لنتأمل مع بندكتس 6-7-8 -9- 10-11 من يوليو

السادس من يوليو

روما، الأحد 6 يوليو 2008 (zenit.org).

ننشر في ما يلي تأمل اليوم من يوليو للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس"

الافخارستيا والسجود

يجب على عملية التحول الآن أن تخزن الزخم. فجسد ودم المسيح يوهبان لنا لكي نتحول نحن بدورنا إلى جسد المسيح، إلى لحمه ودمه. نأكل جميعنا الخبز الواحد وهذا يعني أننا نصبح واحدًا. بهذا الشكل، يضحي السجود اتحادًا. فالله لا يقف أمامنا الآن كالآخر الكلي ببساطة. إنه فينا، ونحن فيه. تدخل ديناميته فينا ومن ثم تسعى للإشعاع نحو الآخرين حتى تملأ العالم، بغية أن يضحي الحب حقيقةً المقياس السائد في العالم. يسرني أن أبين هذه الخطوة التي يحضنا العشاء الأخير على القيام بها عبر استعراض مختلف معاني كلمة "سجود" في اليونانية واللاتينية. إن الكلمة اليونانية للسجود هي proskynesis. تشير الكلمة إلى إيماءة الخضوع، والاعتراف بالله كمقياسنا الحق الذي يقدم لنا المقياس الذي ينبغي علينا إتباعه. تعني أن الحرية لا تقتصر على التلذذ بالعيش باستقلالية مطلقة، بل أن نعيش بحسب مقياس الحق والخير، لكي نضحي بدورنا حقيقيين وخيّرين.  هذه الإيماءة هي ضرورية رغم أن توقنا إلى الحرية يجعلنا ميالين إلى مقاومتها في البدء. يمكننا أن نقبلها بالكلية فقط إذا ما قمنا بالخطوة التالية التي يقترحها علينا العشاء الأخير. الكلمة اللاتينية للسجود هي  ad-oratio– إتصال فم بفم، قبلة، معانقة، بالتالي، الحب. الخضوع يضحي اتحادًا، لأن من نخضع له هو المحبة. وبهذا الشكل يأخذ الخضوع معناه، لأنه لا يفرض علينا شيئًا من الخارج، بل يحررنا بالعمق من الداخل.

السابع من يوليو

 الأسرار

 نحن نؤمن أن الأسرار السبعة تتضمن بنية الحياة البشرية وأحداثها الكبرى. نحتاج لهذه اللحظات الهامة – لحظة الولادة والموت، النمو والزاوج – إلى علامة تهب هذه اللحظة ملء بنيتها، وعدها الحق، وبالتالي بُعد الشركة سوية… الإيمان ليس أمرًا معزولاً في فراغ؛ بل هو يدخل في العالم المادي. وعبر علامات من العالم الحسي ندخل في اتصال مع الله. هذه العلامات هي تعبير عن طبيعة إيماننا الجسدية. إن تداخل الأبعاد الحسية والروحية هو الامتداد المنطقي لواقع صيرورة الله جسدًا وإشراكنا بذاته عبر عناصر الأرض. الأسرار هي بالتالي نوع من الاتصال بالله بالذات. تشير إلى أن الإيمان ليس مجرد أمر روحاني، بل هو واقع يتضمن الجماعة ويخلق الجماعة، ويتضمن الأرض والخليقة، التي تضحي بهذا الشكل شفافة مع كل عناصرها. النقطة الرئيسية هي أن بُعد الشراكة، والبُعد الجسدي للإيمان، يعبر عن ذاته في الأسرار وهذا الأمر يوضح في الوقت عينه أن الإيمان ليس واقعًا ينشأ في داخلنا بل يأتي من سلطة أعلى. بالطبع، تُوكل هذه الأسرار إلى حريتنا، تمامًا ككل الأِشياء التي يقوم بها الله.

الثامن من يوليو

سر التثبيت

إن وضع الأيدي هو علامة أن الله يظلل المرء ويحميه، وهو إشارة إلى حضور الروح القدس. المسح بالميرون يوحدنا بالممسوح بالذات، أي المسيح، ويضحي علامة للروح القدس الذي ألهم حياة المسيح وعاش فيه. التثبيت هو اكتمال العماد؛ إذا كان العماد يعبر في المقام الأول عن اتحادنا بالمسيح، يسلط التثبيت الضوء على صداقتنا مع الروح القدس. فما يتم التعبير عنه هنا هو أن المسيحي المثبَّت هو الآن عضو فاعل ومسؤول بالكلية في الكنيسة… دون شك أن إحدى معالم التثبيت الهامة هي أن هذا السر يحولنا عن الأمور الخارجية البحت، عن الاهتمام بالجاه والنجاح، ويقول لنا أننا نملك بعدًا داخليًا. تبحروا بهذا الأمر؛ دعوا الإنسان الداخلي – كما يسميه بولس – ينمي ويتقوى فيكم. إن خنق الحياة الداخلية بالاهتمامات العملية صار إحدى أكبر مشاكلنا. بهذا المعنى، يمكن للتثبيت أن يكون الداوء الناجع للخارجية المجردة، ويساعدنا بالتالي أن نحافظ على التوازن في كينونتنا البشرية.

التاسع من يوليو

قوة الاعتراف

 
يعتبر البعض أن المسيحية قد أثقلت كاهل الناس بإحساس الذنب وأنها حولت استعمال هذا الأمر كوسيلة للسيطرة عليهم. بالطبع، من الممكن إساءة استعمال الإحساس بالذنب. ولكن إخماد القدرة للتعرف على الذنب هي أمر أسوأ بكثير، إذ يصبح الإنسان متحجرًا ومريضًا من الداخل. فكروا فقط بالمرحلة اللاحقة، بنوع من عدم القدرة على التعرف على الذنب… يمكننا احتمال القدرة على الاعتراف بالذنب، ويمكن تنميتها في حال توفر الشفاء أيضًا. والشفاء بدوره ممكن فقط عندما يتوفر الحل. بإمكان الطب النفسي أن يساعدنا كثيرًا في وعي الاتصالات السيئة في البنية النفسية، وفي تصحيحها، ولكنه لا يستطيع أن يتجاوز الإحساس بالذنب. ففي هذا المقام يتخطى ميدان قدراته، ولهذا السبب يبوء غالبًا بالفشل. فقط السر، أي سلطان الله، يستطيع حقًا أن ينتصر على الذنب. يجب أن نصرح، على كل حال، أن الناس في عصرنا الفرداني يجدون صعوبة وافرة في تخطي عتبة الاعتراف الفردي. ولكن عندما يقودنا روح الإيمان، نستطيع أن نتعلم القيام بهذا الأمر من جديد. فوق كل شيء، ليس الاعتراف إقرارًا بالذنب أمام كائن بشري، بل بحضرة الله، وبما أنه يُختتم بكلمات الغفران – وربما أيضًا بكلمات الإرشاد، فهذا الأمر يساعدنا على تخطي نتائج الذنب اللاحقة.

العاشر من يوليو

 سر المرضى

 تهدف مسحة المرضى إلى المعونة عبر عملية روحية تستطيع في بعض الحالات أن تضحي عملية شفاء. هذه هي معونة الكنيسة الأسرارية في حالات المرض. إنها تتعلق بقدر أقل بلحظة الموت. في ذلك الحال، قوت السفر الحق هو الافخارستيا. وفي الصلاة من أجل المحتضرين، وفي بركة المحتضرين، وفي الحلة، تُحضِّر الكنيسة تعزيات خاصة. تقوي هذه التعزيات الأشخاص في عبورهم الصعب عبر هذه العتبة الرهيبة نحو الظلام الذي يبدو وكأنه لا يتحلى بأي نور. أما مسحة المرضى فهي مساعدة على قبول الألم. والغاية منها هي تقديم آلامي مع آلام المسيح، والدخول في الصداقة الأسرارية معه. والمسألة ليست بالضرورة مسألة شفاء جسدي. فالمرض يستطيع أن يشفيني روحيًا. ويستطيع المسيح، عبر تعليمي على الألم، وعبر تألمه معي، أن يضحي حقًا طبيبي الذي يتغلب على المرض الروحي العميق في روحي.

الحادي عشر من يوليو

الرائون المرشدون

 عبر مسيرة طويلة وعسيرة بدأت في مغارة بالقرب من سوبياكو، ارتقى الرجل بندكتس الجبل ووصل إلى البرج. كانت حياته عبارة عن تسلق داخلي، خطوة تلو الأخرى، في "السلم العامودي". لقد بلغ البرج، ومن ثم "العلية"، التي باتت تُفهَم منذ زمن أعمال الرسل كرمزٍ للتحرر والنهوض، والخروج من عالم الانهماك بالأشياء. يقف بندكتس أمام النافذة – لقد بحث عن المكان الذي يستطيع منه أن ينظر إلى الخارج، ووجده؛ مكانًا حيث بات جدار العالم منفتحًا، وبالتالي يستطيع أن ينظر إلى الأفق المنشرح. إنه واقف. في التقليد الرهباني، يشير الرجل الواقف إلى رجل استقام من الانحناء والانطواء، ولذا لا يستطيع أن ينظر إلى الأرض، بل قد توصل إلى وقفة مستقيمة تمكنه من النظر إلى العلاء. وبالتالي يضحي بصيرًا. ليس العالم هو الذي أضحى ضيقًا، بل هي النفس التي باتت مشَرّعة، لأنها لم تعد مأخوذة بالأمور المحدودة، لم تعد تنظر إلى الأشجار فتغفل عن رؤية الغابة، بل باتت ترى الكلّ. لا بل أفضل من ذلك، تستطيع النفس أن ترى الكل لأنها تنظر إليه من العلاء، وتستطيع أن تحوز على نقطة الامتياز هذه لأنها نمت داخليًا وباتت عظيمة… يجب على بندكتس أن يقف أمام النافذة. يجب أن ينظر إلى الخارج. وعندها يستطيع نور الله أن يلمسه؛ يستطيع أن يتعرف على هذا النور وأن يحوز على النظرة الشمولية الحقة… إن هؤلاء الرجال العظام الذين، بواسطة الصعود الصبور والتطهير المتكرر الذي تلقوه في حياتهم، باتوا رائين، وبالتالي، مرشدين للعصور وعليه فَهُم مهمين بالنسبة لنا اليوم.