الجمل والقواعد في هذا المثل معقد غير سلس: يصف المثل تصرف السيد بثلاثة أفعال في أزمنة فعلية مختلفة: فعلان في الماضي وفعل في زمن الماضي المطلق. ينتج عن التغيير في الأزمنة انتقال مفاجئ، ويصعب ترجمته. كما أن هناك تشابك، قد يصل إلى التضارب، في الصور. ففي بداية النص (34:13أ) يظهر أن السيد ينوي الغياب مدة طويلة من الزمن، لذلك ترد كلمة أبوديموس، التي توحي بإقامة طويلة خارج البلاد. بالإضافة إلى هذه الكلمة هناك اهتمام السيد بتوزيع الأعباء والواجبات على خدمه: "فوّض الأمر إلى خدمه، كل واحد وعمله" (34:13ب). ثم يورد النص بعد ذلك وصية السيد للبواب بالسهر وانتظاره (34:13ج). إن أراد السيد أن يبتعد لعدة أيام، فكيف يمكنه أن يوصي البواب بأن يظل ساهراً في انتظاره؟ وهناك أمر آخر: تنتهي القصة بالتركيز فقط على صورة البواب: لا يرد أي شيء عن الخدم الآخرين ومهامهم.

يبدو أننا هنا أمام مشهدين متداخلين معاً: مشهد السيد والبواب، ومشهد رجل يتأهب للسفر. ويبدو أنه يحمل آثار مقدمة مثل الوزنات مت14:25 فيعهد لعبيده قبل سفره العناية ببيته. وهو الأمر الذي يرد بوضوح في النص. تقوم نقطة القوة في المشهد الأول في الأمر بالسهر ، وفي المشهد الثاني من المفترض أن تكون الأمر بتأدية الأعمال والمهام بجد وأمانة ونشاط. ولا ترد أية كلمة بهذا الصدد في النص.

الاختيار بين اتساق الحبكة الروائية والتعليم اللاهوتي

يتفق كل المفسرين على أن التشابك الذي عرضناه، الذي يصل إلى الغموض، هو نتيجة إعادة صياغة للنص. إنه افتراض صحيح وسليم ولكنه لا يعفي من التساؤل: ألم يعِ المحرر هذا التناقض؟ لماذا لم يحاول تفاديه؟ هذا التساؤل المشروع يجب أن يحذرنا من توقع نص إنجيلي يتفق ومنطقنا وأساليبنا في التعبير. وفي الواقع ترد، في معظم الأمثال، بعض التفاصيل التي تبدو لنا غامضة. يبدو أن رواة ذلك العصر لم يكونوا يشعرون بالالتزام بمنطق حديدي مثل منطقنا.

كان على الإنجيلي أن يراعي أمرين في صياغته للمثل: اتساق الرواية المنطقي من ناحية، ومن ناحية أخرى الخروج بتعليم يطابق احتياجات المؤمنين. وكما هو معروف ليس من السهل التوفيق دائماً بين هاتين القضيتين، ومن الواضح أن الإنجيلي فضّل القضية الثانية على الأولى.

على أية حالة يميل الإنجيلي هنا لتفضيل المعنى على الصور. والآن نتساءل إذا كانت المعاني المختلفة التي تقابلنا في المثل، كما هو، متشابكة ومتضاربة أحياناً، تتسق فيما بينهما أم لا. ما يهمنا ليس اتساق الحبكة الروائية بقدر اتساق التعليم اللاهوتي. إنه الاختيار الأوفق والأنسب. فالصور والتعبيرات المختلفة وغير المألوفة التي يلجأ إليها الكاتب تعتبر بمثابة آثار يهتدي بها المفسر في إعادة بناء مراحل تكوين المثل المختلفة لكي تقوده، وتقودنا معه، إلى المعاني العديدة الكامنة بين طبقات المثل. فالمثل مزروع في تقليد حي لذلك فهو ينمو بنمو الجماعة التي تقرأه وتعيشه.

 

ملكوت الله وعودة الرب

نواة المثل الأولية هي صورة البواب الذي يسهر الليل كله في انتظار عودة سيده. لذلك يستعمل الكاتب في هذا الجزء الفعل في زمن aoriste. بينما ترد الأفعال الخاصة بالعبيد والمهام الموكلة إليهم في الماضي وبالتالي على سبيل الخلفية. وسهر البواب هو الوحيد الذي تركّز عليه المثل: فاسهروا إذاً لأنكم.. (35:13).

إنها صورة كلها حيوية وجمال وسرعة؛ الصورة التي تتفق وطريقة يسوع في الكلام: فإليه يعود المثل. وإذا وضعنا المثل في إطاره الحقيقي وهو إطار إعلان الملكوت لاستطعنا أن نتعرف بسهولة على الهدف منه: "يدعو يسوع بهذا المثل للاستعداد لاستقبال سيادته الإسكاطولوجية. لا يمكن بأي حال من الأحوال معرفة زمنه ولذلك فالموقف الوحيد المناسب والواجب هو السهر الدائم.

يمكننا التعرّف على خطوة أولى وأساسية: ليس هدف المثل الأول في إنجيل مرقس هو التعليم عن حلول الملكوت، بل هو عودة رب البيت، أي عودة الرب القائم من الأموات. ويتم الانتقال من حلول الملكوت غير المعلن عنه مسبقاً إلى عودة الرب يسوع المفاجئة. إنها نقلة هامة جداً ولكنها لا تتم بالفصل بل بتواصل منطقي. لقد صاحب مثل يسوع إيمان التلاميذ الذين فهموا، بعد القيامة، أن حلول الملكوت لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن شخص الرب. لقد أعلن يسوع خبر الملكوت السار، وفهم المؤمنون بعد ذلك أن الخبر السار هو يسوع المسيح بذاته. لم يتغير المثل بل زادت المعاني اللاهوتية الكامنة فيه غنىً وغزارة.

في انتظار عودة الرب

توضح صورة السيد الذي يبتعد لفترة قصيرة ويوصي البواب بأن ينتظره وبضرورة عدم النوم ولو للحظة واحدة فقد يعود السيد في أية لحظة. ولكن هذه وحدها لا تكفي للتعبير عن إمكانية تأخر عودة الرب كما اختبرت فوراً الجماعة المسيحية. قد تطول فترة الانتظار. لذلك دار التساؤل عن كيفية شغل فترة الانتظار هذه. وعليه تمت بعض الإضافات التي يبدو وكأنها تخل بصورة المثل الأولية. تقوم هذه الإضافات في الواجبات والمهام التي يعهد بها السيد لعبيده وتوصياته لهم بالعناية والمحافظة على بيته ومصالحه. تكشف هذه الإضافات محاولات الجماعة لملائمة المثل وتأوينه على الظروف التي يعيش فيها المؤمنون: يجب عليهم السهر دائماً، وكأن السيد على الأبواب ومجيئه وشيك، وفي نفس الوقت الصبر كما لو كان مجيء السيد يبطئ. ومعنى السهر في الحالتين كلتيهما هو الإطلاع بالمسؤوليات الشخصية، سواء في الحياة العامة أو في الكنيسة. لذلك تقول إنه عندما يكشف تحليل المثل عن بعض التفاصيل الغريبة فلا يجب البحث عن الاتساق المطلق للحبكة الروائية، بل يجب البحث عن منطق تعليم المثل استناداً على هذه التفاصيل الغريبة أو المتناقضة. والآن نستطيع أن نلاحظ أن نصائح وتوجيهات المثل متسقة ومتناسقة فيما بينها وأكثر من ذلك فهو تلائم مقتضيات الحياة المسيحية ومتطلباتها.

أوجه السهر

مثل البواب الساهر ليس مثلاً لاهوتياً بحصر المعنى. ومع ذلك ترتكز نصائحه وتوجيهاته على تعليم لاهوتي راسخ ومحدد: عودة الرب في مجده (راجع 32:13) وأساس دينونته لنا هو التزامنا بواجباتنا.

في هذه النقطة تقوم أوجه السهر المختلفة. غياب الرب غير معلومة نهايته ومجيئه مفاجئ: الموقف الوحيد هو اليقظة الدائمة. وسواء طال الانتظار أم قصر يجب أن يكون انتظاراً عاملاً، حياً، فعالاً. وليس التصرف المطلوب هو التطلع في الأفق لكي يعرف مسبقاً ما سيحدث بل هو معرفة أن المستقبل يتم إعداده في الحاضر. لذلك يجب أن نكون جادين في إعطائه حقه من الاهتمام وفي نفس الوقت مقتنعين بأن الحاضر ليس كله ملكاً لنا. فالسهر هو في ذات الوقت التزام وانتظار في العالم وأبعد من العالم.

حتى هنا كان كلامنا عن مثل البواب الساهر في حد ذاته، واضعين إياه في إطار التقليد الذي نشأ ونما فيه حتى وصل إلى شكله النهائي في نص إنجيل مرقس (33:13-37) لم يقتصر دور الإنجيلي على تثبيت المثل كتابة، ولكنه وضعه في سياق مما يضفي عليه معنىً معيناً.

يختم سياق إنجيل مرقس بهذا المثل الخطاب الإسكاطولوجي (مر13)، وكأنه يلخص به هذا الأمر. ويبدو أن الخطاب كله يدور حول موضوع السهر. ولكن الكاتب خص المثل الختامي بفعلين تقنيين هما، كما سبق وذكرنا في بداية الموضوع، جريجورين وأجروبنين. اما الفعل الثالث وهو بليبين ينظر باهتمام، يراقب، فهو يتخلل الخطاب كله (2:13، 5،9،23،33). السهر هو الانتباه. ولكن الانتباه لأي شيء؟ هل هو الاحتراس من بعض المخاطر، مثلاً عدم الانجراف وراء بعض الوعود والأوهام الدينية الخادعة؟ يوضح هذا معنى فعل النهي: لا تصدقوه (21:13) وهو يعني، بكيفية ما، السهر. والسهر يعني الثبات على كلمة الله "السماء والأرض تزولان وكلامي لن يزول" (31:31) كما يعني أيضاً عدم فقدان التركيز بسبب القلق بخصوص الأزمنة الأخيرة أو الأنبياء الكذبة أو العلاقات والآيات الخارقة. كما أن هناك أفعال نهي آخر في خطاب السهر مثل: إياكم أن يضلكم أحد (5:13).. لا تفزعوا (7:13).. لا تهتموا من قبل بماذا تتكلمون (11:13). للسهر أوجه عديدة منها عدم الانبهار بعظمة المباني البشرية حتى وإن كانت مباني أمينة: يا معلم انظر! يا لها من حجارة يا لها من أبنيةّ.. لن يترك هنا حجر على حجر (1:31-2). يستطيع الإنسان الساهر أن يسبر عمق معنى الأعمال التي ينبهر ويفخر بها الإنسان السطحي.

ويتناول إنجيل القديس مرقس موضوع السهر في سياق آخر، يشترك مع مثل البواب الساهر في نقاط عديدة: حادث بستان الزيتون (32:14-42)، حيث يرد الفعل جريجورين مرتين. مرة بالمعنى الحرفي: أتنام؟ ألم تقو على السهر ساعة واحدة؟ (37:14) ومرة بالمعنى الرمزي: اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في تجربة (38:14). وبالتالي يتطلب السهر قوةً، وتأتي هذه، حسب السياق، من الصلاة أي من الله. السهر هو الشرط الأساسي للصلاة وهو، في نفس الوقت، وقاية من السقوط في التجربة. ولكن السهر يتطلب قوة لا يملكها التلميذ. لدينا مثال على السهر. يسوع قرب آلامه: لقد استطاع بالسهر والصلاة التغلب على الخوف والانتقال من النزاع إلى الاستعداد: قوموا ننطلق (42:14أ). الخوف، الذي يقتضي التغلب عليه السهر والصلاة، هو الصليب. إنها تجربة تمس الإيمان: الصليب هو اللحظة التي فيها يبدو أن الله، الذي اتكلنا عليه، يتركنا ويهملنا. عندئذ يجب التحلي بالشجاعة والرؤية الواضحة للتمسك؛ بشدة أكبر، كما فعل يسوع.

الصلاة والسهر شيئان لازمان للإنسان لأن الروح مستعد أما الجسد فضعيف. ينتمي النعت مستعد إلى مفردات السهر بطريقة تتخطى السهر في حد ذاته: إنه يعبر بالإضافة إلى اليقظة، عن الاستعداد. الروح والجسد لا يعنيان مكونات الإنسان، إنهما مجرد إشارة إلى الاتجاهين أو الميلين أو القوتين المتصارعتين. الدافع إلى السهر هو شدة التجربة الواقعة على الإنسان وحاله وضعف الإنسان. هكذا يتخذ الفعل سهر معنىً جديداً. لم يعد معناه فقط الصحيان لاستجماع القوى، وأطراف الشجاعة، إنما يقظة للثقة بالله والتمسك به. عكس السهر هو نوم التلاميذ (37:14و40و41)، لأن النعاس أثقل عيونهم (40:14). إنه عبء ثقيل، لم يستطيعوا مقاومته. إنها قدرة الله وحده القادرة أن تجعل من الإنسان النائم إنساناً يقظاً

عن مجلة صديق الكاهن