المزمور الخامس: صلاة الصباح

تقديم المزمور

صلاة باكر أو الصباح، يوجّهها البار المضطهد إلى ديّان البشر ليخلّصه من ظلم أعدائه.المزمور الخامس هو مزمور توسّل ينشده المؤمن في ضيقه فيصرخ إلى إلهه ومليكه. يُعبّر المرنم عن حالته التعيسة بسبب فاعليّ الإثم وسافكيّ الدماء (معسكر الشر)، ويتذكّر حالات مماثلة تدخّل الله فيها لصالحه شخصياً ولصالح أحبّائه الذين التجئوا إليه وعرضوا عليه قضيّتهم وألقوا عليه أخمالهم الثقيلة، طالبين حمايته.

تقديم الذبيحة في الهيكل، مسكن الله حسب رغبة داود وطلبة سليمان، يساعد المؤمن على الصلاة، فالهيكل هو المكان الذي يلجأ إليه كل مظلوم ومقهور ومغلوب على أمره، وكأنه يلجأ إلى دار القضاء العالي حيث ويصلي ويرفع شكواه أمام الملك واثق أن شكواه لابد أن تستجاب مهما كان مذنبا أو مظلوماً " إلتفت إلى صلاتي وتضرعي، انا عبدك، أيها الرب إلهي، واستمع تضرعي وصلاتي إليك اليوم. لتكن عيناك مفتوحتين ليلاً نهاراً على هذا الهيكل… (1 ملوك 8: 22-53). فالالتجاء إلى الرب ورحمته سجوداً في الهيكل مع تقديم الذبيحة،  كما اختبر المرنم وجميع المؤمنين، خير من الالتجاء والاعتماد على البشر .

يركز في هذا المزمور على قضية الصراع الأبدي والعَداء المستحكم بين الأمناء للعهد (معسكر الأبرار) ورافضي عهد الله (معسكر الأشرار). وهو صراع قديم قدم الخليقة منذ قائين وهابيل إلى اليوم، لم ولن ينجو منه كائن بشري عاش ويعيش على الأرض. وقد تمثّل هذا الصراع على أشده في كثير من الأبرار والعديد من شخصيات الكتاب المقدس وعلى رأسهم الرب يسوع نفسه، فحياة المسيح وآلامه خير تجسيد لصورة البار المضطهد ظلماً والمفترى عليه بالكذب من أعداءه؛ لكن المسيح لم يتبع أسلوب صاحب المزامير، مطالبًا بالقصاص والانتقام، بل طلب لهم الصفح والغفران " اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون" (لو 23: 24)، وعلّم تلاميذه أن يسيروا وراءه في هذا السبيل، سبيل التسامح والمغفرة " إن لم تغفروا للناس زلاتهم فأبوكم السماوي أيضاً لا يغفر لكم زلاتكم" (مت 5: 44؛ أع 7: 60)، بل جعل من الغفران شرطاً لنوال سماح الله وغفرانه.

 نص المزمور وتقسيمه:

أولاً – صلاة استجارة إلى الرب واحتماء بمن يرى ويسمع وينجي. (1- 4):

2- أصغ يا رب إلى كلامي وتعرف إلى تنهداتي.

3- لصوت استغاثتي استمع يا مليكي، يا إلهي إليك أصلي.

4- في الصباح باكراً تسمع صوتي، وباكراً أتأهب وانتظر.

ثأنياً : استعداء لقوة الرب وحكم الله العادل على الأشرار.(5- 7)

5- إله أنت لا يسره الشر ولا يجاوره أهل السوء؟:

6 –المتباهون لا يقفون أمامك، وتبغض كل من يفعل الإثم.

7–تبيد الناطقين بالكذب، وتمقت السفاحين الماكرين.

ثالثاً: الله يغمر البار بحبّه (8- 9):

8 –وأنا بكثرة رحمتك أدخل بيتك يا رب وبخشوع اسجد لك في هيكلك المقدس.

9 –لكثرة الثائرين عليّ يا رب كن عادلاً وأهدني. أهدني سواء السبيل ويسر أمامي طريق النجاة بمشهد من الثائرين عليّ

رابعاً: وصف المنافقين وعقابهم (10-11)

10– أفواههم لا صدق فيها وبواطنهم تملأها الأهواء حلوقهم قبور مفتوحة وبألسنتهم يتملقون

11 –أحكم عليهم يا الله فيسقطون لمعاصيهم، أخضعهم لكثرة ذنوبهم ولأنهم تمردوا عليك

خأمساً: فرح وبهجة وترنيم عبد الرب الأمين (12-13).

12–فيفرح جميع المحتمين بك وإلى الأبد يرنمون لك، تظللهم فيبتهجون بك لأنهم يحبون اسمك

13 –بارك الأبرار يا رب وأحطهم برضاك كالدرع.

تفسير المزمور

أولاً – صلاة استجارة إلى الرب واحتماء بمن يرى ويسمع وينجي (2- 4):

2- أصغ يا رب إلى كلامي وتعرف إلى تنهداتي:

v   أصغ يا رب إلى كلامي:

يدخل داود في صلاة قلبية عميقة مع ربه وإلهه، يبدأ صلاته بمناجاة ودعاء، وهو واثق أن من يخاطبه في صلاته المبكرة، حاضر ومستيقظ، يسمع ويرى، بل ويعلم أدق التفاصيل، فهو العالم لا بما يجرى أمامه في الهيكل فقط، بل في العالم بأسره. وقضية المرنم، حسب ما نستوعب من خلال النص المقدس، قديمة ومزمنة، لكنها ملحة ومعاصرة بالنسبة إليه ولا تحتمل التأجيل؛ لذلك فقد اتخذ قراره قبل أن ينام، وها هو يستيقظ مبكراً ويشق طريقه إلى هيكل الرب مصلياً لمن يصغي إصغاء المنتبه، وشاكياً لمن يعلم أدق تفاصيل قصته الأليمة وقضيته البالغة الأهمية. لقد فاض الكيل بالمرنم وصارت الأمور أكثر صعوبة وإلحاحا ولا تحتمل التأجيل، لذا فقد قرر طرح قضيته اليوم أمام الهيئة العليا للعدالة الإلهية، فليس هناك يستجيب للصلاة الحارة ولا من يسمع ويحكم بالعدل وينجد المظلوم، سوى ذاك الساكن في هيكله المقدس؛ لذلك يصرخ النبي نحوه صراخا يصعد من الداخل، من خدر القلب.

v   وتعرف إلى تنهداتي:

كلمة "تعرّف إلى" تعني سابق اللقاء والمعرفة، وهذا يعني أن الصراخ والتنهد في صلاة المرنم صارا عادة يومية، لدرجة يمكن للرب أن يتعرف عليه لمجرد سماع تنهيدة واحدة، فيصغي منتبهاً لهذا المصلي المتوجع في تنهده، حيث أن المعرفة والتواصل في مثل هذه النوعية من الصلاة متبادلين؛ المصلي يعرف ويشعر ويؤمن بوجود إله حي حاضر، يسمع ويرى ويحكم بالعدل وينصف… والله يعرف المصلي الواقف أمامه معرفة شخصية كاملة وبطريقة شاملة، أي يعرف مشاكله الخارجية وما يلاقي من صعوبات ممن يلاحقونه ظلماً ويطاردون نفسه، كما يعرفه داخلياً فهو فاحص القلوب والكلى… بهذا لا يخشى المصلى أن يتوجه إلى الرب في مسكن قدسه في الهيكل، أن يلقاه وجهاً لوجه ولا أن يرتمي في حضنه الأبوي، وكأن لسان حاله يقول: باكراً يا رب تسمع صوتي، باكراً أعود فأقف أمامك وأتأهب، ها قد أتيت يا سيدي قارعاً باب تعطفك، أتضرع بانسحاق داخلي، وأصلي طالبا منك اليوم القوة والمعونة، فارحمني يا رب واستمع صلاتي، فليس لي سواك من ملجأ… هلمّ تحنن وليلن قلبك الرءوف على ابنك الذي يصرخ نحوك ويتنهد.

3- لصوت استغاثتي استمع يا مليكي، يا إلهي إليك أصلي:

v   صوت استغاثتي

"صوت استغاثة"، أعمق تعبير عن هذه الصلاة الفريدة الجمال،وهو بالفعل والاسم مزمور استغاثة، فهي تجسيد لما يشعر به المرنم روحياً ونفسياً واجتماعياً بل وجسدياً؛ إنه في حالة دمار شامل،  كيان في وضع استغاثة، لهذا حمل المرنم ذبيحته، وزحف إلى  الهيكل للصلاة وتقديم الذبيحة، وشكوى ظلم الأعداء،لقد صار حالة حرجة تتطلب تدخلاً فورياً وحاسماً، وصارت صلاته عبارة عن  "صرخة استغاثة".

v   فاستمع:

"استمع " السماع بالأذن فقط، أما الاستماع فهو الإصغاء بالكيان كاملاً. ما أوقعها من استغاثة وما أعذبه من نداء ويا له من تأثير على قلب الله الآب ،  استمع إلى صرختي يا رب، لا بأذنيك فحسب بل بكيانك الإلهي كله لاسيما قلبك الحنون…داود هنا لا يطلب رحمة أو عدلاً وإنصافاً فحسب، بل يطمع فيما هو أعظم، إنه يريد تفهماً وحباً وحناناً، يا له من دلال بنين على أبيهم!!!

v   يا مليكي:

برغم معرفته وإيمانه بوجود ملك واحد ورب واحد للجميع وهو الله، نسمع المرنم يتوجه باستغاثته، ليس إلى مجرد ملك يجلس بعيداً على عرشه في السماء ولا يدري عن أحوال رعاياه شيئاً، بل في دلال الصراخ ونحيب العجز والهوان، يوجه صلاته نحو  شخص حي، يشعر بحضوره شخصياً، لذلك لا يدعوه ملكاً فحسب بل مليكه، وكأنه بالرغم من وجود ملك وإله واحد ضابط الكل، إلا أن هناك إله وملك خاص به هو شخصياً، حاضر دوما ليسمعه، بل يتابع قضيته ويرثي لحاله، وكأنّه طبيبه الخاص، بل هو وحده العالم بأدق تفاصيل جراحه وآلامه.

v   يا إلهي إليك أصلي:

حين نشعر بالخطر نصرخ غريزياً إلى الأب والأم، لكن داود ي في فزعه واضطرابه، علمنا اليوم شيئاً جديداً، شيئاً يفوق الغرائز ويتسامى عن ردود الفعل الطبيعي، إنه يصرخ مستغيثاً بربه وإلهه، لأنه يعرف جيداً " إن أبي وأمي قد تركاني أما الرب فقبلني". ويعلم أن أباه السماوي يلبي فوراً جميع طلباته لاسيما حين يصرخ فيسرع الآب السماوي لنجدته.وكأنه يستلهم قول يسوع " فأي أب منكم إذا طلب منه ابنه سمكة أعطاه بدل السمكة حية أو طلب منه بيضة أعطاه عقرباً؟( لو11:11)!.

4- في الصباح باكراً تسمع صوتي، وباكراً أتأهب وانتظر:

v   الصباح باكراً تسمع صوتي:

جاء المرنم مبكراً إلى رواق الهيكل، وسجد هناك بخشوع في الفجر أو ساعات الصباح الأولى وأكثرية الناس نيام ، ولهذا سماها الآباء " صلاة الصباح" وهكذا نستخدمها في " الأجبية" صلاة  السواعي  في طقسنا القبطي. لقد وجّه نظره وقلبه وصلاته للرب ساكن الهيكل وهو يهيئ الذبيحة التي سيقدّمها ، فالنبي الممسوح لا يتكّل على ذاته وإمكاناته ولا على ذراع بشر، بل على الربّ الذي اختاره وكرّسه، وهو يعلم أنه لن يتخلّى عنه ولن ينسى أعماله معه في الماضي.

v   وباكراً أتأهب وانتظر:

وهو إذ يصلي ويقدم الذبيحة الروحية والفعلية لاسيما ذبيحة الشفتين أي الصلاة الحارة في هذه الساعة المبكرة من النهار، " كلت عيناي من انتظار الرب" و "انتظاراً انتظرت الرب والى الموت لم يسلمني" يتأهب وينتظر فما عسا ينتظر ولماذا يتأهب؟ إنه ينتظر عمل الله في حياته، ينتظر ظهوره لنصرة الحق، وانتقامه من خصومه الظالمين، إنه ينتظر الخلاص بانقشاع الظلم وتبدد كل أطياف الظلام وانتصار الحق وعودة العدل.باختصار شديد، كأنه في ظلمة القبر ينتظر فجر القيامة.

ثأنياً : استعداء لقوة الرب حكم الله العادل على الأشرار.(5- 7)

5- إله أنت لا يسره الشر ولا يجاوره أهل السوء؟:

v    أنت إله لا يسره الشر:

هناك من يؤمن بآلهة الشر أو تلك الآلهة التي تفرح بالشر وتساعد على إيقاعه بالبشر، وهي تلك التي يتعامل معها أصحاب " معسكر الشر" فيستخدمونها ويلجئون إليها ويتدنسون بها، في عبادة الأصنام والتبرك بالتمائم وتقديم الذبائح النجسة، ومازال الأمر معاصراً فمن منا لم يسمع عن "عبدة الشيطان"  أما المرنم والمؤمنون بالله على مر العصور فيعرفون مع من يتعاملون مع القدوس الذي يكره الشر ولا يستطيع فاعلو الشر حتى الاقتراب منه.وداود المرنم يصلي لصانع الخيرات وحده الذي في الخير مسرته ورضاه.

v   ولا يجاوره أهل السوء:

يدعوه المرنم بصفة جديدة و اسم يخصه وحده " غير المقترب منه بالشر" فحيث أنه إله النور فهو لا يعرف الظلام، وبما أنه هو إله الخير فلن يجرأ الشر بآلهته وأتباعه الأشرار على الاقتراب منه أو الوقوف أمامه أو حتى الدنو من مقدسه.وبالتالي فالأبرار الذين يلتصقون بالله ويلجئون إلى هيكله المقدس، يحيون في أمان " الساكن في ظل العلي في ظل القدير يبيت". يا له من منطق رائع .

6 – المتباهون لا يقفون أمامك، وتبغض كل من يفعل الإثم.:

v   المتباهون:

يواصل المرنم تقديم الصفات الخاصة بملكه وإلهه حتى يطمئن قلبه شخصياً، ولكي يعرف الناس إلى من لجأ. فإلهه على عكس كل الآلهة لا يحب التباهي ولا المتباهين، بل يفضل التواضع والمتواضعين في حضرته الإلهية، ومثل الفريسي والعشّار خير تجسيد لهذا المعنى  فهذا وقف يتباهى" أشكرك اللهم لأني لست مثل سائر الناس الطامعين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار فأنا… أما ذاك فقد وقف بعيداً منحيا لا يجرؤ أن يرفع عينيه نحو السماء بل كان يدق على صدره قائلاً " اللهم اغفر لي انأ الخاطئ وارحمني" فعاد هذا ملطخاً وعاد ذاك مبرراً. فمن يرفع نفسه ينخفض ومن يضع ذاته يرتفع" (لوقا 18: 9-14). والوقوف في حضرة الله يتطلب التواضع والانسحاق فما قيمة الخليقة أمام الخالق ويحسن إبراهيم في شفاعته التعبير عن هذا المعنى " ما بالي أكلم سيدي هذا الكلام وأنا تراب ورماد" (تكوين 18: 16 – 33). فمنذ البدء أحب الله المتواضعين ورفض المتشامخين المتباهين. هو الذي تسبحه مريم العذراء " أنزل الأقوياء عن الكراسي ورفع المتواضعين"( لو2: 52).

v   لا يقفون أمامك:

"يا رب من يقف أمامك من يسكن في موضعك المقدس الطاهر اليدين النقي القلب الذي لا يصنع الشر في قلبه ولا يحلف لقريبه غشاً ولا يقبل الرشوة على البريء"، " انت الذي تقف امامك الملائكة ورؤساء الملائكة تلك هي الصفات والواجبات المطلوبة للوقوف في حضرة الله وهذه هي الكائنات التي يمكن ا، تتواجد في حضرته وهي بالطبع غير متوافرة على الإطلاق في الأشرار أبناء معسكر الشر.

v   وتبغض كل من يفعل الإثم:

لا يقتصر رفض الله للشر على مجرد الرفض النظري المبدئي، بل يصل هذا الرفض إلى مدى أعمق كثيراً لله ككيان نوراني، إلى المستوي العاطفي الكياني، فهو يبغض كل من يرتكب الخطيئة ولا يخالطه من يصنع الإثم، لأن الخاطئ  يخون العهد ويخالف الشرائع  ويلطخ نفسه التي خلقها الله بهية نقية طاهرة على صورته كمثاله، وهو بذلك يطرد روح الله الساكن بداخله.وليس المقصود بالبغض هنا كره للشرير، بل لما يقترفه من آثام وخطايا تعمق الهوة بينه وبين الله.

7 –تبيد الناطقين بالكذب، وتمقت السفاحين الماكرين:

يصل عقاب الله لهؤلاء الأشرار إلى حد الإبادة كما فعل في الطوفان وفي مدينتي سادوم وعامورة، وردة فعل الله لا تكتفي بالرفض والغضب ولا تتوقف على مستوى البغض وعدم التفضيل بل تتجذر في أعماق كيانه إلى درجة المقت أي الرفض المطلق للكذابين لأنهم صاروا أولاداً  لإبليس الكذاب أبو الكذب، ومكروا كأبيهم ومصيرهم الحتمي هو الجحيم والإبادة التامة التي تقضي على وجودهم لا في هذه الحياة فقط بل في الحياة الأبدية أيضاً.

ثالثاً: الله يغمر البار بحبّه (8- 9):

8 –وأنا بكثرة رحمتك أدخل بيتك يا رب وبخشوع اسجد لك في هيكلك المقدس.:

v    وأنا بكثرة رحمتك أدخل بيتك يا رب

يقوم  المرنم مبكراً والناس نيام ويخرج من بيته متوجهاً إلى الهيكل ومعه ذبيحة التقدمة ليصلى بحرارة وخشوع وإيمان عميق ووعي كامل بأنه في حضرة الله الحي القدوس، وبرغم ذلك نراه يشعر بانسحاق عميق يصل لدرجة الإحساس بعدم الأهلية والاستحقاق. وبتواضع يعترف أنه مازال محتاج إلى الكثير من الرحمة " بكثرة رحمتك " ليكون أهلاً لمجرد الدخول إلى الهيكل المقدس، بيت الله ومسكنه.

v    بخشوع اسجد

وحين يجد نفسه في حضرة الله، في مقر قدسه، يشعر بمزيد من الرهبة فيخر ساجدا بخشوع يطلب المزيد من الرحمة… تماماً " كالعشّار"  "أما ذاك فقد وقف بعيداً منحيا لا يجرؤ أن يرفع عينيه نحو السماء بل كان يدق على صدره قائلاً: اللهم اغفر لي انأ الخاطئ وارحمني" (لوقا 18: 13) يقرع صدره لتزايد إحساسه بالضعف وعدم الاستحقاق.

9 –لكثرة الثائرين عليّ يا رب كن عادلاً وأهدني. أهدني سواء السبيل ويسر أمامي طريق النجاة بمشهد من الثائرين عليّ:

v   لكثرة الثائرين عليّ

وإذ يطلب رحمة تؤهله لمجرد الوقوف خاشعاً في حضرة الله، يجد لصلاته العديد من  المبررات والدوافع:  ليس أولها قداسته واستحقاقه الشخصي، بل قداسة الله وعدله.

v   كن عادلاً وأهدني

 وحين يتجرأ ليطالب بالعدالة أمام خصوم  قاموا عليه واتهموه ظلماً وعدواناً، يطلب قبل ذلك أن يهديه الرب إلى الصراط المستقيم وأن ييسر له السير فيه لأنه عالم بأن الطريق ضيق والسير عسير.

v   أهدني سواء السبيل

" لكن ما أضيق الباب وأصعب الطريق المؤدية إلى الحياة وما اقل الذين يهتدون إليها" (متى 7 :14). لذا يصلي إلى الرب أن يهديه الله  إلى هذا الطريق وأن يحفظه للسير فيه دوماً متجنباً التعامل مع الأشرار والاختلاط بهم ومسايرتهم ومجالستهم، وهذا هو طريق الأبرار، كما رأينا في المزمور الأول، طريق النجاة كما يدعوه هنا.

v   ويسر أمامي طريق النجاة بمشهد من الثائرين عليّ

بعد هذا الفيض من النعم المعطاة التي نالها النبي لمجرد وقوفه في حضرة الله، يشعر أنه مؤهل الآن أن يتقدم بالطلب الذي آرق مضجعه وآلمه وأبكاه كثيراً، لقد جاء يطلب من الرب العدل ضد خصومه الظالمين:

*  يطلب من الرب ان يهديه سواء السبيل أن كان قد ضل عنه أو انحرف

* يطلب من الرب ان يسهل له السير في طريقه مهما كانت العثرات والمصاعب

* يطلب من الرب النجاة من الفخاخ التي ينصبها له العدو في كل خطوة

* يطلب من الله العدالة والإنصاف ممن يتهمونه باطلا

* يطلب من الرب أخيراً أن يظهر مجده أمام أعداءهما المشتركين.

رأبعاً: وصف المنافقين وعقابهم (10-11)

10 –أفواههم لا صدق فيها وبواطنهم تملأها الأهواء حلوقهم قبور مفتوحة وبألسنتهم يتملقون:

v   " أفواههم لا صدق فيها "

أمّا أعداء المرنم، وهم أعداء الله في الوقت ذاته، فهم يستحقّون الدينونة القاسية لأنهم أهل نفاق وسفاهة، ناطقون بالكذب لا صدق في أفواههم، وكلامهم معسول ماكر يزرع الفتنة بين الإخوة (أم 6: 16- 17).

v   " وبواطنهم تملأها الأهواء "

والبواطن أي الضمائر لا تملأها مخافة الرب وتقواه بل الأهواء والشهوات.فهم ماكرون، يملأ الفساد قلوبهم، ولا يفكرون سوى في أباطيل العم شهوة العين وشهوة الأذن وتعظم المعيشة.

v   " حلوقهم قبور مفتوحة "

أما الحلق أي البلعوم، فهو متسع كالقبر، مفتوح فاغر، لا يشبع ولا يرتوي من دم الأبرياء الذي يستنزفه. باختصار إنهم كتلة مجسمة من الشر الصافي الذي لم يعرف طريق الخير ولم يلتمسه.

v   " وبألسنتهم يتملقون "

الفم لا يعرف إلا الكذب ولم يعرف طريق الحق والصدق لأنه لا يعرف الله.واللسان التي ميز به الرب الإنسان عن باقي الكائنات كي يسبحه ويمجده ويزيده علواً، يستخدم في أي شيء عكسي آخر  سوى التسبيح والتمجيد.

11 –أحكم عليهم يا الله فيسقطون لمعاصيهم، أخضعهم لكثرة ذنوبهم ولأنهم تمردوا عليك:

وبعد هذه المقدمة البليغة التي توضح طبيعة التناقض والعَداء المستحكم بين الأمناء للعهد والرافضين له. يطالب المرنم الله بتوقيع أقصى العقوبة على الأشرار من أجل اسمه وكرامة أتقيائه بعد أن قاسى الكثير من أعمالهم، ويتقدم  إلى الرب ناصره وحليفه طالبا أن الحكم العادل الذي ينتقم للأبرار ويسقط السفاحين فيتخلص العالم من شرهم. لأن في سقوطهم قيامة وفي خضوعهم انتصار وفي هزيمتهم إعلان لنهاية التمرد على الرب وعلى مسيحه وعلى صديقيه.

خأمساً: فرح وبهجة وترنيم لعبد الرب الأمين (12-13).

12 –فيفرح جميع المحتمين بك وإلى الأبد يرنمون لك، تظللهم فيبتهجون بك لأنهم يحبون اسمك:

ثمرة الحكم على الأشرار هي فرح وانتصار للصديقين. فعقابهم يمثل انتصاراً مزدوجاً لله وللصديقين.

وهو ما نراه ونستشفه في دراما الصراع الأبدي من قائين وهابيل في سفر التكوين، أول أسفار الكتاب المقدس، إلى التنين الرهيب الذي سيصرعه الحمل المنتصر بنفس فمه، في نهاية في سفر الرؤيا حيث ينشد الصدّيقون المنتصرون مع الحمل نشيد الغلبة والخلاص. وفرحهم لن ينزعه أحد منهم لأنه فرح أبدي به يترنمون في كل حين، حيث لن يجاوروا السوء ولن يساكنوا المنافق ولن يضطروا كل يوم للخروج من بيوتهم متوجهين إلى الهيكل ليسبحوا الله، بل سيظلون في حضرته البهية يترنمون ويرتلون ويسبحون بلا توقف او انقطاع في نشيد الخليقة المنتشية بنصر خالقها والفرحة باستتباب ملكوته ومجده.

13 –بارك الأبرار يا رب وأحطهم برضاك كالدرع:

يختتم المزمور بهذا النداء الرائع الذي نصليه كل يوم وتطلبه الكنيسة من مخلصها وفاديها ذلك الديان العادل، ذلك الفادي والمخلص، ذلك المنتصر والممجد.باركنا يا الله واحتضنا بذراعك القوية فنشعر بالأمن والأمان ونحيا في الفرح والسلام إلى أن نلقاك فنستريح فيك على البد وتشرق علينا بنور وجهك فلا نخشى شيئاً.

كيف عاش الرب يسوع  المسيح هذا المزمور؟:

نستطيع القول أن المزمور ينطبق على حياة الرب يسوع، وقد فسّره آباء الكنيسة بطريقة مسيانية فجعلوا كلماته تطابق حياة المسيح وكلامه وها نحن نرى شخص الرب يسوع:

       وقد تمثّل ذلك في حياة المسيح وآلامه فهو الذي استحار بالله ابيه عبر تنهدات وآلام لا مثيل لها. لكن المسيح لم يتبع صاحب المزامير طالبًا القصاص لأعدائه، بل طلب لهم الغفران (لو 23: 24)، وعلّم تلاميذه أن يسيروا وراءه في هذا السبيل (مت 5: 44؛ أع 7: 60).

       عندما نتوقّف على موضوع الظلم وشهادات الزور على أحباء الله، نتذكّر يسوع الذي خانه أهله وتخلى عنه أصحابه وأنكره تلاميذه، وافترى عليه خاصته وأبناء شعبه.

        فانتظر واثقاً أن يظهر الله الآب براءته من كل ما نسب إليه. وفي الصباح الباكر في فجر أحد القيامة، حيث كان المسيح يرقد في القبر منتظراً جواب الآب له عبر النور والفرح جاْءته الاستجابة المجيدة حيث أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت ومنتصراً إلى الأبد لا لنفسه فقط بل لكل الذين يؤمنون به.

       من خلال حياته وموته وقيامته قدم يسوع النموذج الحي لكل البشر على مر التاريخ.

كيف نعيش هذا المزمور في حياتنا كمسيحيين؟:

لا جدال على أن هذا المزمور هو أيضا تجسيد للطوبى التي يحياها المسيحي الحقيقي:

       نتعلم من هذا المزمور البديع ، الذي اختارته لنا الكنيسة في صلاة باكر أن نبكر إلى الرب وأن نصلي بدموع وتنهد وثقة بنصر الرب مهما كان العدو قوياً ومهما كان الظلام حالكاً. الكنيسة وكلها رجاء بالقيامة والخلاص والعبور من الموت إلى الحياة… تصلي هذا المزمور إلى الله حارسها وراعيها كي يظلّل عليها ويحميها. ونحن أبناء الله أبناء الكنيسة والله يعتني بنا ويسهر علينا.

       نحن المؤمنون نتعلم  أن نصلّي من أجل أعضاء شعب الله المضطهدين (أع 9: 4)، ولكنّنا لا نطلب أن يحلّ قصاص بالقوى المعادية للرب، بل نطلب لهم الغفران وفشل كل مخطّطات الشر التي فتبطل قوتها بانتظار أن يزول الزؤان من القمح ويُجمع الحب في أهراء الرب (مت 13: 36- 43).

       والمؤمن الذي يصلّي هذا المزمور، يتذكّر إخوته الذين يقاسون الاضطهاد في أماكن كثيرة في العالم، وكلّنا إخوة في الكنيسة الواحدة، وهو يصلّي لتفشل قوى الشر في مشاريعها ضد شعب الله، وتُجازي جزاء الربّ على حسب ما جاء في سفر الرؤيا (18: 5- 6) عن روما، بابل الجديدة التي تكدّست خطاياها في السماء، وتذكّر الله شرورها. عاملوها بمثل ما عاملتكم وضاعفوا لها جزاء أعمالها.

       حين يلجأ المرنم إلى الهيكل ليجد فيه الملاذ الأخير  يعلّمنا كيف نضع ثقتنا بالرب، الذي يقود خطانا بعناية فائقة كما يقود الراعي خرافه إلى بأمان إلى الحظيرة، وكما يرسي الملاّح بسفينته في مرفأ آمن برغم الأخطار.. فهكذا يلجأ الإنسان المسيحي إلى الهيكل، إلى الديّان الإلهي، صاحب الحقّ والعدل، فيفتح له باب هيكله، ويحيطه برحمته ويرشده، ويسهّل له طريقه.

       الكنيسة التي هي نحن المؤمنون تصلّي هذا المزمور صباحاً من أجل جميع  أعضاءها،  وتطلب من الرب أن يهديهم سواء السبيل ويبعد عنهم مؤامرات العدو الشرير وينأي بأقدامهم عن طريق الشر ويحفظهم من كيد الأشرار .

       وأخيرا فإن الكنيسة والمؤمن المسيحي يفرحون بالرب فرحاً عظيماً ويعيشون في بهجة وسلام وينالون بركة الرب إذا ظلوا ثابتين في الإيمان والرجاء مواظبين على الصلاة.

فليحفظنا من الشر وشهود الزور وإذا سمح بالتجربة فصرخنا " يا رب خلصنا" فليشرق بنوره علينا وليتبدد أعداؤنا ويرتدوا إلى الوراء. وليباركنا ويحطنا برضاه كالدرع كي نعش في حماه فلا نتزعزع إلى الأبد. آمــــــــــين

 

الأب/ بولس جرس