اقرأوا بولس الرسول

كتب القديس Gaudenzio من القرن الرابع عن القديسَين الرسوليَن العظيمين بطرس وبولس قائلاً:" لنحفظ أيها الإخوة والأخوات، ذكرى الرسل القديسين حيَّةً دوماً. ولتكن ذكراهم المقدسة مكرَّمَة وحيّة بالإيمان والعمل والكلمة"!!! لذلك هل يمكن لأحد أن يتكلم عن القديس بولس بدون إعجاب وعاطفة وإكرام؟

 

إنه مهندس الإيمان المسيحي، والمبشّرٌ الذي لا يتعب وصاحب الفكر الذي لا ينضب! ففي أثناء جولاتِه الطويلة والمُرهقة في كُلّ المُدنِ الكبيرةِ  من آسيا الصغرى واليونان وصولاً إلى روما، لم يتوانَ بولس عن نشر البشرى السارة لقيامة السيد المسيح وإعلان الخلاص باسمه. ومع أن بولس لم يعرف السيد المسيح عن قرب ولم يعش معه، إلاّ أنه كان يعيش فيه وبه ومعه، ووضع نفسه بالكامل في خدمته. ولقد كانت الرغبة الهائلة والمميّزة في قلبه لإعلان اسم يسوع في كل مكان ولكل إنسان هي سبب وجوده وفرحه وهاجس حياته وأحلامه حتى الموت من أجله. ولقد قام بالرسالة " التي عُهِدَت إليه" بجرأة وعزيمة، وبكل ما أوتي من ذكاء بشري وثقافة لغوية وحكمة سماوية ساعدته على أن يَجِدَ الكلمات والتعابير – اللاهوتية والفلسفية – الضروريةَ لتَوضيح السر الذي يحمله وإقناع الناس به. فلقد كان في قلب بولس حب يُشبه النار للمسيح الرب والمخلص. ومعه انتشر الإنجيل كنار آكلة في بقاع العالم.

ولد بولس ما بين السنة  5 10 للميلاد في طرسوس من قيليقية ( رسل 9/11)، وهي مدينة في جنوب تركيا الحالية، وكانت مدينة ذات شأن في تلك الأيام (رسل 21/39). ولمّا كانت طرسوس تزخر بالمدارس والكليات اليونانية التي يتلقى فيها كثير من الطلاب ثقافة جيدة، تعلم بولس الآرامية والعبرية واليونانية وهي اللغة التي كانت شائعة في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط. وكان من أتباع الدولة الرومانية، له من الحقوق ما لأهل روما أنفسهم (رسل 16/37). ( من ذلك يمكننا أن نعرف أن عائلة بولس كانت من الوجهاء والأغنياء اليهود الذين كان بوسعهم أن يدفعوا إلى خزينة الدولة 500 دراخما فينالوا مقابلها الجنسية الرومانية التي تخوّلهم حق الاشتراك في إدارة الشؤون العامة في المدينة). وهكذا جمع بولس في نفسه ثلاثة أشياء: الدين اليهودي والثقافة اليونانية والانتساب إلى روما.

 

انتقل بولس من طرسوس إلى أورشليم في سنة لا نعرفها فتربى في حلقة عالِـمٍ من كبار علماء الشريعة الموسوية في ذلك العصر يدعى جملائيل. وكان شديد التعلق بمذهب الفريسيين (غل 1/14). وفي أول ظهور لبولس في سفر أعمال الرسل، يبدو أنه كان في حدود الثلاثين من العمر، ممتلئاً كرهاً لمن يقولون أن يسوع الناصري قد قام بعد أن صُلبَ ومات. فاضطهد بولس في بدء أمره المسيحيين اضطهادا شديدا، ووافق على قتل الشماس اسطفانس (رسل 8/1). ثم أخذ يعيث في الكنيسة فسادا فيذهب من بيت إلى بيت ليخرج الرجال والنساء ويلقيهم في السجن (رسل 8/3).

 

ولكن حياة بولس ستنقلب رأساً على عقب. فبينما أخذ على عاتقه تحطيم الكنيسة الناشئة وإعدام أتباع يسوع حتى الذين خارج أورشليم، جرى له أمر سيطبع حياتها اللاحقة كلَّها. فبينما كان سائرا إلى دمشق ليسوق المسيحيين الذين فيها إلى المحاكمة والسجن والموت، تلقّى بولس الضربة القاضية، إذ ابهره نور جاء من السماء، فسقط إلى الأرض، واستولى عليه صوت قوي يقول له:" شاول، شاول،  لماذا تضطهدني؟". وسوف يذكر بولس هذه الحادثة – اهتداؤه- عدّة مرات حيث سيقول بأنه " رأى" من خلالها مجد " الرب القائم". ثم أمره بالدخول إلى المدينة. "فظل فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب"، حتى جاءه حننيا فعمَّده. فعاد يبصر وأعلن إيمانه بالمسيح، لا بل أصبح المسيح سيّد حياته ومعلّمه الوحيد.

وبين أعوام 44 و58م، سيقوم بولس بثلاث رحلات تبشيرية في حوض البحر الأبيض المتوسط، مارّاً من ميناء إلى آخر، باحثاً عن مراكز المدن الرومانية الكبيرة التي تتواجد فيها الجاليات اليهودية ليقودها إلى المسيح أولاً. وعندما حاربه اليهود ورفضوا دعوته انطلق إلى الوثنيين، واستطاع أن يُنشئ جماعات مسيحية نمت بسرعة كبيرة. ويشير  القديس لوقا – كاتب أعمال الرسل – إلى دور مساعدي بولس من الرجال والنساء الذين استقبلوه ودعموه وشجّعوه في عمله، فأتمنهم على مسؤوليات الكنائس التي أنشأها وانطلق إلى غيرها.

 

إذا أردنا أن نعطي بولس صفة واحدة، نقول بأنه " إعصار حقيقي". فهو صاحب نفس كبيرة لا تعرف الملل أو الفتور، حاد الذكاء وقوي الإرادة. يُظهر طاقة مُدهشة في العمل بالرغم من الموجات المتتابعة لأسباب الغضب والإحباط التي تلاحقه من كل جانب. إلاّ أنه كان كثير العمل والصلاة. زهد بولس في نفسه وفي كل خيرات الدنيا لكي يخدم معلمه ويدعو الناس إلى الإيمان به. كان مرهف الشعور بليغا في رسالته، ويغار غيرة شديدة على العقيدة المسيحية فيدافع عنها بلهجة قاسية إذا دعاه الأمر إلى ذلك فيوبخ ويتهكم ويغضب ويستعمل العبارات اللاذعة. وهو مع ذلك، كلُّه وداعة ولين، عندما تقتضيه الحال، يستعمل أرق العبارات وألطفها.

 

حمَلَ بولس للعالم رسالة محدّدة المعالم وتتلخّص بأن السيد المسيح حاضر بشكل ملموس في كُلّ واحد وفي العالم. وإن الإله المصلوب قادر على تغيير كل الناس، ويحبهم بمجانية مطلقة، وهو وحده الذي يستطيع إعطاءهم الحرية الحقيقة بقوة قيامته. بولس دعا ويدعو جميع الناس إلى قبول العماد لنيل الخلاص بالإيمان بيسوع المسيح. وممتلئاً من روحِ القدس، يستطيع المسيحي أن يحيا- وبالرغم من كل المحن والصعوبات – في الفرح ومحبة القريب وفي الشركة الكاملة من السيد المسيح. " الحياة لي هي المسيح" هكذا أعلن بولس، مُعطياً بذلك لكل مسيحي معنى حياته الخاصة.

 

قال البابا بندكتس في افتتاح السنة البولسية: " فليسأل كل واحد منا نفسه اليوم: من هو بولس بالنسبة لي؟ ليس القديس بولس رجلاً من الماضي وصاحب إرث فكري وروحي كبير. إنه صاحب رسالة أثّرت في مئات الملايين من المؤمنين وهو قادر على أن يؤثّر في كل واحد منا بطريقة شخصية". لذلك أود أن اقترح عليكم اقتراحاً عملياً: " قم الآن واذهب وابحث عن الإنجيل في بيتك… افتحه … وخذ مقصداً لهذا العام وهو قراءة حياة وأعمال ورسائل القديس بولس… ولو قراءة فصل واحد يومياً. لماذا ؟! لكي تتعلّم منه كَيفَ تَضع السيد المسيح في مركز كُلّ وجودك. فلا يكفي الإعجاب بالسيد المسيح وبتعاليمه، المطلوب هو عيش خبرة الالتقاء به من خلال كلمته الحيّة. وبولس يؤكّد بأن كل إنسان مدعو إلى معرفة يسوع المسيح المصلوب والقائم. ولأنه يُعطي لكل حياة مسيحية معنى الحرية والأمانة للمسيح. وليس هناك أفضل وأصدق من بولس الرسول ليقول لك بأن الالتقاء بالمسيح القائم يدعوك إلى تغيير عميق وحقيقي لأفكارك وأقوالك وأعمالك. " وليكن فيكم ما في المسيح يسوع من الأفكار والأقوال والأعمال". هكذا نصبح "الإنسان الجديد "، الذي يستطيع أن يقول معه:" لست أنا أحيا، بل المسيح يحيا فيَّ … وإن نعمة الله عليَّ لم تكن عقيمة".

evangeliste@gmail.com

عن موقع ابونا