البابا يزور المجمع اليهودي وكنيسة القديس يوسف في نيويورك
قام البابا بندكتس السادس عشر مساء أمس الجمعة بزيارة لمجمع إيست بارك اليهودي بنيويورك، حيث التقى الحاخام أرثور شنيير. بعدها توجه الحبر الأعظم إلى كنيسة القديس يوسف حيث عُقد لقاء مسكوني مع ممثلين عن باقي الكنائس. عن هذين الحدثين حدثتنا الزميلة جمال ورد من نيويورك في التقرير التالي:
كلمة البابا خلال اللقاء المسكونيّ في كنيسة القدّيس يوسف
نيويورك، 19 أبريل 2008 (Zenit.org)
ننشر فيما يلي الكلمة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر خلال اللقاء المسكونيّ في كنيسة القدّيس يوسف.
أيّها الإخوة والأخوات في المسيح
يغمر قلبي شكر كبير لله القدير – أب الجميع، الذي هو فوق الجميع، وبالجميع وفيالجميع" (أفسس 6:4) – على هذه الفرصة المباركة للاجتماع بكم هذا المساء للصلاة. أشكر الأسقف دنيس ساليفان على ترحيبه القلبيّ، وأُحيّي بحرارة كلّ الحاضرين الذين يُمثّلون الجماعات المسيحيّة في كلّ الولايات المتّحدة.
ليكن سلام الرّبّ مُخلّصنا معكم أجمعين! دعوني أُعبّر من خلالكم عن تقديري الصادق للعمل الذي لا يُثمّن والذي يقوم به جميع الملتزمين بالعمل المسكونيّ، من المجمع الوطنيّ للكنائس، والكنائس الكاثوليكيّة، وأمانة سرّ مجلس الأساقفة الكاثوليك للشؤون المسكونيّة بين الأديان، وغيرها. إنّ مساهمة المسيحيّين في الولايات المتّحدة في الحركة المسكونيّة ملموسة في العالم بأسره.
أُشجّعكم جميعاً على المواظبة، بالاتّكال دوماً على نعمة المسيح المرتفع الذي نبذل أنفسنا لخدمته بحمل "إطاعة الإيمان لأجل اسمه" (روما 5:1). لقد استمعنا منذ قليل إلى نصّ الإنجيل الذي يُطلق فيه بولس – "السجين في الرّبّ" – دعوته الغيورة للجماعة المسيحيّة في أفسس. ويكتب: "أُناشدكم أن تسلكوا سلوكاً يليق بالدعوة التي إليها دُعيتم … مُجتهدين أن تُحافظوا على وحدة الروح برابطة الوفاق" (أفسس 4: 1-3).
وبعد ابتهاله المتّقد من أجل الوحدة، يُذكّر بولس سامعيه بأنّ يسوع قد منح الرجال والنساء، بصعوده إلى السماوات، كلّ المواهب اللازمة لبنيان جسد المسيح (راجع أفسس 4: 11-13). لا يزال صدى عظة بولس يُدوّي بالقوة نفسها اليوم. تطبع كلماته الثقة في نفوسنا بأنالرب لن يتخلّى عنا أبداً في بحثنا عن الوحدة. كما تدعونا إلى العيش بطريقة تحملالشهادة "إلى القلب الواحد والنفس الواحدة" (أعمال الرسل 32:4) التي لطالما كانتالعلامة المميزة لحياة الشرِكة المسيحيّة (راجع أعمال الرسل 42:2)، والقدرة التي تجذب الآخرين للانضمام إلى جماعة المؤمنين ليتمكّنوا بذلك هم أيضاً أن يُشاركوا في "غنى المسيح الذي لا يُحدّ" (أفسس 8:3 ، راجع أعمال الرسل 47:2 ، 14:5). لقد وازنت العولمة البشريّةَ بين قُطبين.
من الجهة الأولى، هناك حسّ متنامٍ بالترابطوالثقة المتبادلين بين الشعوب التي هي – جغرافيّاً وثقافيّاً – بعيدة عن بعضها البعض. هذا الوضع الجديد يُوفّر القدرة على تعزيز حسّ التضامن العالميّ والمسؤولية المشتركة عن خير البشر. من الجهة الأخرى، لا نستطيع إنكار أن التطورات السريعة التي تحدث في عالمنا تُشكّل بعض العلامات المزعجة للانقسام والعودة إلى الفرديّة. إذ أدى الاستعمال المتزايد للاتصالات الالكترونية، في بعض الأحيان بطريقة مُتناقضة، إلى عُزلةٍ أكبر. لذلك يسعى العديد – بما فيهم الشبان – إلى أشكال مجتمع أكثر أصالة.
وأكثر ما يُقلق هو انتشار إيديولوجية عولمة تُقوّض لا بل تنبذ الحقيقة الفائقة. وكثيراً ما تتساءلالنزعات الثقافيّة الموجودة بكثافة في النشاط الجامعي، ووسائل الإعلام، والنقاشالعام، عن احتمال الوحي الإلهي والإيمان المسيحي. لهذه الأسباب، إن الشهادةالمُخلصة للإنجيل ضرورية أكثر من أي وقتٍ مضى. كما يجب على المسيحيين أن يكونوا دائماً مُستعدين لتقديم جواب مُقنع عن سبب الرجاء الذي في داخلهم (راجع 1 بطرس15:3).هناك الكثير من غير المسيحيين الذين يرتبكون حول رسالة الإنجيل نفسها إذ يرون انقسام الجماعات المسيحية.
تتغير المعتقدات المسيحية الأساسية أحياناً ضمن الجماعات بفعل ما يُسمى "بالأعمال النبويّة" المبنية على تفسير لا ينسجم دائماً مع حقائق الكتاب المقدس والمعتقدات. وهكذا تتخلى الجماعات عن محاولة العمل كجسم موحد، وعوضاً عن ذلك، فإنها تختار العمل وفقاً لفكرة "الاحتمالات المحليّة".
وتضيع في هذه العملية الحاجة إلى حياة الشركة الزمنية – المشاركة مع الكنيسة في كل زمن – في الوقت عينه الذي يخسر فيه العالم معانيه ويحتاج إلى شهادة مُشتركة مقنعة لقدرة الإنجيل المخلّصة (راجع روما 1: 18-23). أمام هذه المصاعب، علينا أولاً أن نُذكّر بأن وحدة الكنيسة تنبع من الوحدة المطلقةلله الثالوثي. في إنجيل يوحنا، قيل لنا أن يسوع صلى لأبيه من أجل أن يكون تلاميذهواحداً "كما أنك أنت فيّ وأنا فيك" (يوحنّا 21:17).
ويعكس هذا المقطع القناعة الراسخة لدى الجماعة المسيحية الأولى بأن وحدتها تعكس وحدة الآب والابن والروح القدس وتنتج عنها. وهذا بدوره يقترح أن تماسك المؤمنين الداخلي كان مبنياً على الوحدة السليمة لعقيدتهم المذهبية (راجع 1 تيموتاوس 1: 3-11). ونجد في العهد الجديد أن الرسل قد دُعيوا مراراً لتقديم جواب عن إيمانهم لغير اليهود (راجع أعمال الرسل 17: 16-34) ولليهود معاً (راجع أعمال الرسل 4: 5-22 ، 5: 27-42).
وكان جوهر نقاشهم الدائم الواقعَ التاريخي لقيامة المسيح بالجسد من القبر (أعمال الرسل 24:2،32 – 15:3 – 10:4 – 30:5 40:10 – 30:13 ) ولم تعتمد فعالية تبشيرهم المطلقة على "الكلام الرفيع" أو "الحكمة البشرية" ( 1 كورنتس 13:2) لا بل على وحي الروح (أفسس 5:3) الذي ثبّت شهادة الرسل الجازمة (راجع 1 كورنتس 15: 1-11).
وكان تبشير بولس والكنيسة آنذاك يرتكز فقط على يسوع المسيح دون غيره، "هو الذي صُلب" (1 كورنتس 2:2). ولكن، كان يجب ضمان هذا الإعلان بصفاء العقيدة النموذجية التي عُبِّر عنها في الصيغة العقائدية والتي أظهرت جوهر الإيمان المسيحي وشكلت الأساس لوحدة المعمدين (راجع 1 كورنتس 15: 3-5 ، غلاطية 1: 6-9).
أصدقائي الأعزاء، لم تفقد قدرة التبشير أيّاً من دينامكيتها الداخلية. وعلى الرغم منذلك، يجب أن نسأل أنفسنا إذا ما قد ضعفت قدرته الكاملة بمقاربة نسبية للعقيدةالمسيحية مُشابهة لتلك الموجودة في إيديولوجيات العولمة التي، بادعائها أنّ العلموحده "موضوعيٌّ"، تُبعد الدين بالكامل إلى الدائرة الذاتية للمشاعر الفردية. إنالاكتشافات العلمية وتطبيقها من خلال الإبداع البشري تُقدم دون شك إمكانياتجديدة لإصلاح البشرية. ولكن هذا لا يعني أن "المعلوم" محدودٌ بما هو قابل للإثباتتجريبياً وليس الدين أيضاً محصوراً بالحقل المتحول "للتجربة الشخصية".
إن قَبل المسيحيّون بهذا التفكير الخاطىء، يكونوا قد اتبعوا فكرة أن هناك حاجة بسيطة للتشديد على الحقيقة الموضوعية في تقديم الإيمان المسيحيّ، واعتمدوا أن الحاجة الأكبر تكمن في اتباعهم أفكارهم الخاصة واختيارهم جماعة تناسب أذواقهم الشخصية. وتظهر النتيجة في الانتشار المستمر للجماعات التي كثيراً ما تتجنب التركيبات العُرفية وتُقلّص أهمية المحتوى العقائدي للعيش المسيحي. حتى مع الحركة المسكونية، قد يُقاوم المسيحيون التأكيد على دور العقيدة خوفاً منهمأنها قد تزيد الألم فقط عوضاً عن شفاء جروح الانقسامات. على الرغم من ذلك، فإن شهادةً واضحة ومُقنعة على الخلاص الذي مُنحنا إياه بيسوع المسيح، يجب أن تبنى على فكرة التعليم الرسولي النموذجي: تعليم يُركز في الواقع على كلمة الله الموحاةويُغذي حياة المسيحيين المقدسة اليوم.
فقط "بالتمسك الثابت" بالتعاليم السليمة (2 تسالونيكي 15:2 – راجع الرؤيا 2: 12-29)، نصبح قادرين على مُجابهة التحديات التي تواجهنا في عالمٍ مُتطور. وفقط بهذه الطريقة، نُقدم شهادة غير مُلتبسة لحقيقة الإنجيل وتعليمه الأخلاقي.
هذه هي الرسالة التي ينتظر العالم سماعها منّا. شأننا شأن المسيحيين القدامى، تقع على عاتقنا مسؤولية تقديم شهادة شفافة عن "أسباب رجائنا" لكيما تنفتح أعين الرجال والنساء الصالحين ليروا أن الله قد أظهر لنا وجهه (راجع 2 كورنتس 3: 12-18) ومنحنا معرفة حياته الإلهية من خلال يسوع المسيح.
هو وحده رجاؤنا! لقد أظهر الله حبه لجميع الشعوب من خلال سر آلام ابنه وموته، ودعانا إلى الإعلان بأنه حقاً قام، وجلس عن يمين الآب، و"سيأتي بمجدٍ عظيم ليدين الأحياء والأموات" (قانون الإيمان). فلتُلهب كلمة الله، التي سمعناها هذا المساء، قلوبنا بالرجاء على طريق الوحدة (راجعلوقا 32:24). ولتكن هذه الصلاة العامة مثالاً لأهمّيّة الصلاة في الحركة المسكونيةلأنّه من دونها تُحرم المؤسسات والبرامج المسكونية من قلبها وروحها.
ولنشكر الله الكلي القدرة على التقدم الذي حصل من خلال عمل روحه، كما نُعبر عن شكرنا للتضحيات الشخصية التي بذلها كثيرٌ من الحاضرين ومن الذين سبقونا الى الحياة الأبدية. باتباع خطاهم، و بثقتنا بالله وحده، أنا واثق – بالاستعانة إلى كلمات الأب بول واتسن –بأننا سنُحقق "وحدة الرجاء، ووحدة الإيمان، ووحدة المحبة" التي بامكانها وحدها أن تُقنع العالم بأن يسوع المسيح هو الذي أرسله الآب لخلاص الجميع. وشكراً لكم جميعاً.
نقلته من الإنكليزية إلى العربية غرة معيط – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.
عظة بندكتس السادس عشر في كاتدرائية القديس باتريك
نيويورك، السبت 19 أبريل 2008 (Zenit.org).
ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها قداسة البابا بندكتس السادس عشر خلال القداس الذي احتفل به مع الكهنة والمكرسين في كاتدرائية القديس باتريك صباح اليوم في نيويورك.
***
أيها الإخوة والأخوات في المسيح، بعاطفة كبيرة في الرب، أحييكم جميعاً، من أساقفة وكهنة وشمامسة ورجال ونساء في الحياة المكرسة، وإكليريكيي الولايات المتحدة. أشكر الكاردينال إيغان على كلمات الترحيب والتمنيات الحارة التي أعرب لي عنها باسمكم في بداية السنة الرابعة من حبريتي. يسعدني أن احتفل بهذه الذبيحة معكم، أنتم الذين اختاركم الرب، ولبيتم الدعوة، وكرستم حياتكم للسعي وراء القداسة، نشر الإنجيل، وبناء كنيسة الإيمان، الرجاء والمحبة. كيف لنا أن لا نفكر – ونحن مجتمعون في هذا الكاتدرائية – بالأعداد التي لا تحصى من الرجال والنساء الذين سبقونا، وعملوا في سبيل نمو الكنيسة في الولايات المتحدة، وتركوا لنا ميراثاً من الإيمان والعمل الجيد؟ في القراءة الأولى رأينا كيف أنه، بقوة الروح القدس، خرج الرسل من العلية ليبشورا بعمل الله لكل أمة ولسان.
في هذا البلد، لطالما اجتذبت رسالة الكنيسة أناساً "من كل أمة تحت السماء" (راجع أعمال 2/5) في اتحاد روحي، وأغنت جسد المسيح بمختلف هباتهم. وبينما نشكر الله على البركات السابقة ونتطلع الى تحديات المستقبل، فلنسأله تعالى نعمة عنصرة جديدة للكنيسة في أمريكا. فلتحل ألسنة النار، الجامعة بين محبة الله والقريب والاندفاع لنشر ملكوت المسيح، على جميع الحاضرين!
في قراءة هذا الصباح الثانية، يذكرنا القديس بولس بأن الاتحاد الروحي – الاتحاد الذي يغني الاختلاف – يجذ جذوره ومثاله الأسمى في حياة الإله الثالثوث. وكشراكة محبة صافية وحرية لا متناهية، يخلق الثالثوث الأقدس باستمرار حياة جديدة في عمل الخلق والخلاص. الكنيسة "كشعب توحد بوحدة الآب والإبن والروح القدس" (نور الأمم، 4)، مدعوة الى إعلان هبة الحياة، الى خدمة الحياة، والى تعزيز ثقافة الحياة. هنا في هذه الكاتدرائية، نعود تلقائياً بتفكيرنا الى الشهادة البطولية للإنجيل التي قدمها الكرادلة كوك وأوكونور.
على إعلان الحياة، والحياة بوفرة، أن يكون قلب التبشير الجديد. لأن الحياة الحقيقية – خلاصنا – توجد فقط في المصالحة، الحرية والمحبة، هبات الله الثمينة. هذه هي رسالة الرجاء التي دعينا لإعلانها وتجسيدها في عالم يكاد فيه الحب الذاتي، الطمع، العنف والسخرية، يخنقون نمو النعمة الهش في قلوب الناس. لقد فهم القديس ايريناوس بأن الوصية التي أعطاها موسى لشعب إسرائيل "اختاروا الحياة!"، كانت علة طاعتنا لوصايا الله. ربما قد مال نظرنا عن ذلك: في مجتمع باتت فيه الكنيسة قانونية ومؤسساتية لعدد كبير من الناس، يكمن التحدي الكبير الذي نواجهه، في نقل الفرح النابع من الإيمان ومن خبرة محبة الله. يسعدني كثيراً أننا التقينا في كاتدرائية القديس باتريك. فهذا المكان – وربما أكثر من اي مكان آخر في الولايات المتحدة – معروف بأنه "بيت صلاة لجميع الشعوب" (أشعيا 56/7). في كل يوم يدخل آلاف الرجال والنساء والأطفال بابها ليجدوا السلام داخل جدرانها.
إن رئيس الأساقفة جون هيوز الذي – كما ذكّرنا الكاردينال إيغان – كان مسؤولاً عن بناء هذا المبنى الموقر، وأراده في أسلوب الفن الغوطي. أراد أن تذكّر هذه الكاتدرائية الكنيسة الشابة في أمريكا بالتقليد الروحي العريق الذي ترثه، ولتقوم بكل ما بوسعها لبناء جسد المسيح في هذه الأرض.أود أن ألفت انتباهكم الى بعض الرموز في هذه الهيكلية الجميلة، والتي برأيي قد تساعد كنقطة انطلاق للتأمل بدعوتنا الخاصة في وحدة الجسد السري.
أولاً النوافذ الزجاجية التي تملأ الداخل بنور سري. هذه النوافذ من الخارج سوداء وحالكة وملطخة، ولكن متى دخلنا الكنيسة، نشعر بأنها حية، ويظهر رونقها من خلال النور الذي يخترقها. عدد كبير من الكتاب – كـ نتانيل هوثورن في أمريكا – استعملوا صورة الزجاج الملطخ ليصفوا سر الكنيسة ذاتها. فقط من الداخل، من خبرة الإيمان والحياة الكنسية، يمكننا رؤية حقيقة الكنيسة: مفعمة بالنعمة، ومشعة بالجمال ومزدانة بعطايا الروح القدس. نحن الذين نعيش حياة النعمة داخل الكنيسة، مدعوون لاجتذاب جميع الناس للغور في سر النور.
هذه ليست بالمهمة السهلة في عالم يميل الى النظر الى الكنيسة، كالزجاج الخارجي الملطخ، من الخارج: عالم تنقصه الروحانية، ويجد صعوبة في الدخول في سر الكنيسة. ولكن حتى بالنسبة لمن منا داخل الكنيسة، قد يشح نور الإيمان بسبب الروتين، ويُظلِم بهاء الكنيسة بسبب خطيئة وضعف أعضائها، وقد يسيطر عليها التعتيم بسبب العقبات التي تعترضها في مجتمع يبدو وكانه في بعض الأحيان ينسى الله، ويغفل عن أبسط المسائل في الأخلاق المسيحية. أنتم، الذين كرستم حياتكم للشهادة لمحبة المسيح ولبناء جسده، تعرفون من احتكاكم اليومي مع العالم، كم من السهل في بعض الأحيان الوقوع في تجربة الاستسلام للإحباط وخيبة الأمل وحتى التشاؤم بشأن المستقبل. بكلمة، ليس من السهل أن نرى دائماً نور الروح، وبهاء الرب القائم الذي ينير حياتنا ويجدد فينا الرجاء بانتصاره على العالم (راجع يوحنا 16/33). غير أن كلمة الله تذكرنا بأننا، بالإيمان، نرى السموات تنفتح، ونعمة الروح القدس تنير الكنيسة وتجلب الرجاء الحقيقي لعالمنا.
"أيها الرب – يرنم صاحب المزمور – أرسل روحك فيخلقون، وتجدد وجه الأرض" (مزمور 104/30). هذه الكلمات تناجي الخلق الاول، عندما كان روح الرب يرفرف فوق الغمر (تكوين 1/2). وهكذا نتطلع نحو الخلق الجديد، في العنصرة، عندما يحل الروح القدس على الرسل ويؤسس الكنيسة كأولى ثمار البشرية المخلَّصة (راجع يوحنا 20/22-23). هذه الكلمات تستجمعنا في إيمان أعمق من أي وقت مضى، بقوة الله الأزلية في تحويل كل حالة بشرية، لخلق الحياة من الموت، ولإنارة أحلك الظلمات. هذه الكلمات تجعلنا نفكّر بعبارة أخرى رائعة للقديس إيريناوس: "حيث تكون الكنيسة، هناك روح الله؛ وحيث يكون روح الله، هناك تكون الكنيسة وملء النعمة".
هذا يقودني الى مزيد من التفكير في بنية هذه الكنيسة. فكسائر الكاتدرائيات الغوطية، هيكليتها معقدة، ولكنها بدقة وانسجام ترمز الى وحدة خليقة الله.
غالباً ما كان الفنانون في القرون الوسطى يصورون المسيح، كلمة الله المبدعة، كعالم هندسة سماوي، بيده البوصلة، ويحكم الكون بحكمة لا متناهية. ألا يذكرنا ذلك بالحاجة الى النظر الى كل شيء بعين الإيمان، وبفهم الأشياء على حقيقتها، في وحدة مخطط الله الأزلي؟ وهذا يتطلب كما نعلم، ارتداداً مستمراً، والتزاماً في اعتناق "طريقة تفكير روحية جديدة" (أفسس 4/ 23). كما ويتطلب ذلك أيضاً تنمية تلك الفضائل التي تؤهل كل واحد منا على النمو في القداسة وإعطاء الثمار الروحية في حياتنا الخاصة.
أليس هذا التحول الفكري ضروري كارتداد أخلاقي في نمو إيماننا، وتمييزنا لعلامات الأزمنة، وإسهامنا الخاص في حياة الكنيسة ورسالتها؟
أعتقد أنه بالنسبة لنا جميعاً، إحدى أهم خيبات الأمل التي تبعت المجمع الفاتيكاني الثاني – مع دعوتها لمشاركة أكبر في رسالة الكنيسة في العالم – هو خبرة الإنقسام بين مختلف الفرق، مختلف الأجيال ومختلف الأعضاء في نفس العائلة الدينية. ولا يسعنا أن نمضي قدماً إلا إذا حولنا نظرنا جميعاً صوب المسيح! على ضوء الإيمان، سنكتشف الحكمة والقوة اللازمتين لانفتاح أنفسنا على وجهات نظر قد لا تتفق بالضرورة مع الأفكار والافتراضات الخاصة بنا. وهكذا يمكننا أن نقيّم وجهات نظر الآخرين، سواء كانوا أصغر أو أكبر منا سناً ، وفي نهاية المطاف الإصغاء الى "ما يقوله الروح" لنا وللكنيسة. بهذه الطريقة سننطلق معاً نحو ذلك التجدد الروحي الذي أراده المجمع، تجدد لا يمكنه إلا أن يعزز الكنيسة في تلك القداسة والوحدة التي لا غنى عنها من أجل إعلان الإنجيل بفعالية في عالم اليوم.
أليست وحدة النظرة هذه – المتجذرة في إيمان وروح الارتداد والتضحية الذاتية المستمرة – السر لنمو الكنيسة المذهل في هذا البلد؟ لا يمكننا إلا أن نذكر الإنجاز الملحوظ الذي قام به الكاهن الأمريكي، الموقر مايكل ماكغيفني، الذي قاده حماسه الى تأسيس فرسان كولومبوس، والميراث الذي تركته أجيال من المكرسين والكهنة الذين – بصمت – كرسوا حياتهم لخدمة شعب الله في عدد لا يحصى من المدارس والمستشفيات والرعايا.
هنا، وفي سياق حاجتنا للمعنى الذي يعطيه الإيمان، وللوحدة والتعاون في العمل لبناء الكنيسة، أود أن أتحدث لبرهة عن التحرش الجنسي الذي تسبب بالأذى الكبير. وقد سبق وتسنى لي أن أتحدث عن هذا الموضوع وعن الضرر الناجم عنه في جماعة المؤمنين. أود أن أؤكد لكم أيها الكهنة والمكرسين الأعزاء، على قربي الروحي بينما تسعون الى الإجابة برجاء مسيحي على التحديات المستمرة التي يمثلها هذه الوضع. أنضم إليكم في الصلاة ليكون هذا الوقت زمن تنقية لكل كنيسة وجماعة دينية، وزمن تضميد للجراح.
أشجعكم على التعاون مع أساقفتكم الذين لا يزالون يعملون بفعالية لحل هذه المشكلة. فليهب ربنا يسوع المسيح الكنيسة في أمريكا معنى جديداًَ من الوحدة والمعنى، بينما يمضي الجميع – من أساقفة وإكليروس ومكرسين وعلمانيين – قدماً في الرجاء، والمحبة للحق ولبعضهم البعض. أيها الأصدقاء الأعزاء، هذه الاعتبارات تقودني الى ملاحظة أخيرة حول هذه الكاتدرائية العظيمة. إن وحدة الكاتدرائية الغوطية، كما نعلم، ليست الوحدة الساكنة لمعبد كلاسيكي، وإنما وحدة تنبثق عن دينامية قوى مختلفة، تدفع هذه البنية نحو الأعلى، صوب السماء.
هنا ايضاً، نرى رمز وحدة الكنيسة، التي هي – كما قال القديس بولس – وحدة جسد حي يتكون من أعضاء كثيرة مختلفة، لكل واحد منها وظيفته الخاصة. وهنا أيضاً نرى حاجتنا لنعترف بالعطايا التي وهبت لكل عضو من هذا الجسد " لما يظهره الروح من أجل خير الجميع" (1كور 12/7). بالتأكيد، داخل الكنيسة التي نشأت بإرادة إلهية، ثمة تمييز بين عطايا الهرمية وتلك الكاريزماتية (نور الأمم، 4). وان تنوع وغنى النعم التي يمنحها الروح القدس، يدعونا باستمرار لنميز كيف تنتظم هذه العطايا في خدمة رسالة الكنيسة.
أنتم أيها الكهنة الأعزاء، من خلال سر الكهنوت، أخذتم صورة المسيح، رأس الجسد. وأنتم أيها الشمامسة الأعزاء، رسمتم لخدمة هذا الجسد. وأنتم أيها المكرسون والمكرسات الأعزاء، التأمليين والرسوليين معاً، كرستم حياتكم للسير على خطى المعلم الإلهي بمحبة سخية وتفان تام في سبيل الإنجيل. أنتم جميعاً الذين تملأون الكاتدرائية اليوم، وجميع المتقاعدين، والإخوة والأخوات العجزة والمرضى الذين يضمون صلواتهم وتضحياتهم الى أعمالكم، مدعوون لأن تكونوا قوات وحدة في جسد المسيح.
بشهادتكم الشخصية، وأمانتكم للخدمة والرسالة التي أوكلت إليكم، تمهدون السبيل للروح. لأن الروح لا يتوقف أبداً عن منح عطاياه الوفيرة، ليوقظ دعوت ورسالات جديدة، وليقود الكنيسة، كما وعد ربنا في الإنجيل اليوم، الى ملء الحق (يو 16/13). فلنرفع طرفنا الى العلاء! ولنطلب من الروح، بكل تواضع وثقة، أن يؤهلنا للنمو كل يوم في القداسة التي ستحولنا الى حجارة حية في هيكله الذي يبنيه وسط العالم.
وإذا كان لا بد لنا من أن نكون قوات وحدة، فلنكن إذأً أول من يسعى الى المصالحة من خلال التوبة. فلنغفر الأخطاء التي تألمنا بسببها، ولنضع جانباً الغضب والجدل. فلكن أول من يظهر التواضع ونقاء القلب الضروريين للتوجه صوب عظمة حقيقة الله. وفي الأمانة للإيمان المودع للرسل فلنكن شهوداً فرحين لقوة الإنجيل المحولة.
أيها الإخوة والأخوات، وفقاً لتقاليد الكنيسة العريقة في هذا البلد، كونوا ايضاً أول من يصادق الفقراء، المشردين، الغرباء والمرضى والمتألمين. كونوا منارات رجاء، مشعين بنور المسيح للعالم، وشجعوا الشباب ليكتشفوا جمال وهب الذات كلياً لله ولكنيسته. أوجه هذا النداء بطريقة خاصة الى العدد الكبير من الإكليريكيين والمكرسين الشباب الموجودين هنا. إن لكم في قلبي مكانة مميزة.
لا تنسوا ابداً أنكم مدعوون – مع كل الفرح والاندفاع الذي نلتموه من الروح – الى المضي قدماً في ما بدأه آخرون، تراث ستنقلونه يوماً بدوركم الى جيل جديد. اعملوا بفرح وسخاء، لأنكم بذلك تخدمون الرب! إن قبب كاتدرائية القديس باتريك صغيرة أمام عظمة ناطحات السحاب في سماء مانهاتن، ولكن في قلب هذه العاصمة المزدحمة، هذه القبب هي مذكّر حي لتوق الروح الإنسانية الدائم للارتفاع صوب الله.
وبينما نحتفل بهذه الإفخارستيا المقدسة، فلنشكر الرب لأنه أهلنا لمعرفته في شراكة الكنيسة، لنسهم في بناء الجسد السري، وفي نقل كلمته الخلاصية كبشرى سارة لرجال ونساء عصرنا.
وعندما نغادر هذه الكنيسة العظيمة ، فلنمض كمن يبشر بالرجاء في خضم هذه المدينة، وجميع تلك الأماكن حيث وضعتنا نعمة الله. بهذه الطريقة، ستعرف الكنيسة في أمريكا ربيعاً جديداً، وتتجه صوب المدينة العظيمة الأخرى، أورشليم، التي ينيرها الحمل. لأن الرب يعد لجميع الناس وليمة السعادة والحياة الأبدية. آمين
نقله من الإنكليزية إلى العربية طوني عساف – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.

عن موقع إذاعة الفاتيكان
البابا يحتفل بالذبيحة الإلهية في كاتدرائية القديس باتريك بنيويورك